د. عبدالعظيم أنيس - تأملات معلم عجوز... نصف قرن مع الرياضيات

قضيت نحو خمسين عامًا معيدًا ومدرسًا وأستاذًا للرياضيات في جامعات الإسكندرية، ثم القاهرة ثم عين شمس، كما عملت محاضرًا بإحدى كليات جامعة لندن لمدة عامين، وانتدبت فترة طويلة للتدريس بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، ومعهد الإحصاء التابع لنفس الجامعة، وكلية العلوم بجامعة القاهرة وكليتي التربية والبنات بجامعة عين شمس وكلية العلوم بجامعة الأزهر، فضلًا عن اشتراكي في العديد من دورات تدريب مدرسي المرحلة الثانوية وموجهيها بمناسبة مشروع اليونسكو عن الرياضيات المعاصرة للمرحلة الثانوية الذي بدأ عام 1968.
ومع أن تخصصي الدقيق هو الإحصاء الرياضي إلا أن الظروف شاءت أن أقوم بتدريس فروع الرياضة البحتة الأخرى سواء في القاهرة أو لندن مثل نظرية دوال المتغير المركب ونظرية الدوال الخاصة ونظرية المعادلات التفاضلية ومعادلات الفروق... الخ. ولم يتم تركيزي على تدريس فروع الإحصاء الرياضي بكلية العلوم جامعة عين شمس منذ عام 1967.
ثم توالى بعد ذلك إنشاء هذه الشعبة في أقسام الرياضيات بكليات العلوم المختلفة.
ذكرت كل هذه المقدمة لأوضح أنه قد أتيحت لي خبرة غير قليلة في تعليم الرياضيات برغم أنفي وهذه الخبرة هي التي سمحت لي بكثير من التأملات فيما صنعته خلال هذه السنوات الخمسين. أضع بعضها هنا لعلها تكون ذات فائدة عند نشرها.
تأملت طويلًا في البحث عن تعريف محكم للرياضيات، وحتى اليوم لم أجد حلا شافيًا لهذه المسألة. ففي الماضي البعيد كانت الرياضيات تعرف بأنها علم دراسة الكميات المختلفة والعلاقات بينها. إن هذا التعريف -أو شيئًا مشابهًا له- هو ما اعتمده علماء الرياضيات في الحضارة العربية الإسلامية منذ القرن التاسع حتى القرن الخامس عشر الميلادي، بدءًا بالخوارزمي وعمر الخيام وابن الهيثم... الخ وانتهاء بالكاشي. في ذلك الزمن كان الاهتمام كله منصرفًا إلى الخواص الكمية لهندسة إقليدس، وحل معادلات الدرجة الثانية بيانيا وجبريا، ثم حل معادلات الدرجة الثالثة بيانيا، وحل مشاكل حساب المثلثات لعلاقتها بالفلك، وإيجاد جذور الأعداد... الخ. وحتى عصر النهضة في أوربا الذي ورث إنجازات الحضارة العربية الإسلامية بدا هذا التعريف للرياضيات مقبولًا.
ثم جاء اكتشاف موضوع الزمر Groups في القرن التاسع عشر (وهي الدراسة المجردة للتماثل) ثم فرع التوبولوجيا Topology وهي فروعٌ لا كميةً في الرياضيات فأصبح التعريف السابق غير ملائم. وخلال القرن العشرين ظهر تعريف أوسع للرياضيات أساسه أن الرياضيات مهتمة بدراسة الأنماط Patterns، والأنظمة Orders، ولفترة طويلة بدا هذا التعريف أوسع وأكثر ملاءمة وقادرًا على الإحاطة بفروع الرياضيات المجردة المختلفة.
ولكن في السنوات العشرين الأخيرة بدأ في الظهور فرع رياضي جديد أسميه بالعربية "عدم الانتظام" ترجمة لكلمة Chaos، بينما يسميه آخرون "الفوضى" وهو ينشغل بالسلوك شبه العشوائي لبعض الظواهر وتفسيره رياضيا. ولهذا الفرع الجديد تطبيقاته في علوم الأرصاد والبيولوجيا والطب.. الخ. وأساسه أن العالم الذي نعيش فيه ليس خطيا NonLin ear وأن محاولات دراسة الظواهر الطبيعية بمعادلات خطية سواء كانت تفاضليةٌ أو خلافه ليست إلا تقريبًا فجا للواقع، ولا تبرير له إلا سهولة الحصول على حلول في صورة مغلقة Closed Form، بينما يصعب الحصول على مثل هذه الحلول في حالة المعادلات غير الخطية، ولا حل لها إلا بالحساب. وحيث إن الحاسب الآلي لم يكن موجودًا آنذاك فقد فضل الرياضيون الابتعاد عن المعادلات غير الخطية. أما اليوم حيث تتوافر الحواسب الآلية ذات السرعات الفائقة فقد كان من الطبيعي العودة إلى البحث عن حلول للمعادلات غير الخطية باستخدام الحواسب الآلية، ومن خلالها اكتشف أن العديد من المتغيرات الطبيعية تتصرف في لحظات معينةٌ بشكل شاذ، كالقشة التي قصمت ظهر البعير كما يقول المثل العربي القديم، أو كما يقول المعاصرون في الغرب "تأثير الفراشة" وبمقتضاه يمكن لفراشة The Butterfly Effect ترف بجناحيها في الصين أن تؤدي إلى حدوث إعصار على سواحل أمريكا الغربية
هناك إذن مشكلة حول تعريف الرياضيات. اللهم إلا إذا قبلنا ما قاله برتراند رسل ساخرًا عندما عرف الرياضيات بأنها ما يصنعه الرياضيون. ويمكن أن نقول ونحن مطمئنون إن الرياضيات تتطور باستمرار في اتجاهات مختلفة وفهم احتياجات التطبيقات المحتملة. ومن المرجح أن كل تطور علمي مهم في الرياضيات سوف يحتاج إلى إطار نظري جديد. وإذا لم تقدم الرياضيات القائمة اللغة الصحيحة فلا بد من ابتكار هذه اللغة وهي بطبيعة الحال ستكون ذات صلات كافية بما هو موجودٌ فعلًا.
النظري والتطبيقي
تشير خبرة هذه السنوات الخمسين إلى أنه من الصعب في الرياضيات وضع حد فاصل بين ما هو بحثٌ نظري أساسي Basic وبين ما هو تطبيقي. وبالتالي فإن ما يبدو مجردًا وعديم الفائدة اليوم قد يصبح عظيم الفائدة في التطبيقات غدًا، وتاريخ الرياضيات مليء بالأمثلة على ذلك. وكتجربة خاصة أذكر أنني واجهت في أحد البحوث المتعلقة بالنظرية الإحصائية لتخزين مياه الأمطار وراء السدود مسألة استخدام الفضاء الإقليدي ذي الأبعاد بنتائجه المهمة، وهي أمورٌ بدت لي مجردة في يوم من الأيام.
ومن السجل القديم للرياضيات اليونانية، سوف نتذكر القصة التي تقول إن إقليدس في مدرسة الإسكندرية كان يدرس القطع الناقص وخواصه لتلاميذه فسأله أحدهم : وما الفائدة من كل هذا؟ فالتفت إقليدس إلى خادمه الذي كان يقف بجواره وقال غاضبًا: يا غلامٌ أعطه درهمًا! لكن القطع الناقص اكتسب أهمية فريدة بعد ذلك بأكثر من ألف عام على يد نيوتن وآخرين، عندما قدموا تفسيرًا مقنعًا لحركة الأجسام السماوية في مسار قطع ناقص.
ومن الأمثلة التاريخية المهمة مسألة الجذر التربيعي للعدد-1، ونرمز له بالرمز "ت"، الذي يعتبره البعض أروع ما تفتق عنه خيال الرياضيين في أي زمان، وقد سمح بتوسيع تعريف الأعداد من الأعداد الحقيقية إلى الأعداد المركبة. وحتى زمان عمر الخيام كان تعريف الأعداد ينصرف إلى الأعداد النسبية، وكان هو أول من اقترح في كتابه عن الجبر توسيع تعريف العدد بحيث يشمل الأعداد غير النسبية مثل الجذر التربيعي لعدد 2، ط، وقطر الدائرة... الخ، الأمر الذي تم في عصر النهضة الأوربية. والحقيقة أن فكرة "ت" أي الجذر التربيعي للعدد-1 تعود في أصلها إلى حلول معادلات الدرجة الثانية، إلا أن "ت" اكتسب احترامًا رياضيا على يد جاوس على الرغم من اعترافه بأن "الميتافيزيقا الحقيقية للجذر التربيعي للعدد-1 تبدو مراوغة". لكن هكذا تم تعريف الأعداد المركبة التي تطورت إلى نظرية المتغير المركب والتي بدت في فترة من الفترات عديمة الفائدة ثم تأكد نفعها، من دورها الأساسي في ميكانيكا الكم.
ولقد نشأ علم الاحتمال على يد فرمات في القرن السابع عشر من خلال المشاكل التي طرحتها مراهنات الفرسان على ألعاب النرد وأوراق الكوتشينة، لكن التطبيقات الأهم في علوم الاتصالات وجودة الإنتاج والتأمين على الحياة... الخ لم تبدأ إلا بعد ذلك بقرن ونصف على الأقل. ونفس الشيء يمكن أن يقال عن موضوع الكسريات Fractals الذي نشأ أصلًا على يد الألماني هووس دورف والفرنسي جولبا.
ولزمن طويل بدا البحث في هذا الموضوع مجردًا وبلا تطبيق. لكن حديثًا جدا أمكن استخدام هذه النتائج في بحوث الجغرافيا وعلوم الحياة. وإلى عهد قريب ظلت هناك ثلاث مسائل رياضية دون حل برغم أنها تثير شهية الرياضيين في كل العالم من حين لآخر. وأولها مسألة "الألوان الأربعة" التي تنص على أنه تكفي أربعة ألوان لتلوين مقاطعات (محافظات) أي قطر بحيث لا يكون لمقاطعتين متجاورتين نفس اللون، ثم هناك المسألة المعروفة باسم "نظرية فرمات الأخيرة" وسميت بهذا الاسم لأن فرمات ادعى في هامش أحد كتبه قبل وفاته بأيام أنه عثر على حل لهذه النظرية وإن كان لم يكتب هذا الحل. وتنص هذه النظرية على أنه لا توجد حلول صحيحةٌ للمعادلة س ن + ص ن = ع ن حيث ن عدد صحيح أكبر من 2.
أما المسألة الثالثة التي بقيت دون حل فهي المعروفة باسم "فرض ريمان" وتنص على أن جميع جذور الدالة زيتًا تقع على الخط الرأسي الموازي لمحور الصادات ويبعد عنه بمقدار نصفٌ. ولقد أمكن حل مسألة الألوان الأربعة عام1976 باستخدام الحاسب الآلي، كما نشرت الصحف الغربية عام 1994أن عالمًا بريطانيا يعمل في جامعة برنستون الأمريكية استطاع الوصول إلى برهان نظرية فرمات الأخيرة يقع في ألف صفحة وأن هذا الحل لا يزال يثير جدلًا حتى اليوم. أما فرض ريمان فعلى الرغم من أن الأستاذ هاردي في جامعة كمبردج قد برهن في الثلاثينيات على أن هناك عددًا لا نهائيا من جذور الدالة زيتًا على الخط الرأسي الموازي لمحور الصادات إلا إن أحدًا لم يستطع أن يثبت حتى اليوم أن هذه هي كل الجذور.
احترام علم الحساب
علمتني خبرة هذه السنوات الخمسين احترام علم الحساب وأهمية الصبر في إجراء عملياته مهما كانت طويلةٌ، لأن إجراء مثل هذه العمليات بدقة وصبر قد يؤدي إلى حدس معين بنظرية رياضية، ويبقى بعد الحدس البحث عن برهان والحقيقة ان هذه هي خبرة عدد من الرياضيين في عالم لم يكن فيه حاسب آلي ولا حتى حاسب يدوي. وسوف أذكر كمثال على ذلك قصة اكتشاف جاوس وهو في الخامسة عشرة من العمر نظرية عن الأعداد الأولية تعرف أحيانًا بالنظرية الأساسية للأعداد الأولية، وهي تنص على أنه اذا كانت ع (ن) هي عدد الأعداد الأولية لأقل من العدد الصحيح فإن (ن)/ع(ن) تقترب من اللوغاريتم الهندسي كلما كبرت قيمة ن. وبالطبع لم يتمكن جاوس في هذه السن المبكرة من وضع برهان لهذه النظرية، ولقد أمكن اكتشاف برهان لها بعد ذلك بمائة عام على يد الرياضي الفرنسي هادامار. أما كيف وصل جاوس إلى منطوق هذه النظرية فنجد إجابةً عنه في كتاب "خبرة رياضية" Mathematical Experience الذي ألفه في الثمانينيات الرياضيان الأمريكيان دافيز وهيرش.
ومن هذا الكتاب نعرف أن جاوس في صبر فائق ركب جدولًا عموده الأول قيم ن = 000.1000.100.10 الخ وعموده الثاني قيم ع( ن ) المناظرة لقيم ن وعموده الثالث ن/ع( ن ) ثم عموده الرابع والاخير فروق هذه القيم الواردة في العمود الثالث، فوجد جاوس ان هذه الفروق تتجه إلى الثبات والاستقرار حول القيمة 2.3 وهي قيمة اللوغاريتم الهندسي 10 وبهذا أمكن لجاوس أن يحدس النظرية. والمثال الأقرب إلى زماننا على أهمية الصبر عند إجراء العمليات المطولة برغم أن الحاسب الآلي قد حل هذه المشكلة اليوم نهائيا هو الرياضي العبقري الهندي "رامو نجان " الذي احتفلت اليونسكو منذ سنوات قليلة بمرور مائة عام على مولده، والذي مات بالسل في بريطانيا وهو في الثانية والثلاثين. وبسبب موته الفاجع كتب هاردي كتابه المشهور "اعتذار رياضي" - A Mathematician's Appology
إن رامو نجان لم يحصل في بلاده إلا على الثانوية العامة لكن كانت له قدرة فذة على إجراء العمليات الحسابية وتخمين العديد من النظريات من هذا الحساب في قضايا الكسور المتصلة وفروع نظرية الأعداد الأخرى، وإن لم يستطع أو لم يعبأ ببرهان أي منها.
ويحكي الأستاذ هاردي كيف أنه وصله من صديق بريطاني في الهند خطابٌ يحكي عن ظاهرة رامو نجان ويرفق في الخطاب بعض هذه النظريات غير المبرهنة ويرجوه النظر فيها ويقول هاردي إنه أمام إلحاح صديقه هذا اتصل بمساعده في الجامعة ليتل وود Little Wood ودعاه إلى العشاء في منزله للنظر في هذا الخطاب وما فيه. وبدأ الاثنان بأول نظرية فوجدا برهانًا لها بعد خمس دقائق وكذلك الثانية. أما الثالثة فقد احتاجت إلى نصف ساعة لبرهانها والتأكد من صحتها واقتنع هاردي أنه أمام شخص عبقري حقا، ودبر له منحة من جامعة كمبردج وأرسل يستدعيه حيث نشرا معًا عشرة بحوث في نظرية الأعداد وحدها. ثم مرض رامو نجان بالسل ودخل المستشفى وظل به إلى أن مات وهو في الثانية والثلاثين.
الحال لدينا
تبقى كلمةً أخيرةً عن أوضاع الرياضيات في التعليم المصري (كحالة من حالات التعليم العربي عمومًا) وخصوصًا مرحلة الثانوية العامة الجديدة. فاليوم يدرك العالم بأكمله أن إجادة تعليم الرياضيات والعلوم في مرحلة التعليم العام هي أحد الشروط الأساسية لتحقيق تنمية حقيقية في البلاد وأود أن أشير هنا إلى كتابين صدرًا حديثًا يؤكدان هذا المعنى. أولهما كتاب "رأسًا برأس: اليابان وأوربا وأمريكا" للكاتب الأمريكي ليستر ثرو (وترجمته دار الهلال أخيرًا) وفيه ينعي المؤلف كيف أن بلاده مهددة بالتخلف وراء اليابان وأوربا في القرن الواحد والعشرين، لأسباب عديدة من بينها تخلف تعليم الرياضيات والعلوم في مرحلة التعليم العام على الرغم من تفوق عدد كبير من جامعات أمريكا. والإشارة هنا إلى القصور الأمريكي في توفير الفنيين المؤهلين تأهيلًا جيدًا، والذين يمثلون الكوادر الوسطى في عملية الإنتاج.
أما الكتاب الثاني فقد صدر في العام الماضي للكاتب الفرنسي ميشيل البير وعنوانه رأسمالية ضد رأسمالية وفيه يقارن المؤلف بين الرأسمالية الأمريكية والرأسمالية الأوربية (الألمانية خصوصًا) ويبرز كيف أن ألمانيا متفوقة على أمريكا في مسألة تأهيل الكوادر الوسطى تأهيلًا جيدًا من ناحية الرياضيات والعلوم. وفي مصر يبدو أننا من هذه الزاوية نتأخر ولا نتقدم. ففي الثانوية العامة الجديدة مقرران أحدهما للسنة الثانية والآخر للسنة الثالثة، ويستطيع الطالب أن يدرس المقرر الثاني دون أن يكون قد درس المقرر الأول، ولست أفهم كيف يمكن أن يستقيم هذا، فالمقرر الأول يحتوي على أساسيات كاللوغاريتمات وحساب المثلثات دونها يصعب فهم الفيزياء أو الميكانيكا، وهي أساسياتٌ لازمةٌ في معظم تخصصات المرحلة الجامعية، وأملي أن تعيد وزارة التعليم النظر في هذا الموضوع الخطير بهدف تصحيح الأوضاع وإعادة الاعتبار إلى تعليم الرياضيات في المرحلة الثانوية.
أعلى