قصة عبد الناصر والشيوعيين (الجزء الأول) دراسة تاريخية تابع (11 - 20)

تابع (11 - 20)



11- وفي يوم الأربعاء الدامي : رفض المعتقلون غناء أغنية : « يا جمال يا مثال الوطنية » (الوفد في 23/10/1996)

لم يكن الفصل الأول من "تشريفة" أوردي أبو زعبل هو نهاية المطاف بالنسبة لسجناء الرأي في العصر الناصري، بل كان ـ كما يفهم من عنوانه ـ الافتتاحية! وهذا ما شعر به إلهام سيف النصر عندما استيقظ عند فجر اليوم التالي للتشريفة على أنات رفاقه وحشرجات صدورهم وهم ينامون على أسفلت العنبر في برد الشتاء، وأخذ يسترجع ما حدث!

"لقد جرى كل شيء" ـ على حد قوله ـ "في دقة، ووحشية، ودموية، وغضب جامح"! وكان السؤال الساخر الذي طرأ في ذهنه: "لماذا لم يظهر النظام الناصري كل تلك الدقة وذلك الغضب الجامح وتلك الدموية في ظروف أخرى تستدعيها:

ظروف هدد فيها العدو و[[الصهيونية]] أرض الوطن، واستباحوها ووطئوها؟

(كان يقصد حرب 1956 التي العدو فيها سيناء)، "وعلى الرغم مني" ـ كما يقول ـ : ابتسمت في مرارة، وأنا أذكر ذلك البيت البليغ: "أسد عليّ، وفي الحروب نعامة"!

وعلى مدى الأيام التالية ـ وعلى حد قوله ـ استمرت "التشريفة" تستقبل كل وافد جديد قرر نظام عبد الناصر تأديبه: "على مدى الشهور استقبلت التشريفة عدة مئات من المعتقلين، من مختلف طبقات المجتمع، ومن كافة أرجاء مصر. أسماء هي في الواقع سمات لمصر الحديثة ولمصر المستقبل، تتمرغ في دمائها!:

"الدكتور لويس عوض الأستاذ والصحفي والأديب، حسن فؤاد الفنان والصحفي والكاتب، الدكتور عبد الرازق حسن الأستاذ في الاقتصاد سعيد خيال القاضي وعضو مجلس السلام العالمي، فوزي منصور الدكتور في الاقتصاد، فيليب جلاب الصحفي، الدكتور عبد العظيم أنيس أستاذ الرياضة البحتة والصحفي، زهدي رسام الكاريكاتير والفنان اللامع، منير موافي الضابط بالقوات المسلحة وأحد أبطال بور سعيد، فؤاد حداد الشاعر!

"أسماء، وأسماء، لعدة مئات .. أسماء لرؤساء وأعضاء مجالس نقابات عمالية تمتد من أسوان وكوم إمبو حتى شبرا الخيمة والمحلة وكفر الدوار وسباهي وعنابر السكك الحديد، وأسماء لفلاحين من قرى الصعيد ونجوع الدلتا وكفور ريف مصر كلها. أسماء لمصريين شرفاء كانت تتعرض لما حوته "التشريفة" من بشاعة!

"كانت عجلة البربرية تدور، وكل شيء ـ حتى شرف المهنة ـ كان يلوث من أجلها!

"وحتى أواخر يونيو عام 1960 استمرت التشريفة لا تتوقف، بل تزداد إتقاناً، وتزداد وحشية، وتزداد جنوناً! ومع التشريفة" شهد أوردي أبو زعبل أصدافاً جديدة وغريبة ومريضة من تعذيب بربري أطلق عليها عليها أسماء: "ليلة التفتيش" ، "الزحف المقدس" ، "طابور الصباح" ، "التأديب" ، "يوم العناء" ، "الأربعاء الدامي" ، "ليلة رأس السنة" ، "هجوم الهكسوس"!

"وعشرات من قصص مجنونة دامية لا يتصورها خيال، ولا يمكن لمصري أن يتصور أنها حدثت على أرض مصر! قصص يجب أن تحكى، لكيلا تحدث بعد ذلك قط"!

ويروي إلهام سيف النصر إحدى قصص التعذيب البربري التي أطلق عليها اسم "طابور الصباح"! فيقول إنه في صباح يوم في أواخر شهر نوفمبر 1959 فتح باب عنبر (1) ووقف المعتقلون من سجناء الرأي وقفة انتباه كما تعلّموا، وصدر الأمر بخروج خمسة عشر معتقلاً، من رقم "1" حتى رقم "15" ـ كما هو مطبوع على ستراتهم بطلاء أسود.

"وخرج الخمسة عشر معتقلاً وهم يجرون، من العنبر حتى باب الأوردي، خرجوا يجرون كما تعلموا! وكالعادة أيضاً نزلت على ظهورهم الشوم والهراوات حتى توقفوا في صفوف منتظمة، كل صف من خمسة: الكل في ملابس السجن الخشنة، والأقدام حافية!

"وأمام الخمسة عشر معتقلاً وقف اللواء إسماعيل همت وكيل مصلحة السجون، وحوله ضباط المعتقل، وخلفهم عشرون جندياً مسلحين بمدافع رشاشة! وبعد صمت استمر ثوان تكلم اللواء إسماعيل همت قائلاً باسماً:

"أنتم ضعاف الصحة، تحتاجون إلى رياضة!"،وبإشارة من يده تقدم صول ليصرخ:

"يمين در!

"بعضنا يستدير نحو اليمين، والبعض نحو اليسار! الخطأ يحدث لأن الأمر جديد علينا! العصي تنزل والصرخة تعلو من جديد: يمين در! الكل يستدير نحو اليمين.

"بالخطوة السريعة، مارش!

"الكل يجري في شبه حلقة، تقودهم العصي والشوم! وبعد خمس عشرة دقيقة يصدر الأمر بالتوقف. ويلتفت اللواء همت إلى مأمور السجن حسن منير قائلا: طابور الرياضة يا حسن اللي اتفقنا عليه! الأولاد أجسامهم طرية يجب أن تشتد"!

"الأمر يصدر بدخول العنبر . الكل يجري، والعصي تنزل على الظهور من جديد"!


وينتقل إلهام سيف النصر إلى صباح يوم 16 فبراير 1960 ـ أو يوم الأربعاء الدامي ـ ويروي القصة البشعة الآتية عندما أشرف الدكتور إسماعيل صبري عبد الله ومعه ثلاثون من سجناء الرأي على الموت وأغمي عليهم. فيقول إنه في صباح ذلك اليوم وقف عنبر "1" في ثلاثة صفوف، كل صف يحوي عشرين معتقلاً وقفة انتباه، وعلى الأرض أمام العنبر جلس بقية المعتقل جلسة المسجون العادية: "الجسد قد انخفض، والرأس مطرق في الأرض، والأيدي موضوعة على الركب، والأقدام تئن تحمل الجسد المنثني المحرم أن يلمس الأرض. عدة مئات جلسوا هذه الجلسة أمام عنبر "1" فالأوردي قد امتلأ بعدد كبير من المعتقلين حضروا من السجون والمعتقلات الأخرى.

"وأمام عنبر "1" وقف المأمور حسن منير وحوله ضباط المعتقل وعدد من الجنود والسجانة، يحملون بنادق وعصي غليظة يسميها المعتلون "شوم"، وهي تورد للمعتقل بمعدل مائة شومة شهرياً، لاستبدال ما يتحطم على أجساد المعتقلين!

لم يكن عنبر "1" يعرف سبب هذا التجمع إلا عندما خاطبهم مأمور المعتقل حسن منير قائلا:

"أنا مبسوط منكم يا أولاد .. ولذلك قررت أن أعلمكم الغناء! تعرفون أغنية: "يا جمال يا مثال الوطنية"؟ هيا يا أولاد، غنوا!

على أن المعتقلين من سجناء الرأي فهموا المقصود، فرفضوا الغناء. وهنا اتجه مأمور السجن إلى الدكتور إسماعيل صبري عبد الله ، الذي كان يقف في الصف الأول، وصاح فيه: غني يا ولد! ولكن الدكتور إسماعيل صبري رفض الغناء قائلاً: "أي أغنية وطنية مكانها الخارج، حيث الحرية، نحن كوطنيين نتشرف بغناء أغاني وطننا الوطنية، ولكنا نرفض أن نغنيها تحت ظل الرشاشات والأسلحة والعصي، نرفض أن نغنيها تحت ظل الإرهاب!".

وهنا ـ كما يروي إلهام سيف النصر ـ أخذت تصدر من فم المأمور حسن منير ألفاظ نابية قذرة عاهرة، وتنهال العصي والشوم على إسماعيل صبري عبد الله ، حتى سقط، ورأسه مشجوج تسيل منه الدماء، والضربات تنهال بجنون عليه.

وبعدها جرى ضرب العنبر كله! حتى أطلق علي المعتقلون "يوم الأربعاء الدامي" يوم أشرف الدكتور إسماعيل صبري عبد الله على الموت، وكذلك أشرف على الموت عدد آخرون، وأغمي على ثلاثين معتقلا كلهم من عنبر واحد هو عنبر "1"!


ويستمر طابور الصباح "لتحسين الصحة" حسب تعبير اللواء همت! وفي صباح يوم من أيام شهر مايو 1960، صدرت الأوامر لجميع نزلاء المعتل بعمل الحركة الرياضية المعروفة باسم "ضغط"، ولكن بأسلوب مخيف يؤدي إلى الموت! ويصف إلهام سيف النصر ما حدث فيقول:

"على استلقى عدة مئات! عنبر بعد عنبر، ستة عنابر! كان المطلوب أن يركعوا ووجوههم صوب الأرض، ثم يرفعو اجسادهم بسواعدهم، وهكذا دواليك. اسم هذه الحركة الرياضية "ضغ"، ولكن المشكلة أن كل معتقل كان عليه ان يؤديها بدون توقف! حتى يأمر الضابط بالتوقف!

وبطبيعة الحال فإن الجميع عجزوا عن المواصلة، وبعد عدة مرات أخذوا ينهارون، فجميعهم كما يقول إلهام سيف النصر، جوعى، ومنهكون، فالطعام عدة حبات فول، وثلاثة أرغفة من خبز، والعمل قاس في الجبل.

وهنا جاء دور السجانة! فعندما عجز المعتقلون عن أن يرفعوا أجسادهم، أمر ضابط السجن واسمه مرجان رجاله بان يسيروا فوق ظهور المعتقلين! ويقفزوا من فوق جسد إلى آخر! وعندما أصيب بعض المعتقلين بالإغماءن أمر مرجان رجاله بضربهم "حتى يفيقوا"!

ويروي إلهام سيف النصر أنه في يوم الغناء، "بعد أن ساقتنا العصي والهراوات للجبل لنقضي فيه يوم الأربعاء الدامي، بقي سعد زهران في الأوردي" لأنه كان بقدم واحدة ومن المتعذر عملياً أن يعمل في الجبل بهذه الساق الواحدة. وفي ذلك اليوم زاره الضابط يونس مرعين وهو من الشخصيات التي اختارها نظام عبد الناصر بعناية لأوردي أبو زعبل فهو ـ كما وصفه إلهام سيف النصر ـ: "القاتل البهلوان، يقتل في جنون وهو يضحك ويدمر! وهو يقفز في مرح! يضرب وهو يلقي بالنكات! وجهه ككل مدمني الحشيش، جامد كقناع من شمع، والعيون حمراء متسعة الحدقات، واليد ترتعش، والفم لا يفرز إلا أدنأ الكلمات وأقذرها"!

زار يونس مرعي هذا سعد زهران في الأوردي، "ليضربه على القدم الوحيدة بعد أن رفض الغناء، حتى أعجزه عن الحركة تماماً لمدة أيام! وكانت طريقة الضرب أنه كان يأمره بالوقوف على قدمه الواحدة، ثم يركله، فيتعثر ويقع! فيفرض عليه أن ينطرح على ظهره، ويرفع قدمه، ليتلقى ضربات الشوم على بطن قدمه، بحجة أنه لا يجيد السير!

"وفي يوم الغناء أيضاً، عندما عدنا من الجبل، استقبلنا يونس مرعي على باب المعتقل بضرب شديد وفردي، واحداً واحداً! وعندما تلقيت نصيبي، لاحظ يونس مرعي أني على وشك الإغماء بسبب ضربة شومة أصابت كليتي اليمنى، فسألني: لديك طلبات؟ وأجبت: أريد علاجاً طبياً، فقد أصبت في كليتي!. وكان العلاج الطبي أن أمر يونس مرعي الشاويش عبد السلام، القوي العضلات، بأن يضربني عل قفاي ثلاثين صفعة!" حتى يتعادل الألم في الرأس مع الألم في الجسد، فلا أصاب بإغماء! ـ على حد قوله!


12- "الزحف المقدس" في الأوردي .. وطرق تعذيب أخرى ! (الوفد في 28/10/1996)

لم يعرف التاريخ ثورة نكلت بمخالفها في الرأي من المثقفين والمفكرين وأصحاب الرأي كما فعلت ثورة يوليو، في سبيل احتفاظها بالسلطة والانفراد. لقد فعلت النازية ذلك لأسباب عنصرية واقتصادية معروفة، ولكنها لم تفعل ذلك لخلاف في الرأي بينها وبين اليهود! وفعل الأسبان ذلك في محاكم التفتيش لأسباب دينية، ولكن أيا من النازيين والأسبان لم يزعم أنه ثورة تقدمية ديموقراطية كما زعمت ثورة يوليو!

لقد انفردت ثورة يوليو بهذا التضليل، الذي أصبح سمة خاصة تميز الناصريين، لدرجة أنهم اليوم يتصدرون صفوف المدافعين عن حقوق الإنسان! بل ويترأسون هذه الحركات! متصورين أنهم بذلك يخدعون شعبنا! وينسون أن شعبنا لا ينخدع، وأنه يعرف أسماءهم وأشخاصهم وتاريخهم الأسود!

ولكن المؤسف حقاً أن من ذاقوا النكال على يد ثورة يوليو، ومن جردتهم هذه الثورة من آدميتهم وإنسانيتهم، يتصدون للدفاع عنها بكل حماس، وقد نسوا ما لقوا على يدها من هوان وإذلال! الأمر الذي دعانا إلى القول بأنهم أصيبوا، مثل سجانيهم، بالسادية، وهي الاستمتاع بالتعذيب، والشعور بالعرفان للجلادين لدرجة الدفاع عنهم!

ولكن واحداً منهم، وهو إلهام سيف النصر، لم يغفر لجلاديه، وقام بفضحهم في كتابه: "في معتل أبو زعبل"، الذي سجل فيه التجربة البشعة التي عاشه سجناء الرأي في "أوردي" أبو زعبل، وكان غرضه الذي أوضحه بجلاء في كتابه، هو منع تكرار هذه الجريمة. أو على حد قوله "إن فضح الجريمة، وكشف خيوطها وأركانها، هو الأسلوب الوحيد لمنع تكرارها، من أجل ألا يحدث ما قد حدث بعد ذلك قط".

وهذا هو الغرض الذي نبتغيه من هذه المقالات، وهو ألا يتكرر ما حدث أبدا، وتعبئة رأي عام قوي يعرف ما يمكن أن يجره عليه الحكم الدكتاتوري الذي يغيب منه القانون ـ فيتصدى لمنع تكراره في مصر مهما كانت التضحيات! فما رويناه في معتقل أوردي أبو زعبل من انتهاك فظيع لحقوق الإنسان ولآميته، لم يرد في أي قانون، حتى ولا قانون الغاب، ولم يعرفه مجتمع متحضر، ولم يكن له أي مبرر، فلم يرفع هؤلاء المعتقلون سلاحاً ضد ثورة يوليو، بل إنهم كانوا يتوهمون أنهم قريبين من أفكارها، وأنه لا يوجد تناقض بينهم وبينها! وأكثر من ذلك إنهم كانوا يعتبرون أنفسهم "حلفاء" و "قوة وطنية تسند الحكم الوطني الموجود"! ولكن مجرد الخلاف في الرأي بينهم وبين الثورة حول الديمقراطية والمزيد من التحول الاجتماعي، كان كافياً في نظر زعيم هذه الثورة لاعتقالهم ووضعهم في أوردي أبو زعبل بدون أن يصدر حكم واحد ضدهم!

وكان في وسع عبد الناصر الاكتفاء بحرمان أصحاب الرأي المخالف من حريتهم واعتقالهم في سجون آدمية، ولكنه نكل بهم تنكيلاً، كما لو كان الخلاف في الرأي أشنع جريمة يمكن أن ترتكب في حقه، وسلط عليهم نفايات البشرية للانتقام منهم وتشويههم جسدياً وروحياً!

وكل ذلك في الوقت الذي كان عبد الناصر يخدع العالم الثالث كله ويوهمه بأنه بطل وطني تقدمي، ويتبادل الزيارات مع زعماء العالم التقدميين! بل إنه عندما فاضت روح شهدي عطية الشافعي في يونيو 1960، كان في بريوني في زيارة لتيتو، ولم يحركه إلا عندما علم العالم بالفضيحة بعد أن نشرت جريدة الأهرام نعياً له في صفحة الوفيات مع أبيات من الشعر تشير إلى ان وفاته كانت استشهاداً.

ولا يعرف إلى الآن كيف نشرت الأهرام الخبر، رغم الرقابة المفروضة على الصحف وقتذاك! ولكن نشر الخبر بهذا الشكل والدوي الذي أحدثه في العالم التقدمي، كان هو الذي ضغط على يد عبد الناصر لإيقاف مذبحة أوردي أبو زعبل، في محاولة لغسل يده من الجريمة. وفي ذلك يقول إلهام سيف النصر: "فجأة، وبعد ركود طويل، وأذن لا تسمع، وعين تتجاهل، تحركت السلطة السياسية تتدخل!".

ومن هنا أليس غريباً أن يتصدر رجال هذه الثورة اليوم الدفاع عن حقوق الإنسان، كأنهم وهبوا حياتهم منذ الميلاد لهذه القضية النبيلة السامية، ولم تتخضب أيديهم بدماء التعذيب والشهداء؟

إن ما أورده إلهام سيف النصر من طرق التعذيب التي اخترعتها العقلية الجهنمية لزبانية عبد الناصر، يستحق أن يعرفه شعبنان ويعرفه الشباب المخدوع بالشعارات المضللة الحالية للحزب الناصري، لكي يعرف جانباً مهماً من جوانب تاريخ ثورة يوليو بدون تزويق، من واقع الوثائق التاريخية الصادة، وهو الجانب الخاص بامتهانها لبسط حقوق الإنسان.

لقد أورد إلهام سيف النصر من طرق التعذيب التي اخترعها زبانية ثورة يوليو ما أطلق عليه الزبانية اسم طريقة "البيانو"! وبمقتضاه كان يطلب إلى سجناء الرأي من المعتقلين أن يناموا على الأرض، ليمر حارس يضربهم واحداً بعد الآخر على طريقة البيانو! وتكون صرخات الألم المتنوعة التي تنبعث منهم بديلاً عن صوت البيانو! وربما كان أشنع من طريقة البيانو، ما أطلق عليه الزبانية اسم "لف للتفتيش"! وهي تطوير لعمليات الضرب الجماعية واليومية، وبمقتضى هذه الطريقة كان على سجناء الرأي عند سماع كلمة "انتباه" ان يستديروا صوب الحائط، وينحنوا بصدورهم ورؤوسهم، لكي يتيحوا للحراس فرصة التحكم في توجيه الضربات. ثم كان عليهم أن يدوروا في أماكنهم كالساعة، وبسرعة، وظهورهم منحنية، وأقدامهم وحدها هي التي تتحرك تدفع أجسامهم للدوران في تلك الحركة المجنونة الغريبة، بينما يمر السجانة جيئة وذهاباً ينزلون بالشوم والعصى على الظهور والرءوس التي تدور!

ويقول إلهام سيف النصر غن الغرض من هذه الطريقة المجنونة، إلى جانب المهانة والتحقير، إجبار سجناء الرأي على الإتيان بحركة البهلوانات، وإتاحة الفرصة للحراس لكي يضربوا كما يحلو لهم وفي أي مكان يتصادف وجوده أمامهم! والفرصة لأن يتضاعف تأثير الضربات بالإنهاك، "والفرصة لأن يسقط أحدنا دائخاً أو مصاباً، فيفتح الفرصة عندئذ لضرب جماعي أو فردي جديد عنيف لمن تحدى الأوامر وسقط منهكاً أو مصاباً!".

وبعد أن أتقن سجناء الرأي حركة "لف للتفتيش" وأصحبت روتيناً يوميا يعاد عدة مرات في كل عنبر، شهدت جدران الأوردي اختراعاً آخر لزبانية التعذيب هو الذي أطلق عليه اسم "الطابور الرياضي"!

وبمقتضى هذا الاختراع، كان العنبر يخرج بأكمله يومياً بحجة الرياضة، ولكن الهدف الأساسي هو التعذيب. فكان يطلب إلى سجناء الرأي القيام بحركة "الضغط" الرياضية، وذلك بالانطراح أرضاً، ثم رفع أجسادهم فوق سواعدهم وخفضها عدة مرات.

وفي حركة الضغط الرياضية العادية يكون رفع الجسم وخفضه في حدود القدرة البدنية، ولكن حركة الضغط الرياضية في أوردي أبو زعبل، تقوم على الإتيان بالحركة حتى تعجز السواعد، وتتخدر الأجساد، وعندئذ يعدو الحراس على ظهور سجناء الرأي بالضرب، بحجة "عدم تنفيذ الأوامر"!

ولا تنتهي حركة الضغط عند هذا الحد، وإنما يقوم سجناء الرأي، بعد أن تخور قواهم، بعدة حركات أخرى تكميلية، يصفها إلهام سيف النصر فيقول: "ننطرح على ظهورنا، ونرفع سيقاننا عشرات المرات! أو نعدو في حلقة ضيقة حتى نفقد الأنفاس! او نهبط وننهض حتى نقع خائرين! وببساطة، تحويل أية حركة رياضية في "طابور الصباح" إلى تعذيب وإنهاك متصل!".

وقد كان بعد نجاح "طابور الصباح" أن تقدم زبانية التعذيب في عصر عبد الناصر باختراعات تعذيبية أخرى، أطلقوا على أحدها اسم "الزحف المقدس"! وهو ـ كما وصفه إلهام سيف النصر ـ أن نهبط بأجسادنا بشرط ألا نلمس الأرض، مرتكزين على أقدامنا فقط، ثم نرفع سواعدنا لأعلى، ونبدأ بالتحرك من هذا الوضع الغريب بأقدامنا، خطوة بعد الأخرى، لمئات الأمتار! نسير وأيدينا مرفوعة، شبه جالسين، وأقدامنا تئن من الألم"! أما لماذا أطلق زبانية التعذيب على هذه الطريقة التعذيبية اسم "الزحف المقدس"، فلأنه منبثق من المسيرة الصينية الشهيرة خلال الحرب الأهلية، تهكماً وسخرية سوداء!

على أن جعبة زبانية التعذيب كانت ما تزال حافلة بالمزيد، ضاربين عرض الحائط بكل اللوائح التي تحكم الليمانات، بل متعمدين إنتهاك هذه اللوائج لمفاجأة المعتقلين بما لا يتوقعونه! وربما كانت القصة الأليمة التي أوردها إلهام سيف النصر في كتابه شاهداً على ذلك، وقد استدل بها أن الهدف الأساسي الذي كان يستهدفه زبانية التعذيب لم يكن مجرد التعذيب، وإنما هو الإبادة! فيقول:

"كنا قد تعلمنا بعض القواعد الأساسية التي تحكم الليمانات كقانون قدسي لا يمكن المساس به، ومن هذه القواعد ان الأمطار تمنع نزول النزلاء إلى الجبل، على أساس أنها قد تمكن مسجوناً من الفرار مستغلاً ضعف الرؤية.

"لذلك لم يكن غريباً حين نزلت الأمطار والغيوم والبرد مع بداية السنة في الأوردي، أن سرت في نفوسنا بهجة، وفي لوبنا فرحة، فقد كانت الأمطار والغيوم تعني عدم نزولنا إلى الجبل. وهكذا جلسنا على أرض العنبر وظهورنا للحائط، وأمامنا طويت البطانية ولف البرش .. بطانية رقيقة، وبرش من ألياف خشنة هما الوسادة والغطاء.

وعليها استقرت القروانة الألومنيوم.

"ولكن البهجة والراحة النفسية لم يستمرا طويلاً. ففجأة فتح باب العنبر، ودخل حسن منير مأمور السجن ورجاله، لنقف للتفتيش، ونتلقى ضربات الشوم فترة! ثم نستقبل أمراً بأن يخرج منا خمسة عشر معتقلاً (من نمرة 1 إلى 15) إلى فناء السجن!

"ولما كنت أحمل رقم "6" فقد خرجت فيمن خرجوا، نقف جامدين "انتباه" تحت الأمطار، ننتظر الفصل الثاني الذي لابد أن يكتمل في مسرحيات المأمور.

"وفهمنا أن حسن منير قرر ألا نقضي اليوم كما تصورناه، بل قرر أن يعطينا جرعة جديدة من العذاب والإنهاك.

"وتوالت الأوامر غريبة مريرة! بعضنا عليه أن يكنس مياه الأمطار، ويسوي الأرض بفروع من جريد النخيل!

وبعضنا عليه خلع ملابسه لينزل داخل "بكابورتات" الأوردي وينظفها. وبعضنا عليه تنقية رمال أرض المعتقل وفنائه من الحصى والحجارة!

"وكان تعليق حسن منير على هذه الأوامر: يا أولاد .. كل واحدة من هذه المهام "صنعة" سوف تنفعكم عندما تخرجون من السجن!!

"وسرعان ما اختار لي صنعة فريدة من نوعها. فبإشارة من يده تبعته إلى الخارج ـ خارج الأوردي ـ ومعي أمين شرف، لنجد أنفسنا في الطريق المترب الضيق، الذي كانت تدور عليه أحداث "التشريفة"! ويمتد أمام مكتب المأمور.

ثم تقدم سجان يعطينا، أمين شرف وأنا، "كوزين" صغيرين من النحاس أو الصفيح. وسمعنا الأمر: - يا أولاد، عليكما بنزح المياه المتجمعة على الأرض، وإفراغه في ذلك المجرى!

"ووقفنا ذاهلين لا نكاد نصدق أعيننا: الطريق الملئ بالحفر قد امتلأ بمياه الأمطار، والأمر يعني أن نملأ الكوزين لنفرغهما في مجرى مائي صغير مواز للطريق، ليستعمل في ري الحديقة المحيطة بمكتب المأمور والضابط!

"وبعد شومتين نزلتا على ظهرينا، أفقنا لنبدأ في تنفيذ "الصنعة" الجديدة! وهكذا مر اليوم كاملاً، من حوالي الثامنة صباحاً إلى الخامسة مساء، نملأ الكوز ونفرغه، ننحني، وننهض، ونفرغ الكوز، ثم نبدأ من جديد!

"مرت ساعات النهار كلها، ونحن ننفذ عملاً مجنوناً، وأمراً مستحيلاً والأمطار تسقط علينا، والجوه والإعياء يجتاحنا!..".


13- الطاحونة الدموية في جبل أبو زعبل ! (الوفد في 4/11/1996)

تحت ستار التقدمية والإشتراكية استطاعت النظم الفاشية التي ظهرت في العالم العربي بعد الحرب العالمية الأولى، تقديم نفسها للعالم الثالث في صورة نظم وطنية تقدمية، وكانت الانقلابات العسكرية على رأس هذه النظم، ومنها انقلاب يوليو العسكري الذي خدع الجميع، وإن كان لم يخدع الحزب الشيوعي المصري برياسة الدكتور فؤاد مرسي، الذي أصدر منشوراً يوم 26 يوليو 1952 تحت اسم "الخدعة الكبرى"، حلل فيه الانقلاب بأنه "انقلاب عسكري له طبيعة فاشية"! وقد تدعم تحليله بتصرفات الجيش طوال شهري أغسطس وسبتمبر عندما قام بإعدام خميس والبقري لأول مرة في تاريخ الحركة العمالية المصرية، واصطدم اصطداماً خطيراً مع الحزب الليبرالي الوحيد في مصر وهو حزب الوفد، وفام بإلغاء الأحزاب في يناير 1953 ! وبذلك انفصلت الحركة عن الشعب، وأصبحت قيادتها تمثل "عصابة عسكرية". وعندما تكتلت القوى الديمقراطية والتقدمية ضد حركة الجيش في مارس 1954 استطاعت هذه الحركة بالخديعة العودة إلى السلطة، واعتقال جميع المفكرين والمثقفين والتقدميين والديمقراطيين وألقت بهم في السجون!

وقد ظلت الصفة الفاشية لاصقة بالثورة طوال حكمها، ممثلة في اضطهادها لأصحاب الرأي المخالف، والتنكيل بهم، وتعذيبهم بأبشع مما تفعل النظم النازية والفاشية، على الرغم من أنهم لم يحملوا سلاحاً ضدها، ولم يشكلوا أي خطر عليها، وإنما كانت جريمتهم الوحيدة هي الرأي المخالف!

ومن هنا كان من الضروري إلقاء الضوء على هذا الجانب الفاشي لثورة يوليو، حتى تكمل صورتها التاريخية بعيداً عن الزفة الدعائية التي يسوقها الناصريون، والتي ذهبوا فيها إلى حد التصدي لحماية حقوق الإنسان المصري لم تمتهن في أي عصر من عصور التاريخ المصري كما امتهنت في عصر ثورة يوليو!

فقد كان إلهام سيف النصر في صفحات كتابه، وهو يتحدث عن تجربته البشعة مع رفاقه، على عقد المقارنات بين زبانية أوردي أبو زعبل وزبانية المعتلات النازية! ففي حديثه مثلاً عن الصول مطاوع في أوردي أبو زعبل يقارنه بالصول "كوخ" صول معتقل "بوخنفالد"! والصول "ايرماجرس" صولة معتل بلسن التي أسموها "ذئبة بلسن" خلال محاكمة مجرمي الحرب في براندنبرج! وفي حديثه عن الضابط حسن منير يسترعي نظره "الكاب" الذي استقر على رأسه، ويقول إن هذا الكاب "ذكره بالكاب النازي الحاد الذي كان يضعه رجال العاصفة والجستابو على رؤوسهم"!

وهذه المقارنة بين زبانية أبو زعبل وزبانية المعتلات النازية نراها أيضاً في كتاب "رسائل الحب والحزن والثورة" للدكتور عبد العظيم أنيس، الذي سيأتي دوره في هذه السلسلة من المقالات، فيقول بالحرف الواحد: "إن تجربة الأوردي، بما تعنيه من تعذيب يومي، وإهدار لآدمية المعتقلين، وعمل كالسخرة في جبل أبو زعبل، ثم قتل لعدد من زملائنا، إنها باختصار ـ تكرار لما صنعته النازية في خصومها السياسيين في معتقلات أوروبا المشهورة، "ولم يكن لينقصها لتصبح الصورة مطابقة تماماً غير غرف الغاز".

هذا الاتفاق على تشبيه تجربة الأوردي في العصر الناصري بتجربة المعتقلات النازية في عصر هتلر، هي دليل لا ينقض على الصورة الحقيقية للنظام الناصري، مهما تحقق فيه من إنجازات لا تنكر! فقد كان للنظام النازي في ألمانياً إنجازات! وكان للنظام الفاشي في إيطاليا إنجازات أيضاً! ولكن الفيصل في تحديد صفة أي نظام هو الحرية: حرية الرأي والقول والخطابة والاجتماع وغيرها، وهو احترام حقوق الإنسان وآدميته.

ويكفي أن يقرأ القارئ عن "تجربة الجبل" في أوردي أبو زعبل ليكون الصورة الصحيحة عن النظام الناصري دون تزويق! ففي الجبل ـ كما يقول إلهام سيف النصر ـ "كانت الحلبة التي اختارها حسن منير لنفقد آدميتنا، وفي الجبل سالت دماؤنا، ووطئت كرامتنا، وامتهنت أجسادناـ وأشرف على الموت العديد منا. وفي الجبل كان العذاب الأكبر!".

ويروي تجربة الجبل على النحو الآتي:

قبل الفجر استيقظنا كما كنا نستيقظ كل يوم: دورة المياه، ثم تطبيق البطانية والبرش، ثم انتظار أن يفتح العنبر ونتلقى تعذيب الصباح!

"ولكن اليوم بدأ مختلفاً عن غيره! فعندما فتح العنبر كانا لضرب أكثر عنفاً، وكانت طريقة "لف للتفتيش" تعاد مرة بعد الأخرى! حتى بدأنا ندوخ وتخور أجسامنا!

"وعندما انتهت العلقة، لم يقفل علينا الباب، وإنما صدرت الأوامر لنخرج إلى فناء المعتقل، لنرى بقية العنابر قد خرجت كلها واصطفت في ثلاثة صفوف، لنصطف مثلها. ثم يصدر الأمر، فنتحرك، يحيط بنا عدد كبير من الحراس المسلحين ونخرج من باب المعتقل.

"سرنا ورؤوسنا مطرقة كما علمتنا الأوامر! نشهد ـ خلسة ـ بين الجفون شبه المسدلة، اللواء إسماعيل همت وكيل مصلحة السجون في سيارة، وحسن منير مأمور الأوردي وضباطه فوق خيولهم، ومن حولنا صفين من حرس مسلح بالبنادق والمدافع الرشاشة، وخلفنا عد آخر من الحراس بمدفعي "برن"!

"سرنا والقلوب واجفة، والأعصاب مشدودة، حوالي نصف الساعة، لنجد أنفسنا نقترب من حافة هوة كبيرة تمتد عدة كيلو مترات، تحوطها التلال من كل جانب. ودخلنا من فتحة فيها لنجد أنفسنا في بطن الجبل، ومن حولنا تشمخ جدرانه عدة أمتار، فلا نرى سوى السماء تتوسطها الشمس الحامية، وأشباح سوداء، بعضها ترقبنا والبعض تصوب أسلحتنا نحونا!

"بعدها بدقائق بدأت "العملية"! صفارة طويلة أطلقها "الصول"، وما أن انتهت حتى كانت عشرات الشوم والهراوات تهوي علينا فجأة! وتفرقت صفوفنا مبعثرة! كان الجبل قد امتلأ برجال يلبسون ملابس كاكية هم الحرس الخارجي لليمان، وبدأ هؤلاء ـ مع السجانة ـ الإطاحة بعصيهم في صفوفنا!

"ثم أطلق الصول صفارة طويلة أخرى، وأخذت العصي تقودنا هذه المرة لنتجمع من جديد! وتكررت العملية مرة بعد الأخرى: الأمر يصدر من صفارة والشوم يهوي علينا!

"بعد ذلك نزل حسن منير بطن الجبل على جواده، يتبعه ضباطه الثلاثة على خيلهم، وبدأ عملية جديدة!

"هذه المرة تجمعنا في نهاية الجبل، بعد أن طاردتنا العصي، لنملأ "غلقان" جلدية سميكة بالتراب والحجارة، ويضع كل واحد منا "غلقه" على كتفه، ثم يجري مئات الأمتار ـ هي طول الجبل ـ بين صفين طويلين من الحراس بطول الطريق، تهوي هراواتهم وشومهم عليه، ليفرغ الغق في طرفه الآخر! ثم يعود ليبدأ من جديد!

"ذلك يحدث، والضباط يتابعوننا بجيادهم الراكضة، وأقدامنا الحافية تدمي من شظايا البازلت الحاد المسمومة، وصدورنا تتحشرج من العدو المتصل!

"وكان سيء الحظ من وقف لحظة يلتقط نفساً، أو تعثر ووقع، أو سقط منهكاً، أو يئس فتوقف ـ عندها يتعرض لعقاب فردي شديد حتى يعود ليبدأ من جديد!

"لساعة كاملة، استمرت العملية، لتدوي الصفارة لنتجمع، وننتظم في صفوفنا الثلاثة، ونعود للأوردي.

"وعند باب "الأوردي" تم تفتيشنا واحداً واحداً، وضربنا واحداً واحداً!

"وكانت هذه هي البروفة!

"وفي المساء، قاد حسن منير بنفسه عملية الضرب وعملية "لف للتفتيش" المعتادة كل ليلة. وفي صباح اليوم التالي، قاد نفس العملية الصباحية!

"ثم نزلنا للجبل من جديد، ولكن وقت "العمل" في هذه المرة كان عدة ساعات! بدأت بالصباح وانتهت بالغروب.

"ولم تنته بانتهاء اليوم، وإنما توالت الأيام! وكل يوم يحمل الجديد من ألوان العمل"!

"بدأنا نقطع الأحجار بالعتلات والشواكيش والمطارق الحديدية، وبدأنا نتعلم كيف نورد "المقطوعية"، وهي ثمانية غلقان مملوءة عن آخرها بالبازلت!

"وبدأنا ندرك أن أي تحرك لا يكون إلا عدواً، وأن للحارس الحق المطلق في مضاعفة المقطوعية إذا أراد، وأن يضرب إذا أراد!

"وبدأنا نفهم أن الهدف هو الإنهاك، والضرب حتى التعجيز، وقد يكون الموت!

"ومع الحقيقة التي فهمناها، عشنا العذاب الأكبر .. أيام لا تريد أن تنتهي، تهشمت فيها ضلوع وأطراف الكثيرين، وتحولت الأجساد إلى كدمات زرقاء، وجروح متقيحة، وأورام والتهابات!".

كانت تجربة الجبل عملية مجنونة بكل المعايير ـ كما يرى القارئ! ـ ففيها ـ كما كتب إلهام سيف النصر ـ كان سجناء الرأي العزل من السلاح، ينقلون أطناناً من طرف الجبل إلى الطرف المقابل، ليعودوا وينقلونها من جديد إلى الطرف الذي بدءوا منه! وقد نقلوها على أكتافهم وهم حفاة الأقدام عدواً على شظايا البازلت الحادة المسمومة، تلاحقهم ضربات الشوم والهراوات بين صفين طويلين من الحراس، ووراءهم الضباط يتبعونهم بجيادهم الراكضة، فإذا وصلوا إلى طرف الجبل المقابل، عادوا يحملون أطنان البازلت من جديد إلى الطف الذي بدأوا منه! تلاحقهم الهراوات والشوم والخيل الراكبة!

هذه "الطاحونة الدموية" ـ كما أسماها إلهام سيف النصر ـ بحق، لم يكن هدفها التعذيب فقط، بل كان هدفها ـ كما وصف تماماً ـ "سحق الجسد والنفس معاً، وتحويل سجناء الرأي إلى مسوخ بشرية لا تفكر إلا في البقاء"!

لقد كانت خطورة "الطاحونة الدموية" تتمثل في "العبثية" التي انطوت عليها! والتي رأيناها في نقل سجناء الرأي مئات الأطنان من طرف الجبل إلى الطرف الآخر، وإعادتها مرة أخرى، وتكرار هذه العملية القاتلة كل يوم بلا هدف ولا نتيجة!

وهي مستقاة من النظم النازية في التعذيب عندما كان يستهدف قتل الروح قبل قتل الجسد! ففي النظام النازي كان يطلب إلى المعتقلين بناء حائط ضخم، فإذا أتموا بناءه، طلب إليهم هدمه! وتعود عملية البناء والهدم ـ أو "الطاحونة" كما أطلق عليها إلهام سيف النصر ـ ولكن الفرق بين الطريقة الناصرية والطريقة النازية هي أن الطريقة النازية كانت أكثر تحضراً، إذ كانت تكتفي بعملية البناء والهدم، تيقنً من أنها كافية بكل ما فيها من عبثية لقتل روح المعتقل وإصابته بالجنون! وهو ما كان يحدث بالفعل، حيث أصيب معظم من قامواً بهذه العبثية بالجنون! ولكن العملية الناصرية لم تكن تكتفي بعملية البناء والهدم، وإنما كانت العملية تتم تحت ضربات الشوم والهراوات التي تلاحق من كانوا يقومون بنقل الجبل من طرفه إلى طرفه الآخر، وإعادة نقله من جديد ولم ينقذ سجناء الرأي في "أوردي" أبو زعبل من الجنون إلا إدراكهم الهدف من الطاحونة الدموية، وفهمهم الواعي لحركة التاريخ. وفي ذلك يقول إلهام سيف النصر: "كل هؤلاء الذين ظنوا أنهم بتلك الطاحونة الدموية قد توصلوا إلى أسلوب لتحطيمنا، نسوا شيئاً آخر امتلكناه ولم نفقده، هو الفهم العلمي والثوري للحياة، ذلك الفهم الذي يقول إن الإنسان هو الذي يصنع قدره، وإن الشعوب تصنع التاريخ، وإن التاريخ لا يمكن وقف مسيرته، ولا يمكن أن يوقفه كائناً من كان.

"وكان أن بدأنا معركة الصمود".


وعلى أيدي هكسوس عبد الناصر تبدلت أجساد المعتقلين ! (الوفد في 11/12/1996)

ماذا فعلت معتقلات عبد الناصر في سجناء الرأي بعد شهرين فقط من الاعتقال والتعذيب البدني اليومي المستمر؟ لقد وصف إلهام سيف النصر هذه المتغيرات وصفاً بليغاً ـ كما لاحظها في نفسه ـ قائلاً: "حاسة الشم قد تغيرت، فالرائحة الكريهة لا نشمها! حاسة اللمس تغيرت، الأصابع جافة سوداء مليئة بالبثور! حاسة السمع أرهقت وشوهت: لا تسمع تغريد العصفور، ولكن فقط منتبهة لدبيب أقدام السجانة وهم يتسللون قبل اقتحام العنبر!

حاسة التذوق انعدمت: لا تعرف القذارة، ولا تأبه ـ بسبب الجوع ـ للحشرات والذباب! حاسة البصر تهالكت من طول استمرار اللون الواحد الرمادي في العنبر، والأصفر الملتهب في الجبل! الجلد مشدود أسمر، وأعصاب مرهقة كأوتار شدت حتى درجة الانفجار! والعقل لا يفكر والغريزة تسيطر، تريد البقاء، وتتجنب التهلكة، وتقود الجسد، الذي أصبح كالحيوان المطارد، يحاور الموت ويناوره. وصف "الإنسان" يختفي، ويحل مكانه وصف آخر!

ولكن مع طول التعذيب على مدى شهور حدث تغير غريب لم ترسمه وتخططه عقول سجناء الرأي، وفيهم أكبر مفكري البلد، وإنما خططت له الغريزة ـ كما يقول إلهام سيف النصرـ لقد لاحظ أن الجسد من أجل البقاء، تبلغ قوة تحمله أحياناً حداً يفوق الخيال! كما أنه يتأقلم مع كل الظروف!

فعلى أثر إيقف التعذيب بعد مقتل شهدي عطية الشافعي، اكتشف سجناء الرأي فجأة مدى التغيرات الجسمانية التي اكتسبتها أجسادهم. فعندما سمح لهم بالزيارات، وحاولوا مقابلة أهاليهم وفي أقدامهم أحذية، اكتشفوا أن قدماً واحدة لم تستطع أن تحتذي حذاء! لقد تغيرت أقدامهم حتى لم يعرفوها! وعلى حد قوله:

"القدم كبرت وزاد حجمها،، تفلطحت، واكتسى باطنها بجلد سميك يمكن أن خترقه دبوس حاد عدة ملليمترات قبل أن يشعر صاحبها بوخز الدبوس!

"لقد فرضت الطبيعة على الجسد قدماً أخرى! قدماً تستطيع أن تمشي على الأسفلت المتوهج بالحرارة دون أن تحس! وأن تطأ شظايا البازلت المسمومة دون أن تدمي! وأن تتلقى على باطنها العاب الفردي الذي لا يقل ـ عادة ـ عن ثلاثين شومة، دون أن تتهشم!

"ولم تكن القدم وحدها هي التي تبدلت، وإنما تبدلت أعضاء وأجهزة عديدة في الجسم لتلائم الظروف التي فرضت عليها!

"فالأذن أصبحت مرهفة، ولكن لنوع معين من الأصوات! ففي كل عنبر من عنابر الأوردي ظهر معتل سماه زملاؤه:

الرادار! ذلك أنه يستطيع أن يسمع دبيب أقدام الحراس وهم يتسللون من بعيد، ويحد أين يتجهون، وأي عنبر يقصدون، ويعطي الإنذار!

"والعضلات أيضاً تغيرت! فالجري المستمر، وطوابير التعذيب التي أطلق عليها اسم: "طوابير الرياضة"! والعمل في الجبل ـ قد أكسبها قدرة على التحمل وصلابة ونمواً، لدرجة أن الغريزة قادت هذه العضلات لتتركز وتنمو في الأماكن التي تنزل عليها عادة ضربات الشوم والهراوات: أي الظهر والقدم والأكتاف!

"كما أصبحت الأجساد مرنة لماحة! فهي تتفادى الضربات في ذكاء، وتحمي موطن الخطر الذي هو أساساً الرأس، في نبوغ ومرونة!

"بل إنه شيئاً فشيئاً انتقلت مشكلة التعذيب من المعذّب إلى الجلاد! فكل منهما أصبح خفيف الحركة كالغزال، مرناً، تزداد طاقة تحمله يوماً بعد يوم، وأصبح ضرب الأجساد واصطيادها ومطاردتها مشكلة للجلاد تحتاج إلى مجهود وتعب! حتى لقد انتشرت نكتة بين صفوف المسجونين تقول: "إننا لن نمت قبل أن يموت السجانة من مجهود الضرب"! "وحنموتهم من الضرب"!

"وشيئاً فشيئاً تحملنا ليالي الشتاء ونحن عرايا على الأرض، لا نرتجف! وجحيم الصيف ونحن نعدو في الجبل ولا نسقط!

"بل إن مشاكل المدينة: السعال، والزكام، والحرارة، والضغط، والصداع. كلها اختفت! الذي بقي فقط هو: كيف يستمر الجسد في البقاء! لقد تحول الجهاز العصبي كله إلى مرجل يغلي، هدفه التحمل والاستمرار ـ استمرار الحياة، وتحمل الألم"!

ويذكر إلهام سيف النصر أن طبيب السجن اكتشف خراجاً في ضرسه، وأمر بنقله إلى مستشفى سجن مصر لخلعه، وقبلت المباحث على مضض وبعد مقاومة عنيفة، ولكنها قررت عودته في نفس اليوم لأبو زعبل، وفرضت ستاراً عنيفاً وشديداً لعزله خلال فترة تواجده في سجن مصر. ولكن عندما بدأ طبيب الأسنان في خلع ضرسه، اكتشف أن مستشفى السجن لا تحوي أي مخدر موضعي! "واكتشفت أنا أنه علي! الاختيار بين خلع الضرس بدون بنج، او العودة إلى أبو زعبل، والانتظار مدة غير محددة حتى أعود. وكان أن خلعت في ذلك اليوم ضرسينبدون أي بنج وأذكر أن الألم كان مزعجاً، ولكنه كان محتلامً!

"وأذكر أن مأمور السجن قرر معاقبة معاقبة محمود المستكاوي (مهندس) عقاباً خاصاً، لأنه رفض الغناء يوم الأربعاء الدامي، بعد أن أبلغ الحراس أنه سوف يغني بعد قفل العنبر في المساء أغاني أم كلثوم وسيد درويش! وشاهدنا محمود ضرب أمامنا، وعندما نهض من الضرب لاحظنا أنه لا يرى طريقه بوضوح، وأنه يتخبط في سيره. لقد فقد محمود في ذلك اليوم إبصار إحدى عينيه نتيجة لانفصال شبكي أحدثته ضربة وجهت إلى رأسه! بعدها نزل محود إلى الجبل ليعمل، ويتحمل، ويغني كل ليلة لنا أغانيه الحلوة!

"أذكر أن ممدوح الجندي كان ـ رغم مرضه وهزاله ـ مارداً في جبل، يعمل للآخرين ويساعدهم، ويقدم المقطوعية مضاعفة لتعويض أي فرد يعجز عن تقديمها!

"أذكر أن عوض الباز، العامل بشبرا الخيمة، كان يصر على أن يطل ضحكة هادئة طويلة بعد كل تعذيب طويل يناله عنبرنا، ومه ضحكته كانت النفوس تبتسم لتقاوم!

"أذكر أن نبيل الهلالي، وأمين شرف، وشبل إسماعيل، رفضوا في يوم الأربعاء الدامي، أنا ينالوا حقهم في الراحة، ليتحملوا الضرب بدل آخرين أوشكوا على السقوط إنهاكاً أو إجهاداً.

"أذكر عبد المنعم شتيلا واحتماله للتعيب الذي يفوق الحدود! أذكر .. وأذكر .. لقد كانوا بعد الغريزة الفكر الصامد الذي دحر البربرية والإرهاب!

ويذكر إلهام سيف النصر، من أمثلة قوة التحمل، يوم رفض الجميع الغناء في الصباح، وفرزت إدارة السجن عقابهم "لقد قادونا إلى الجبل ونحن نعلم أن هولاً ينتظرنا، وانتقاماً دامياً يكمن لينشب أنيابه فينا.

"وتأكدت ظنوننا عندما اقتربنا من الجبل، لترى صفوفاً طويلة من الحرس الخارجي لليمان، تحمل الشوم والكرابيج! قد دخلت الجبل ولا تنتظر سوى الإشارة! في ذلك اليوم في ذلك اليوم اختفت المقطوعية والروتين العادي، وتركز إرهاب الحرس الخارجي ـ الذي سميناه بعدها "الهكسوس" لضراوته وبدائيته ـ على عنبر "1" الذي بدأ التمرد ورفض الغناء، حتى يكون أمثولة لباقي المعتقل.

"وما إن مرت دقائق معدودة في الجبل، حتى كان أكثر من واحد منا قد سقط مهشماً! فقد رسمت الخطة في ذلك اليوم على أساس أن تعمل بقية العنابر في تقطيع الأحجار، وفرض على عنبرنا أن ينقل جبلاً من الرمال والأحجار، من بداية الجبل حتى نهايته! ونفذت الخطة!

"كنا نملأ الغلقان تحت فرقة من السجانة تتولى ضربنا! ثم نعدو بالغلقان المليئة بين صفوف "الهكسوس"، التي تتولى ضربنا، لنفرغها في نهاية الجبل، ونعود جرياً من جديد، لتبدأ العملية من أولها!

"وكان أخطر ما في هذه الخطة، تلك المسافة التي كان علينا أن نعدوها بين شوم "الهكسوس" غير المدرب على الضرب، والذي يهوي بعصيه أياً كان، مما يزيد الاحتمالات في أن يسقط واحد منا قتيلاً في أي لحظة. فضربة واحدة على الرأس، من شومة يبلغ سمكها عدة سنتيمترات، تكفي لأن تحدث الكارثة.

"كما ان العدو المستمر بتلك الغلان المليئة، ولساعات النهار كلها، كان يعني أن أكثر من شخص لابد أن ينهار، خصوصاً أولئك الذين يفتقدون المقاومة الصحية اللازمة.

في ذلك اليوم قسم سجناء الرأي العمل بينهم: مجموعة تحفر، وتملأ الغلقان، وتتحمل شوم السجانة الذين فضلوا التواجد في نهاية الجبل، ومجموعة تتولى حمل الغلقان والعدو بها في وسط الجبل تحت ضرب الهكسوس ومواجهة العذاب الأكبر. فقد أسمى سجناء الرأي ضرب السجانة بالعذاب الأصغر، وضرب الهكسوس بالعذاب الأكبر! وكانت فكرتهم النبيلة أن من حق كل واحد منهم أن يتحمل العذاب الأصغر فترة زمنية، حتى يتمالك أنفاسه، ثم يعاود تحمل العذاب الأكبر على يد الهكسوس في وسط الجبل!

في ذلك اليوم ضرب إسماعيل صبري عبد الله المثل في قوة التحمل، بعد تحديه أمر مأمور السجن بالغناء أغنية "يا جمال يا مثال الوطنية"، فقد ظل يضرب في ذلك اليوم من الصباح إلى المساء حتى شج رأسه!

ويقول إلهام سيف النصر إن محمد سيد أحمد "نهض من حيث انطرحنا نتلى التعذيب والضرب ليتوجه إلى إسماعيل صبري عبد الله ويسأله عن حاله؟ متحملاً كل الهراوات التي تحولت كلها حوله تصب جنونها لتحديه.

والغريب أن التعذيب استمر في شهر رمضان دون انقطاع، ولم يمنعه دين وإسلام! ويقول إلهام سيف النصر إن معتقل أبو زعبل جميعه صام رمضان كاملاً ذلك العام رغم الظروف البشعة، "كل العنابر كانت تذهب للجبل وقد تركت في الأوردي جرادل المياه، لتعمل في جهنم البازلتـ وتحت سياط التعذيب، من الصباح حتى الغروب، دون قطرة ماء"! ولكن الضرب خف بشكل ملحوظ، "كان السجانة والحراس ينفذون اوامر الضرب بشكلية وعلى مضض"!

وعندما توقف التعذيب بعد مقتل شهدي عطية، كان على سجناء الرأي مواجهة مرحلة ما بعد التعذيب، ولم تن تقل بشاعة! فالجهاز العصبي الذي تحمل الكثير من أجل البقاء، انتهت مهمته، واسترخى، لتظهر الأمراض! وعلى حد قول إلهام سيف النصر:

"عديدون منا ظهرت عليهم أمراض السل، والأنيميا الحادة، والقلب، والحميات، والأمراض الجلدية, وكان نصيبي التهاب كبدي حاد نقلت بسببه إلى مستشفى سجن مصر، ثم القصر العيني، لأبقى فيه معتقلا حتى الإفراج عني بعد ذلك بسنتين.

ويختتم إلهام سيف النصر كتابه قائلاً: "من عاش تجربة "الأوردي" .. من مات هناك، أو تهشم، أو عذب .. هو في النهاية مصري، وابن للشعب المصري. والشعوب كما تصنع تاريخها، لا تنسى من أساء إليها. ومن أجل هذا كتبت هذه القصة كما حدثت".

ولكن الناصريين يريدون لشعبنا أن ينسى ما حدث! ومن أجل ذلك يضللون ويتظاهرون بالدفاع عن حقوق الإنسان! بل أصبحوا يتصدرون اليوم صفوف المدافعين عن حقوق الإنسان! ومن أجل ذلك أكتب هذه السلسلة من المقالات، فكثيرون من سجناء الرأي الذين تعرضوا لتجربة الأوردي كتبوا، ومن حق شعبنا أن يعرف ما كتبوا، حتى لا ينسى من أساء إليه!


15- حتى النظام النازي كان يعتبر نفسه نظاماً اشتراكياً ! (الوفد في 18/11/1996)

كثير من الشباب الذين ضللتهم الدعاية الناصرية التي تطل برأسها في هذه الأيام، كتبوا إليّ يبدون انزعاجهم لما عرفوه، من خلال هذه السلسلة من المقالات التي أكتبها عن ثورة يوليو وحقوق الإنسان، من إهدار هذه الثورة لحقوق الإنسان، رغم شعار: "ارفع رأسك يا أخي فقد مضى عهد الاستبداد"، ويتعجبون كيف أنهى ضباط يوليو استبداد فاروق ليبدأوا استبداد ثورة يوليو على شكل أكثر وحشية وهمجية؟ وكيف عومل أصحاب الرأي في عهد هذه الثورة معاملة المجرمين وقطاع الطرق وأعداء الوطن؟ وقد كتب لي شاب منهم، وهو طبيب، يقول إنه يفهم أن يتصدى الوفد للدفاع عن حقوق الإنسان وحرية الرأي، اتساقاً مع تاريخه، ولكنه عاجز عن فهم كيف يتصدى الناصريون، الذين امتهنوا حقوق الإنسان وحرية الرأين لهذا الدفاع، مع مخالفة ذلك لتاريخهم!".

وقد رددت عليهم بأنه يجب ألا يفهم من هذه السلسلة من المقالات أن ثورة يوليو لم تحقق إنجازات عظيمة، ولكن المقصود أن يفهم هو وغيره من الشباب أن هذه الإنجازات لم تتحقق على يد نظام ديموقراطي يحترم حرية الرأي وحقوق الإنسان، وإنما تحققت على يد نظام نازي لا اشتراكي ـ كما يحاول اليسار أن يوهم في تحالفه مع الناصريين!

فالكثيرون لا يعرفون أن النظام النازي كان أيضاً يرفع علم الإشتراكية كما فعل النظام الناصري! بل لقد كان اسم الحزب النازي الذي ألفه هتلر هو اسم "حزب العمال الاشتراكي الوطني الألماني"! وقد حقق هذا النظام النازي لألمانيا من الإنجازات في جميع المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ما تتضاءل إلى جواره بكثير إنجازات النظام الناصري! فقد انتشل ألمانيا من براثن الهزيمة التي منيت بها ألمانيا القيصرية في الحرب العالمية الأولى، وأعادها إلى صفوف الدول العظمى المهابة، ونهض بها نهضة اقتصادية جبارة، كما نهض بها نهضة علمية في جميع المجالات، وارتفع بالجيش الألماني من ناحية المعدات والكفاءة العسكرية ما مكنه في الحرب العالمية الثانية من غزو جميع دول أوروبا وغزو الاتحاد السوفيتي! ولولا تكالب العالم أجمع على ألمانيا الهتلرية لسادت العالم!

وبمعنى آخر أن تحقيق إنجازات عظيمة لا تعني صلاحية النظام السياسي إذ كان يمتهن حقوق الإنسان وحرية الرأي، وإلا اعتبر النظام النازي أعظم النظم قاطبة، لأنه في حلال سنوات قليلة أعاد ألمانيا إلى صفوف الدول العظمى بعد أن سحقتها الدول الديمقراطية في مؤتمر فرساي!

فما بال الأمر إذا كان هذا النظام في مصر قد انتكس بمصر، وعرضها لأكبر هزيمة عسكرية في تاريخها على يد دولة صغيرة كانت الدول العربية تطلق عليها قبل هزيمة يونيو اسم "إسرائيل المزعومة"! في الوقت الذي كان يمتهن حقوق الإنسان المصري ويضطهد حرية الرأي!

وهذا كان شعور إلهام سيف النصر في أوردي ليمان أبو زعبل وهو يتلقى وجبة التعذيب اليومية! فقد تعجب كيف يتخاذل النظام أمام إسرائيل، ويستأسد على معارضيه في الداخل ويذيقهم سوء العذاب! واستغرب كثيراً أن يكون الجلادون "جبناء أمام العدو المسلح، شجان والضحية مصري أعزل وحيد أمام قطعان البربرية"! ويقول "ليس الرجل من عب أهله ومواطنيه، الرجل من ذاد عن أرض الوطن، وكسر بالعزم والتضحية هجمات العدو الشرس، وبذل الدم في سبيل تحرير الأرض"!

على أن اليساريين نسوا تماماً المحنة الرهيبة التي مروا بها وفقدوا فيها آدميتهم، والأسوأ من ذلك أنهم، وهم الأكثر فهماً للفروق بين النازية والإشتراكية، خدعوا أنفسهم وتعاملوا مع النظام الناصري بعد ذلك على أنه نظام اشتراكي! بل وعقدوا تحالفاً مع جلاديهم الناصريين، متقبلين زعمهم بأنهم اشتراكيون أيضاً، ومسلمين بهذا الزعم!

وقد برهنوا بذلك على أنهم لا يتعلمون من التاريخ، بل لا يتعلمون من تاريخهم أنفسهم! فمن الغريب أن كل هذا التعذيب الذي وقع على أجساد وأرواح اليساريين في عهد عبد الناصر، وقع وقت أن كانوا يؤيدون هذا النظام، بل كانوا أكثر القوى السياسية تأييداً له!

بمعنى أنه حين اعتقل النظام الناصري اليساريين لم يكونوا يعدّون لثورة ضده، أو يؤلبون القوى السياسية المصرية لمعارضته، أو يدبرون جرائم اغتيال لقادته كما فعل الإخوان المسلمون، بل اعتقلهم وهم يعلنون على كل منبر أنهم أنصاره ومؤيدوه!

فعندما اتهمت النيابة العامة المعتقلين بأنهم يهدفون إلى قلب نظام الحكم، كان دفاعهم القانوني ـ كما يقول إلهام سيف النصر ـ ينصب على أنهم كقوة وطنية يسندون الحكم الوطني الموجود، وأنهم حلفاء للنظام، وإن كانوا يختلفون معه في نقاط أخرى لمزيد من الديموقراطية ولمزيد من ضرب القوة الرجعية الاستعمارية ولمزيد من التحول الاجتماعي!

بل الغريب حقاً أن موقف اليساريين من حكم عبد الناصر لم يتغير بعد ان فقدوا آدميتهم على يديه، وعذبوا بما لم يعذب به النظام النازي اليهود! فعندما كانت النيابة تحصل على أقوال المعذبين بعد مقتل شهدي عطية الشافعي ، وهو دكتور كيماوي اسمه جمال الدين محمد غالي ، لم ينس ـ بعد أن روى وقائع التعذيب التي تعرض لها ـ أن يختم أقواله بهذه العبارة الغريبة:

""عايز أثبت أني ما زلت، رغم ما حل بي، أؤيد الرئيس جمال عبد الناصر، وأؤيد سياسته، وأعتقد تماماً أنه لا يرضى بما حدث لنا، وأنه بغير علمه! ودائماً أنا أؤيد الرئيس!!"

على أن إلهام سيف النصر كان أكثر وعياً. ففي حديثه عن مسئولية حسن المصيلحي عن التعذيب قال:

"لست أدعي أن حسن المصيلحي هو المحرك الوحيد لعملية أبو زعبل، فلا شك أن الأمر بالعقاب، وأيضاً بالانتقام والتأديب، قد صدر من أعلى .. من السلطة السياسية ذاتها!".

ويقول إن وراء عجلة الانتقام كانت الظروف السياسية التي عكست الأزمة العميقة بين عبد الناصر والشيوعيين على المستوى العربي والداخلي، فقد رفعت السلطة السياسية شعارات "تصفية الشيوعية"، وكان يكتبها معلقوها الرسميون وغير الرسميين في الجرائد ووسائل الإعلام.

ويتهم إلهام سيف النصر زكريا محي الدين بأنه كان الأداة التنفيذية للسلطة السياسية العليا. فقد كان ـ كما يقول ـ "معادياً دائماً للديموقراطية والإشتراكية، وممالئاً أبداً للغرب وأسلوب الحياة الأمريكية"! وقد كان في ذلك الوقت وزيراً للداخلية، ولكن "لا شك أن الأمر قد صدر من أعلى بمعاقبة الشيوعيين المشاغبين وتلقينهم درساً، ولكن تركت تفاصيل التعذيب وجزئيات الانتقام ـ بما فيها اختيار المكان وأسلوب التعذيب البدني والعقلي، وتحديد الجلادين الذين يباشرون العملية ـ لحسن المصيلحي ، الذي يصفه بأنه من النوع الذي يقتل بقفاز من حرير!

وقد كان قفازه ـ كما هو واضح ـ اللواء إسماعيل همت ، بقدر ما كان الأخير قفازاً في يد عبد الناصر! الذي كان صدامه مع الاتحاد السوفيتي في ذلك الحين وراء انقلابه على الشيوعيين.

وربما كان الخطاب التالي الذي وصلني من اللواء مصطفى كامل عطية يفسر كثيراً من ظروف عملية أبو زعبل. فقد كتب يقول:

"قرأت ما كتبته سيادتكم عن سجناء الرأي وتشريفة اللواء إسماعيل همت في جريدة الوفد. والواقع أن هذه المقالات أصابت كبد الحقيقة لما كان يجري في سجون مصر من قهر وإذلال على يد حفنة قليلة من الضباط بلا شعور أو ضمير أو خلق.

"وحاشا لله أن أكتب عن نفسي، ولكني أذكر واقعة حدثت بيني وبين سيادة اللواء قائد هذه التشريفة ـ غفر الله له ـ وذلك في خلال عام 1959 على ما أذكر.

"اللواء إسماعيل همت نقل من القوات المسلحة وكيلاً لمصلحة السجون. وعندما فتحت أبواب السجون لاستقبال أفواج المعتقلين على اختلاف مذاهبهم في هذه الآونة الأخيرة اختار السيد اللواء أفراد التشريفة من مجندي الدرجة الثانية، الذين لا حول لهم ولا قوة، وسلحهم بالكرابيج والعصي، ليخوض بهم حملات التعذيب والتأديب، من سجن الواحات إلى ]]قنا[[ مروراً بأبو زعبل! مرة لتأديب الإخوان، وأخرى للشيوعيين، وهكذا!

"كنت أعمل ضابطاً برتبة رائد في مزرعة طرة، واستدعيت على عجل لحضور اجتماع بمصلحة السجون، وذهبت إلى هذا الاجتماع، وكان قائد هذه التشريفة في صدارة قاعة الاجتماع، وحوله نحو عشرة ضباط. واستهل الاجتماع قائلاً إن السيد وزير الداخلية زكريا محي الدين اختارنا تحديداً لهذه المهمة، وهي مهمة استقبال المعتقلين الشيوعيين المرحلين من سجن الإسكندرية إلى ليمان أبو زعبل والمطلوب تأديبهم، وعمل "اللازم" معهم ـ وطبعاً "اللازم" معروف سياقاً!

"وهنا أنطقني الله سبحانه وتعالى، وأخبرته بأن هذا الاختيار بالنسبة لشخصي ليس في محله! لأني لن أعذب أحداً، وإنني لو أجبرت على ذلك فإنني سوف أذكر ما شاهدته من تعذيب في أي تحقيق يجري في هذا الشأن"!

"وهنا ثار سيادته ثورة عارمة، واستدعى مدير تحقيقات المصلحة، وقرر إيقافي عن العمل، مع التحقيق معي لعصياني الأوامر.

"وفي أثناء التحقيق اتصل سيادته بمدير المصلحة، الذي كان في أجازة بمنزله، عارضاً عليه أمري. وفوجئت بإعفائي من هذه المأمورية، وعودتي إلى عملي!

"وفجأة تغير سلوكه نحوي، وعدنا للاجتماع، وطلب من الزملا ترشيح ضابط آخر بدلاً مني، فاقترح زميلي ودفعتي (ع.ر) رحمه الله وغفر له.

"وعلمت من زملائي أنه في اليوم التالي لهذا الاجتماع، استقبل المعتقلون الشيوعيون في ليمان أبو زعبل بصفين تشريفة، من المجندين حاملين العصي والكرابيج، وذلك ابتداء من بوابة الليمان حتى باب العنبر!

"وهنا تبدأ سيمفونية التعذيب، فيمر المعتقلون بين صفي الجنود، والكرابيج والعصي تؤدي مهامها بلا شفقة ولا رحمة!

"وكان من ضمن المعتقلين المرحوم شهدي عطية، رحمه الله. فقد أخذته العزة، فلم يسرع الخطى، فلحقه نصيب وافر من الضرب والأذى، ولذلك عند وصول العنبر كانت روحه قد فاضت لخالقها وتم وضع الجثمان في الثلج تمهيداً لدفنه في اليوم التالي.

"قام لواء التشريفة بإخطار السيد وزير الداخلية بالإسكندرية بأنه قد تم تنفيذ المطلوب، "وكله تمام"!

ولكن لسوء حظ اللواء أن كان بينه وبين ضباط أمن الدولة ود مفقود، فأخطر أمن الدولة الوزير بأن التعذيب أودى بحياة المعتقل شهدي عطية، وقام والد المرحوم شهدي عطية وزملاء الفقيد بإرسال برقيات للرئيس الذي كان ببريوني، والصحف العالمية.

"وانتهت أسطورة اللواء إسماعيل همت بإحالته للاستيداع قبل وصول الرئيس لأرض الوطن.

"أما عن زميلي الذي حل مكاني في هذه المهمة (عبد اللطيف رشدي) فقد انتابته حالة نفسية أودت بحياته، خشية تقديمه وزملاءه للقضاء.

"أما التحقيق فقد حفظ! كيف؟ الله أعلم!

"رأيت أن أكتب لسيادتكم بعضاً مما كان يحدث لأصحاب الرأي، نسأل الله تعالى أن يرحمنا برحمته".

"أم دومة ـ طما ـ لواء بالمعاش: مصطفى كامل عطية".

انتهى خطاب اللواء مصطفى كامل عطية، وهو يضئ بعض جوانب عملية ليمان أبو زعبل، وكذلك العلاقة بين ثورة يوليو وحقوق الإنسان وأصحاب الرأي. ولكن الجعبة ما زال فيها الكثير لتصحيح تاريخ ثورة يوليو، ووضعها في مكانها الصحيح بين الثورات المصرية. فقد كانت قبلها ثورتان في التاريخ المعاصر هما:

الثورة العرابية، وثورة 1919، ولم ينسب أحد لهاتين الثورتين ما نسب لثورة يوليو من انتهاك لحقوق الإنسان!


16- رحلة في القرون الوسطى ! (الوفد في 25/11/1997)

"إجري .. إجري .. إجري"!

"الكرابيج والعصي الغليظة لا تترك فرصة لتفكير"!

"إركع .. إركع .. إركع"!

"وضربات الشوم "ودبشك" البندقية لا تكف عن العمل في جسدك! ونار هائلة مشتعلة تكاد تشم منها رائحة أجسام بشرية تشوى. وبعض رؤساء القبائل أكلة لحوم البشر "تجلس في انتشاء وهي تتفرج على الفريسة!"

هكذا يبدأ الدكتور فتحي عبد الفتاح ذكرياته عن يوم 8 نوفمبر 1959 في معتقل الواحات، في كتابه المعروف: شيوعيون وناصريون" الذي يروي التجربة البشعة، ويصف زبانية عبد الناصر بأبلغ وصف، وهو أنهم القبائل البدائية أكل لحوم البشر!

ويمضي في وصف أحداث يوم 8 نوفمبر 1959، ويروي رحلته البشعة مع استجواب القبائل البدائية له على النحو الآتي:

- "اسمك ايه يا ولد" ؟

وسواء أجبت أو لم تجب، لابد أن تنهمر عليك الضربات من كل مكان، وبكل وسيلة، بما فيها ركلات الأحذية الميري"! - بتشتغل ايه يا بن الـ ..

و"الشوم" والدبشك والأحذية لا تكف عن العمل!

- عاملي سياسي يابن الـ ..؟

- قول: "أنا مرة!" .. قول: "أنا كلب!" قول: "أنا حمار!".

ويقول الدكتور فتحي عبد الفتاح: "لم يكن أكثرنا تشاؤماً يتصور أن ذلك يمكن أن يحدث! فحين طلب منا في الصباح الباكر من ذلك اليوم أن يحزم كل أمتعته في انتظار الأوامر، دارت كل التصورات الوتوقعات حول ترحيلة جديدة، ولكن إغلاق الزنازين، والأوامر المشددة بعدم الكلام، ثم ذلك الشحوب القلق الذي يعلو وجه ضباط السجن وعساكره، وحتى قائده ـ كان يوحي بأشياء مبهمة صعبة التفسير.

"كان كل ما استطعنا معرفته هو أن اللواء إسماعيل همت ، وكيل مصلحة السجون، ومعه فرقته الشهيرة بـ" فرقة همت " قد وصلت مساء أمس إلى الواحات! وكان ذوي الخبرة في السجون المصرية يعرفون همت بانه: "ناعم الصوت، رقيق الجسد، أحمر الوجنات، تركي الملامح والجذور، شديد السوة في معاملته للرجال وكأن بينه وبينهم ثأر! ولديه ولع مجنون بتعذيب من يتوسم فيهم رجولة مكتملة! ثم إصراره على أن يقول كل واحد منهم بأنه "امرأة"!

"وبدأت أغرب تمثيلية شهدتها في حياتي!".

"ينادي أحد العساكر ستة أسماء، ويخرج الزملاء حاملين معهم كل أمتعتهم، وتمر بعض الدقائق، ثم فجأة نسمع هرولة، وصرخات مكتومة، وصهيل خيل، وفرقعات سياط! ـ وكأننا نسمع موسيقى تصويرية لأحد أفلام المعارك"!

"ثم ينادى على ستة أسماء أخرى! وهكذا!".

"كان كل ما استطعت أن أصل إليه بانفعالاتي المحتدمة مع الصرخات المكتومة، وصرخات حوافر الخيل، وفرقعات السياط، أن شيئاً ما رهيباص يجري في الخارج! ولكن ما هو؟".

"وجاء دوري! ونودي على اسمي مع خمسة آخرين، كان من بينهم الصاغ الدكتور محمود القويسني، والمهندس الجيولوجي فخري لبيب، والشاعر محسن الخياط، والطالب الجامعي سمعان، وعامل النسيج محمد عبد الواحد".

"خرجنا من الزنزانة، ثم من العنبر، في صف واحد، وأمامنا عسكري وخلفنا عسكري، وكل منهما شاهر سلاحه وقبل أن نصل إلى بوابة السجن، التي كانت مفتوحة على مصراعيها، وأمامها صف من الخيالة، ممسكين بسياطهم، وآخرون ممسكين بالعصى الغليظة ـ انسحب الجنديان بسرعة، وأحدهما يقول في ألم واعتصار" :

- شدوا حيلكم، ربنا معاكوا!" .

"وبخروجنا من البوابة، انتقلنا فوراً إلى القرون الوسطى!" .

"إجري .. إضرب .. كرابيج .. شوم .. الرأس .. العينين .. الجسد يلتهب .. إجري .. فرسان القرون الوسطى يركبون الخيل، وفي يدهم السياط، يضربون الفريسة، وينهكونها، وعلى الصفين طابور من كلاب الحراسة! يمسكون بالعصى تنهش .. وصرخات الغابة الوحشية تمتزج فيها ضحكة الضبع الجائع المجنون، مع ضوضاء القردة، وعواء الذئاب، وولولات الصقور!

"وعند نهاية سور السجن قرب البوابة الخلفية، جلست محكمة التفتيش!" .

"ورغم كل شيء، رغم العصي والسياط التي تنهمر كالمطر، ورغم أوامر إركع، أقعد، أخفض رأسك ـ كنت متشوقاً أن أراه .. إمبراطور الجنس الثالث الإمبراطور التركي إسماعيل همت ".

"كان يجلس كجنرال يقود حرباً خطيرة، تحت مظلة أقيمت له، وإلى يساره قائد السجن، وإلى يمينه عدد آخر من ضباطه".

"كان الدم يكاد ينفجر من خدوده الحمراء المكتنزة، وهو يضحك، بينما كان جسده كله يهتز، ونحن نخلع كل ملابسنا لنقف أمامه عرايا أمامه عرايا، بينما يقول الحلاق باجتثاث كل شعر في أجسادنا بموس! ابتداء من شعر الرأس حتى الحاجبين، وشعر الصدر والعانة!".

"وبدأ الجنرال النازي يمارس هوايته مع الرجال العرايا! وأشار بعصاه إلى الصاغ الدكتور محمود القويسني، وكان في أول الصف" :

- اسمك ايه يا ولد؟

- الصاغ دكتور محمود القويسني.

- صاغ إيه ودكتور إيه يابن القحبة ؟ اسمك ايه يا واد؟

- صاغ دكتور محمود القويسني!

- بتتحدى يا بن الـ ... والله لحط العصاية دي في ....!!!!

- عيب يا إسماعيل يا همت!

"قالها الدكتور محمود القويسني في ثقة ومرارة، بينما العصي والسياط تنهمر على جسده العاري، وهمت يصرخ، ويشاركهم في الضرب!" .

كان الدكتور محمود القويسني ضابطاً في سلاح الفرسان حتى 1954، وكان إسماعيل همت أيامها قد فصل من الجيش "لمسائل أخلاقية" في بداية ثورة 1952، ثم أعيد ضابطاً في مصلحة السجون. وطالما وقف إسماعيل همت بين يدي محمود القويسني ذليلاً مستضعفاً مبتهلاً للتوسط في إعادته إلى الخدمة.

وجاء الدور على الطالب وجيه سمعان:

- اسمك ايه يا بن الـ.. ؟
- وجيه سمعان، طالب بآداب القاهرة.
- منين يا وله؟
- من جزيرة شندويل بسوهاج.
- وصرخ همت في نباح كالكلبة: - يابن الـ... نصراني وصعيدي وكمان شيوعي!

"وجاء دوري، وصمت تماماً، فلم أجب على صراخه وأسئلته، نسيت العصي المنهمرة والكرابيج، بل نسيت جسدي ونفسي تماماً، سوى شيء واحد أن الموت أفضل من أن أفقد إنسانيتي" .

"- انت مش سامعني يابن الـ...؟ اكلم يا وله؟ هاموتك! ووقفت صامتاً، وكففت حتى عن أن أرفع يداي لأتلقى الضربات أو أتحرك هنا وهناك هرباً من الشوم المنهمر!" .

"وتقدم المهندس الجيولوجي فخري لبيب حيث يقبع همت، ليصيح فيه:

"أنت فاشي صغير .. أنت قاتل .. ستدفع الثمن يوماً!"

وتراجع همت من هول المفاجأة، وسرعان ما عادت آلة التعذيب والموت كلها تطبق على فخري – كل العساكر، بما في أيديهم من الكرابيج والشوم، تعمل على جسده العاري، حتى سقط فخري على الأرض، فتقدم منه همت، وأخذ يضربه بحذائه!" .

"وأيقنت أن فخري قد قتل! ولكن ذلك لم يكن كافياً من وجهة نظر الفاشي، فأمر بأن يصلب فخري على العروسة، ووقف ثلاثة من الزبانية يتبادلون ضربه بالكرباج، وهمت يصرخ فيه: "قل أنا مره!".

"كنت أتابع ضربات الكرباج على جسد فخري، الذي تفجر كله بالدم والكدمات، ويجتاحني إحساس بالعجز الشديد، وبالاحتقار الشديد لكل شيء، حتى نفسي".

"أكثر من سبعين جلدة صمت بعدها صوت فخري تماماً، وارتمى رأسه على كتفه. كان هناك فيما يبدو إصرار على قتله، فقد أنزلوه من على "الصليب"، وأخذ همت يقلب رأسه بحذائه، ثم يقول بصوته الأنثوي" :

- لسه عايش ابن الثور!

وصرخ فينا قائد المعتقل: ياللا، على العنبر، خذوه معاكم!

"خمسة من العراة، يحملون زميلاً لهم يطرق الموت جسده، وخلفهم جوقة من الكورس العسكري الذي لا يكف عن الضرب! حتى دخلنا العنبر ونحن نحمل رفيقنا، وظللت صامتاً، لم أكن مصدوماً كما تصور رفاقي، بل كنت في تمام الوعي والإدراك، كنت أرى فخري ممدداً وسط الغرفة والزملاء حوله، ووجيه سمعان وهو يمسك ظهره ويتألم في صمت، ومحمد عبد الواحد وقد وضع رأسه بين يديه وهو ينتحب، ومحسن الخياط وهو يردد" :

- دا مش معقول! إحنا فين. إحنا في غابة!

"وجاءت دفعة أخرى، دخلوا الزنزانة: أجساد عارية منهكة، يختلط عليها الدم بآثار ضربات الشوم والكرابيج، يرتمون على الأرض وهم يلعنون ويتأوهون".

"وجاءت دفعة ثالثة: اثنا عشر زميلاً في زنزانة، عارون تماماً، وقد تغيرت ملامح وجوههم، بلا شعر، وبلا حواجب!".

"وتقدم مني محسن الخياط يتفرس في وجهي وهو يقول: "إنت مين"؟".


17- عجلة التعذيب في وادي العقارب (الوفد في 2/12/1996)

مازلنا مع سجناء الرأي في عهد عبد الناصر، ولكن مع شاهد آخر هو الدكتور فتحي عبد الفتاح، الذي روى لنا في المقال السابق "حفلة الاستقبال"، التي أقيمت له ولزملائه يوم 8 نوفمبر 1959، واستخدم فيها زبانية عبد الناصر الشوم ودبشك البندقية والكرابيج والأحذية الميري، وفوق ذلك ألفاظ السباب القذرة من عينة "ابن القحبة" وغيرها! وتحدث عن انتزاع ملابس سجناء الرأي من الكتاب والمفكرين، وإبقائهم عرايا كما ولدتهم أمهاتهم! واجتثاث شعر أجسادهم ابتداء من شعر الحاجبين حتى شعر العانة!

وبذلك أثبت نظام عبد الناصر مدى احترامه لحقوق الإنسان وتقديره لحرية الرأي! فلم يكن واحد من سجناء الرأي قد رفع سلاحاً ضدعبد الناصر أو ضد نظامه، ولم يقذف واحد منهم بقنبلة أو يفجر عبوة ناسفة في شوارع القاهرة، أو يمثل خطراً ما حقاً على النظام الناصري يتطلب الانتقام منهم على هذا النحو البشع، وإنما كانت كل جريرتهم هو انهم عبروا عن آراء تخالف رأي عبد الناصر في التفاصيل، مع اتفاقهم معه في الاتجاه العام! بل إنهم كانوا واقعين تحت وهم غريب هو أنهم حلفاء لعبد الناصر ونظامه.

ومعنى ذلك أن القضية لم تكن قضية صدام بين عبد الناصر والخارجين على القانون، وإنما كانت قضية صدام بين عبد الناصر وأصحاب الرأي الآخر الذين يعبرون عنه بالكلمة .. والكلمة فقط ولا يستخدمون اي سلاح آخر غير الكلمة!

وحين يكون أصحاب الرأي الآخر الذين نكل بهم عبد الناصر هم الشيوعيون، فإن هذا يوضح جلياً الصفة النازية لنظام عبد الناصر، لن العداء ضد الشيوعيين كان هو العداء الرئيسي في ألمانيا النازية، باعتبار النازية هي النقيض للشيوعية، وهو ما جعل هتلر يدبر حريق الرايشستاج في يناير 1933 للتخلص من الشيوعيين وتصفيتهم متهماً إياه بصنعه!

وقد أدرك سجناء الرأي في عهد عبد الناصر هذه الحقيقة، ولم يملكوا إلا أن بعقدوا المقارنة بين ما فعله النازيون مع خصومهم السياسيين وما كان يفعله النظام الناصري بهم! ففي مذكرات الدكتور فتحي عبد الفتاح، حين يتحدث عن اللواء إسماعيل همت يقول: "وبدأ الجنرال النازي يمارس هوايته مع السجناء العرايا!". وحين يتحدث عن تجربتهم يقول: "لقد جربها ضحايا النازية والفاشية". بل إنه يصف ضباط التعذيب في نظام عبد الناصر بأنهم تفوقوا في بعض الأمور على أساتذة النازية في معتقلات داخاو DACHAU وبوخنفالد BUCHENWALD وأشفيتز AUCHWITZ وحين يتحدث عن فرقة اللواء هعمت للتعذيب يقول إنها "لا تختلف عن فرقة العاصفة الهتلرية"!

وهذه الأوصاف تجدها في ذكريات ومذكرات كل من خاض هذه التجربة مع النظام الناصري، لسبب بسيط هي أنها الأوصاف الدقيقة! ولأنه لا يوجد نظام سياسي معاصر حتى ذلك الحين امتهن حقوق الإنسان ونكل بخصوم الرأي غير النظام النازي – الفاشي والنظام الناصري!

ويمضي الدكتور فتحي عبد الفتاح في رواية تجربته فيقول:

"كان اليوم التالي للحفلة الكبيرة الي أقامها الإمبراطور إسماعيل همت ، وانطلق صوت البروجي والشمس ما زالت تتجمع في فناء سجن الواحات، ونحن نجلس القرفصاء في صفوف متراصة".

"وكانت الرياح الخفيفة المثلجة تعصف بأجسادنا المنهكة شبه العارية، التي لا يسترها سوى بعض الخرق الصفراء التي وزعوها علينا لتصبح زينا الرسمي الجديد!".

"وتحت القدم العاري لسعات الرمال التي تحولت كلها إلى ذرات من البرد الموجع ينفذ من القدم إلى النخاع، فترتعش الدماء في العروق! ولقد سمعت كثيراً عن الجو القاري في الصحاري، حيث البرودة برودة حقيقية، وحيث الحرارة حرارة مستبدة، ولكني في ذلك الصباح أحسست كما لو كنت قد ألقيت عارياً وسط أكوام من الثلج"!

"وجلسنا أكثر من نصف ساعة في وضع القرفصاء، وأوامر مشددة بأن ننكس رؤوسنا، أي ننظر إلى ما بين أقدامنا. ثم نفخ البروجي، وجاء الجنرال، واخذ ينظر إلينا في تشف غريب باحثاً عن آثار "حفلته الكبرى"، التي أقامها بالأمس!

لقد كان هناك من كسرت ساقه أو ذراعه أو بعض من ضلوعه في "مهرجان الضرب والتعذيب"!

"وصدرت لنا الأوامر بالنهوض، والتقدم نحو بوابة السجن ومضينا في أربع مجموعات متراصة، تحرسنا المدافع الرشاشة من الجانبين، وتنهال علينا الشتائم والأوامر، مع ضربات الخيزران اللاسع!"

"وأخيراً وصلنا الموقع، على بعد أربعة كيلومترات من السجن! كان المكان أشبه بوادي صغير يقع بين تلَّين من الكثبان الرملية، تنتشر فيه بعض النباتات الشوكية. كان المسرح معداً بعناية، وصعد همت ومعه فرقته على الكثبان الرملية، وأحاطونا بسرعة من كل جانب بالمدافع الرشاشة!"

"ووقف المأمور يصرخ فينا قائلاً: إسمع انت وهو! أنا ممكن أقتلكم كلكم حياتكم عندي لا تساوي شيئاً! عندي أوامر بضرب الرصاص عند أي تمرد! فاهمين؟ دلوقتي الفئوس والغلقان والديورة هتتوزع عليكم، ومطلوب إنكم تنقلوا التلال الرملية دي! أي تقصير في العمل ها أضرب بالنار فوراً! مفهوم؟"

"وبدأ الضباط والشاويشية يقسموننا إلى "مصالب" – أي فرق عمل – ويوزعون علينا الفئوس والغلقان وأدوات العمل الأخرى، وهم لا يكفون عن استخدام ألسنتهم وعصيتهم"!

"وصعد المأمور إلى همت فوق التل، وتحت التل أذنا نروح ونجيء محملين بالمقاطف المليئة بالرمل، تحت وابل من ضربات الخيزران والشوم الذي لم ينقطع! ويبدو أن نغمات الضرب المتواصل، الذي ينهال علينا، مع صورتنا ونحن في خرقنا البالية نحمل الرمال والصخور مهرولين، قد أمتعت عين وسمع النمر، وبدأت تشبع أحاسيسه الحيوانية، فأخذ يلق بأوامره للضباط والعساكر الذين يقومون بدور الإيقاع الصوتي بعصيهم وكرابيجهم، ويرسمون في نفس الوقت ظلال القسوة والهمجية المطلوبة":

- العساكر تشد حيلها شوية في الضرب! المقاطف تتملي كويس! الأولاد اللي هناك دول ماشيين على مهلهم، بيتفسحوا ولاد الـ... ؟ ضرب الكرابيج أحسن! عاوز أسمع صراخهم مفيش رحمة بيهم، اضرب زي ما تضرب كلب!

"وبالطبع كانت أوامر اللواء تنفذ على الفور، فيزيد صفير الكرابيج وهي تقع على الأجساد، وترتفع ذبذبات العصي وهي لا تتوقف لحظة في أيدي العساكر"!

"واستمر الضرب، بنفس الوتيرة، طيلة اليوم، وكانت الساعة قد قاربت على الرابعة حينما أمرنا بالعودة إلى السجن، وشمس الأصيل تفرد ظلالنا طويلة ممدودة على الرمال، وكل منا يحمل فأساً أو مقطفاً يلقه بكتفه"!

"وتمضي طوابير "التشغيلة" مقتربة من أسوار السجن، بعد يوم طويل من العمل الشاق، والجهد النفسي .. يوم لن ينساه، ولا يجب أن ينساه كل أبناء وبنات مصر الطيبين"!

على أنه لم يكن اليوم الوحيد. لقد كان يوماً له ما بعده تسير على هذا النمط، مع كثير من الإضافات والتحسينات في التعذيب! فعلى حد قول الدكتور فتحي عبد الفتاح، "لم يكن الأمر يخلو في تلك الأيام بأن نفاجأ في الصباح، وقبل أن نصطف في طابور الجبل، بالعنابر تفتح علينا، وبالعساكر ينالون علينا ضرباً بالقايش والخيزران! فقد كان قائد المعتقل يحرص على هذه الغارات الصباحياة الدامية كل اسبوع أو عشرة أيام، لكي يظل الجو ملتهباً، وليبعث في عملية التعذيب "تنشيطاً وحيوية"!

"كذلك كان يحرص على أن يأتي كل أسبوع إلى الجبل، فيتحول الجبل يومها إلى حركة سريعة تقطع الأنفاس، وتصفر الكرابيج والعصي على أجسادنا، ونعود في مثل هذا اليوم وكل منا يحمل آثار احمرار على جده، او دماء متفجرة على جبهته ورأسه"!

"وفي بعض غزوات القائد، كان بعضنا يعود برجل دامية من ضرب "الفلقة"، أو ضلع مفقود، أو جسد ممزق نتيجة الجلد على "العروسة"!

على أن الفزع الأكبر تمثل في ذلك الحين في البيئة الطبييعة التي كانت تدور فيها عجلة التعذيب الجهنمية. فوفقاً لكلام الدكتور فتحي عبد الفتاح، "كانت المناطق التي نعمل فيها مليئة بالثعابين والحيات الخطرة والعقارب، في الوقت الذي كان أحد عناصر التعذيب الهامة هو خروج سجناء الرأي من الكتاب والمفكرين والمثقفين "حفاة الأقدام! يمشون فوق الرمال والصخور على غير ما تعودوا عليه طيلة حياتهم".

ولذلك – وكما يقول الدكتور فتحي عبد الفتاح – كادت تحدث مآسي كثيرة، فكثيراً ما كان ينفض الإنسان قدمه فجأة بعد ان يحس بأن هناك شيء يزحف عليها، ويكتشف أنها عقرب من النوع الخطر!

"كذلك فإن حية "الطريشة" وهي الحية ذات الأجراس، كانت تمثل لنا انزعاجاً شديداً، خاصة بعد أن أكد لنا الزملاء الأطباء: مختار السيد، وعبد المنعم عبيد، وشكري عازر، وغيرهم، أن "لدغتها والقبر"! "لذلك حين كان يصيح أحدنا: "طريشة"! كان الجميع يسارعون بالفؤوس ليقضوا على تلك الحية الخطرة".

"لقد كانت حصيلتنا في اليوم الواحد حوالي أربع حيات، وعشرين عقرباً، وأكثر من خمسين ثعباناً مختلفة الأشكال والأحجام"!

"وبدأنا ندرك ما كان خافياً عنا، أو على الأقل لم نكن نعتبره مقصوداً في البداية، لقد كان إلقاؤنا في هذا المكان بالذات، الذي عرفنا فيما بعد أن السكان كانوا يسمونه وادي العقارب، حفاة الأقدام، شبه عراة، في عمل لا جدوى منه ولا منفعة ـ مقصوداً به أن تقوم الحشرات السامة بما لا يستطيع أن يقوم به همت وزبانية التعذيب".

لذلك تبلور مطلب سجناء الرأي الأكبر في ذلك الحين في مطلب واحد، هو ارتداء أحذية أثنا العمل!

وفي ذلك يذكر الدكتور فتحي عبد الفتاح ساخراً قصة "الملك لير" لشكسبير، حين هام على وجهه وحيداً شريداً ومعه مهرجه المعروف، فقد كانت كل أحلام الملك لير تدور وقتذاك حول انتصار قيم الحياة الشريفة، وليس مجرد العرش، أما المهرج فحين سأله لير عن أمانيه ال: "أمنيتي أن أجد حذاء!

لقد أصبح ارتداء "الحذاء" هو أمنية سجناء الرأي في ليمان عبد الناصر! ولكن هذه الأمنية كانت بعيدة المنال! لأنها تخالف قواعد وأسس عملية التعذيب التي رسمها زبانية النظام! فحين نطق المهندس سيد عبد الله بهذا المطلب أمام قائد المعتل في طابور الصباح وهو يستعد للخروج، "انهال عليه القائد ضرباً بعصا أخذها من أحد العساكر، وهو يصرخ كالثور الهائج:

"أنا ما عنديش مسجون يطلب حاجة! إزاي تتجرأ يا كلب؟ كويس إنكم لسه عايشين!".


18- وسجينات الرأي أيضاً ! (الوفد في 9/12/1996)

قصة ثورة يوليو مع سجناء الرأي ليست قصة واحدة بل قصص عديدة، ولا تجري فوق مسرح واحد، بل في مسارح عديدة! فمعتقلات عبد الناصر التي نصبها لأصحاب الرأي من معارضيه تمتد على مساحة مصر كلها ولا تقتصر على مكان واحد، فهناك سجن مصر، وليمان طرة، ومعتقل القلعة، وسجن "جناح" وليمان أبو زعبل، وسجن المحاريق بالواحات الخارجة، وسجن القناطر الخيرية، وكل منها عالم بأسره، ويمكن لسجين الرأي أن يمر بها جميعاً، ويزورها كلها أو بعضها، ويلقى في كل منها نفس التكريم!

ففي "أوردي" أبو زعبل تلقى إلهام سيف النصر وزملاؤه في اليوم الأول: "التشريفة" وقد تحدثنا عنها فيما سبق، وفي معتقل الواحات تلقى الدكتور فتحي عبد الفتاح ما أسماه بـ "مهرجان الضرب والتعذيب". وفي كل معتقل كان هناك استقبال مخصوص لسجناء الرأي يليق بمركزهم الفكري والثقافي والعلمي! من ضرب الكرابيج والأحذية الميري والشوم، وانتزاع شعر أجسادهم جميعه، وتجريدهم من ملابسهم واستعراضهم عرايا!

ويقدم لنا الدكتور فتحي عبد الفتاح عرضاً شيقاً ـ وإن كان مرعباً ـ لرحلته مع غيره من أصحاب الرأي في سجون عبد الناصر، ويبدأها بفصله من جريدة المساء مع عدد آخر من زملائه يوم 12 مارس 1959 بخطاب ممهور يقول: "قررنا الاستغناء عن خدماتكم ابتداء من 13 مارس 1959" وهو رفت يبين احترام نظام عبد الناصر لحقوق الإنسان وحقوق الصحفيين المخالفين له في الرأي، نقدمه للقارئ الكريم ليتبين تضليل الناصريين اليوم وهم يتزعمون جماعات حقوق الإنسان وحقوق الصحفيين!

ويقول الدكتور فتحي عبد الفتاح إنه وزملاءه تلقوا تأكيداً بأن عقاب النظام لهم سوف يقتصر على الفصل، "وإن هذا هو أقصى إجراء سيتخذ معكم، وليس هناك اعتقال"! ولكن أحدهم، وهو أمير اسكندر، أكد أن الجميع مرشحون للاعتقال! وحكى جميل عبد الشفيع من واقع تجاربه السابقة مع نظام عبد الناصر: "إنهم يطبون في الفجر، كالقضاء المستعجل"!

وهو ما حدث بالفعل بعد خمسة عشر يوماً من الفصل من الجريدة، فقد أوقظ الدكتور فتحي عبد الفتاح من نومه فجراً، ليرى الغرفة قد امتلأت بعدد من الملابس الصفراء! "وبقيت وسط السرير، وأخذت أجول بنظري بينهم وكأنني أشهد فيلماً صامتاً، ونحيب أختي يقوم بدور الموسيقى التصويرية! نفس الوجوه التي سمعت عنها كثيراً: جمود، وبلادة، وتحفز! عيون بعضهم كعيون الصقر، تلتقي بها فلا تجفل! وسمعت صرخة عالية لأختي تأتي من الحجرة المجاورة، كان كل شيء مقلوباً في الغرفة: محتويات الدولاب والملابس ملقاة على الأرض، وفي أي مكان، وهناك مرتبة مقلوبة، وأخرى مشقوقة بالطول والمخبر يعبث بالقطن ويرميه في كل مكان، وأختي تصرخ وتسب وتلعن: "إنتو ظلمة، عاوزين أخويا ليه؟ أخويا مع الحق، بكرة حتشوفوا وحيجيلكم يوم"!

وفي الطريق إلى المعتقل، وأمام مبنى المباحث العامة في لاظوغلي، رأى الدكتور فتحي عبد الفتاح عربات كثيرة تقف، وأخرى تنطلق، ومجموعات تخرج بحراسة. وحينما كان يرتقي السلالم العريضة للمبنى، لمح سجيناً آخر يهبط وفي يده قيد حديدي، وتعثرت قدمه فسقط على الأرض، وقام ليفتش عن نظارته، لقد كان الدكتور لويس عوض!

واقتيد الدكتور فتحي عبد الفتاح، وفي معصميه القيد الحديدي، إلى قسم الموسكي ليلقى به في حجز النساء! وليلتقي بثريا حبشي زوجة المهندس فوزي حبشي، التي اعتقلها زبانية عبد الناصر من زوجها! فلم يكن نظام عبد الناصر يعفي صاحبات الرأي المعارض من الاعتقال! وتصور الدكتور فتحي عبد الفتاح أنها اعتقلت! بدلاً من زوجها لعدم العثور عليه، وردت بأنها اعتقلت مع زوجها! وسأل الدكتور فتحي دهشاً: والأولاد؟

وجاءته الإجابة: ما هو دا اللي مجنني .. سبتهم عند الجيران! ويقول الدكتور فتحي: "ودارت رأسي بسرعة، وأنا أتصور المهندس فوزي وزوجته يأخذونهما عند الفجر، ويتركان الطفلين يبكيان ويصرخان بين يدي الجيران، وشددت على يدها وهي تخرج في أثر الجاويش الذي جاء ليأخذها، وقالت: لما تشوف فوزي سلم لي عليه، لقد قالوا لي في المباحث إنه رايح القلعة. ورد عليها قائلا: شدي حيلك إنتي، وسلامي لأميمة أو النصر يمكن تلاقيها في سجن القناطر!

وفي الطريق إلى معتقل القلعة كان الدكتور فتحي عبد الفتاح قد نسي ذلك العطر التاريخي الذي يملأ حواس المرء وهو يمضي على الطريق الصغير المعرج الموصل إلى القلعة، ولم يذكر إلا أنه ذاهب إلى المعتقل الذي بناه الإنجليز كأحد مظاهر سطوتهم وتسلطهم على شعبنا!

ومع ذلك فإن معتقل القلعة كان قد تطور على يد النظام الناصري! فقد بدأت تكتظ زنازينه وعنابره بمئات المعتقلين، فالزنازين على الجانبين التي كان من المقرر أن تتسع لفرد واحد، وضع فيها أربعة أو خمسة! كما حشر في العنبر الذي يشبه البدروم والعنبر العلوي أكثر من مائة في كل عنبر. وقد حاولت قيادة المعتقل أن تفرض نظاماً صارماً لإغلاق الزنازين والعنابر، ولكن هذا النظام كان مستحيلاً، إذ كانت هذه الزنازين والعنابر تفتح كل بضع ساعات وربما كل ساعة تستقبل الوافدين الجدد من سجناء الرأي!

وكما يقول الدكتور فتحي عبد الفتاح: " مئات المعتقلين جاءوا من كل شبر تقريباً من أرض مصر الطيبة: من أسوان، وقرى النوبة إلى الإسكندرية ومطروح والعريش: عمال وطلبة، موظفون وكتاب وصحفيون ومحامون وأطباء .. فلاحون ومدرسون وأساتذة جامعات ومهندسون وعمال زراعيون، فنانيون وضباط سابقون وحرفيون!

كانت الغالبية العظمى منهم قد اعتقلت ليلة 17 مارس 1959 الشهيرة، وبعضهم التقط من عمله، أو من الشارع ثم يردون على القلعة، بعد أن شرف بعضهم الأقسام ليوم أو يومين حسب الظروف والتساهيل.

وكان وراء كل واحد منهم قصة، وقد شهد الدكتور فتحي عبد الفتاح منهم الدكتور محمد الخفيف، وسعيد خيال (القاضي)، والدكتور سعد بهجت (الصيدلي) ومحمود السعدني (الصحفي)، والدكتور عبد الرازق حسن (مدير البنك الصناعي)، والدكتور فوزي منصور (الأستاذ بكلية الحقوق)، والدكتور لويس عوض، ولطفي الخولي.

ومع تكدس المعتقلين من أصحاب الرأي في معتقل القلعة، شعر الجميع بأن هذا المعتقل إنما هو محطة تجمع فقط! ففي الأسبوع السابق لوصول دفعة مارس (كما كانت تسمى) كانت دفعة يناير قد رحلت غلى سجن الواحات الخارجة، ثم جاء دور دفعة مارس، وأخذت إدارة السجن في الستعداد لهذا الرحيل بما يليق بسجناء الرأي على النحو الذي يرويه الدكتور فتحي عبد الفتاح في الآتي.

"جاء قائد المعتقل ذات مساء، ومعه "الحجلات"، وهي سلاسل طويلة يربط فيها ما بين عشرين إلى ثلاثين معتقلا، وبدأ ينادي حوالي مائتي اسم، وكنت واحداً منهم، وتجمعنا في الممر الطويل بين الزنازين، والزملاء يتطلعون إلينا من فتحات العنابر، وفي عيونهم كما في عيوننا نفس التساؤل: إلى أين؟".

وبدأ الطابور يخرج من باب معتقل القلعة لتتلقفنا مجموعة أخرى من الضباط والعساكر، يحشرون كل مجموعة منا يربطها جنزير واحد في عربة من عربات السجون المغلقة، وسط جو من الأوامر والصرخات، ووقف قائد الترحيلة يلقي بأوامره الأخيرة بصوت عال:

- كله يسمع .. إحنا رايحين معتقل الفيوم .. مش عاوزين صوت ولا ضجة .. أي محاولة للخروج على النظام حتقمع فوراً .. عندي أوامر مشددة بضرب النار في المليان .. خليكو عاقلين والترحيلة تمر على خير!

"وزمجرت موتورات لوريات الترحيلة، واستدرت أودع الاهرة من فتحة كبوت العربة، كانت القاهرة نائمة ساكنة والشوارع خالية تغمرها الأضواء في صمت، وخرجت بعض الأصوات من داخل إحدى العربات تغلي بصوت خافت:

"بلادي، بلادي، بلادي، لك حبي وفؤادي، مصر يا أم البلاد، أنت غايتي والمراد". وانتقلت الأغنية إلى كل عربات الترحيلة، وانطلقت أصواتنا قوية عالية تهزم برد الشتاء، وتبدد صمت الليل وسواده، وزادت العربات من سرعتها على طريق الفيوم الصحراوي هرباً بالترحيلة السرية!".

على هذا النحو كان نظام عبد الناصر يمارس احترامه لحقوق الإنسان التي يتصدى الناصريون اليوم في أكبر عملية تضليل، للدفاع عنها، وكان يتعامل مع الصحفيين والكتاب والمفكرين وأصحاب الرأي كما يتعامل مع أخطر المجرمين! وكان يتحاور معهم بالزنازين والعنابر والجنازير والحجلات والسلاسل وحشرهم في عربات السجون وسط الحراسة المسلحة والتهديد بضرب النار في المليان"! كما لم يحدث في أشد عهود الظلام والاستبداد التي مرت بمصر! وفي الوقت الذي كان عبد الناصر يطلق صيحته الزائفة: "ارفع رأسك يا أخي، فقد مضى عهد الاستبداد"، كان يمارس أشد الوان الاستبداد ضد أصحاب الرأي الذين لا حول لهم ولا قوة غير أقلامهم!

لذلك لا عجب أن كانت الورقة والقلم من أكبر الممنوعات في معتقلات عبد الناصر بل كانت تعد "جرماً كبيراً"! حسب وصف الدكتور فتحي عبد الفتاح! فعداء عبد الناصر أساساً كان مع الورقة والقلم، وتلك هي أزمة المثقفين في عهد عبد الناصر، وهي أزمة لم يسبق أن مروا بها في أي عصر من العور. ففي كل العصور كان المثقفون المصريون هم عصب الثورات، وهم عمودها الفقري، وهم قادتها ومحركوها. وطوال عهد الاحتلال البريطاني كان صدام الاحتلال أساساً مع المثقفين، فقد اعتمدت حركة مصطفى كامل على المثقفين، ولم يكن للعسكريين فيها أي دور. لذلك لا غرابة أن شهد الفكر المصري أوج ازدهاره في تلك العهود، وظهر كتاب عظام من أمثال طه حسين والعقاد ومحمد عبده وعلي عبد الرازق ومصطفى عبد الرازق وسلامة موسى، ومفكرو اليسار الرواد من أمثال الدكتور لويس عوض ونبيل الهلالي وشهدي عطية الشافعي ومحمد سيد أحمد وغيرهم.

ثم جاء العسكر في يوليو 1952، وظهر التناقض بينهم وبين المثقفين منذ الشهور الأولى للثورة، فاصطدموا مع الليبراليين ممثلين في الوفد، ومع الإسلاميين ممثلين في الإخوان المسلمين، ومع الاشتراكيين ممثلين في التنظيمات اليسارية المختلفة.

وكان الصدام حول الديمقراطية. فقد بسط العسكريون سلطتهم على البلاد، وكره المثقفون أن يستبدلوا باستبداد القصر استبداد العسكر، ووصل الصدام ذروته في أزمة مارس 1954، التي كانت أساساً صداماً بين العسكر والمثقفين من كافة التيارات الفكرية، وعندما انتصر العسكر بالقوة المسلحة على المثقفين، كان في ذلك نهاية لدورهم التاريخي المؤثر، وانتقلوا منذ ذلك الحين من صفوف العمل الوطني الثوري إلى سجون ومعتقلات عبد الناصر في طول مصر وعرضها.

وقد كان أحد هذه المعتقلات هو معتقل العزب بالفيوم الذي نزل إليه الدكتور فتحي عبد الفتاح في ترحيلة مارس 1954. وكان قد بني أصلا ليكون معتقلا لأسرى الحرب في الحرب العالمية الثانية، ثم تحول إلى معتقل لتجار المخدرات، وانتهى به المطاف ليضم أكثر من أربعمائة معتقل سياسي من الديموقراطيين والاشتراكيين. وفي هذا المعتقل كانت التجربة الأولى.


19- من معتقل العزب إلى معتقل المحاريق ! (الوفد في 16/12/1996)

منذ اللحظة الأولى في معتقل العزب بالفيوم، شعر سجناء الرأي بأنهم مقبلون على محنة جديدة! فقد كان الجو مختلفاً عما ألفوه في معتقل القلعة طوال الأيام العشرة السابقة، لقد وضع في كل عنبر أربعون معتقل في البداية، ثم أخذ هذا العدد يتضخم مع تزايد الدفعات الجديدة التي تصل من معتقل اللعة، حتى أصبح في كل عنبر ما بين ستين وسبعين معتقلاً!

وفي الوقت نفسه زادت قوائم الممنوعات والمحظورات بدرجة مثيرة ومجنونة أيضا! وعلى سبيل المثال فقد حرم المعتقلون من حرية التنقل. وحرية التنقل المقصودة هنا ليست حرية التنقل داخل المعتقل، وإنما حرية التنقل داخل العنبر نفسه! بمعنى أنه كان على المعتقل أن يلزم سريره ولا يغادره، فإذا تحرك يكون تحركه على السرير فقط وفي مساحته وحدها! فعلى السرير يستطيع المعتقل أن يجلس وينام ويتحرك، ولكن ليس من حقه أن يغادر السرير! وفي الوقت نفسه كان محظوراً على المعتقل السياسي أن يتحدث مع زميله ولو همساً فقد كان الهمس بين الزميلين اللذين ينامان في سريرين متجاورين يعد جريمة عقوبتها الجلد.

وكان موقع سرير المعتقل يحدده موقع في "الحجلة" التي ربطت فيها الترحيلة. فقد ربط جميع سجناء الرأي بعضهم ببعض "بحجلات" هي عبارة عن سلسلة طويلة يربط فيها ما بين عشرين إلى ثلاثين معتقلاً، وبالتالي فقد كانت هذه الحجلة هي التي تحدد موقع كل سجين من الآخر في كل مكان، سواء كان هذا المكان ثابتاً أو متنقلاً، أي سواء كان في غرفة أو عنبر أو عربة سجن في قطار، كما تحدد موقع كل سرير من الآخر.

ولا يدري أحد لماذا كان زبانية عبد الناصر مصرين على ربط سجناء الرأي بالسلاسل، مع أنه لا يوجد فيهم من يستطيع الهرب، أو حتى يصلح للهرب، ولكن من الواضح أن الغرض هو الإهانة وإشعارهم بالمذلة!

كما لا يدري أحد لم كان زبانية عبد الناصر يصرون على حرمان سجناء الرأي من الحقوق التي كان يتمتع بها اللصوص والقتلة وتجار المخدرات؟ اللهم إلا إذا كان الخلاف في الرأي، في رأي النظام الناصري، يفو جرائة السرقة والقتل وتجارة المخدرات!

ويصف الدكتور فتحي عبد الفتاح العنبر الذي كان نصيبه فيه، وهو عنبر (2) بانه كان في تكوينه يعبر عن الوطن الكبير! ويقصد بذلك التكوين الاجتماعي للوطن المصري. فقد كان به العمال من شبرا الخيمة وحلوان وكفر الدوار والإسكندرية، ومن بينهم محمود عطا الله رئيس نقابة عمال كفر الدوار، وعبد الغفار سلام، وعبد الجواد القطان رئيس نقابة عمال النسيج. كما كان فيه الفلاحون من الشرقية والدقهلية والبحيرة والفيوم. وكان فيه أيضاً المثقفون، فقد كان فيهم الدكتور فايق فريد عضو مجلس الأمة عن شبرا وجزيرة بدران، وعلي الشلقاني الكاتب الصحفي، وجمال كامل الفنان التشكيلي، وعادل ثابت العالم المعروف، وعبد السلام مبارك الصحفي بجريدة المساء، والدكتور جميل حقي الصيدلي، هذا فضلاً عن عدد آخر من طلبة الجامعات.

وإلى جانب اعتقال سجين الرأي داخل سريره لا يغادره حتى ولو للتنقل داخل العنبر، فقد كان عليه أن يبقى فيه طول اليوم، فيما عدا ثلث ساعة فقط في اليوم، وهي مدة "الفسحة" المسموح بها. وفي هذه الدقائق العشرين كان على السجين أن يقوم يعمل كل شيء ابتداء من قضاء الحاجة، إلى الاغتسال، والمشي في الحوش الضيق خلف العنابر, ومع ذلك فهذه الدقائق العشرين لم تكن تمر بسلام، إذ كانت تمر وسط جو هستيري يشيعه قائد المعتل وضباطه، ومعهم على وجه خاص الشاويش محمد غطاس، أو حضرة الصول كما كان يناديه المعسكر، مصحوباً بالشتائم المقذعة والاعتداء بالأيدي على البعض.

ويقول الدكتور فتحي عبد الفتاح إن عيون العساكر كان مسلطة على المعتقلين من أصحاب الرأي، تحصي عليهم كل حركة تخالف التعليمات، وتنزل العقاب القوري بالمخالف. ولذلك عندما ضبط الضابط حمدي أحد سجناء الرأي يتحرك من سريره، أخرجه من العنبر وانهال عليه باللكمات!

هكذا سارت الأحوال في معتقل العزب في الفيوم قرابة ستة أشهر! لم تكن الإدارة في أثنائها تغفل عن المعتقلين أكثر من يوم أو يومين ثم تنزل بكل ثقلها في اليوم الثالث، فتجمع مندوبي العنابر مثلاً، لتقوم بجلدهم أمام مبنى الإدارة، لا لذنب ارتكبوه وإنما لمجرد إشاعة جو من الإرهاب وتخويف المعتقلين!

وفي يوم من الأيام ضبط أحد الضباط مع أحد المعتقلين، وهو المهندس فوزي حبشي، بعض الأوراق، وكانت الورقة والقلم بالنسبة للمعتقلين هي كبيرة الكبائر، فاستدعى المهندس فوزي حبشي إلى الإدارة، حيث قامت مجموعة من العساكر ومعهم الضباط بضربه بالشوم، ثم جلده على "العروسة"! ويبدي الدكتور فتحي عبد الفتاح دهشته لإطلاق اسم "العروسة" على تلك الآلة الجهنمية، ويرى أن السبب قد يرجه إلى أن المضروب يربط على الصليب في حالة احتضان!

ولم يسلم المرضى من سجناء الرأي من التعذيب، فبعد يومين من جلد المهندس فوزي حبشي، كانت جماعة من المرضى تستعد للذهاب إلى مستشفى الفيوم القريب للكشف عليهم، ولكن إدارة المعتقل رأت أن الضرب ربما يكون فيه الشفاء الناجح، ولذلك بدلاً من الذهاب بهم إلى المستشفى، اقتيدوا إلى الإدارة حيث ضربوا بالكرباج وجريد النخل!

ويقول الدكتور فتحي عبد الفتاح إنه إزاء هذا التعذيب فكر المعتقلون في الإضراب عن الطعام، وعندما عجزت إدارة المعتقل عن إثناء الخمسمائة معتقل عن الإضراب، شعر نظام عبد الناصر أن تجربة معتقل الفيوم لم تنجح، وأن سجناء الرأي فيه في حاجة إلى تأديب خاص يقتلع من أذهانهم فكرة المقاومة كلية، فتقرر في الأسبوع الأول من شهر يونيو 1959 ترحيلهم إلى سجن الواحات الخارجة، وكانت الدفعة الأولى تتكون من أربعين معتقلاً، كان نصيب الدكتور فتحي عبد الفتاح في الدفعة الثانية التي تم ترحيلها في سبتمبر 1959.

كانت هذه الدفعة أيضاً تتكون من أربعين من سجناء الرأي، وتضم: مندوبي العنابر، ومجموعة من الشخصيات والكتاب والنقابيين المعروفين، من بينهم الدكتور فايق فريد، والدكتور حسين كمال الدين، وعلي الشلقاني، والدكتور فوزي منصور، وأديب ديمتري، وفيليب جلاب، وشوقي عبد الحكم، وإبراهيم عامر، ومحمود عطا الله، ومحمد صدقي، وفخري لبيب، وفتحي خليل، ولطفي الله سليمان، وفاروق ثابت، ومحسن خياط، وعبد الله كامل، ومحمود السعدني، وأسعد حليم.

وقد سيقت هذه الدفعة من الفيوم إلى محطة بني سويف بالعربات، ثم من بني سويف إلى محطة "المواصلة" في عربة مغلقة في آخر القطار، مخصصة لنقل الحيوانات! مروراً بالمنيا وأسيوط وقنا وسوهاج، في رحلة دامت خمس عشرة ساعة حتى وصلت إلى "المواصلة".

والمواصلة بلدة صغيرة في أعماق الصعيد دخلت التاريخ من أوسع الأبواب، إذ كان ينقل إليها المسجونون المعارضون للسلطة، لينقلوا إلى قطار آخر من نوع قطار الدلتا الصغير يتجه بهم إلى الواحات الخارجة والداخلة على بعد أكثر من مائتي كيلو متراً في أعماق الصحراء.

وكانت محطة المواصلة قد شهدت مع دفعة يونيو السابقة مأساة رهيبة كادت تفقد فيها الدفعة حياة أفرادها جميعاً تحت القطار. فحين وصلت هذه الدفعة إلى محطة المواصلة، وبدأت إجراءات إنزالهم من العربة! ولما كان الجميع مربوطين بسلسلة واحدة، فقد أخذ المعتقلون الذين نزلوا من القطار يجرون بجواره لعجزهم عن التخلص من السلسلة التي تربطهم بزملائهم داخل القطار، بينما أخذت صيحاتهم تتعالى بفزع لإيقاف القطار، على أن السائق لم يسمع هذه الصيحات، وزاد من سرعة القطار وأخذ الذين في داخل العربة يتشبثون بمواقعهم حتى لا يلحقوا بزملائهم خارج القطار، الذين ما لبثو أن سطوا على الأرض، وأخذ القطار يجرجرهم على الرصيف، ثم على الفلنكات. وكان هؤلاء يتكونون من الكاتب الصحفي عبد الستار الطويلة، والدكتور رزق عبد المسيح وعزب شطا، وغيره.م. واحذ هؤلاء يصطدمون بالظلط وخشب الفلنكات، وهم يتوقعون في كل لحظة أن تشدهم عجلات القطار لتطحنهم جميعاً ومعهم الزملاء الذين كانوا داخل العربة!

ويقول عبد الستار الطويلة: كانت رأسي تدور بنفس السرعة التي تدور بها عجلة القطار، وكان مصيري ومصير الأربعين الآخرين الذين يرتبطون بالسلسلة الواحدة، يتوقف على مدى قدرتي على الابتعاد عن عجلة الموت. كنت قد سمعت ورأيت في الأفلام أنواع التعذيب في القرون الوسطى حين كانوا يربطون الفلاح إلى ذيل حصان جامح أو عربة تجرها مجموعة من الخيول، ولكن الأمر في هذه المرة كان مختلفاً، فلم يكن حصاناً جامحاً وإنما قطاراً حديدياً جامحاً.

صورة كلما تخيلتها حتى هذه اللحظة أغمضت عيناي ورعدة شاملة تجتاح كل جسدي".

ثم تدخلت الصدفة، بفضل إرادة الله، لكيلا تمضي المأساة إلى نهايتها، فقد تنبه خفير أحد المزارع المجاورة لما يحدث، فسارع بإطلاق عدة أعيرة نارية مرت بجوار السائق، الذي تنبه ونظر إلى الخلف ليرى المأساة وليوقف القطار. وأخيرا جاء القطار الصغير، وتكدس سجناء الرأ في عربتين، بينما ربض الحراس في العربة الخلفية، وتحرك القطار نحو الغرب،، وبعد نصف ساعة كان قد غرق في بحر الرمال والهضاب. وعلى بعد مائتين وخمسين كيلو متراً بدا على مرمى البصر سور أبيض غريب ولامع وسط الاصفرار الداكن المحيط، وأشار إليه أحمد طه، وهو شقيق عبد القادر طه، قائلاً: هذا هو سجن المحاريق!

كان أحمد طه هو الوحيد في ترحيلة سبتمبر 1959 الذي يعرف المكان إذ كان قد غادره قبل ثلاثة أشهر فقط بعد أن أمضى فيه فترة العقوبة التي أصدرتها ضده محاكم عبد الناصر العسكرية في سنة 1954، بسبب دفاعه عن العمال المصريين وعن حقهم في تنظيم أنفسهم. فقد اعتقله نظام عبد الناصر وقدمه للمحاكمة العسكرية التي عاقبته بخمس سنوات.

ومع أن أحمد طه كان قد أتم السنوات التي حكم عليه بها، وأفرج عنه في يناير 1959، وبالتالي لم يشارك في أي نشاط في أي نشاط فكري مما مارسه سجناء الرأي الآخرين، إلا ان نظام عبد الناصر أعاد اعتقاله من جديد في 28 مارس 1959، أي بعد ثلاثة أشهر، وأضافوا إليه زوجته التي اعتقلت هي الأخرى، وقدر له أن يشاهد أسوار سجن المحاريق مرة أخرى، وأن يخوض التجربة الرهيبة التي خاضها الزملاء الجدد بغير جريمة ارتكبها ضد نظام عبد الناصر، غير الخلاف في الرأي!


20- لقاء الموتى في معتقل المحاريق (الوفد في 23/12/1996)

اعتبر النظام الناصري الرأي المعارض جريمة شنعاء يستحق مرتكبوها من المفكرين والمثقفين والصحفيين والكتاب أشد ألوان التنكيل والتعذيب! وقد تمثلت عبقرية زبانيته في اختيار المعتقلات التي يقذف بهم فيهان والتي حرص على أن تبتعد كل البعد عن المران حتى لا يسمع لهم فيها صراخ!

ومن هنا كان انتقال مسجوني الرأي من معتقل العزب بالفيوم إلى معتقل المحاريق في الواحات! وقد أطلق على هذا المعتقل اسم "المحاريق" تعبيراً عن تلك البقعة الجرداء الموحشة التي يقع فيها، ولأن المكان كان بالفعل "محرقة" بحق، بسبب قسوة الشمس التي حولت أشعتها كل شيء في تلك البقعة إلى لون داكن أو فاحم، حتى الإنسان في تلك البقعة كان من النوع القزمي النحيف الذي يخالط شحوب وجهه سمرة داكنة تظهره في صورة النماذج المتحفية والتاريخية!

وكان من الطبيعي ان ينعكس ذلك على مسجوني الرأي الذين قذف بهم عبد الناصر إلى هذا المكان الموحش.

فعندما وصلت الترحيلة التي كان فيها الدكتور فتحي عبد الفتاح، كان قد سبقهم إليها زملاء من أصحاب كانوا يقضون قدرة سجنهم، بعضهم مضى عليه أكثر من خمس سنوات ! ومعظمهم كان يسمع عنهم كثيراً عندما كان طالباً في الجامعة، وصدرت بحقهم أحكام بالسجن تتراوح بين ثلاث وعشر سنوات، ليس بسبب أنهم استخدموا العنف والمتفجرات ضد نظام عبد الناصر، وإنما لأنهم فقط خالفوه في الرأي!

ويقول الدكتور فتحي عبد الفتاح إنه شعر، عندما رأى هؤلاء السجناء القدامى لأول مرة، أنه أمام أشباح هاملتية تعيش في تلك الصحراء لتعذب ضمير مصر كلها! كانت البدل الزرقاء التي يلبسونها، ووجوههم الشاحبة، وعيونهم الغائرة، قد أوحت له بذلك من اللحظة الأولى لرؤياهم.

كان منهم صلاح حافظ الكاتب بروز اليوسف، ومصطفى طيبة ومجدي فهمي، العاملان اللذان ألقى القبض عليهما قبل سنة 1952، ومحمد شطا أحد قادة العمال في شبرا الخيمة، وحمدي عبد الجواد، وفؤاد عبد الحليم، وزكي مراد، ومحمد خليل، وهما المثقفان النوبيان اللذان حاولا إيقاظ أبناء جلداتهم من سبات الجهل والتخلف. وداوود عزيز، ووليام الملك، وهما من أشهر وأصدق الفنانين التشكيليين اللذين كان يمثلان مدرسة جديدة في الفن، وأكثر من مائة سجين عاشوا في تلك البقعة الموحشة الجرداء سنوات طويلة لمجرد الخلاف في الرأي مع عبد الناصر، فعاقبهم بحرمانهم من كافة حقوق الإنسان التي يزعم الناصريون اليوم أنهم أنصارها وحماتها، تضليلاً وتزييفاً وخداعاً لأبناء شعبنا وللجيل الجديد الذي لا يعرف أن يديهم كانت طوال العهد الناصري عارقة في دماء حقوق الإنسان!

كان اللقاء بين الترحيلة الجديدة والمعتقلين القدامى أشبه باللقاء بين الموتى الجدد والموتى القدامى! وكان كل من الفريقين مشتاقاً لمعرفة عالم الآخر. ويصور الدكتور فتحي عبد الفتاح ذلك بقوله: في الأيام الأولى لم يكن غريباً أن ترى أحد المعتقلين الجدد مصطحباً أحد المسجونين القدامى: الأول يحكي عن العالم الذي تركه حديثاً منذ شهور قليلة، والحياة التي تركها تنبض وتقفز في الشوارع والمنازل، زالثاني يحدثه عن العالم المقفر الذي يعيش فيه، ويعطيه بعض الخبرات عن عالم السجن الذي أمضى فيه ثلاث أو خمس أو سبع سنوات!

وبالإضافةإلى هذا اللقاء بين الموتى الجدد والموتى القدامى، كان هناك لقاء بين المعتقلين الشيوعيين والمعتقلين من الإخوان المسلمين الذين كانوا يقيمون في عنبر رقم (3) ولكنه كان لقاء مجدباً، فقد كانت تفرقهم الأهداف والوسائل.

وعلى حد قول الدكتور فتحي عبد الفتاح: كان هجومهم على حزب الوفد، وتعاونهم مع الملك أحياناً، والغموض الشديد الذي يكتنف شعاراتهم الوطنية والاجتماعية، يبعدني عنهم فكرياً. كما أن تجربتي معهم في الجامعة، وعدم قدرتهم على إجراء حوار أو نقاش، ولجوئهم إلى العنف دائماً، قد ضاعف من اعتراضي على منهجهم. واليوم يجمعنا سور واحد، وتحيط بنا صحراء واحدة، وتحكمنا وتتحكم فينا إدارة واحدة. وعرفت من الزملاء القدامى أن الإخوان وقيادتهم كانوا يرفضون إجراء حوار مشترك، بل إنهم كانوا يعتبرون وجود الشيوعيين في السجن أمراً طارئاً لأن عبد الناصر ـ من وجهة نظرهم ـ كان أخطر شيوعي في المنطقة!

في ذلك الحين، كان عبد الناصر ـ الذي هو كان أخطر شيوعي في المنطقة من وجهة نظر الإخوان المسلمين! ـ يعد للشيوعيين تشريفة تليق بهم. فبعد شهر واحد كانت تصل إلى معتقل المحاريق فرقة التشريفة وعلى رأسها اللواء إسماعيل همت شخصياً، وهو وكيل مصلحة السجون، للترحيب بالمعتقلين الشيوعيين ولتبدأ أفظع عملية تعذيب يقوم بها نظام سياسي لمخالفيه في الرأي!

فمنذ اللحظة الأولى دخل هؤلاء المعتقلون ما أسماه الدكتور فتحي عبد الفتاح: مهرجان الضرب والتعذيب في قلب الصحراء، بعد أن أعد المسرح تماماً لهذا المهرجان بكل عناية، في واد صغير يقع بين تلَّين من الكثبان الرملية تختلط رمالهما الصفراء مع تربة رمادية وتنتشر فيه النباتات الشوكية، الأمر الي أوحى لسجناء الرأي أنهم مساقون إلى مقبرة أعدت لهم كما يحدث لضحايا النازية والفاشية ـ على حد قوله.

وفي هذا المسرح الكئيب ووجه سجناء الرأي بنمطين أنتجتهما مدارس التعذيب والعداء للإنسان ـ على حد قول الدكتور فتحي عبد الفتاح ـ نمط مسعور متعطش للدم بأي شكل وعلى أية صورة، مثله مثل النمر المتوحش.

والنمط الثاني أشبه بالثعلب الذي يجري دائماً حساباته بين رغبته في الفريسة وخوفه من المفترس. وعلى أيدي هذين النمطين تلقى سجناء الرأي الضرب المتواصل بعصي الخيزران والشوم في رواحهم ومجيئهم وهم محملون بمقاطف الرمل بين الكثبان الرملية وهم في خرقهم البالية، وصيحات الجنرال النازي إسماعيل همت تستنهض همم العساكر والضباط لمزيد من الضرب، وهم يقومون بدور الإيقاع الصوتي بعصيهم وكرابيجهم ويرسمون ظلال القسوة والهمجية المطلوبة، وينصحهم باستخدام الكرابيج: ضرب الكرابيج أحسن! عاوز أسمع صراخهم! مفيش رحمة بهم! إضرب زي ما تضرب كلب! فيزيد صفير الكرابيج ووقعها على الأجساد، كما ترتفع ذبذبات العصي وهي لا تكاد تتوف لحظة في أيدي العساكر، ويستمر ذلك طول اليوم.

وفي الصباح يفاجأ المعتلقون بفتح أبواب العنابر، وانهيال العساكر عليهم بالضرب بالقايش والخيزران، بدون أي ذنب ارتكبوه، وإنما لمجرد بقاء الجو ملتهباً، ولبعث التنشيط والحيوية في عملية التعذيب! وتتكرر هذه الغارات كل أسبوع وعشرة أيام، في الوقت الذي ينتقل التنشيط إلى الجبل! فنعود في مثل هذا اليوم وكل منا يحمل آثار احمرار على جسده، أو دماء متفجرة من جبهته ورأسه، أو رجل دامية من ضرب الفلقة، أو ضلع مفقود، او جسد ممزق نتيجة الجلد على العروسة، ناهيك عن لدغ الثعابين والعقارب في وادي العقارب وسجناء الرأي حفاة الأقدام، فإذا تجرأ أحدهم على طلب العمل في الجبل بالأحذية ضرب ضرباً مبرحاً بحجة أنه تجرأ على الطلب: "إزاي تتجرأ يا كلب؟ أنا معنديش مسجون يطلب حاجة"! وتصدر الأوامر بمضاعفة التعذيب والضرب ـ أو على حد قول الدكتور فتحي عبد الفتاح: "زيادة جرعات العمل، وأيضاً جرعات الضرب"!. ويختار قائد المعتقل أحد ضباطه المقربين المغرمين بالتعذيب، لكي يصحبنا كل يوم إلى الجبل ليتعرف بنفسه على الشغل!".

وهكذا دفع سجناء الرأي الثمن غالباً لمجرد طلبهم العمل بالأحذية بدلاً من العمل حفاة الأقدام! على أنه مع مرور الأيام ظهر خطر كبير هدد بإحباط مخطط التعذيب، فقد تكونت بين سجناء الرأي والجلادين من العساكر والضباط علاقة ما أثرت على أدائهم في الضرب والإهانات، خصوصاً بعد ما تبين للجلادين أن الصورة التي رسمها النظام الناصري لسجناء الرأي بأنهم كفرة ملحدون وخونة للوطن وعملاء، لا تتفق مع سلوكهم.

وفي الوقت نفسه، اكتشف الجلادون أن الكثيرين من سجناء الرأي يتمتعون بالقدرة على الإضحاك، على الرغم مما يلحقهم من تعذيب، فأدمنوا الجلوس إلى بعضهم يستمتعون بأحاديثهم، وإن كانت بعض هذه الجلسات تنتهي بمأساة! وهو ما حدث مع الصحفي المعروف محمود السعدني، الذي لعب دور "مضحك الملك" مع الشاويش متى، قائد العمل في غياب القائد، توقياً لشره، حتى أدمن الشاويش متى الجلوس إلى محمود السعدني يستمتع بنكاته وحواديته الساخرة اللاذعة المعروفة، فيجلس الشاويش متى فوق صخرة كالملك، ويقبع الصعدني بجانبه في دور مضحك الملك، وتنطلق ضحكات متى الضخمة، ويعزم على السعدني بسيجارة "وينجز" كاملة.

ويقول الدكتور فتحي عبد الفتاح إنه في يوم من الأيام فوجئ سجناء الرأي بالشاويش متى وهو يجري وراء السعدني يريد أن يبطش به، ويقسم "بأم المخلص" ليحطمن رأسه بالشومة! ودهش الجميع ان تنتهي العلاقة بين مضحك الشاويش متى والشاويش متى إلى هذا المصير الفجائي، وتدخلوا في محاولة لتهدئة الشاويش ومعرفة السبب في هذا الانقلاب والقطيعة التي لم تكن متوقعة بين الشاويش الهائج والصحفي المذعور.

وقد تبينوا أن محمود السعدني لاحظ أن الشاويش متى كان مهموماً حزيناً، فأراد معرفة السبب لكي يسري عنه، وأجاب الشاويش متى:

- أصل الواد إبني أخذ الإعدادية!

ورد السعدني بأسلوبه الساخر: طيب ودي حاجة تزعل يا حضرة الصول؟ ده ابنك يبقى عبقري!

وقال الشاويش متى: أصل اللي مضايقني يا سعدني إن الواد عاوز يكمل تعليمه، والحال زي ما إنت عارف، يدوبك على القد!

وقال السعدني مهوناً: يا راجل واحد عبقري زي ابنك لازم يكمل تعليمه، وأهو التعليم بالمجان، وربنا يساعدك لحد ما ياخد التوجيهية!

ورد الشاويش متى: طيب وبعد التوجيهية، يروح فين؟

وأجاب السعدني: يروح الجامعة يا حضرة الصول!

وقال الشاويش متى مستنكراً: جامعة إيه انت راخر، هو أنا معايا صلدي واحد؟ دا أنا بستلف على ماهيتي قدها مرتين علشان أمشي حالي، تقوم تقوللي يروح الجامعة؟

ورد السعدني في حماس مصطنع: طبعاً لازم يروح الجامعة ولد عبقري زي كده ما تحرموش من إنه يكمل تعليمه، ويروح كلية الطب أو الهندسة أو الحقوق أو الآداب، ويبقى مثقف!

وسأل الشاويش متى مستفهماً: مثقف! يا فرحتي .. طيب وبعد كده؟

ورد السعدني بسخريته القاتلة: ييجي هنا معانا يا شاويش!

وأشار بيده إلى زملائه من سجناء الرأي وهو يقول: أهو كل اللي إنت شايفهم دول جم هنا علشان أصبحوا مثقفين!

ولم يحتمل الشاويش متى هذه السخرية القاتلة، وقام يجري وراء السعدني يريد أن يبطش به!

وقول الدكتور فتحي عبد الفتاح معلقاً: لم يتحمل الشاويش متى سخرية محمود السعدني، فلم يكن الرجل يتصور أن ابنه العزيز العبقري، يأتي إلى هذا المكان ليعامل "كالكلاب" مثلما نعامل! وقام يجري وراء السعدني مقسماً ليحطمن رأسه!





.../....

21- هدية عبد الناصر للمعتقلين في عيد رأس السنة ! (الوفد في 30/12/1996)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى