د. أحمد الحطاب - وضعُ المعرفة في الوسط المدرسي

هناك أسئلة لها علاقة بالمعرفة التي تُبلِّغها المدرسة للمتعلِّمين و التي أعتبرُها، أنا شخصيا، أسئلة أساسية و من الضروري أن يطرحَها كلُّ مَن يمارس مهنةَ التَّدريسِ و التَّعليم على نفسه. و أعني بالمعرفة المُبلَّغة للمتعلمين ما يُصطلحُ عليه ب"المعرفة المدرسية". من بين هذه الأسئلة، أخصُّ بالذكر ما يلي :

1.ما هي المعرفة المدرسية أو بعبارة أخرى، ما هي طبيعة المعرفة المدرسية؟
2.لماذا يتمُّ تبليغُ المعرفة المدرسية للمتعلِّمين؟
3.هل هناك فرقٌ بين المعرفة المدرسية و المعرفة التي تُنتِجُها مختبرات البحث؟
4.ما هو موقف المدرس من المعرفة المدرسية و من المعرفة بصفة عامة؟
5.ما هو موقف المتعلِّم من المعرفة المدرسية؟…

أكاذ أكون، بحكم التَّجربة، متأكِّدا أن فئةً قليلةً من المدرسين هم الذين تشغلُهم مثلُ هذه الأسئلة. ما يشغلُ السَّوادَ الأعظم من المدرسين هو تبليغُ المعرفة المدرسية للمتعلمين. و ما هو مؤكَّدٌ كذلك هو أن الإجابةَ عن هذه الأسئلة تستلزم من المُجيبُ أن يكونَ مُلِمّاً بقدر كافي من علوم التَّربية. و لكن هذا لا يمنع من أن يتساءلَ المدرسون عن وضعِ ما ينقلونه من معارف للمتعلمين و أن يقوموا ببحثٍ شخصي يجعلهم متموقعين فكريا بالنسبة لهذه المعارف.

1.ما هي المعرفة المدرسية أو بعبارة أخرى، ما هي طبيعة المعرفة المدرسية؟
أولا و قبل كل شيء، تجب الإشارةُ إلى أن المدرسةَ لا تُنتِج المعرفة. إنها فقط تستهلكها. و هذا شيءٌ مهمٌّ للغاية حيث أن المدرسةَ، بحكم عدم إنتاجِها للمعرفة و بحكم السرعة التي تُنتَجُ بها المعرفة في المختبرات، مطالبةٌ، نظريا، بأن تُجدِّدَ باستمرار ما تنقلُه من معارف للمتعلمين. غير أن هذا التَّجديدَ لا يحدثُ و إن حدث، فبعد مرور سنوات طوالاً و بالتالي، يكون دائما تفاوتٌ بين ما تنقله المدرسةُ من معارف و المستوى الذي وصل إليه إنتاجُ المعرفة في المختبرات في عدة مجالات اجتماعية، اقتصادية، ثقافية، صناعية، زراعية، تكنولوجية… و هذا شيءٌ طبيعي لأن المدرسةَ ليست مكانا لمواكبة ما يستجدُّ من معارف في مختلف مجالات البحث. المدرسة تنقل المعارف من أجل تثقيف المتعلمين، و لكن كذلك و بالأخص، من أجل مساهمة هذه المعارف في بناء شخصية هؤلاء المتعلمين. حينها، يصبح تبليغُ المعرفة للمتعلمين ليس هدفا في حد ذاته و لكن وسيلة لنقلِ شخصية المتعلمين من حسن إلى أحسن. و بكل أسف، في مؤسساتِنا التَّعليمية، أصبح تبليغُ النعرفة للمتعلمين هدفا أساسيا و رئيسيا بينما بناءُ شخصية المتعلمين طالها و يطالُها الإهمال.

و المعرفة، بصفة عامة، لها طبيعة، أي لها طعمٌ و مذاقٌ و لونٌ و رائحة. لماذا؟ لأن المعرفةَ لا تُمطرها السماء. المعرفة مصدرُها فكر الإنسان، و بالأخص، فكرُ الإنسان الباحث. و الإنسان المنتِج للمعرفة كائن اجتماعي و تاريخي. كائن اجتماعي لأنه يعيش في وسط اجتماعي يتأثَّر به و يؤثِّر عليه. و كائن تاريخي لأنه يجرُّ وراءه تجربةً أو تجارب راكمها من خلال التعامل مع الواقع و الأحداث و الظواهر…

و باختصار، الشخص الدي يُنتِج المعرفةَ، سواءً كان باحثا أو غير باحث، له خلفية فكرية و ثقافية هي التي تمكِّنه من إنتاج المعرفة. و الخلفية الفكرية و الثقافية أنواع، أو بعبارة أخرى، التيارات الفكرية أنواع. فهناك التيار الفكري الذي يعتبر المعرفة تفسيرا وفيّاً fidèle للواقع réalité، و بالتالي، فهي معرفة صحيحة و غير قابلة للنقاش. و هناك تيار فكري لا يعترف إلا بالمعرفة التي يبنيها فكر الإنسان لكن الإنسان الذي يتأثَّر بظروف الزمان و المكان، و بالتالي، فهي معرفة نسبية و قابلة للنقاش. و هناك تيار فكري لا يؤمن إلا بالمعرفة الناتجة عن التَّجربة و الملاحظة، و بالتالي، قابلة للتَّحقُّق vérification… هذه هي طبيعة المعرفة التي تستحق أن يكونَ المدرسون مُلمِّين بها. لماذا؟ لأن طبيعةَ المعرفة هي التي نتجت عنها نظريات التَّعلُّم théories d'apprentissage.

2.لماذا يتمُّ تبليغُ المعرفة المدرسية للمتعلِّمين؟
بالطبع، تبليغَ المعرفة للمتعلمين له عدة أهداف. تثقيف المتعلمين واحدٌ من هذه الأهداف. و تثقيف المتعلمين عاملٌ له دورٌ في اندماج هؤلاء المتعلمين في الحياة الاجتماعية و العملية. و اندماج المتعلمين في الحياة الاجتماعية و العملية ضروري لاستمرار التنمية بجميع أشكالها. لكن الهدفَ الأساسي لتبليغ المعرفة للمتعلمين هو استغلالُها استغلالا عقلانيا، بيداغوجيا، تربويا و علميا من أجل بناء شخصية المتعلمين. لأن المعرفة قد يتم نسيانُها أو قد تصبح متجاوزة. بينما صقل شخصية المتعلمين و تعويدُهم على الفكر النقدي و التَّفتُّح و التَّحرُّر الفكريين و الاجتماعيين أمور تصاحبهم طيلةَ حياتهم الاجتماعية و العملية.

3.هل هناك فرقٌ بين المعرفة المدرسية و المعرفة التي تُنتِجُها مختبرات البحث؟
بالطبع، هناك فرق كبير بين المعرفة المدرسية و المعرفة التي تُنتْجها مختبرات البحث. أولا و للتذكير، ليست المدرسة هي التي أنتجت المعارف التي تنقلها للمتعلمين. ثانيا، المعرفة المدرسية مقتبسة من المعرفة التي تُنتَجُ في المختبرات بعد إخضاعها لعدة عمليات. أول هذه العمليات هي التَّبسيط، أي تحويل المعارف المختبرية أو العلمية من معارف قد تكون معقدة إلى معارف مبسَّطة. بعد ذلك، تكييف المعارف مع النمو النفسي و المعرفي للمتعلمين développement psychologique et cognitif. ثم تأتي مرحلةُ صياغة المعارف على شكل برامج مدرسية، أي بشكل آخر، المضمون المُصاغ على شكل عناوين و رؤوس أقلام. ثم في آخِر المطاف، تفصيل المضامين العامة لتحويلها إلى مضامين مفصَّلة و التي ستُتقَلُ فعليا إلى المتعلمين. و هي المضامين التي تحملها المراجع المدرسية.

غير أن الفرقَ الكبيرَ و الأساسي بين هذين النوعين من المعارف هو أن المعارف المختبرية تم إنتاجُها في ظروف اجتماعية، اقتصادية و ثقافية معيَّنة و من طرف أشخاص اجتماعيين و تارخيين كما سبق الذكرُ. و بالتالي، فالمعارف المنتجة قابلة للتَّغيير حسب ما تجود به ظروف الزمان و المكان. أما المعرفة المدرسية، فقد تمَّ تجريدُها من كل هذه الظروف عند القيام بعملية تبسيطها. و بالتالي، لم يعد هناك شيءٌ يوحي بأنها نسبية أو قابلة للنقاش. و هذا هو ما يحدثُ عند انتقالها من المراجع المدرسية إلى المدرسين و من هؤلاء المدرسين إلى المتعلمين. لا أحدَ يتساءل عن طبيعتِها و لا عن ظروف إنتاجها و لا عن نِسبيتها و لا عن أي تيار فكري تندرج فيه… و ما يؤسفُ له هو أن المتعلمين يعتبرون ما يتلقونه من معارف، معارف ثابتة و غير قابلة للنقاش… ليس هكذا ينمو الفكرُ النقدي عند المتعلمين و ليس هكذا يتمُّ استقلالهم التَّعلُّمي و ليس هكذا ينمو فضولُهم للاكتشاف و التَّنقيب…

4.ما هو موقف المدرس من المعرفة المدرسية و من المعرفة بصفة عامة؟
المدرس لا يجب أن يُعتبَرَ فقط كوسيلة لنقل المعارف. فإذا كان هذا المدرسُ ناقلاً للمعرفة من أجل التَّثقيف، فهو، في نفس الوقت، مربِّي و عنصر أساسي يساهم في التَّنشئة الاجتماعية للمتعلمين. غير أن القيامَ بدور المربي و المساهمِ في التنشئة الاجتماعية، يتطلَّب منه أن يكونَ مُلمّا بمُلزمات مهنة التدريس و التربية. و بعبارة أخرى، أن يكونَ المدرسُ على علمٍ بما توفِّره له علوم التربية من معطيات في هذين المجالين، أي التدريس و التربية. و أضعف الإيمان، هو أن يكون له موقفٌ علمي و مستنير فيما يخصُّ المعرفة التي ينقلها للمتعلمين. و هذا يعني أن تكوينَ المدرسين يجب أن يكونَ تكوينا شاملا يأخذ بعين الاعتبار ليس فقط مهنةَ التدريس و لكن كذلك الدورَ التربوي المُناط بالمدرسين.

ما يؤسفُ له هو أن المدرسين، بحكم تكوينهم الذي يكون أحيانا غير مكتمل أو بحكم وقوعهم في رتابة المهنة، يهملون كل ما له علاقة بالتربية و يكرسون جهودَهم للتَّبليغ الجاف للمعارف. و النتيجة الحتمية هي حشو أدمغة المتعلمين بمعارف قد لا تصلُح إلا للامتحانات. و النتيجة الحتمية الأخرى، هي تحويلُ المدرسة من مؤسسة للتَّنشئة الاجتماعية إلى معملٍ لإنتاج أدمغة منمَّطة، و في نفس الوقت، غريبة عن ما يجري داخلَ المجتمع.

5.ما هو موقف المتعلِّم من المعرفة المدرسية؟
إن أكبرَ ضحايا هذا الوضع هم المتعلمون الذين هم صورة طِبق الأصل لنوعية العلاقات البيداغوجية و التربوية التي يُقيمُها معهم المدرسون أثناء ممارستهم للأنشطة التعليمية التعلُّمية. فإذا كانت هذه العلاقات مبنيةً على التبليغ المحض للمعرفة، فالمتعلمون هم الخاسرون. خاسرون لأنهم، في أحسن الظروف، يُعتَبَرون أوعية يجب ملؤها بمعارف لا يعرفون، خارجَ الامتحانات، لماذا تُنقَلُ إليهم. و الطامة الكبرى هي أن كل ما يجري داخلَ الأقسام يجعل المتعلمين يعتقدون أن كلَّ ما يُنقَلُ لهم من معارف هي معارف عبارة عن حقائق لا تقبل النقاشَ. فلا يمكن على الإطلاق أن يكونَ للمتعلمين موقف من المعرفة المدرسية لأنها، أولا، مفروضة عليهم. ثانيا، المدرسة لا تستهدف من شخصهم إلا قدرتَه على الحِفظ و الاستظهار، و في نفس الوقت، تُهمِّشُ قدرتَهم على التَّحليل و النقد و التركيب و الاستقراء و الاستدلال و المقارنة و البرهنة و الاستنتاج…

ما يجب أن أختمَ به هذه المقالة هو أن مدرستَنا في حاجة ماسة لتغييرٍ جذري نموذجاً paradigme و فلسفةً. و لتلخيص هذا التَّغيير نموذحاً و فلسفةً، أقول : ما دام سِرُّ وجود المنظومة التربوية هو تعليمُ و تعلُّمُ المتعلمين، فأي نوع من المتعلِّمين يريد المحتمع المغربي؟ هل متعلِّمون أدمغتُهم محشوةٌ بالمعارف التي، في أحسن الأحوال، لا تصلح إلا للامتحانات أو متعلمون مشبَّعون بالفكر النقدي، متفتِّخون و متحرٍّرون فكريا و اجتماعيا و قادرون على المساهمة في تقدم البلاد و تطوُّرها و تنميتِها بشريا، اقتصاديا، اجتماعيا، ثقافيا، علميا، تكنولوجيا، صناعيا…؟ كل مجتمع يطمح أن يرى بلادَه في أسمى مرتبات الرقي و الازدهار و التقدم، سيختار، بالطبع، البديلَ الثاني.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى