سيدة بن جازية - وللأمس وجهة نظر

قام أفلاطون من مرقده، تجول بفكره الثاقب في أحوال العالم، استغرب ما عاينه، صدم ثم استنفر ملكاته لفهم ما لا يفهمه الفكر الناصع، استطرد وقد أرخى الليل سدوله على كون مليء بالصراعات منعدم الأخلاقيات، تنهَّد ملء صدره العريض المتسع لكل الحضارات في نبرة حزن و أسى حدَّث ظله المتسكع بين ثنايا عقله المتشعب أفكارا وحكمة و نورا:
_ يا للهول! العالم يتبدّل، يتبدَّد والعلماء على كثرتهم في صمت الجلمود، قد تغير وجه البسيطة عن أمسنا و انقرضت نباتات و حيوانات و لغات و جنسيات و مبادئ وقيم وهم نيام ، ما يحدث ليس هيّنا ، جنس يتقدم على حساب بقية الأجناس ودين واحد يربك كل البشر، والعنف قد استشرى فتكاثر عدد عبدة العملات و الانتهازية و الاحتكار بينما يعيش جل الفقراء زمن الاندثار و التقهقر ، إنني لأستنكف من هذا الزمن، من خذلان البشر.
يتوالد الجشع من رحم هذه الحياة و يتناسل على حساب انسحاق الطبقات الكادحة فتزداد المرابيح، بتطور التجهيزات والتقنيات و المنتجات والمصنوعات على حساب تحلل الطبيعة و انهيار الإنسانية وكل ما هو بسيط أصيل يا للخراب الآسن لقد حصرت صدورنا لهول هذه الجولة الفجئية و قصمت ظهورنا هذه الاستيفاقة المتأخرة بعد سبات قرون ، ما هذا الطاغوت! ما هذا الزمن القاهر !
.
بات العالم بعدنا عالمين عالم المُلاَّك و أصحاب رؤوس الأموال ومصادر المعلومة والنفوذ وعالم المعوزين والجهلة والمتخلفين على ركب حضارة الدمار، فالصراع انتقل من قوتين إلى صراع داخل القوة الواحدة من سيحكم العالم ويسير به إلى الفناء، أماتت العقول الحكيمة بعدنا أم انهزمت فلسفتنا أمام شراسة فلسفة القوة ، أانقرضت عاطفة بني البشر أم استعادوا غريزتهم الحيوانية ؟! ما كل هذا الجبت؟! ما كل هذا الشر؟!

هذا الصراع استبشر به الفقراء حيث أصبحوا متفرجين لا مبالين أمام شاشات مشدوهين يحللون ويحرِّمون يزعمون وعيا و خبرة وهم في حقيقة الأمر غافلون. تارة تراهم وقود حرب ضروس و أطوارا يتزلّفون و يناشدون و يناصرون ليشتدّ وطيس المعركة وضراوتها بين القمم ومالكي الثروات والنفوذ و البعض في سخف يرى الأمر في صالح البشرية من خلال ما استحدثوه وما استكشفوه وشق آخر يراه نذير خراب جماعي لكن لا ينفعلون ، لا يبادرون بل في خمولهم قابعون .

يا الغرابة! يا ظلي اللصيق، في كل يوم تعيش هذه الكرة الأرضية أزمة حادة في توزيع الثروات الباطنية و الخارجية ولا يردعها رادع عن ابتكار سبل بسط النفوذ واستغلال حالات الضعف والهوان الممنهجة يتغوّلون تحت مسمّى الشركات المتعددة الجنسيات ولا يحق لأحد مناقشة الموضوع أو بسطه أو تقديم دليل الإدانة والمثول.
فقط مسموح بالاستهلاك المفروض والنهم دون تدقيق أو تحليل في كنف الثقة العمياء والاستسلام المهين و قد ربطوا العالم بشبكة عنكبوتية تجسسية بل استلابية عابرة لكل الحدود والحواجز والقارات ، وليس لأحد مجرد التفكير فالتفكير أمسى مقيدا في زمن الخراب هذا .
أين هم من زماننا وشساعة تفكيرنا وشطحاتنا وطلابنا ومريدين ؟ لحظة من فضلك أيها القارئ الكريم تمهّل وأصدقني القول ألا نكون نحن من فرشنا لهم بساط التحرر و الترذيل!؟ ألا نكون نحن من رسمنا سكة وهمية لقاطرة حضارتهم الاستعمارية بدعوتنا إلى رفض القيود و فتح معاقل التفكير البشري و أدخلناهم بواطق اللامحدود و اللامستحيل، أتكون فلسفتنا المتهم اللّدود؟! أهذه ملامح المدينة الفاضلة؟!
ربما لم نفهم ما فهموه مما كنا نحاول إفهامه لبني البشر؟!

آه! لم نكن نظن ونحن نؤسس لمدينتنا الفاضلة أن في نسلنا من سيحرف الرسالة و يغيّر الأبجديات و يسكب علينا بترولا حارقا يفقأ به عيون الحقيقة و يُخصي به عقول البشر فتنجب نوعا واحدا تكاثر بمفرده بمفعول حب المال حبا جما. فراحوا يأكلون التراث ويمنعون الماعون و يحرفون الفكر.
أجاب ظلّه الممدّد تحت أجهزة التبريد تائها بين مغريات جهاز سري مبهر : لا تلقي كل اللوم علينا،إن البشر طمّاعون مستهلكون، مستنزفون،يغوصون في الملذات أينما اعترضتهم دون تفكير،أنسيت أن معظمهم ساهون متواكلون لا يفكرون،و إن وصلتهم رسائل لا يقرؤون،دعهم يفنون في الجحور،فالفقر لا يظلمهم ولكنهم لأنفسهم ظالمون،لا يبحثون عن نفائس الأمور وحتى نصوصك لا يقرؤون وإن قرؤوها لا يفقهون .

ماذا تنتظر منهم،عد إلى مرقدك فما ستدوّنه وكل نصوصك سيمحون ويتعلّلون بضربك للمقدس وتدخّلك في كل الشؤون،
الفقراء فرحون بكمّ المنجزات العصرية و تطور البنوك والشركات والعملات وكل سبل الراحة التي وفّرتها حضارتهم والموضة والتلفون،و...ماذا تريد منهم،حرمانهم من أبسط الحقوق؟! لقد باعوا ضمائرهم وبعقولهم مهاجرون إلى دول القوة و للعلم ممجدون بعد أن أهانت دولهم و أولياء الأمر منهم دور المعلم واعتبرتهم قطاعا غير منتج فقط هم مستهلكون دورهم لا يتعدّى دور حارس معبد أو جيل لم يعدُّوا له أيَّ تخطيط مأمول، إنهم يسارعون لقتل كل العقول وبناء دولة القردة و الجاثوم.
لم يتردد أن يصفعه بلطمة كادت تقطع أنفاسه غضبا كالتنور وصاح فيه :
_ مثلهم أصبحت تفكر للحظات قضيتها أمام الحاسوب، مثلهم تخلّيت عن وعي قرون وأصبحت مسهوبا،كل شيء له ثمنه،اخرج بسرعة قبل أن تصاب بلوثة الجنون أو فيروسات حربهم الجسور، عِ جيدا الخطر المحدق، كفاك سذاجة و خبلا،
بتّ أوجس خيفة على هذا الكون،انتفت فيه العقول وانتشر سحر اللامعقول، عمّت الفوضى وغاب السكون.
لنرحل قبل أن تصيبنا لعنة هزيمة جيشهم المحقور.قبل أن يعود الديناصور والتنين وأبو الهول فيوم الحشر على الأبواب وهم لاهون،
لم يكمل كلمته تلك حتى أشرق فجر جديد تكدس أمامه كل الفقراء حفاة عراة يسألونه بعض الحلول:
-أنعود إلى الجحور أنقاطع التقدم والتطور؟! أم يصدق وعد المدينة الفاضلة ونرى النور بعد غياهب الجب المحفور بين ألغام الديكتاتور.
ها أننا لسنوات في كهفنا قابعون ثابتون خانعون والعالم كله سوانا يدور؟!
ألا نصبح بذلك منغلقين متقوقعين ، كجدتنا العنقاء ناقمين ؟!
لماذا كل الجهات تكيل لنا الشتائم والسب واللعن المقيت؟!
أفكاركم هي من صنعت عجزنا،توارثنا ك
Saïda
Ben Jazia Saïda
كل الهزائم منذ دهور،وميزان القوة لصالحهم لا يحول ،إنها سنّة الكون،لم نتخلّ عن واجبنا ولم نبطل التفكير في الحلول ولكن السياسة والثقافة والعلوم في تضارب ونفور، انظر إلى ما دوَّنه المفكرون بعضه قد طُبِّق في الغرب وبعضه قد تآكل وبعضه لا يزال يُتدارس منذ قرون ولكن هناك قيود لم ترفع وهناك وسائل غير متاحة للجموع، لا تنعتونا بالخمول والجمود و التواكل، أمامنا حرب تحرير وأمامهم كل تضامن العالم اللامسؤول. فالميزان لم يعتدل، وهم يبغون كل دستور .
بُهت أفلاطون لهاته الفئة المسحوقة، تأمل رجاحة أفكارهم. طأطأ رأسه استحياء نضح عرقه وأصابته قشعريرة، علم الجمع أن كبير المعلمين عجز لعجزهم، تسمروا مشدوهين للحظة ارتفاعه إلى أعلى جبل النسيان، اقتفوا أثره وسكنوا السفوح، منذ تلك الحادثة عاش الأغنياء أسوأ مراحل حياتهم وتطاحنوا وتباغضوا وتضاغنوا ... ولم يجدوا من يستغلون و يستنزفون.
استبشر الظل بالحدث العظيم حيث انحدر الضلال عقيما.

سيدة بن جازية - تونس
20/03/2020

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى