د. أحمد الحطاب - الله يُسخِّر الخيرات والعقل البشري يتدبَّر

القرآن الكريم مليئ بالآيات التي يُشيرُ فيها سبحانه وتعالى للتَّسخير. من بين هذه الآيات الكريمة، أذكرُ على سبيل المثالِ : "أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ (لقمان، 20). فما هو إذن التَّسخيرُ؟ رجوعاً إلى القواميس العربية، "التَّسخير" هو مصدر فعل "سخَّرَ". فحينما نقول : "فلانٌ سخَّرَ فلانا"، فكل القواميس تقول أن الفلانَ الأولَ كلَّفَ الفلانَ الثاني بعملٍ لكن بدون أجرٍ، أي بدون مقابلٍ مادي أو مالي. وفي لهجتنا العامية أو الدارجة، نقول مثلا : عفَاكْ أوْلْدِي سِيرْ تسخّْرْ لِيا"، أي أطلُبُ منك أن تقضِيَ لي غرضاً أو أغراضاً تطوُعا منك. وكلنا قمنا ب"السُّخرة"، بدون مقابل، ولا نزال نقوم بها، سواءً لصالح عائلاتنا أو أقاربنا أو جيراننا أو أصدقائنا أو لصالح غيرنا. وحينما نقول : "فلانٌ سخَّرَ الشيءَ"، فإن القواميسَ العربية تقول أن الفلانَ ذلَّل أو أخضع أو سهَّلَ هذا الشيءَ.
بعد هذا التَّوضيح اللغوي والاصطلاحي، فكيف يجب أن نُدركَ "التّسخير" المُشار إليه في العديد من آيات القرآن الكريم؟ بكل يساطةٍ، معنى "التَّسخير" الذي جاء في القرآن الكريم هو أن اللهَ ذلَّلَ وأخضَعَ وسهَّلَ للبشر كلَّ ما تحتوي عليه الأرضُ و السمواتُ من خيراتٍ مادية (هواء، ماء، صخور، معادن، ضغط، حرارة، سحاب، مطر، شمس، ضوء، نهار، ليل…) و حيوانية ونباتية لكن دون أن ينتظرَ من هؤلاء البشر أجراً. ما ينتظره سبحانه وتعالى هو فقط الشكر، أي عِبادتُه وطاعتُه والامتثال لأوامرِه مصداقا لقوله جلَّ جلالُه : "وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ" (الأعراف، 10) أو "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ" (البقرة، 172). لكن، يجب أن لا ننسى أن اللهَ سبحانه وتعالى فضَّلَ بني آدم على جميع مخلوقاته حين متَّعهم بمَلَكَة العقل ليتدبَّروا آياتِه ونِعَمِه التي أنعمَ عليهم بها. ولهذا، فإن إدراكَ التَّسخير، المشار إليه في القرآن الكريم، مرتبطٌ ارتباطا وثيقا بنباهة العقل البشري. لماذا؟ لأن التَّسخيرَ هو، في الحقيقة، بمثابة استفادةٌ من العناصر التي سخَّرها اللهُ لعباده. وحتى تكونَ الاستفادةُ متاحةً وفي متناول اليد، يجب دراسةُ هذه العناصر وتحليلُها والتَّعرُّف عليها. ومَن سيقوم بهذه المهام (الدراسة، التَّحليل، التَّعرُّف)؟ إنه، بكل بساطة، العقلُ. وهذه المهام، يمكن أن تتمَّ عن طريق التَّجربة المتكرٍّرة أو عن طريق البحث المنظم. وهذا هو ما تُبيِّنُه الأمثلةُ التالية:

1.الصخور أو المعادن هي جزءٌ من ما سخَّره اللهُ لعباده من خيراتٍ. هذه الصخور و المعادن لها خاصيات لا يمكن إدراكُها إلا بالعقل. وهذه الخاصيات تختلف من صخرة لأخرى أو من معدن لآخر. والعقل وحده هو الذي يدرك هذه الخاصيات ويدرك هذا الاختلاف. وعندما يتعرف العقل على الخاصيات واختلافها من عنصرٍ إلى آخر، فإن الإنسانَ يسخِّر هذه الصخور أو المعادن لأغراض متنوِّعة، منها ما هو اجتماعي ومنها ما هو اقتصادي ومنها ما هو زراعي ومنها ما هو بيئي ومنها ما هو تجاري ومنها ما هو صناعي… فكم هي عديدةٌ الصخور والمعادن التي سخَّرها اللهُ لعباده في شكلها الخام واستطاع الإنسانُ، بفضل ما حباه اللهُ من عقل، أن يستخرجَ منها العديدَ من الفليزات métaux كالحديد و الذهب و الفضة و النحاس و الأليمنيوم و الزنك zinc… أو أن يستخرجَ منها عناصرَ غير فليزية non métalliques كالفوسفاط و الكبريت و الملح و الهيدروجين و الأكسيجين و الأزوت و الكاربون و الفوسفور… ولا داعيَ لذكر الفوائد التي جناها الإنسانُ من استعمال المعادن الفليزية وغير الفليزية في المجالات الصناعية المتنوِّعة. بل إن نِعمةَ اقتران التَّسخير بالعقل هي التي مكنت البشرَ من الدخول فيما سُمِّيَ، في حينه، الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر. هذا هو التسخير الذي لا مجالَ للاستفادة منه بدون إعمال العقل. وللإشارة، إن التَّسخيرَ الذي جاء به القرآن الكريم موجَّهٌ لجميع الناس وليس لفئة دون أخرى. والدليل على ذلك، وُرودُ عبارة "سخَّرَ لكم"، تقريبا في جميع الآيات التي يتحدَّثُ فيها سبحانه و تعالى عن التَّسخير. و"لكم" تعني هنا الناس أو البشر.

2.و ما دام الإنسانُ يتطوَّر بتطوُّرِالعقل البشري زمانا و مكانا، فالتَّسخير هو الآخر يتبعُ هذا التَّطوُّرَ. و الدليلُ على ذلك أن الإنسانَ لم يتوقَّف في يوم من الأيام في تحسين مستواه الفكري والإدراكي للأشياء. وهذا التَّحسينُ يتمُّ من خلال التَّواصُل، أو بالأحرى، من خلال التَّفاعل الذي يحدثُ بين الإنسان والأشياء والظواهر المحيطة به. فالإنسانُ الأول أو البدائي، بحكم مستواه الفكري آنذاك والظروف التي كانت سائدةً في عصره، كان يستعمل ما سخَّره له الله من خيرات في وضعها الخام من حجرٍ و صِوان silex و عظامٍ و خشبٍ… بل كان يأخذ غذاءَه مباشرةً من الطبيعة بواسطة الجنيِ أو الصيد. إلى أن اكتشف، بواسطة ملاحظاته وتجاربه المتكرٍّرة، النارَ والمعادن والفلاحة وتربيةَ الحيوانات (المواشي على الخصوص)... فكل فترة من فترات حياة الإنسان يقابلها مستوى معيَّنٌ من الاستفادة من التَّسخير. فكلما تطوَّرَ فكرُ الإنسانِ، كلما انتقل هذا الإنسانُ من مستوى تسخيرٍ إلى مستوى تسخيرٍ آخر يُعتبرُ أحسن منه. ولا داعيَ للقول أن العقلَ البشري هو الذي يكون وراء كل مستوى من مستويات التَّسخير.

و الدليلُ على ذلك أن الإنسانَ الذي كان يستعمل مثلا بعضَ المعادن في وضعها الخام أو بعد تصنيعها، وصلَ اليوم، بفضل ذكائه و وسائل بحثِه وصناعاته وتكنولوجياته، إلى مرحلة تطويع هذه المعادن، أو بصفة عامة، المواد لتنويع استعمالاتها في العديد من المجالات كالكهرباء والإلكترونيك و صناعة الأدوية والسيارات والطائرات… بل إن الإنسانَ انتقل من مرحلة التَّعامل مع المادة يمقاربة ماكروسكوبية macroscopique إلى مرحلة أصبح يتعامل فيها مع نفس المادة على مستوى الجزيئات molécules أو على مستوى الذرات atomes. وهو ما أدى إلى ولادة علمٍ جديدٍ يُدعى "نانوعلم" nanoscience الذي، بدوره، أدى إلى ولادة تكنولوجيات جديدة تحت تسمية نانوتكنولوجيات nanotechnologies. و"النانوعلم" يتعامل مع المادة على مستوى النانومتر nanomètre، أي الجُزيءُ الذي يساوي متراً واحداً مقسوم على مليار أو الجُزيءُ الذي يساوي المليمتر الواحد مقسوم على مليون. و قد استطاع الباحثون في هذا المجال من صُنعِ مواد جديدة لا يتعدَّى أحد أبعادها 100 نانومتر تُستعمل في العديد من المجالات الصناعية كالتَّغذية ومواد التَّجميل والنسيج والتَّغليف والصباغة… وما هو مهمٌّ بالنسبة لهذه المواد الجديدة هو أنه لها خاصياتٌ تختلف بتاتاً عن المادة عندما يتمُّ التَّعامل معها على المستوى الماكروسكوبي. وهذا هو ما دفع بعضَ المهتمين إلى اعتبار النانوتكنولوجيات بمثابة ثورة صناعية جديدة تختلف اختلافا جذريا، أي فكريا، شكلا و مضمونا، من تلك التي حدثت في القرن الثامن عشر.
ما يُستنتجُ من هذين التَّوضيحين السابقين، هو أن التَّسخيرَ لا يمكن فصلُه عن العقل. ولولا استعمالُ هذا العقل، لما استطاع الإنسانُ أن يستفيدَ من الخيرات التي وفَّرها (سخَّرها) له اللهُ سبحانه وتعالى في الأرض وفي السماء. والدليل على ذلك، أن الإنسانَ، منذ ظهوره على وجه الأرض إلى يومنا هذا، يتعامل مع نفس الخيرات لكنَّ نظرتَه إليها تختلف من عصر إلى آخر أو من فترة زمانية إلى أخرى. واختلافُ نظرة الإنسانِ إلى هذه الخيرات، راجعٌ إلى تطوُّر عقلِه وطرق تفكيره. وتطوُّرُ طرق التَّفكيرِ هي التي أدَّت وتؤدِّي إلى ارتقاء مستويات الاستفادة من التَّسخير. وفي الختام، الله يوفِّر الخيرات لعباده أو يُسخِّرها لهم وعلى هؤلاء العباد أن يستعملوا عقولَهم للاستفادة من هذه الخيرات علما أن نفس الخير يمكن الاستفادةُ منه على عدَّة مستويات وذلك حسب النُّضج الفكري الذي وصل إليه العقل البشري مصداقا لقوله سبحانه وتعالى : "إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (آل عمران، 190). وأُولو الألباب، في هذه الآية الكريمة، هم الناس العقلاء الذين يرقون بتفكيرهم إلى تدبُّر آيات اللهِ وإدراك ما تحملُه من معاني. وحينما يقول سبحانه وتعالى "لآياتٍ لأُولِي الْألبَابِ"، أليست هذه الآية دعوةٌ صريحة لذوي العقول النَّيِّرة للتَّدبُّرِ في آيات الله ومن بينها الخيرات التي سخَّرها اللهُ لعباده. أو مصداقا لقوله سبحانه وتعالى : "وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (البقرة، 164). "لقومٍ يعقلون"، أي للناس الذين يفهمون آياتِه ويتدبَّرونها. الاستفادة من التَّسخيرُ درجاتٌ وكل درجة لها زمانُها وعقلاؤها.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى