قصة عبد الناصر والشيوعيين (الجزء الأول) دراسة تاريخية (41 - 48)

تابع - تتمة (41 - 48 )


41- الرحلة الجهنمية من سجن جناح إلى سجن المحـــاريق (الوفد في 26 / 5 / 1997)

عندما صدرت الأوامر إلى سجناء الرأي في سجن "جناح" بالواحات الخارجة بالانتقال إلى سجن "المحاريق"، اصيبوا بخيبة أمل عميقة! ذلك أن سجن جناح كان هو السجن الذي ارتفعت فيه هتافاتهم إلى عنان السماء بحياة عبد الناصر فور سماعهم بإعلانه تأميم شركة قناة السويس، ومنه انطلقت ببرقياتهم التي يعلنون فيها تأييدهم ومساندتهم، كما أنه السجن الذي وصلتهم إليه من عبد الناصر برقية يوجه إليهم فيها الشكر لموقفهم الوطني، ومن ثم فإن منطق الحوادث يقنعهم بأن الإفراج عنهم للمشاركة في النضال الوطني هو مسألة وقت ليس إلا، حتى تتم الإجراءات، وعدا ذلك يعد أمراً غير منطقي. وعلى حد قول مصطفى طيبة: "أن سجن تسجن لأنك تعارض النظام شيء مفهوم، ولكن أن تسجن وأنت تؤيد وتساند النظام النظام، فهو أمر غير مفهوم!

على أن عبد الناصر كان في ذلك الحين ـ كما قال ـ يفهم الأمور بطريقته الخاصة، وهي أن من يملك التأييد يملك المعارضة، ومن يملك المعارضة يلزم التنكيل به، وفي الوقت نفسه فإن الشيوعيين في أثناء العدوان الثلاثي كانوا قد ارتكبوا جريمة لا تغتفر، هي تصديهم للدفاع عن بور سعيد بعد أن تبعثرت القوى العسكرية نتيجة انهيار القيادة المسئولة، الأمر البذي فهمه عبد الناصر على أنه محاولة منهم لإيجاد قواعد لهم بين الجماهير وخلق نفوذ لهم ينافس نفوذه، ولذلك فقد سارع باعتقالهم. وقد علل زكريا محي الدين هذا الموقف بأنه "من الطبيعي إذا اشترك تنظيم سياسي سري في عملية جماهيرية فإنه لا شك سيحاول تقوية صفوفه بتجنيد عناصر جديدة، وخلق نفوذ له بين الجماهير، وأنه من الطبيعي أن تتحرك أجهزة الأمن للتعرف على هذه الاتجاهات.

وقد كان ذلك هو جزاء سنمار! لأن المقاومة الشعبية في بور سعيد كانت هي الوجه المشرف للشعب المصري، بينما لم تؤد القوات المسلحة ـ كما يقول أحمد حمروش ـ واجبها على الوجه الأكمل لظروف متعددة، الأمر الذي أدى إلى إخراج 30 ضابطاً بعد العدوان، وإلى شكوى جمال عبد الناصر من كثرة الخسائر بلا مبرر. والأخطر من ذلك ما حدث خلال معارك بور سعيد من تأثر بعض الضباط من دور الشيوعيين في المقاومة الشعبية، وذبول الحساسية المزروعة في نفوسهم من الدعاية المركزة ضد الشيوعية التي كان يقوم بها نظام عبد الناصر في ذلك الحين.

والمهم هو ما فوجئ به سجناء الرأي في سجن جناح من قرار نقلهم إلى سجن "المحاريق"، بدلا من الإفراج عنهم. وقد كانوا في ذلك الوقت قد توطدت بينهم وبين سجن جناح روابط غريبة من الود، تولدت من الظروف الغريبة التي دفعت بهم إلى ذلك السجن، فلم يكن سجناً في البداية، وإنما كان عبارة عن بقعة نائية في قلب الصحراء ليست معدة أصلاً لاستقبال معتقلين، وليست فيها اية مرافق للحياة، وقد قام سجناء الرأي بأنفسهم ببناء هذا المعتقل، وجهزوه بالمرافق في جو نسبي من الحرية.

لذلك عندما تقرر نقلهم إلى سجن المحاريق شعروا بثقل العقوبة، إذ ستنقلهم من سجن بنوه بأنفسهم وألفوه، إلى سجن مجهول لا يعرفون مصيرهم فيه. ويعبر مصطفى طيبة عن هذا الشعور في مذكراته فيقول:

"تحركت بنا العربات التي تحملنا وأمتعتنا، إلى سجن المحاريق، وظلت عيوننا معلقة بهذا المكان الذي أحببناه، حتى غاب عن أنظارنا، كيف نحب مكاناً سجنا فيه؟ علاقة خاصة جداً كانت تربطنا بهذا المكان الذي كلما بعدنا عنه كلما اشتد حنيننا إليه!

"لماذا لم يتركونا في حتى نخرج من السجن، أحياء أو أمواتاً؟ إلى هذا الحد يكرهون ابتسامة المسجون؟

وتتوالى الكوارث عليهم وهم في رحلتهم الجهنمية من سجن "جناح" إلى سجن "المحاريق". فحرارة الشمس حارقة رغم أن الساعة تجاوزت الساعة الثالثة بعد الظهر، وتحاول العربات أ، تجد طريقها عبر مسالك ملتوية وسط كثبان الصحراء، وتصطدم إحدى العربات بكثبان، وتدور عجلاتها على "الفاضي"، وتتوقف كل العربات لنجدة العربة الغارقة وسط الرمال الناعمة.

وينزل سجناء الرأي من العربات لنجدة العربة في ظروف جوية "مأساوية" : "الرمال ساخنة تلسع أيدينا ونحن نزيحها عن عجلانت العربة، وتلهب سيقاننا الغاطسة فيها حتى الركبتين، وتهب رياح قوية تحمل معها كميات هائلة من رمال الصحراء، وتقذف بها في وجوهنا تلسعها كالسياط، وتكاد تعمي عيوننا، وفجأة نجد أنفسنا وسط دوامة شديدة من رياح الصحراء المحملة برمالها الكثيفة، لتقيم أحد كثبانها. ويرتفع صوت نسمعه بصعوبة: اصعدوا حالاً إلى العربات. ونتلمس طريقنا إلى العربات بصعوبة بالغة.

وعندما تتوقف رياح الدوامة وتتحرك إلى مكان آخر، يكتشف سجناء الرأي أن كل عجلات السيارات التي تحملهم قد غرقت في الرمال الناعمة، فيما عدا سيارة واحدة في المقدمة، ويقول صوت: إن انتقال الدوامة من هذا المكان أنقذنا من موت محقق، كان يمكن أن نرقد تحت الرمال.

ويعود سجناء الرأي إلى إزاحة الرمال الناعمة عن عجلات العربات الغارقة، كي تجد طريقها إلى سجن المحاريق!

ويلتقط مصطفى طيبة المفارقة فيقول: "يا ذوي القلوب السوداء والأكباد الغليظة، بأيدينا نمهد طريقنا إلى السجن دفاعاً عن حياتنا، التي تريدونها أن تنتهي تحت رمال كثبان الصحراء، وبفكرنا ويقيننا وبقوة شعبنا العظيم، وتضامن كل الوطنيين، ستجد مصرنا الغالية طريقها إلى الحرية والديموقراطية والتقدم الاجتماعي. الظلام يزحف يغطي الصحراء الواسعة، وتستأنف السيارات سيرها نحو السجن".

يفاجأ سجناء الرأي عند وصولهم إلى سجن المحاريق بأن نظام عبد الناصر لم يكن قد استكمل بناءه بعد: عنبران تم بناؤهما، والعنبر الثالث لم يرتفع أكثر من أساساته، والعنابر الثلاثة ما زالت في العراء لا يحيط بها سور من الطوب وإنما أسوار شائكة مؤقتاً. ويتساءل سجناء الرأي: لماذا تعجلوا في نقلنا إلى هنا والسجن لم يتم بناؤه بعد؟

ويكتشف سجناء الرأي أن سجن المحاريق الجديد ليس فيه مطبخ ولا طعام! أين عشاؤنا ولم نتناول في سجن جناح وجبة الغداء من العدس أو الفول، ولنا الحق في ثلاثة أرغفة كاملة؟ ولكن سجناء الرأي كانوا قد اكتسبوا خبرة إعداد الطعام من بنائهم سجن "جناح"، وكانوا قد اصطحبوا معهم كميات من العدس والفول والفاصوليا والملوخيا الناشفة. ويتم الاتفاق مع مأمور سجن االمحاريق على قيامهم باستكمال بناء المطبخ وإدارته وكذلك المخبر!

ولكن الوضع في سجن المحاريق كان مختلفاً عنه في سجن جناح، ففي سجن جناح كانت خيام، وهنا في سجن المحاريق زنازين، ومعنى ذلك هو الانتقال من سيء إلى أسوأ! ويصف مصطفى طيبة زنازين سجن المحاريق قائلاً: "طوب جدران الزنزانة البيضاء، وسقفها الأسفلتي، يبخ حرارة الشمس التي امتصها طول النهار، فتلسع وجوهنا والجزء الأعلى من أجسامنا العارية، والعرق يتصبب دون توقف، حتى الهواء الذي يصل إلينا من النافذتين العاليتين، كأنه مر على جهنم قبل أن يأتينا!

وفي تلك الظروف تأتي الأخبار بهجوم عبد الناصر على ثورة العراق وعبد الكريم قاسم والحزب الشيوعي العراقي، ويرى سجناء الرأي في تلك الأخبار نذير سوء، وإرهاصاً بحملة اعتقالات واسعة وتنكيل، ويبدأ سجناء الرأي في إعداد أنفسهم لأسوأ الاحتمالات، ويكتب مصطفى طيبة قائلا:

"منذ دخلنا السجن ونحن نعيش في "دوامة" الاحتمالات، عشنا فيها في سجن مصر، وانتقلت بنا إلى ليمان أبو زعبل، ثم إلى ليمان طره، ثم إلى سجن جناح، وها هي تنتقل بنا إلى سجن المحاريق، ولكنها كانت دوامة ختتلف عن كل الدوامات التي عشاناها في السجون الأخرى، لقد كانت لها سمات خاصة تشترك مع دوامة الصحراء الناعمة".

فبعد الأشهر الأولى من وجود سجناء الرأي في سجن المحاريق، استيقظوا يوم أول أكتوبر عام 1958 على صوت بروجي "اللواء" يدوي عالياً، فقد حضر اللواء إسماعيل همت على رأس حملة كبيرة من الضباط والجنود والكلاب، وطلب مدير السجن من سجناء الرأي لبس يونيفورم السجن، أي الطاقية الزرقاء على الرأس، وبدلة السجن الزرقاء، والأحذية بدون رباط ( كان لبس الأحذية امتياز يتميز به المحكوم عليهم بالأشغال الشاقة عن المعتقلين بأمر عبد الناصر، فالآخرون كانوا يعملون حفاة الأقدام! )

ويقول مصطفى طيبة: "ظلت الزنازين مقفلة علينا حتى قبل الظهر بقليل. وفجأة سمعنا صراخاً عالياً بأنات موجعة، وطلقات رصاص! ثم رأينا دخاناً كثيفاً يهبط علينا من نافذتي الزنزانة العاليتين، لقد كان في فناء السجن حريق هائل! وجاء أحد السجانة ليقول لنا إنه شاهد من باب العنبر اللواء همت يقف وسط مجموعة من الضباط، والإخوان يأتون إليه بين طابورين من الجنود الذين يحملون الكرابيج في أيديهم، وبعد أن يقترب "الأخ" من اللواء همت، يتبادلان كلمات قليلة، وبعدها تنهال عليه الكرابيج من كل جانب حتى يقع مغشياً عليه، فيسحب، ويأتون بغيره، وهكذا.

"وبالقرب منه كان عدد آخر من السجانة يحضرون "المخالي"، التي تحتوي على حاجيات الإخوان التي أحضروها معهم من "جناح"، ويلقون بها في النار.

"هم يريدون تصفية كل القوى الوطنية تنظيمياً وسياسياً، لينفردوا بالحكم والسلطان، فهل يجيء الدور علينا بعد الإخوان؟

"كانت زيارة اللواء إسماعيل همت خاصة لإرهاب الإخوان المسلمين. ولقد سبق لنا أن أرسلنا من سجن "جناح" استنكاراً للمذبحة التي قتلوا فيها 13 أخاً في ليمان طرة، وقررنا أن نكتب للمسئولين مذكرة نستنكر فيها هذا الإرهاب الوحشي للإخوان، والذي يتعارض مع أبسط حقوق الإنسان التي أقرتها المواثيق الدولية.

وسرعان ما صدرت الأوامر بعد حملة همت الإرهابية بأن يطبق على الشيوعيين نفس النظام الي فرض على الإخوان المسلمين، لتأديبهم، وكان نظاماً رهيباً! فعلى حد قول مصطفى طيبة :

"مرت بنا ثلاثة أشهر كانت من أسوأ الأيام التي شهدناها في السجون! الزنازين مغلقة طول النهار، ولا تفتح إلا ربع ساعة فقط في الصباح، واحدة بعد الأخرى، وحرارة شمس أكتوبر ونوفمبر وديسمبر لا تصل إلى أجسامنا التي تصلبت من البرد القارص، كان التفتيش علينا يجري في أي ساعة من ساعات الليل أو النهار، وكان المأمور، الذي أطلقنا عليه اسم "الشواف" لا يتوقف عن حملاته التفتيشية ليلاً ونهاراً.

وقد تدهورت صحتنا إلى حد خطير، حيث كان اعتمادنا الأساسي على غذاء السجن من "السوس المفول"! والعدس، و "الأعشاب" التي تطبخ ويطلقون عليها اسم "خضار"، وقطعة اللحم التي عجزت أسناننا عن مضغها. وذات نهار سقط منا زميلان: نبيل حلمي، ووليم إسحق، من الإعياء، الأول كان مريضاً بالكبد، والثاني مريض بصدره، والإثنان لا يصل إلى أمعائهما طعام يقومان به المرض، ولا يتناولان الأدوية الضرورية".


42- سجناء الرأي وظهورهم الدامية ! (الوفد في 2 / 6 / 1997)

بعد ثلاثة أشهر من الحبس في زنازين مغلقة طول النهار، لا تفتح إلا ربع ساعة فقط في اليوم، وبعد حرمان من آشعة الشمس طوال شهر أكتوبر ونوفمبر وديسمبر، وغذاء يعتمد أساساً على ما أسماه مصطفى طيبة "السوس المفول"، والعدس والأعشاب – لذا فكان من الطبيعي أن يتساقط سجناء الرأي واحداً وراء الآخر، وكان أول من سقط هو نبيل حلمي ووليم اسحق.

وكان على الباقين إنقاذهما عن طريق إخطار السجان بإبلاغ المأمور بحالة السجين، ولكن الأوامر كانت صريحة عنده بعدم الذهاب إليه مهما كانت الأسباب! ولم يجد سجناء الرأي بداً من الطرق على باب الزنزانة بأيديهم وبغطيان الجرادل، وهو ما اعتبره المأمور نوعاً من التمرد، فحضر على رأس عدد كبير من سجانة يحملون العصي والكرابيج، مهدداً بتوقيع عقوبة التمرد في السجن مضافاً إليها الجلد! وعندما أتى الطبيب أخيراً شخص حالة السجينين بأنها "حالة إعياء شديدة يلزمها إسعاف سريع، وأن صحتهما تعرضت للخطر بسبب عدم الحركة، وعدم تعرض أجسامهما للشمس.

ويقول مصطفى طيبة إنه عندما حضر اللواء عبد المنعم موسى وكيل مصلحة السجون، ومعه عدد من الضباط ومدير الإدارة الطبية بمصلحة السجون، وشاهد المعتقلين دلت تعبيرات وجهه على أنه لا يصدق ما يراه! فقد رأى آدميين أقرب إلى الهياكل العظمية، بعضنا يكاد يسقط من الضعف، والصفرة تكسو وجوهنا، ولكن إرادة التحدي كانت تكسب عيوننا بريق الإصرار، ولم يملك إلا الأمر بفتح الزنازين صباحاً وبعد الظهر للذهاب إلى دورة المياه، وتعيين مأمور جديد استدع خصيصاً من سجن أسيوط الذي يضم عتاة المجرمين.

ولكن لا تكاد تمضي أيام قليلة على وصول المأمور الجديد، حتى يكون قد أحال 21 سجيناً من 60 إلى التأديب! ويشرح مصطفى طيبة معنى التأديب، فيقول إنه يعني ألا يكون لدى المسجون سوى بطانية واحدة حتى ولو كان في عز البرد! ولا يأكل سوى ثلاثة أرغفة في اليوم، وغموسهم لا يتعدى الملح الرشيدي الخشن، ويحرم من الفسحة في طابوري الصباح والمساء، ولا تفتح عليه الزنزانة إلا مرة واحدة في الصباح، ولمدة لا تزيد على خمس دقائق للذهاب إلى دورة المياه.

ويقول مصطفى طيبة إنه نظراً لأن سجن المحاريق كان في طور البناء، فلم يكن به زنازين خاصة بالتأديب، ولما كان عدد المحكوم عليهم بالتأديب أكثر من ثلث السجناء موزعين على ست زنازين، فلقد تفتقت قريحة المأمور الجديد عن تخصيص زنزانتين للتأديب، ولكن بعد يومين آخرين قرر تحويل جميع الزنازين إلى زنازين تأديب!

ويقول مصطفى طيبة: "ويمر يومان لا يأكل كل زميل خلالهما سوى ستة أرغفة، وكمية من الملح الخشن (الرشيدي) ولا نخرج للطابور ولا للعمل في مرافق السجن"!

ولكن محنة السجناء لا تنتهي، ففي صباح اليوم الثالث يأتي المأمور ومعه عدد من السجانة والضباط، وينادي على كل من سعد باسيلي، ومحمد جبر، وصلاح هاشم، ويخطرهم بأنه جاءه أمر من مصلحة السجون بجلد كل واحد منهم 18 جلدة!

ويفاجأ الجميع، ويتساءلون عن السبب، وتأتي الإجابة بأنهم اعتدوا على ضابط العنبر! ولم يكن ذلك صحيحاً، بشهادة وكيل مصلحة السجون، ولكن المأمور يصمم على الجلد بحجة أن عدم التنفيذ يترتب عليه مجازاة الضابط لأنه أمر بضرب "بروجي كبسة" تحت وهم اعتداء سجناء الرأي عليه، فإذا تبين أنه لم يحدث اعتداء ولا يحزنون، يتوجب مجازاته لأنه ضرب "البروجي" بدون مبرر!

والغريب أن يقبل سجناء الرأي تنفيذ عقوبة الجلد فيهم، فداء للضابط، وحجتهم: نتحمل من أجل أولاده!

وفي صباح اليوم التالي يقتاد الثلاثة إلى فناء السجن نحو "عروسة الجلد"، ويقف الجلادون وفي أيديهم السياط، وإلى جوارهم منضدة عليها وعاء به زيت، ويقف معهم طبيب السجن الجديد، وضابط! وتبدأ طقوس الجلد بأن يقف الضابط القادم من القاهرة يقرأ الحكم:

"بأمر من اللواء مدير عام مصلحة السجون، يجلد كل من المساجين: سعد باسيلي ومحمد جبر وصلاح هاشم 18 جلدة لاعتدائهم على الملازم أول ( ....... ) ضابط العنبر أثناء تأدية وظيفته، وينفذ الجلد في حوش السجن وأمام كل المساجين".

وبعد إجراء الكشف الطبي يتقدم سعد باسيلي بخطوات ثابتة نحو العروسة، ويصلب نفسه عليها، ويرفض تقييد يديه بعناد، رغم تحذيره من احتمال سقوطه أثناء الجلد، وعندما يسأله المأمور عن سبب الإصرار، يقول له: اكي نثبت لك أننا قادرون على تحمل أي شيء بإرادتنا.

وتنهال السياط على جسد سعد باسيلي دون أن تصدر منه أنة واحدة، ويتبادل ضربه اثنان من الجلادين، وينزل سعد باسيلي من على العروسة، والابتسامة لا تفارق وجهه، وظهره ينزف دماً، ويقول لأحد الضباط: أرجو أن يكون المأمور قد وجد الفرق بيننا وبين مجرمي أسيوط!

ينزل سعد باسيلي ليصعد محمد جبر، وينزل محمد جبر ليصعد صلاح هاشم، ويكتب مصطفى طيبة معلقاً بهذه الكلمات المؤثرة : "أبداً لن تستطيع كل أجهزة إعلامهم النيل من صدق انتمائنا إلى أرض مصرنا الحبيبة، فحبك يا غالية هو هذا الهواء الذي نستنشقه، وهو هذا الهواء الذي نتنشقه، وهو هذا الهواء الذي نشربه، فأنت أنت الحياة، ولا حياة بدونك يا مصر"!

وفي المساء بعد أن أغلقت الزنزانة، وسجناء الرأي يشعون فوط الوجه المبللة على ظهور المجلودين، أخذوا يستمعون إلى خطاب عبد الناصر بمناسبة 23 ديسمبر 1958، الذي شن فيه هجوماً عنيفاً على السوفيت، ورمى فيه الشيوعيين بالعمالة! ويدور حوار داخل الزنزانة، فقد اكتشف سجناء الرأي أن كل ما مر بهم من عناء وعذاب على مدى ست سنوات، إنما كان بمثابة شهر عسل بينهم وبين عبد الناصر!

وقول صوت: انتهى شهر العسل ! ويعقب آخر: وبدأ شهر البصل ! ويرد ثالث: "والبصل راح يصنن" ! ويقول رابع ساخراً: ريحة الصنة واضحة من زمان ! ويعلق خامس قائلاً: إياك يشمو الصنة ! ـ يقصد الشيوعيين خارج السجن الذين كانوا يؤيدون عبد الناصر، ويقول سادس: إياك يفوقوا ! ويرد سابع: بعد الأوان .. إيه الفايدة ؟

وقد كان محقاً، فلم يغن تأييد الشيوعيين خارج السجن لعبد الناصر عن القفز عليهم في فجر أول يناير 1959.

وفي ذلك يقول مصطفى طيبة: "في يوم أول يناير 1959 سمعنا من الإذاعات العالمية في المساء أخبار الاعتقالات. وفي أوائل مارس 1959 وصلت إلينا "طلائع" المعتقلين، وخلال تلك الشهور، كانت أنباء اعتقالات الزملاء تتوالى: عشرات في سجن القلعة، وعشرات في الفيوم، وعشرات في أوردي أبو زعبل، وعشرات في الأقسام المختلفة. وكانت الصحف التي تأتي إلينا ـ بوسائل خاصة ! ـ مليئة بالحملات على الشيوعيين دون تمييز، وعلى الأشقاء في سوريا والعراق.

وذات يوم في أوائل مارس 1959 أخبرنا المأمور أن أكثر من 300 معتقل سيصلون إلى "المحاريق" بعد أيام، وأن عددا منهم سيسكن في الزنازين الخالية في عنبرنا ـ وكنا لا نشغل غير ست فقط ـ والباقين سيسكنون في العنبر الجديد الذي انتهى العمل فيه منذ أيام.

لقد كانت عملية بناء المعتقلات في عهد عبد الناصر تسير جنباً إلى جنب مع عمليات البناء الأخرى، بنفس الهمة والنشاط، وهي سمة من سمات الفاشية.

وقال مأمور السجن: إن عددا من ضباط المصلحة، ومعهم عد من ضباط المباحث، سوف يصلون غداً لإصدار تعليمات بشأن معاملة المعتقلين، وإنهم سوف يشرفون على تسكينهم. وفي صباح ذات يوم من الأيام الأولى لمارس 1959 كان المعتقلون قد وصلوا، وقبلها أغلقت الزنازين على المسجونين القدامي، وسمعنا أصوات أقدام كثيرة تدخل العنبر، وبذلنا جهداً لنرى أحداً مما نعرفهم، وجاء وليم اسحق بمرآة، ورأينا أجساماً كثيرة تدخل العنبر، وصاح وليم اسحق "جئتو يا طلاينة؟ وبمقدمتهم ـ كما يقول مصطفى طيبة ـ "تنتهي فترة من حياتنا في السجون: سجون مصر الملكية، ومصر الجمهورية، ومصر العربية المتحدة، وتبدأ فترة جديدة.

فلقد انقسم معتقل المحاريق إلى قسمين: قسم المسجونين الرسميين المحكوم عليهم بالأشغال الشاقة، وقسم المعتقلين بأمر عبد الناصر. وكان المحكوم عليهم بالأشغال الشاقة أسعد حظاً من المعتقلين بأمر عبد الناصر، فقد كانوا يخضعون للوائح مصلحة السجون، ولكن المعتقلين بأمر عبد الناصر كانوا يخضعون لأمر الزعيم الفاشي وحده لا شريك له فيه، ولا يحكمهم أي عرف أو قانون أو دين.

وعلى سبيل المثال فقد كان دخل المحكوم عليهم بالأشغال الشاقة 25 مليماً في الأسبوع، لسد احتياجاته من بعض الغذاء الإضافي والسجاير. وكان هذا المبلغ يقسم السجناء إلى مجموعتين: مجموعة السجاير، ومجموعة الحلاوة الطحينية، وكاناو يطلقون على المجموعة اسم "كميونة" ! ( على اسم "كميونة باريس" الشهيرة ) فكميونة السجاير، وتتكون من عشرة سجناء، تكفيها المليمات لتدبير ثلث سيجارة كل يوم، فيجتمع كل ثلاثة في كميونة في الصباح، يدخنون ثلث سيجارة معاً، وأخرى بعد الظهر، والثالثة بعد العشاء. وكميونة الحلاوة الطحينية تكفيها المليمات لشراء ربع كيلو حلاوة لكل عشرة زملاء، ومنهم صلاح هاشم الذي كان يفضل ملعقة حلاوة طحينية كل أسبوع عن نصف سيجارة!

وسوف نرى أن هذه الميزات العظيمة لم يكن يتمتع بها المعتقلون بقرار جمهوري! والمهم هو أنه بوصول هؤلاء مالعتقلين تغيرت تركيبة سجناء الرأي، فلقد كان السجن يضم ثلاثة عنابر، في كل عنبر عشرون زنزانة، وكان سجناء الرأي من دفعة (1952 ـ 1954) يشغلون ربع عنبر ( 2 )، ويعيش المعتقلون من دفعتي مارس ويونيو 1959 معهم في نفس العنبر، أما عنبر رقم ( 1 ) فقد وضع فيه المعتقلون من دفعة أكتوبر عام 1959، ثم ضم إليهم بعد ذلك المعتقلون الذين كانوا مع مصطفى طيبة في عنبر ( 2 ).

وفي اليوم الذي وصلت فيه دفعة أكتوبر 1959 من المعتقلين إلى سجن المحاريق، صدرت تعليمات مهمة حملها خصيصاً وكيل مصلحة السجون وأحد ضباط المباحث العامة، تحذر المسجونين القدامى من التعامل مع المعتقلين الجدد! ويتساءل المسجونون في دهشة عن السبب؟ ويوضح ضابط المباحث العامة الأمر صارخاً: المعتقلون تبعنا! ويكمل اللواء وكيل مصلحة السجون كلام ضابط المباحث، فيقول: والمساجين تبعنا إحنا، ويوضح المأمور الفرق في اقتضاب فيقول: طبعاً معاملة المسجون غير معاملة المعتقل!

وعندما يقفل باب الزنزانة على المسجونين يكونون قد أدركوا أن نظام عبد الناصر يدبر أمراً ضد المعتقلين الجدد! ولا يلبث مأمور السجن أن يوضح هذا الأمر، فيقول إن معاملة المعتقلين ستكون على النحو الآتي:

"إغلاق الزنازين عليهم طوال النهار، فيما عدا نصف ساعة في الصباح ونصف ساعة بعد الظهر، ويلبس ملابس المسجونين تحت التحقيق (البيضاء)، ويخلعون أحذيتهم، ولا يسمح لهم بشراء شيء من الكانتين، وزيارتهم ممنوعة تماماً، وغير مسموح لهم باستلام خطابات من أهاليهم، أو إرسال خطابات إليهم!

ويصمت لحظة ويقول: وفي انتظار أوامر أخرى !

ويتساءل مصطفى طيبة وزملاؤه في دهشة وغضب:

- أكثر من كدة إيه ؟

ولقد كانوا متفائلين! فقد كان المعتقلون الجدد من سجناء الرأي في ذلك الحين على أعتاب أكبر عملية تعذيب وحشية وجماعية، وأطولها في تاريخ مصر الملئ بالحزن والاستبداد. لقد كان عبد الناصر يجهز زبانيته ووحوشه ليرتكبوا أشنع جريمة في تاريخ ثورة يوليو "المجيدة" !


43- مذكرات سعد زهران عن نظام التعذيب في الأوردي ! (الوفد في 9 / 6 / 1997)

جميع النظم السياسية التي عرفها التاريع سعت إلى التخلص من المعارضين، إما بإبعادهم ونفيهم إلى خارج البلاد، أو باعتقالهم اكتفاء لشرهم، ولكن نظاماً واحداً هو الذي قام بتعذيبهم لمجرد المعارضة في الرأي، وهو النظام النازي. وهذا هو ما دعانا إلى وصف نظام عبد الناصر بأنه نظام نازي ( فاشي ).

وقد كان هذا الوصف منا لنظام عبد الناصر فيه مجاملة شديدة، حتى لا نغضب الناصريين السعدونيين. ( نسبة إلى مسرحية سعدون المجنون التي كتبها لينين الرملي ) فلم يكن الشيوعيون خصوماً لنظام عبد الناصر، وإنما كانوا أكبر أنصاره في مصر، ولم يكونوا يخفون ذلك، بل كانوا يعلنونه في كل مكان، حتى اقترن النظام الناصري باسمهم ! ولم يحدث أبداً في طول تاريخ العصر الناصري وعرضه أن قامت مؤامرة شيوعية لقلب نظام الحكم، لقد كانت المؤامرات لقلب نظام الحكم قوم بها الإخوان المسلمون فقط، نظراً لاعتمادهم على تنظيم سري مسلح، ولقدرتهم على جلب الأسلحة من الخارج ومن الداخل، ولكن الشيوعيين كانوا مجرد خصوم رأي، مهما اشتد فإنه لا يصل أبداً إلى درجة التناقض! بل لعلهم كانوا مبهورين بخطب عبد الناصر العنترية ضد الإمبريالية والاستعمار أكثر من أي فريق آخر ! وقد رأينا كيف خرجوا في مظاهرة في سجن جناح عند سماعهم عبد الناصر يعلن تأميم شركة قناة السويس، يهتفون باسمه، ويرسلون برقيات التأييد والمساندة، وهم مكبلون بالأغلال ! وقام الشيوعيون في خارج السجون بالتصدي للدفاع عن بور سعيد عندما تبعثرت القوات العسكرية المصرية نتيجة انهيار القيادة المسئولة.

وقد كافأ عبد الناصر المسجونين في سجن جناح، الذي كانوا يتمتعون فيه بقدر من الحرية بسبب طبيعة السجن التي كانت تجعله أقرب إلى المعسكر، بنقلهم إلى سجن المحاريق ! وهو الذي كان عبد الناصر يبنيه لهم خصيصاً في قلب الواحات الخارجة، وكان ما يزال في طور الإنشاء والبناء. وفي أول يناير 1959 كان يقوم بحملته الهتلرية على الشيوعيين في جميع أنحاء مصر، ليقذف بهم إلى سجن المحاريق وهو الذي كان عبد الناصر يبنيه خصيصاً لهم في قلب الواحات الخارجة، ليس بسبب اكتشافه مؤامرة دبروها لقلب نظام الحكم، وإنما لمجرد أنهم اعترضوا على الشكل الدكتاتوري للوحدة بين مصر وسوريا الذي ألغى الأحزاب السورية التي أبرمت مع عبد الناصر الوحدة!

وعلى هذا النحو أصبح في سجن المحاريق فريقان من سجناء الرأي: الفريق الأول هم المسجونون المحكوم عليهم بالأشغال الشاقة، والفريق الثاني هم المعتقلون بقرار جمهوري من عبد الناصر، وكان المحكوم عليهم بالأشغال الشاقة يخضعون للوائح مصلحة السجون، أما المعتقلون بأمر عبد الناصر فكانوا يخضعون لشريعة الغاب ! ولدينا في هذا الصدد وثيقة مهمة بخط اليد، هي المذكرات التي كتبها سعد زهران، الصحفي والكاتب والمفكر، ننشرها هنا لأول مرة، تصف بدقة وبالتفصيل التجربة الجهنمية التي تعرض لها هؤلاء المعتقلون بأمر عبد الناصر في أوردي أبو زعبل. وهي تفضح الشكل الفاشستي للنظام الناصري أكثر من أي شيء آخر. والوثيقة بعنوان: "ماذا حدث في أوردي ليمان أبو زعبل بدءاً من 7 نوفمبر 1959 حتى أواخر يونيو 1960؟" وتمضي على الحو الآتي:

تعرض جميع نزلاء الأوردي ـ الذين لم يكن قد صدر بعد أي حكم قضائي في حق أي واحد منهم ـ تعرضوا لأشكال من التعذيب الجماعي: البدني، والمعنوي.

"كان ثمة نظام تعذيب صارم، يغطي أربعاً وعشرين ساعة كل يوم، يطبق ـ دون رحمة ـ من جانب قوة الأوردي، المشكلة من حوالي عشرين شخصاً، بين سجان وضابط وصول وطبيب وتمورجي، على رأسهم مأمور معروف بمغالاته الشديدة في القسوة.

وفيما يلي تلخيص لذلك البرنامج اليومي :

" تفتيش الصباح " :

"مع الشروق، أو بعده بقليل، أي حوالي السادسة صباحاً وبدعوى تفتيش عنابر الأوردي الستة ( في كل عنبر حوالي ستين نزيلاً ) تقتحم قوة الأوردي العنابر واحداً بعد آخر. وإذ هم يقتحمون العنبر يصيحون بأعلى الأصوات وأقذع السباب، بينما ينهالون على النزلاء ضرباً بالشوم ( جمع شومة ) والزخم ( جمع زخمة ) وهي عصا غليظة قصيرة، لا يزيد طولها على خمسين سم، فيها "قايش"، أي حزام جلدي قاس وغليظ.

"ويبدأ التفتيش أثناء عملية الضرب ـ التي لا تتوقف ـ بـ "فركشة" النظام، ( والنظام هو الفرش: الأبراش والبطاطين ) ودهسها بأحذية العساكر والضباط.

"ويؤمر النزلاء بالوقوف، كل في المكان المخصص لنومه، ووجهه للحائط، ثم يؤمرون بالانحناء في وضع الركوع، مع حل "دكة" البنطلون واللباس، وسندهما باليد اليمنى.

"ويدور السجانة والضباط والصولات على النزلاء وهم في هذا الوضع المهين، وهم ينهالون عليهم ضرباً بالشوم والزخم !

ثم إمعاناً في المهانة، يؤمر النزلاء بالدوران، وهم راكعون وسراويلهم محلولة، يدورون في أماكنهم، بينما صيحات الاستهزاء تتعالى من حناجر العساكر والضباط قائلة: "دور زي النحلة! دور زي الفريرة" يا بن الـ ... ! "كل هذا والشوم والزخم لا تتوقف عن العمل، وبوتيرة تتزايد قسوة وسرعة، مع تصاعد الجو الهستيري السادي الطافح في المكان. وغالباً ما كانوا لا يتوقفون إلا بعد أن ينهار أكثر من واحد من نزلاء العنبر، ويتكومون على الأرض ( مع ملاحظة أن نصيب من ينهار من الضرب يتضاعف) !

"ثم تغادر قوة الأوردي العنبر إلى عنبر آخر، لتكرار نفس العملية، تاركة النزلاء وهم في حالة مريعة من الإنهاك والرهبة والمهانة.

"ولكن النزلاء يعرفون أنه ليس أمامهم إلا وقت قليل لإعادة ترتيب "النظام"، وربط السراويل والألبسة، وتجميع شتات المعنويات المطحونة. فالبرنامج طويل. وهكذا يبدأ نهار الأوردي.

طابور الهتاف :

"بعد انتهاء تفتيش العنابر الستة، تحل لحظة صمت ثقيلة، يقتحم بعدها العساكر العنابر كلها في نفس الوقت، صارخين: " طابور الهتاف "!

"يندفع النزلاء خارج العنابر، عدواً ـ دائماً عدواً ! ودائماً الرؤوس منكسة إلى الأرض ! ودائما هذا العدو مصحوب بصراخ النزلاء: شمال يمين، شمال يمين، بينما الشوم والزخم لا تتوقف ثانية واحدة عن الانهيال على الأكتاف والأعناق والظهور، حتى يصل نزلاء كل عنبر إلى مكانهم المحدد في فناء الأوردي، ويظل جميع النزلاء يقفزون في أماكنهم، وهم يصرخون: شمال يمين، شمال يمين، شمال يمين، ـ إلى أن تتوارى الصفوف والخطوط، ويضبط الجميع الحذا، وكل شاويش يتولى مع مساعد أو أكثر، أمر تنظيم عنبره بالضرب المكثف العنيف ! إلى أن يتقدم الصول ويصيح: كله ثابت محله ! فيتوقف الجميع في أماكنهم في نسق محكم، يشكل ثلاثة أضلاع المربع ـ نزلاء كل عنبرين مصفوفين في ثلاثة صفوف يشكلون ضلعاً واحداً من أضلاع هذا المربع الناقص.

"ثم يتقدم المأمور في خطى عسكرية، ليقف في منتصف ضلع المربع الناقص، ويستعرض الطوابير الساكتة الثابتة، ثم يشير إشارة فيهتف الصول: تحيا جمهورية مصر العربية المتحدة ! ثم: "يعيش الرئيس جمال عبد الناصر" كل هتاف ثلاث مرات متتالية، والنزلاء يددون الهتاف وراءه في كل مرة، بينما المأمور والضباط يرصدون بعيون مفتوحة درجة إسهام النزلاء في الهتاف بحياة الرئيس !

"ثم يساق النزلاء ـ دائماً بالخطوة السريعة ـ مع الصياح: شمال يمين، والشوم والزخم تنهال دائماً على الأبدان ! ويعودون جرياً إلى العنابر ـ مع ملاحظة أن نصيباً أوفى من الضرب من لوحظ عليه أي تراخ في الهتاف بحياة الرئيس جمال عبد الناصر!.

طابور الرياضة :

"طابور الرياضة طابور أسبوعي، بمعنى أن كل عنبر من العنابر الستة لا يصيبه هذا الطابور إلا مرة واحدة في أيام الأسبوع ( يوم واحد لكل عنبر ) فالجمعة عطلة، ربما لأن الذين خططوا برنامج التعذيب رأوا أنه من الصعب على البشر، حتى في معسكرات التعذيب ـ أن يتحملوا مثل هذا الطابور أكثر من مرة واحدة كل أسبوع !

"يساق نزلاء العنبر الذي عليه الدور إلى فناء السجن في حوالي السابعة صباحاً، حيث يكرهون دائماً ـ بفعل الشوم والزخم ـ على الجري السريع، والدوران حول الفناء مرات عديدة، إلى أن تنقطع أنفاسهم.

"ثم يجبرون على عمل تمرينات عجيبة، لا تمت إلى الرياضة بسبب، إنما المقصود بها الإهانة، والتعذيب، والتنكيل، والمسخرة !"ومن أمثلة ذلك ما كانوا يسمونه " التمرين الثالث "، " تمرين الضغط "، حيث يتمدد الشخص ووجهه إلى أسفل، مستنداً إلى الكتفين ومشطي القدمين، ويعلو بصرده ثم يهبط بمد الذراعين ثم ثنيهما.

"وتحت وقع الشوم والزخم يتكرر الضغط: المد والثني، مرات عديدة تفوق القدرة البشرية ! إلى أن ينال الإنهاك من البعض، فيتمدد شبه مغشي عليه ووجهه في التراب !

"وعندئذ يتقدم المأمور وضباطه، ليدوسوا بأقدامهم على الأجساد المنكفشة على التراب ! فيتبعهم العساكر، وقد نال منهم الحماس، واستبدت بهم النشوة، يدوسون، ويقفزون بأحذيتهم على الأجساد البشرية الممددة ! وهم يضجون بالبذاءا المنتقاة من الحضيض !

"وبعد ساعة تقريباً من هذا التعذيب المروع، والمهانة البالغة، يصدر الأمر من الصول: الزحف تقدم ! وذلك هو المنظر الختامي في ذلك التعذيب الرياضي، وفيه يكن النزيل في وضع القرفصاء، ويداه معقودتان على خصريه، ويؤمر بالسير هكذا وصولاً إلى العنبر !

"وطبعا هذا وضع تصعب فيه الحركة، ولكن الشوم والزخم تتكفل بجعل المستحيل ممكناً ! إنما المؤسف بصفة خاصة، كان حال كبار السن أو ضعاف البنية، أو من ألم به مرض أو أصيب بجرح في قدمه، فهؤلاء حركتهم أبطأ ومعاناتهم مضاعفة أضعافاً عديدة!".


44- فلسفة تعذيب المعوقين ! (الوفد في 16 / 6 / 1997)

في مقالنا السابق بدأنا في عرض نظام التعذيب في أوردي ليمان أبو زعبل، من واقع مذكرات سجين سياسي ـ هو سعد زهران ـ عاش التجربة المروعة التي أعدها عبد الناصر لسجناء الرأي من الشيوعيين، انتقاماً منهم لمجرد خلافهم في الرأي معه حول الوحدة المصرية السورية، عندما مد نظامه الدكتاتوري الذي كان يفرضه على مصر إلى الشعب السوري، وقام بتصفية وضرب الأحزاب السورية التي سعت إلى الوحدة مع مصر، وجازاها على ذلك جزاء سنمار، في الوقت الذي كان يرسل المشير عبد الحكيم عامر نائباص عنه ليحكم سوريا بنفس الطريقة التي كان يحكم بها مصر. فعندما اختلف الشيوعيون مع عبد الناصر حول قضية الديموقراطية، قام في أول يناير 1959 بحملة واسعة النطاق اعتقلت جميع الشيوعيين، في الوقت الذي كان زبانيته يعدون لهم نظام تعذيب حافل لم تعرفه النظم النازية والفاشية.

ففي مقالنا السابق حدثنا سعد زهران صاحب هذه المذكرات، عن بعض بنود هذا النظام الجهنمي، وقد بدأ بالبرنامج اليومي، وأوله ما عرف باسم "تفتيش الصباح"، ثم طابور الهتاف"، ثم ما عرف باسم "طابور الرياضة" الذي ذكر أنه كان طابوراً اسبوعياً لا يومياً، نظراً لأن الذين خططوا برنامج التعذيب رأوا أنه من الصعب على البشر، حتى في معسكرات التعذيب، أن يتحملوا هذا الطابور أكثر من مرة واحدة في الأسبوع.

وقد ذكر سعد زهران أن الهدف من هذا الطابور لم يكن الرياضة، وإنما كان المقصود هو الإهانة والتعذيب والتنكيل والمسخرة ! وضرب المثل بما كانوا يسمونه "التمرين الثالث"، أو "تمرين الضغط" الذي كان ينتخي بسقوط سجناء الرأي مغشياً عليهم ووجوههم في التراب، ليدوس عليهم المأمور والضباط بأحذيتهم، ويتلوهم العساكر فيتناوبون القفز على أجسادهم بأحذيتهم، وهم يضجون بالبذاءات المنتقاة من الحضيض ! ثم يتلو ذلك صدور الأمر لسجناء الرأي بالزحف في وضع القرفصاء مع عقد اليدين على الخصرين، فإذا عجز البعض عن مواصلة الزحف على هذا النحو حتى العنبر، تكفلت ضربات الشوم والزخم بحملهم على مواصلة الزحف خصوصاً مع الضعفاء وكبار السن.

ويمضي سعد زهران فيقول: إن المبالغة في القسوة والفظاظة تجاه كبار السن وضعاف البنية لم تكن مجرد نزوة، وإنما كانت ـ على حد قوله ـ وراءها فلسفة خاصة، استلهمها مخططو برنامج التعذيب ومنفذوه، تتلخص في أن مثل هذه المعاملة تحول دون التصنع ! ـ أي تجعل أي واحد من النزلاء تحدثه نفسه بمحاولة تصنع المرض أو الضعف يحجم عن ذلك. لأنه يرى أن ذلك سيؤدي إلى مضاعفة نصيبه من التعذيب، ولا يؤدي إلى التخفيف عنه !

ومن أمثلة هذه المعاملة المبالغ في قسوتها ـ كما يقول ـ أنه إذا كان النزيل مصاباً بشلل أطفال، أو ببتر في أحد أطرافه، ومن ثم لا يستطيع المشاركة في طابور الرياضة، فإنه يؤمر بالركوع على ركبته ( أو ركبتيه ) ووجهه إلى الحائط، ورأسه منكس، وذلك في مكان رشت أرضه بكمية الحصى البازلتي الذي يقترب من الزجاج المكسور في حدته ! وإذا كان الجو بارداً، يوضع في مكان لا تصله الشمس، أرضه مبللة ! وإذا كان الجو صيفياً قائظاً، يوضع في مكان مشمس قائظ، مع أمره بتنحية الطاقية !

طابور العمل :

"بعد طابور الرياضة ببضع دقائق، يقتحم كل شاويش عنبره صائحاً: العمل !

"فيندفع النزلاء خارج عنابرهم عدواً ـ دائماً عدوا، ودائما يرددون : شمال يمين ! ودائما تحت ضربات الشوم والزخم ! ـ ليتكوموا بعد قليل في الفناء، وهم في وضع القرفصاء، مصفوفين في نظام محكم !

"وكل شاويش يُعد النزلاء الذاهبين في عهدته للعمل في الجبل ـ أي في تكسير البازلت وغيره من الأعمال الترابية في جبل أبو زعبل !

"ولن أستطرد في وصف برنامج التعذيب في الجبل، وهو برنامج كان يستمر بين أربع وخمس ساعات، ذلك أن حالتي الجسمانية لم تكن تسمح بتشغيلي في الجبل، ومن لم تكن حالته تسمح، يسمى في لغتهم: "الدرجات" ! وهذ ما سأعني بالحديث عنه في الفقرة التالية !

نظام عمل " الدرجات "

"الدرجات" ـ كما أشرنا ـ هو اسم يطلق على الذين لم تكن حالتهم الجسمانية، أو الصحية، تسمح لهم بالعمل في تكسير البازلت وغيره من الأعمال الترابية في جبل أبو زعبل ـ مثل: المصابون بشلل الأطفال،والمصابون ببتر في أحد أطرافهم، والمصدورون، والمصابون بحالات بينة من الهزال أو الضعف الشديد، والطاعنون في السن.

والمفروض ان العمل الذي يكلف به "الدرجات" أي مسجونو نظام "الدرجات" يكون أخف وأقل مشقة، ولكنه كان في الواقع أشد قسوة، وأكثر مهانة !

"وذلك ـ كما سبق أن ذكرنا ـ أمر مقصود، لكي لا يعمد أحد من النزلاء القادرين إلى تصنع المرض، أو إدعاء الضعف.

"وهذا ما كان يحدث بالفعل، فقد كان النزلاء الذين يعملون في الأشغال الشاقة، يتحملون الأهوال في الجبل، ويفضلونه عىل العمل في الأوردي مع "الدرجات" !

"وفي الأوردي كان مسجونو "الدرجات" يقومون بأعمال "التنظيف" والغسيل "الترميم"، ولكنها ألفاظ بريئة لا تدل على حقيقة ما كان يجري !

"لقد كان مسجونو "الدرجات" ( وعددهم 14 سجيناً ) يساقون للعمل سوقاً بواسطة شاويش خاص، يختار من بين أشهد قسوة وغلظة، لكي يعتمد عليه في تطبيق مبدأ معاملة المعطوبين وذويالعاهات، والمسنين، بقسوة أشد من معاملة الأصحاء والقادرين.

"وكم كان مثيراً حقاً منظر طابورهم الصغير ـ وبعضهم يزحف على الأرض زحف العاجزين عن المشي ـ يكنسون ويمسحون، ويحملون القمامة وجرادل الماء والنفايات البشرية. ووراءهم ذلك الشاويش بشومته المهولة، يهوي بها على أكتافهم وظهورهم ورقابهم، أو ينهال صفعاً على وجه أي واحد منهم متى شاء، أو يدوس عليه بقدمه، أو يركله بحذائه.

"كان مسجونو الدرجات إمعانا في التنكيل والبهدلة، يكلفون بكنس فناء السجن، والممرات التي تفصل بين العنابر ـ ومجموع مساحتها لا يقل عن فدان ! ـ مستخدمين الأكف العارية ! وفي أول عهدهم بالعمل، طلب أحدهم "مكنسة" ، فما كان من شاويش "الدرجات" إلا أن لعن أباه وأمه، وقذفه بأقذع السباب، وانهال عليه ضرباً ولطماً ولكماً حتى تكوم ! فعرف مسجونو الدرجات أنه لا مكانس، وإنما الكنس بالأكف العارية !

"وكان من تقاليد منفذي برنامج التعذيب في الأوردي ـ إذا لم تكن ثمة تعليمات واضحة معلنة سلفاً ـ أن النزلاء إذا طلبوا شيئاً، أو سلكوا سلوكاً معينا، كانوا يضربون ضرباً مروعاً فوق العادة ! فيعرفوا أن هذا أو ذاك غير مسموح به ـ أو "مش مصروف لك يا مسجون" ـ في لغة الأوردي !

"ومن ثم كان النزلاء يهتدون إلى قواعد الحياة "الأوردوية" من خلال التجربة أي الوقوع تحت جرعات مضاعفة من الضرب، ثم التجربة مرة أخرى، فالضرب المضاعف مرة أخرى ... وهكذا .. وصولاً إلى المطلوب!".

"ومن بين عمليات النظافة، كان تنظيف الاسبتالية ( أي مستشفى الأوردي ) أكثر ما تكون مشقة ! كانت الاسبتالية مكاناً كئيباً جداً: حجرى كبيرة نوعاً ( حوالي 5 × 8 متر ) بلاطها من الحجر البازلتي الأسود شديد القساوة والوعورة، عالية الجدران ( أكثر من أربعة أمتار )، وشبابيكها المسيجة بقضبان غليظة، تقترب من السقف، ولا تبدد من الظلمة المتكاثفة، إلا قليلاً.

"ولكن هذه أمور يمكن أن تكون محتملة !

"إنما الأمر غير المحتمل حقاً، كان هو حال المرضى ـ أي حال الزملاء ال ين يرميهم سوء الطالع في هذا المكان ! "فطبيب الأوردي، وهو لا يختلف كثيراً عن شاويش الدرجات إلا في الملبس وفي أنه لا يحمل في يده شومة ـ هذا الطبيب لم يكن يكتب كلمة "ملاحظة" ( أي وضع النزيل تحت الملاحظة الطبية في المستشفى )، إلا بعد أن يكون النزيل قد قارب على الموت !

"وغالباً ما كان المأمور يأمر العساكر بإجراء "اختبارات تصنع" ! لكي يتأكد ـ على حد قوله ـ من أن الولد ده ما بيدلعش، وما بيدعيش المرض !

"وغني عن الذكر أن "اختبارات التصنع" هذه، لم تكن إلا: كميات مهولة من الضرب بالشوم والزخم، والركل بالأحذية، والدوس بالأقدام ولا ينجح النزيل في هذه الاختبارات إلا إذا كان عاجزاً عن أن تبدر منه أية ردود فعل، أي أن يكون ـ باختصار ـ بينه وبين الموت شعرة !

"وكان المرضى يوضعون، وهم في حالة لا توصف من المرض والوهن والضعف، تحت رعاية شاويش الاسبتالية، وهو أشد الجميع ضراوة وقسوة وبذاة لسان !

"ولنا بعد ذلك أن نتصور حال الاسبتالية من كآبة وقذارة ! وكان مسح أرضية الاسبتالية، وحمل جرادل البول والنفايات البشرية ذات الروائح المريعة ـ كان ذلك ذلك من المهمات الفظيعة التي تصيب مسجوني "الدرجات بجرعات إضافية من الغثيان !

"بعد ذلك ينتقل مسجون "الدرجات" ( أي مسجونو نظام الدرجات ) لتنظيف الحمام، وإعداده لاستقبال نزلاء العنبر الذي عليه الدور في الحمام في اليوم السابق: لكل نزيل سروال، وجاكتة، ولباس وقميص داخلي وطاقية ( المجموع أكثر من ثلاثمائة قطعة ! أي بمتوسط أكثر من عشرين قطعة غسيل للشخص الواحد من "الدرجات" )!

"وكان الغسيل يتم في أحواض مرتفعة نسبياً، وهو ما يتطلب الوقوف أكثر من ساعتين متتاليتين !

"ولنا أن نتصور العبء الجسدي الذي يتحمله البعض، خاصة المصابين بشلل أطفال أو ببتر الساق !

"وكانت تفاصيل عملية الغسيل الأخرى مصممة ـ شأنها شأن كل ما يحدث في الأوردي ! ـ لكي تتضمن جرعات مستمرة من العذاب والتعذيب !

"ومن بينها ـ على سبيل المثال ـ أن الماء الذي ينصب من الحنفيات في أحواض الغسيل، يأتي في حالة تقرب من الغليان ! ولم يكن شاويش الدرجات يقتنع بالانتظار قليلاً حتى تهبط درجة حرارة الماء قليلاً وتصبح في حدود الاحتمال. فوفقاً لتعليمات المأمور المشددة، كان "ممنوع الدلع" ! والمقصود بالدلع أن يتوقف أي واحد من العيال ولاد الـ .. دول" عن العمل لحظة واحدة، وعندئذ كانت "الشومة" لا تتوقف عن أن تنهال على الأكتاف والظهور والرقاب ! مع كل السباب المتصور، لإقناع ولاد الـ .... أن استخدام الأيدي العارية للغسيل بالماء القريب من درجة الغليان، أمر ممكن !


45- فن إهدار آدمية المعوقيــن ! (الوفد في 23 / 6 / 1997)

في مقالنا السابق عن تعذيب المعوقين في ليمان أوردي أبو زعبل، رأينا أن هذا التعذيب لم يكن عشوائياً، وإنما كانت وراءه فلسفة جهنمية تستهدف منع تصنع المرض من جانب سجناء الرأي للهرب من التعذيب، وذلك عن طريق مضاعفة تعذيب المعوقين، الذين لا تسمح حالتهم الجسمانية أو الصحية بالعمل في الجبل، مثل: المصابون بشلل الأطفال، أو ببتر أحد أطرافهم، أو الضعفاء والطاعنون في السن.

فنظام عبد الناصر في شراسته ضد مخالفيه في الرأي ـ حتى ولو لم يرفعوا السلاح ضده ـ لم يكن يفرق بين صاحب رأي سليم الجسد وصاحب رأي مبتور القدم أو مصاب بشلل أطفال، أو مصدور ـ فالكل يقذف بهم في الجحيم، والكل يدفعون ثمن مخالفتهم عبد الناصرفي الرأي، والضعفاء يدفعون قبل الأقوياء !

وكل ذلك يتم وفق نظام تعذيب محكم، وفي إطار فلسفة شيطانية لا تدع صغيرة ولا كبيرة إلا وحسبت حسابها بما يضاعف الألم والعذاب على سجناء الرأي، وهو ما عرفنا بعضه في مقالنا السابق فيما يختص بتعذيب المعوقين، ونواصل عرضه في هذا المقال من واقع مذكرات سعد زهران.

لقد عرض لنا صاحب المذكرات كيف اتخذ زبانية الأوردي من عملية غسيل ملابس سجناء الرأي وسيلة لمضاعفة العذاب، فكان الغسيل يتم في أحواض غسيل ينصب فيها الماء من الحنفيات في حالة تقترب من الغليان ! فإذا توقف أحد المعوقين عن العمل لحظة واحدة، انهالت عليه الشومة على كتفه وظهره ورقبته، مع السباب اللام، لإقناع السجين بأن الغسيل في درجة الغليان أمر ممكن !

ومن التفاصيل الأخرى في عملية الغسيل ـ كما يقول سعد زهران ـ أن الصابون كان سائلاً، وذلك ـ على حد تعبير المأمور ـ لكي لا يسرقه "العيال ولاد الـ ... دول"!.

"ولا مجال لوصف الصابون السائل هنا، ولكن المؤكد أن الغسيل كعملية مقصود بها تنظيف ملابس النزلاء، كان آخر ما يعني بالتفكير فيه مخططو برامج التعذيب.

وباختصار، كانت عملية الغسيل في جملتها عملية "ظروطة" ! ولكن لما كانت كمية القذارة في الملابس مهولة، بسبب غبار العمل في الجبل الممزوج والمعجون بالعرق، والدماء المتجمدة على الملابس نتيجة الجروب الناتجة عن إصابات العمل أو الضرب بالشوم، وإفرازات الدسنتاريا، والبواسير، والطفيليات المعوية وغيرها من الأمراض الوبائية المتوطنة في مثل هذه الظروف ـ فمن هنا فإن نتيجة عملية الغسيل كانت لا تسر، هذا فضلاً عن أنها كانت تثير الغثيان، ليس فقط أثناء الغسيل ونشر الغسيل، وغنما أيضاص أثناء العمل في "الترميم" ! ـ كما سيرد وصفه بعد قليل.

وبعد هذا الغسيل يحمل كل واحد من "الدرجات" ـ وهو الاسم الذي يطلق على المعوقين ـ نصيبه من الملابس المبلولة على ذراعيه وكتفيهن ويتوجه الجميع إلى المنشر، حيث يقومن بجمع غسيل اليوم السابق، الذي لا يكون غالباً قد تم جفافه بعد، لضيق المكان، ثم ينشرون غسيل يومهم.

"ثم يتوجه طابورهم البائس يسوقهم شاويش الدرجات ـ دائماً بضربات الشومة ! ـ إلى غرفة "الترميم"، حيث يجري تخزين الملابس النظيفة، وترميم ما عساه أن يكون قد تمزق أو تهرأ منها.

"وغرفة الترميم" هذه بنفس حجم غرفة "الاسبتالية"، وتضاهيها ظلاماً وكآبة، وربما تتفوق عليها إثارة للقرف والغثيان !

"فالملابس المكدسة في الغرفة، وإن يكن قد تم غسلها ونشرها في أيام سابقة، إلا أنها ليست نظيفة بأي مقياس، كما أنها ليست جافة. وإنما هي رطبة رثة معجونة بمزيج من الطين والإفرازات البشرية، وغالبتها لزج تفوح منه روائح مثيرة للغثيان !

"وإذا أخذنا في الاعتبار أن شهور التعذيب كان غالبيتها في فصل الخريف والشتاء، فإن الملابس التي يتكدس بعضها فوق بعض وهي نصف مبتلة، توضح مقدار العطن والعفن الذي يملأ المكان !

"وقد كان" الدرجات مكلفون بفرز هذه الملابس، في العنبر الذ عليه الدور في الحمام، "وترميمها" ! وبالله، كيف يمكن ترميم ملابس على هذه الحال؟ ولكن الشومة كانت تتكفل بإقناع الدرجات بأن هذا ممكن ! حقاً، إن للكائن البشري قدرة عجيبة على التأقلم والتحمل !

"بعد ذلك يحمل الدرجات الملابس النظيفة التي تم ترميمها، ويتوجهون بها إلى الحمام، حيث يصرفونها لنزلاء العنبر الذي عليه الدور في الحمام، ويتسلمون منهم الملابس القذرة لغسلها في اليوم التالي.

"الحمام" :

" دخول الحمام مكتوب على نزلاء كل عنبر مرة واحدة في الأسبوع، حيث يدور على كل عنبر من العنابر الستة في أيام الأسبوع الستة ( الجمعة عطلة ). وموعده بعد العودة من العمل من الجبل، أي حوالي الواحدة والنصف بعد الظهر.

"ويكون في حالة بينه من الإرهاق: يلمع العرق على جباههم ورقابهم، ويبلل معظم ملابسهم، ويتصبب ممزوجاً بالأتربة، وأحياناً بدماء تسببت فيها إصابات العمل أو ضربات طائشة من العساكر والضباط، الذين يسوقونهم أثناء كسر الزلط وحمل التراب في الجبل.

"وقد استخدمنا كلمة "طائشة" لأن التعليمات كانت واضحة: أكبر كمية من الضرب، ولكن على نحو لا يتسبب في قتل مباشر أو إحداث جروح أو إصابات تترك أثراً".

"وربما يتصور غير المجرب أن الحمام، والحالة هذه، يعتبر نعمة لهؤلاء النزلاء المرهقين الوسخين، ولكن أبداً ! فالحمام، مثل كل شيء في الأوردي، لم يكن إلا بنداً في برنامج التعذيب !

"يخلع النزلاء ملابسهم، تحت الضرب المكثف بالشوم والزخم ـ كالعادة ! ـ ويصطفون في طابور خارج الحمام، في الهواء الطلق ! ويضبطون الحذا وهم يصرخون كالعادة: شمال يمين، شمال يمين، شمال يمين !

"وفضلا عما في هذا المنظر من همجية ومهزأة، وإهدار لآدمية البشر، وحيائهم، فإن هذا الخلع في العراء ـ وغالبية أيام التعذيب كانت في الخريف والشتاء ـ كانت له نتائج وخيمة على صحة النزلاء.

"وبعد أن يشبع شاويش العنبر الذي عليه الدور، وشاويش الدرجات، والضابط النوبتجي، والمأمور، ويستمتعوا بهذا المنظر الهمجي، ويشبعوا النزلاء ضرباً وإهانة، ويقذفونهم بجرعة مضاعفة من البذاءات ـ المستلهمة من المنظر البذيء ! ـ يساق النزلاء بعدها إلى داخل الحمام. وعند المدخل يصب أحد الدرجات في راحة كل منهم بضع قطرات من "الصابون السائل"، وفي أعقابه يدخل اثنان من العساكر على الأقل.

"ولما لم يكن في الحمام إلا عدد قليل من الأدشاش، فإن النزلاء كانوا يتزاحمون تحت هذا الدش أو ذاك، فيكون تحت كل دش ثلاثة، وربما أكثر لأن بعضها معطل. كل ذلك والشاويشية تصرخ وتسب وتضرب مطالبين النزلاء النزلاء المستحمين بالنظام !!

"ثم يفتح محبس الماء، فتتفق الأدشاش دفقات من ماء ساخن إلى درجة الغليان في لحظة ! ويعقبها في اللحظة التالية دفقات من ماء بارد كالثلج ! وويل لمن يصدر عنه صوت أو اية ردود فعل تعبر عن دهشة أو ألم. فكل رد فعل يعتبر في نظر منفذي برنامج التعذيب يعتبر نوعاً من "الدلع" !

"وكانت تعليمات المأمور، الذي لم يكن من النادر أن يأتي ليتسلى، ويتفكه بالمنظر الهمجي، تعليمات مشددة بأخذ كل شكل من أشكال الدلع، بما يستحقه من قسوة متناهية، "علشان نعلم العيال دول إزاي يبقوا رجاله ! ـ على حد تعبيره !

"وبعد حوالي عشر دقائق، يخرج "المستحمون" عرايا إلى العراء ! وأجسادهم تقطر ماء، وتتصاعد الأبخرة من أجسام البعض ! حيث يتولى نزلاء الدرجات تسليم كل واحد ملابسه، فتجري عملية لبس تلك الملابس رطبة العفنة !

"ثم ينتظمون في طابور العودة إلى العنبر، تحت ضربات الشوم والزخم ـ كالعادة ! ـ وبالخطوة السريعة، والصراخ: شمال يمين، شمال يمين !

طابور الغداء :

بعد هذا الحمام، يعود الدرجات إلى عنابرهم. ثم لا تمضي بضع دقائق حتى يقتحم الشاويش العنبر صائحاً: الغدا ! فيندفع النزلاء خارجين في طابورهم الأولى: واحداً بعد واحد، ودائماً بالخطوة السريعة، ودائما تحت وقع الشوم والزخم، ودائما وهم يصرخون بأعلى صوتك شمال يمين، شمال يمين، شمال يمين !

"ويظلون كذلك إلى أن يصلوا إلى مكان قرب بوابة السجن، حيث يثق واحد من عساكر قوة الأوردي، فيعطي كل واحد من العدائين في إحدى اليدين ثلاثة من أرغفة السجن ساخنة ( أحياناً تكون ساخنة جدا جدا! ) "ويواصل النزيل عدوه وصياحه: شمال يمين، إلى المكان المرصوصة فيه قروانات الغداء، فينحي بسرعة خاطفة، ليلتقط واحدة منها، ويستمر يجري ويصيح: شمال يمين، شمال يمين !

"وكل ذلك دائما تحت ضربات الشوم والزخم، والأرغفة الملتهبة في يد، والقروانة في اليد الأخرى، إلى أن يعود كل إلى عنبره.

"ويلاحظ أن قوة السجن كلها تكون موجودة وقت طابور الغداء، ويكون العساكر والضباط هم أيضاً في حالة لا تخفى من الإرهاق والضيق. لذلك كان الضرب الذي ينهال على النزلاء أثناء طابور الغداء، يتميز بقدر أوفى من الجفاف والشدة والغزارة، وإن كان السباب والنكات البذيئة أقل!".


46- برنامج غذاء الأوردي ! (الوفد في 30 / 6 / 1997)

مذكرات سعد زهران التي ننشرها لأول مرة على صفحات الوفد، عن وقائع تعذيب سجناء الرأي في أوردي ليمان أبو زعبل، والتي كتبها بخط اليد تحت عنوان: "ماذا حدث في أوردي ليمان أبو زعبل بدءاً من 7 نوفمبر 1959 حتى أواخر يونيو 1960 "ـ سببت كوابيس" لكثيرين من القراء الذين لم يكونوا يتصورون أن تبلغ وحشية نظام عبد الناصر إلى هذا الحد الذي لم يسمعوا بمثله حتى في الأساطير ! وقد دهش الكثيرون للدقة البالغة التي وصف بها سعد زهران وقائع التعذيب، والتي شملت كل التفاصيل الصغيرة والكبيرة، فضلاً عن الأوصاف التي جسمت ما فعله زبانية التعذيب في سجناء الرأي بشكل يقرب من التصوير السينمائي، حتى لقد تعجب البعض كيف لا يخرج أحد المخرجين السينمائيين هذه القصة، التي لا تحتاج إلى سيناريو لفرط ما حفلت به من تفاصيل تناولت كل شيء؟

وقد كان ردي أنه لا يوجد في مصر مخرج أو منتج يجرؤ على إخراج قصة أوردي أبو زعبل، في وسط التضليل الذي ينشره الناصريون في صحيفتهم وبأقلام كتابهم، والذي يصور عبد الناصر في صورة البطل الأسطوري الذي لم تشهد مصر له مثيلاً، على الرغم من أن إسرائيل احتلت سيناء في عهده مرتين، وعلى الرغم من أنه مات وسيناء ما زالت تحتلها القوات الإسرائيلية وتذرع كل ذرة من ترابها !

وفي الوقت نفسه فإن نظامنا السياسي، الذي منع عرض فيلم "الكرنك" على شاشة التليفزيون المصري، على الرغم من أن ممدوح الليثي الذي أخرجه كان يسيطر على قطاع الإنتاج ! لن يرحب بفيلم يتحدث عن بشاعة حكم عبد الناصر وامتهانه لحقوق الإنسان وتنكيله بالمفكرين، خصوصاً وهو يزايد على الناصريين، ويتوهم أنه امتداد لهذا الحكم الدموي، على الرغم من بعد الشقة بين العهدين لدرجة التناقض !

أما بخصوص دقة سعد زهران في وصف وقائع التعذيب في أوردي أبو زعبل، فالسبب واضح وهو أنه كاتب، ومعوق، وإحساسه بالتعذيب ـ بالتالي ـ أقوى، فضلا عن ذاكرة قوية واعية تسجل كل شيء، خصوصاً أنه لم يكن هذا التعذيب لمدة يوم واحد، أو بضعة أيام، وإنما استمر سبعة أشهر كاملة، وبدون توقف ! كما أنه لم يقتصر على سعد زهران، وإنما شمل جميع سجناء الرأي بدون استثناء.!

وعلى كل حال فعلينا الآن أن نتابع مذكرات سعد زهران لكي نلم إلماماً شاملاً بنظام التعذيب الذي خضع له سجناء الرأي في أوردي أبو زعبل، بدون أي ذنب جنوه على الإطلاق إلا خلافهم في الرأي مع عبد الناصر !

ونبدأ أولاً بنظام الغذاء الذي أعده زبانية التعذيب لسجناء الرأي، كما وصفه سعد زهران بدقة :

الغذاء :

تحتوي قروانة وجبة الغداء في نحو الثانية بعد الظهر، على العدس في يوم والفول في اليوم التالي، وهكذا ! "أما قروانات وجبة العشاء، التي توزع عند الغروب تقريباً، فتحتوي على شيء يسمونه ( اليمك ) ويقولون إن أصله خضار مأخوذ من مزرعة الليمان، يغلونه مع أنواع غريبة "زنخة" من الشحوم، و "الجلود القاسية"، التي يسمونها لحوم !

"هذا باستثناء يوم الجمعة، الذي يسود فيه الفول في وجبتي الغداء والعشاء معاً ( الطرفان فول ـ على حد تعبيرهم! ) أما الجراية ـ أي الخبز ـ فتوزع أرغفته الثلاثة مع وجبة الغداء !

"ومن الصعب جدا على من لم يجرب ـ إن لم يكن من المستحيل ! ـ أن يتصور خبز السجن، وفوله، وعدسه، ويمكه ! ولو جربه، لما تمناه لعدو أو حبيب !

"يكفي أن ذنكر ـ على سبيل المثال ـ أن النزلاء كانوا ـ خاصة في أيامهم الأولى في اوردي ـ يعافون أكل الفول المسوس، ومن ثم كانوا يحاولون تنقيته، فيستخرج الواحد منهم من الفولة الواحدة نحو خمس أو ست سوسات في المتوسط !

"ولما كانت القروانات ترص في العراء، حيث يغرف فيها الفول والعدس واليمك الساخن، ولما كان المكان شديد القذارة ـ فإن القروانات كانت تجتذب أسراباً مخيفة من ذباب أبو زعبل الصحراوي الثقيل، يتضاعف عدده بصفة خاصة في المساء، فيتساط هالكاً في اليمك الساخن – عشرات في كل قروانة !

"أما الصراصير فكنا نعثير عليها في الخبز، مطمورة ومسلوقة في القلب العجيني للأرغفة المخبوزة على عجل ! هذه الأصناف من الحشرات، كان مضافاً إليها ـ بداهة ـ كميات من الحصى والأتربة مما تجود به مطابخ الليمانات في أسوأ حالاتها !

"وعلى الرغم من كل ذلك، فإنه، مع الوقت، وتراكم عوامل الإرهاق والاستنزاف البدني والمعنوي، ودفعاً لمخاطر الهلاك العاجل الذي تقوده الغريزة البدائية، فإن النزلاء سرعان ما فقدوا نعمة التذوق ! واندفعت غالبيتهم الساحقة إلى التهام كل ما يلقى إليهم من تلك السموم الضارة والنفايات الغذائية الكريهة ( أستغفر الله، ولكن ماذا يمكن أن يقال؟ ).

العمل الإضافي :

"عادة ما ينتهي النزلاء من عذاب وجبة الغداء في وقت يتراوح بين الثانية والنصف، والثالثة مساء، وتعقب ذلك فترة راحة ( في لغتهم: تقييلة! ) تمتد ساعتين أو أكثر حسب طول ساعات النهار، إلى أن تحين مواعيد تنفيذ النقاط التالية في برنامج التعذيب اليومي ! أي: تفتيش المساء، وطابور هتاف المساء، وطابور وجبة العشاء ! ـ وكلها تتكرر على نفس القسوة والغظاظة التي تجري بها في مطلع النهار ومنتصفه !

"ولكن هذه الراحة ـ أو التقييلة" ـ ليس مقصوداً منها أن تكون راحة للنزلاء من سجناء الرأي، وإنما هي راحة لأفراد قوة الأوردي من العساكر والضباط ! أما النزلاء فمحظور عليهم، طيلة ساعات النهار، فرش الأبراش، أو استخدام البطاطين ! إنما يظلون قابعين هكذا، على مؤخراتهم، مكومي على الأرض الأسمنتية القاسية الشديدة البرودة والرطوبة !

"أكثر من ذلك، غالباً ما كانت تمتلئ تلك الساعات الثلاث بأشكال من العمل الإضافي ! كأن يساقوا، بقوة حراسة خارجية، لتفريغ حمولة قطار محمل بالأحجار الجيرية أو البازلتية، او تنظيف وتسوية الأرض والطرقات المحيطة بالأوردي ! أو نزح مياه آسنة ! وكل ذلك ـ كالعادة ـ تحت الضرب العنيف المكثف !

الليل :

"وبعد مزي من الضرب والبهدلة في البنود المسائية الثابتة من برنامج التعذيب اليومي، وهي: تفتيش المساء، وطابورهتاف المساء، وطابور العشاء ـ يعود النزلاء إلى عنابرهم، يتجرعون "يمكهم"، ويلوكون ما بقي من خبزهم، ويفرشون الأبراش، ويفردون البطاطين.

"وفي البداية، كان النزلاء من سجناء الرأي يتصورون أن الفترة الليلية، التي تمتد بين إغلاق العنابر عليهم مع هبوط الظلام حتى اقتحام العنابر عليهم مع طلوع النهار ـ كانوا يتصورون أن هذه الفترة للنوم والراحة، وهدنة ـ هم في أشد الحاجة إليها ـ من البنود العنيفة للعذاب والتعذيب.

"وقد استخدمنا عبارة: "البنود العنيفة للعذاب التعذيب"، لأن النوم في الأوردي ـ نعم، النوم في الأوردي ـ كان يعتبر عملية تعذيب قائمة بذاتها !

فلا يفع غائلة البرود والرطوبة التي تنضح بها الأرضية الأسمنتية أو البازلتية، سوى البرش ! وكان ( أولا ) ضئيل الحجم ( 50 × 170 سم على الأكثر ) يضيق بحركة الجسد وتقلباته أثناء النوم. ثم هو مصنوع من حبال "لوف" النخيل المجدول، مسماري الملمس، شديد القساوة، لابد للتخفيف من قساوته من فرش شيء عليه، وإلا خمش الأبدان كأظافر القط أو أسنان الفيران !

"ولكن الليل قارس البرودة، خصوصاً في صحراء أبو زعبل، التي تعوي فيها الريح وتصفر غالبية ليالي الخريف الكئيب، والشتاء المشئوم !

"ففي كل من جداري العنبر الطويلين، ثمانية شبابيك، عليها قضبان غليظة سوداء، تمنع الهرب، ولكنها تسمح بانصباب الريح الباردة إلى داخل العنبر ! ومن ثم، فدرجة الحرارة في الداخل لا تختلف عن درجة الحرارة شديدة الانخفاض في الخارج، وإن كانت الرطوبة في الداخل تجعل الحال في الداخل من بعض الوجوه أسوأ من الخارج !

"لذلك لم تكن البطانيتان الصغيرتان النحيلتان لتدفعا من غائلة البرد في ليل الشتاء، إلا قليلاً: ورغم ذلك فقد كان من الضروري تخصيص جزء منهما للفرش على البرش، ويتغطى ببطانية ونصف !

"ولم تكن هذه عملية سهلة، بل كانت تحتاج إلى مهارة خاصة، وخبرة ليست قصيرة ! كانت تحتاج إلى نوع من الأكروبات التعيس، يمارسه النزيل وهو بين اليقظة والنوم، مرات غير محدودة على امتداد ساعات الليل، وهو في صراع غريزي يائس ضد البرد وقساوة الفراش !

"أكثر من ذلك، ففي أعلى سور الأوردي، وفوق مبنى إداري صغير إلى جواره، كانت توجد ست أبراج خشبية صغيرة، يتسع كل منها لحارس ليلي، يتغير كل ساعتين، وتنص التعليمات على أن يصيح كل واحد من هؤلاء صيحة التمام، مرة كل ربع ساعة على الأقل فيصيح الحارس الأول: "واحد ! تمام" ( ممطوطة ) وبعد أن ينتهي، يعقبه الثاني: "اثنين ! تمام"، والثالث: "تلاتة ! تمام" !، هكذا حتى السادس الذي يصيح: "ستة ! تمام" !

"نوبة متصلة مكونة من ست صيحات في قلب الليل، يتبارى فيها الحراس في تعلية صراخهم، ومط نداءاتهم ! وكثيراً ما كان المأمور يتزيد ويستزيد من هذا الإزعاج المقصود إلى درجة لا يفصل فاصل زمني بين نوبة نداءات والنوبة التالية !

"ومرة أخرى، فلا يستطيع من لم يجرب، أن يعرف كم كان هذا الصخب الهمجي يفعل فعله في أعصاب النزلاء، وينال من محاولاتهم المستميتة لنيل شيء من الراحة".


47- برنامج التعذيب الليلي ! (الوفد في 7 / 7 / 1997)

تابعنا في مقالاتنا السابقة، من واقع وثيقة هامة هي مذكرات سعد زهران، برنامج التعذيب الذي طبقه زبانية عبد الناصر على سجناء الرأي في أوردي أبو زعبل، لمجرد خلافهم في الرأي مع عبد الناصر، وليس لأنهم تآمروا ضده أو استخدموا القوة لقلب نظامه، وكان الخلاف حول الوحدة المصرية السورية، ففي حين رآها عبد الناصر اندماجية، رآها الشيوعيين فيدرالية ( اتحادية )، وفي حين طبق عليها عب الانصر النظام الدكتاتوري الذي كان يحكم به مصر، فألغى الأحزاب السورية التي قدمت الوحدة على طبق من ذهب، فإن الشيوعيين رأوا أن الديموقراطية وحدها هي التي تحفظ الوحدة.

ومن أجل هذا الخلاف في الرأي كانت حملة الاعتقالات الهتلرية الواسعة النطاق في أول يناير 1959، التي شملت كتاباً ومفكرين وأساتذة جامعات ومحامين وأطباء ومهندسين وعمال وفلاحين، لعقابهم على ما اعتبره عبد الناصر جريمة شنعاء، وهي الخلاف في الرأي، فكان قراره الجمهوري بعملية الاعتقالات، وكان برنامج التعذيب الذي أعد لتأديب المخالفين في الرأي!.

على هذا النحو كانت الوحدة المصرية السورية كارثة حقيقية على الشيوعيين في مصر، بل وعلى كل صاحب فكر متعاطف ـ كما سوف نرى ـ فقد كانت بداية تحطيمهم جسدياً ومعنوياً وروحياً، وسحبهم من الحياة العامة إلى ظلمات السجون والمعتقلات لمدة خمس سنوات كاملة وأربعة أشهر !

وفي الوقت نفسه كانت الوحدة المصرية السورية كارثة على فكرة الوحدة العربية التي كانت تداعب أحلام القوميين المصريين والعرب منذ الثلاثينيات من هذا القرن، فإن الطريقة التي عالجتها بها ثورة يوليو كانت كفيلة بالقضاء عليها، فسقطت بعد ثلاث سنوات ونصف فقط، إذ قامت في فبراير 1958 وسقطت في سبتمبر 1961، ولكن بعد أن صدع عبد الناصر الجبهة الوطنية في سوريا، وحول هذه القوى الوطنية التي حمت استقلال سوريا إلى قوى متصارعة ضد بعضها البعض: عبد الناصر والبعثيون ضد الشيوعيين، والشيوعيون ضد عبد الناصر في المرحلة الأولى، ثم عبد الناصر ضد البعثيين بعد ذلك! ـ الأمر الذي لم يقض فقط على الوحدة المصرية السورية، بل قضى على فكرة الوحدة ذتها، فلم تقم لها بعد ذلك قائمة !

وهكذا أثبت نظام عبد الناصر أنه كان كارثة على جميع القضايا القومية التي تناولها ! فقد تناول قضية وحدة وادي النيل، وانتهت بانفصل السودان عن مصر، وتناول قضية الوحدة المصرية السورية فانتهت بانفصال سوريا عن مصر، وتناول قضية الصراع العربي الإسرائيلي، فانتهت باحتلال إسرائيل سيناء مرتين ! وتناول قضية تأميم شركة قناة السويس، فانتهت باحتلال إسرائيل سيناء وخروجها منها بثمن باهظ هو فتح خليج العقبة للملاحة الإسرائيلية. وتناول قضية تأميم وسائل الإنتاج وها هي شركات القطاع العام تتحول تدريجياً إلى الخصخصة ! وقد تناول قضية توية الجيش المصري وتسليحه ولكنه دفع به مرتين في حربين بدون استعداد، وكانت النتيجة هزيمته مرتين متتاليتين ! وتناول القضية الفلسطينية، عندما كانت إسرائل تحتل نصف فلسطين، فانتهت باحتلال إسرائيل النصف الآخر من فلسطين، ومعه غزة، والجولان، وجنوب لبنان، وسيناء ! ولولا مبادرة السلام التي قام بها الرئيس السادات لكانت سيناء حتى اليوم تحت الاحتلال الإسرايلي، بفضل بركة ثورة يوليو !!

ولكن بفضل جهاز الدعاية الناصري تحولت كل هذه الهزائم إلى انتصارات ! وقد كانت هذه الانتصارات الموهومة التي قام عليها الحزب الناصري، وتشيد بها أقلامه، حتى بعد أن عرف الشعب المصري والعربي حقيقتها، وأصبح يدفع ثمنها غالياً !

وقد كانت قضية الديموقراطية على رأس القضايا التي رفعت ثورة يوليو شعارها في أول بيان لها، وكان الدستور على رأس وعودها. ولكنها بعد أسبوع واحد فقط، كانت تنقض على الحياة النيابية وعلى الديموقراطية، وتضع الشعب المصري في سجن كبير ! وعندما انتفض الشعب المصري في أزمة مارس مطالباً بعودة الجيش إلى ثكناته، تمكنت عصابة يوليو بالخديعة والتآمر من ضرب القوى الوطنية والتقدمية، وأعادت الشعب المصري إلى السجن من جديد !

ومن هنا أصبح الخلاف في الرأي جريمة الكبرى، وعلى المخالف أن يدفع ثمنها غالياً من حريته ومن جسده وروحه ! وكان التعذيب في أوردي أبو زعبل على النحو الذي أوردناه في مقالاتنا السابقة هو الثمن الباهظ الذي دفع مفكرو مصر وكتابها لخلافهم مع عبد الناصر. وهو ما فصله سعد زهران في مذكراته التي أوردناها.

وكنا قد وصلنا في مقالنا السابق إلى نظام التعذيب أثناء الليل لسجنا الرأي ! فقد كانوا يانمون على برش ضئيل الحم، على أرض أسمنتية أو بازلتية، في زمهرير الشتاء، والريح تنصب عليهم داخل العنبر، وعليهم غطاء رقيق يتكون من بطانيتين صغيرتين يتخذون من نصف إحداهما فرشة على البرش ويتغطون ببطانية ونصف ! ولكنهم لا يكادون يغطون في النوم حتى يستيقظون على أصوات صيحات الحراس الليليين المتوالية بالتمام، كل ربع ساعة، وذلك لتحطيم أعصابهم بهذا الصخب الهمجي، والنيل من محاولاتهم المستميتة لنيل شيء من الراحة !

ومع ذلك، وكما يقول سعد زهران، فإن الليل كان بالنسبة لسجناء الرأي، رحمة، فبين تمام المساء وطلوع النهار كان النزلاء معفون من اقتحام قوة السجن عنابرهم، ومن التفتيش، وطوابير الهتاف والغداء والعمل، أي معفون من بنود "التعذيب الساخن".

ولكن يبدوم أن طباع مخططي التعذيب كانت ساخنة جدا، فلم يسمحوا بأن يكون النوم والليل مجرد بندين باردين، وإليكم ما جرى:

"بعد أسابيع قليلة من افتتاح الأوردي، أخذ النزلاء يتعاملون بشيء من الألفة مع واقعهم المروع، وشرع الكثيرين يستفيدون معنوياً من جو الطمأنينة النسبي الذي يحسونه أثناء ساعات الليل، وشرع البعض يتبادل شيئا من حديث مع جار أو زميل، أو يذهب للجلوس مع صديق على بعد أمتار فقد يكون هذا الصديق بحاجة إلى معونة بسب إصابة أو إرهاق مضاعف نال منه، أو قد تفيض كسرة خبز عن حاجة نزيل ممن لا يعملون في الجبل فيهديها لصديق بحاجة إليها، أو لمجرد الونَسَة. وعلى كل حال فقد كانت هذه الفسحة أو تلك الونسة لا تستمر إلى ليلاً، فقد كان الإنهاك كفيلاً بجعل النزلاء يروحون سريعاً في غيبوبة ذلك النوم "الأوردوي" !

"على أن هذه اللحظات من الفسحة والونسة لم ترق في عيون مخططي برنامج التعذيب، الذين اعتبروا ذلك نوعاً من الدلع يجب أخذه بالقسوة اللازمة.

"وفي البداية كان العسكري المكلف بحراسة فناء السجن أثناء الليل ( خفر الليل ) يطل على العنبر من نضارة الباب بين الحين والآخر يسب النزلاء، ويأمرهم بالكف عن الكلام والنوم فوراً، وينذرهم بأشد أنواع التنكيل في اليوم التالي.

وفي إحدى الليالي ( ربما في شهر ديسمبر )، وعلى نحو مفاجئ ومعد إعداداً محكماً، تم تصعيد الموقف. فبعد ساعة من تمام المساء وإغلاق العنبر مع هبوط الظلام، اقتحمت قوة السجن جميع العنابر في لحظة واحدة، يتقدمهم المأمور وهو في كامل الحماس والقوة والنشوة وتمام اللياقة، ينتقي السباب، ويصدر التعليمات، ويتصيد كل من يشتبه في أنه غادر مكانه أو تحرك من فوق برشه !

"وكانت حصيلة هذه الحملة المدبر ( 21 ) نزيلاً، نكل بهم المأمور وضباطه وجنوده تنكيلاً مروعاً لمدة أسبوع كامل !

"فقد وضع هذا العدد المهول من البشر في زنزانة واحدة من زنازين التأديب، وفي غرفة صغيرة ( 2 × 2,5 متر ) تعتبر مكتظة ـ حتى بالمعايير الشديدة القسوة لإارة مصلحة السجون ـ إذا وضع فيها خمسة أشخاص !

"ولا يدري أحد كيف كانوا يدبرون أمرهم في هذا الجحر الضيق؟ قيل: سبعة واقفون، وسبعة جالسون مضمومو الساقين، وسبعة جالسون مفرودو الساقين .. بالتناوب !!

"ثم كان المأمور يأمر بإلحاقهم في كل يوم من أيام ذلك الأسبوع، "بطابور التعذيب الرياضي وطابور العمل، حيث يختصون بجرعات مضاعفة من الضرب والإهانة !

"ولا نتصور أن المأمور أمر بإعادتهم إلى عنابرهم إلا لأن مظهرهم ـ قرب نهاية ذلك الأسبوع ـ بدأ يشير إلى أن غالبيتهم أصبح على شفا الهلاك، أي الموت المحقق. ولو حدث ذلك لكان مخالفاً للتعليمات !

"وبعد تلك الليلة المشئومة، زايل النزلاء ما كانوا يشعرون به من طمأنينة نسبية في سواد ليل أبو زعبل، وامتزجت مخاوف وهواجس التعذيب الساخن بمتاعب ومعاناة التعذيب البارد، في منامة تلك العنابر التي هي أشد وحشة ورهبة من المقابر !

وهكذا اكتمل برنامج العذاب والتعذيب ليغطي أربعاً وعشرين ساعة كل يوم.

حفلات الاستقبال :

"لابد، في هذه العجالة، من الإجابة على سؤال مهم هو كيف بدأ الجحيم ؟ وكيف حمل النزلاء على تقبل هذا العذاب والتعذيب ؟

"تتلخص الإجابة في أن مصممي برنامج التعذيب في الأوردي، طبقوا أسلوباً قديماً سبق أن عمل وفقه كل من أقدم على ارتكاب عمليات تعذيب جماعية في السجون أو المعتقلات من قبل، وهو: إحداث صدمة جسدية ومعنوية وعصبية، تفقد النزلاء كل قدرة على المقاومة منذ اللحظة الأولى التي تطأ فيها أقدامهم أرض معسكرات التعذيب، أو سجونه، وذلك فيما يسمونه ـ في لغتهم السادية ـ حفلات الاستقبال !

"ويمكن الاطلاع على وصف كامل لحفلة نمطية من تلك الحفلات الجهنمية في وثائق التحقيق في قضية مصرع المناضل المرحوم شهدي عطية الشافعي ، الذي قتل أثناء واحدة من هذه الحفلات الأوردية ـ وهي آخرها في ذلك الزمان ـ في 15 يونيو 1960 !


48- وفي سجون عبد الناصر كان للجواسيس الإنجليز الرعاية ولسجناء الرأي التعذيب والإهانة ! (الوفد في 14 / 7 / 1997)

الوصف الدقيق الذي قدمه سعد زهران لنظام التعذيب في أوردي أبو زعبل، والذي قدمناه في مقالاتنا السابقة، يوضح بصورة دامغة أن نظام عبد النار كان سبة في تاريخ الحضارة المصرية وفي تاريخ الشعب المصري على مدى العصور والعهود !

بل لعله كان سبة في تاريخ النظم السياسية الفاشية والنازية ذاتها ! فقد كان لهذه النظم أسبابها في التنكيل بخصومها السياسيين، وكان لها مبرراتها ـ التي لا نتفق معها بطبيعة الحال ـ في تذعيب الخصوم، ولكن عبد الناصر لم يكن لديه سبب واحد يدفعه إلى اعتقال كبار مفكري وكتاب مصر، وإخضاعهم لذلك التعذيب الجهنمي الجماعي على مدى سبعة أشهر متصلة، والذي أدى إلى وفاة العديد منهم تحت عجلة ضربات الشوم والكرابيج والزخم، وأصاب الجميع بأخطر الأمراض !

فلم تكن ثمة مؤامرة لقلب نظام الحكم، ولم تكن ثمة معارضة لنظام الحكم، بل كان الجميع يؤيدون النظام الناصري، تحت وهم أنه نظام تقدمي ! وحتى عندما كشف عن وجهه الفاشي القبيح، واعتقلهم بليل، وقذف بهم في أسوأ سجون شهدها تاريخ السجون في مصر، ظلوا يؤيدونه، ويهتفون بحياته على نحو يحسدهم عليه " دون كيشوت ".

والغريب أن هذه "الدون كيشوتية" ما زالت تقود خطى اليسار المصري إلى اليوم ! فما زالوا يتصورون أن نظام عبد الناصر كان نظاماً تقدمياً واشتراكياً، على الرغم من الهراوات التي نزلت على رؤوسهم، والكرابيج التي ألهبت ظهورهم، والتعذيب الجهنمي الذي لاقوه على يد هذا النظام طوال حياة عبد الناصر تقريباً ! فقد حكم عبد الناصر ثمانية عشر عاماً، قضى بعضهم، مثل الدكتور رفعت السعيد، ثلاثة عشر عاماً في السجن، وللدقة في سجون عبد الناصر المتنوعة ! ـ وقضى مصطفى طيبة اثني عشر عاماً لأغرب الأسباب في التاريخ، وهي تهمة محاولة قلب نظام الحكم الملكي الذي قامت ثورة يوليو نفسها بقلبه ! وقضى آخرون مدداً مختلفة، لمجرد الخلاف في الرأي في بعض القضايا التي لا تتصل بنظام الحكم !

وقد لقوا من التعذيب ما لا يتصوره بشر، أعده وحوش آدميون ساديون اعتبروا التعذيب رسالة منهج وحياة، ولم يشهدهم عصر من العصور !

وربما كان ما جرى لسعد زهران، أنموذجا بشعاً لما قام به أورلئك الوحوش من أوردي أبو زعبل مع المعوقين.

فقد كان سعد زهران ممن كان يطلق عليهم اسم الدرجات، ويقصد بهم المعوقون الذين فقدوا بعض أطرافهم، او اصيبوا بشلل الأطفال، والمصدورون وغيرهم. وكان لهم نظام خاص في التعذيب يستغل هذه العاهات في زيادة التعذيب !وكانت عاهة صلاح زهران في فقد إحدى ساقيه. وعلى حد قوله، فإنه كان واحداً من نزلاء عنير ( 1 ) وكان ثمة تعليمات بمضاعفة جرعات التعذيب على نزلاء هذا العنبر، لافتراض أنه عنبر " القيادات ".

ولمكانة سعد زهران الخاصة بين نزلاء هذا العنبر فقد اختص بجرعات إضافية من التعذيب، ومنها هذه الواقعة. فبعد افتتاح الأوردي بحوالي أسبوعين، وفي معرض محاولة مضاعفة التعذيب المعنوي والإهانة الأدبية، وتقليداً لما سبق حدوثه في السجن الحربي، حاول المأمور أن يجبر النزلاء على أن يقوموا بإنشاد جماعي لأناشيد معينة.

وقد بدأ المأمور بسعد زهران، آمراً إياه بالإنشاد، لكي يقتدي به بقية النزلاء وينشدوا وراءه. ولكن سعد زهران رفض هذا الأمر، فإذا بثلاثة من قوة السجن تنهال عليه ضرباً بالشوم، ثم ساقوه إلى زنزانة التأديب الأولى، ليقضي فيها مدة العقوبة بحيث يكون واقفاً على ساق واحدة !

فقد تفتقت عبقرية مأمور الأوردي عن خطة جهنمية، هي صب الماء في الزنزانة لكي يجعل الجلوس على الأرض عملية مستحيلة. ولما كان سعد زهران مبتوراً إحدى ساقيه كما ذكرنا، فقد ترتب على عجزه عن الجلوس على الأرض أن ظل واقفاً على ساق واحدة، ليس ليوم واحد فقط، وغنما لمدة خمسة أيام وأربع ليال !

ويقول سعد زهران إن المأمور كان يحرص على أن يمر كل مساء على زنزانة التأديب، وهو في تمام هندامه وتعطره، لكي يملأ ناظريه من سعد زهران ويعبر عن تجربه وتشفيه !

وبعد خمسة أيام وأربعة ليال ليال من الوقوف على ساق واحدة، عاد سعد زهران إلى العنبر رقم ( 1 )، ليصارحه زملاؤه، بعد ذلك بفترة كافية، بأن شكله ليلة عودته كان عجيباً ! كيف ؟ كان دسه منتفخاً انتفاخاً ملحوظاً، ولون بشرته أزرق قرمزياً !

والأرجح ـ كما يقول ـ أن المأمور لم يأمر بإعادته إلى العنبر إلا بعد أن لاحظ، بعين المحترف، أن الحالة أصبحت تنذر بهلاك وشيك !

ويختم سعد زهران روايته قائلاً: حاً، عندما تغلب إرادة الحياة عاولم القهر والفناء، فإن الاحتياطات الجسدية والروحية للإنسان، تكون غير محدودة!"

هذه القصة التي رواها سعد زهران عن إحدى وقائع تعذيبه، تصور الطبيعة الفاشية للنظام الناصري التي كانت غائبة عن الشعب المصري، الذي كان يعيش تلك الأيام تحت صخب الدعاية الناصري، التي كانت تصور له الهزائم انتصارات، والدكتاتورية الفاشية ديموقراطية، والمآزق السياسية التي تقودها نزعات الزعامة الناصرية، التي كان الشعب المصري يدفع ثمنها غالباً من أرضه ومن حياته الاقتصادية ـ بطولة ونضالا ! ومن الغريب أن عبد الناصر كان يختص أصحاب الرأي المصريين بهذا الاعتقال وذاك التعذيب، ويعفي منه الأجانب ! ففي مذكرات الوزير الوفدي عبد الفتاح حسن، وهو الوزير الذي قام بتشغيل ثمانين ألف عامل كانوا في المعسكرات البريطانية، وقت معركة القناة عام 1951، وهي المذكرات المنشورة تحت اسم: " ذكريات سياسية "، وقد نشرتها دار الشعب سنة 1974، يعقد مقارنة بين معاملة النظام الناصري للمعتقلين المصريين ومعاملته للمعتقلين من الإسرائيليين والإنجليز.

فيقول إنه عندما اعتقل في ليمان طرة من يوم 31 / 8 / 1969 زج به في زنزانة منفردة ليس بها غير الأسفلت وكوة صغيرة في السقف، وجردلان: أحدهما للمياه وآخر لغيرها ! وقد وجد عبارة على الجدار بخط كبير بالقلم الكوبيا تقول: أنا في هذه الزنزانة غريب، زميلي فيها الجوع والموت والتعذيب".

وبعد ان قضى في الزنزانة نحو عام وأربعة أشهر، كتب التماساً إلى طبيب المعتقل يقول فيه:

"أتشرف بأن أنهي إلى سيادتك أنني رغم مداومتي على تناول الأدوية، والتزامي التعليمات الخاصة بالتغذية، فإنه قد جد علي زيادة في نسبة البوليك، وشعور بألم أشد في ساقي. لهذا أرجو الموافقة على التصريح لي بإحضار "كليم" أو "مشاية"، أغطي بها بلاط الزنزانة التي أقيم فيها حالياً في مستشفى المعتقل. ولا يخفى عليكم أن عرضها أقل من مترين وطولها حوالي مترين ونصف، ولا تدخلها الشمس، والجو شديد البرودة في فصل الشتاء، وخاصة في هذه الأيام !

كتب عبد الفتاح حسن هذا الطلب المتواضع، وغادر المعتل دون أن يجاب إليه.

وقد علق على هذه القصة قائلا: ومن أسف أنني كنت أرى الإسرائيليين المعتقلين في ذات المعتقل، يعاملون بأقصى ضروب الكرم، ويتمتعون بأعظم قسط من العناية بهم، والتهافت على الاستجابة لكل طلباتهم، إلى أن تم إخلاء سبيلهم جميعا، وسافروا إلى مركز تجمعهم في باريس، ومنها اتجهوا إلى تل أبيب وغير تل أبيب.

"وتذكرت أنه كتب علي أن أرى في ليمان طرة الجواسيس الإنجليز يعاملون في 1958 أكرم معاملة.

"كما كتب عليّ مرة أخرى، بمعتقل طرة السياسي في عامي 1969 و 1970، ( أي في عهد الرئيس جمال عبد الناصر ) أن أرى الإسرائيليين يعاملون أيضاً أكرم معاملة !

"في حين أن المصريين، وأنا من بينهم، نصيبهم في وطنهم، وبغير ذنب، هو ما أشرت إلى بعض أوضاعهم في هذه الذكريات" !

وكان عبد الفتاح حسن يقصد بالجواسيس الإنجليز الجاسوسين الإنجليزيين " زارب " و " سوينبرن "، اللذين حكم عليهما مع آخرين في قضية جاسوسية، فقد ذكر أنهما كانا يتمتعان بمعاملة ممتازة بكافة ألوانها، وأنه ما من زائر كبير وفد من بريطانيا لمصر إلا وكان ينتقل رسمياً لزيارتهما بالليمان، للاطمئنان إلى حسن معاملتهما !

"بألم بل كان يحضر كل يوم أحد سيس يقيم في المعادي، أصله ضابط في الجيش البريطاني، وحمل إليهما كل ما يطلبان، مما يعز وصول بعضه إلى غيرهما"!

وواضح أن السجناء الإنجليز والإسرائيليين كانوا خارج نطاق "الدومين" الذي يملكه ويحكمه عبد الناصر وهو مصر ! كما أن لهم دولاً تحمي مصالحهم، اما السجناء المصريين فكانوا عراة من أي حماية !

ففي كل بلد من بلاد العالم يمثل القانون القوة التي تحمي المواطنين من بطش الحكام، وحين يعطي الحاكم القانون أجازة، فمعنى ذلك أن المواطنين يصبحون عراة تماماً من أي حماية، يبطش بهم الحاكم كما يشاء، وينكل بهم زبانيته كما يشاءون !

وهذا العري ولو أنه رمزي، فإن زبانية النظام يحولونه إلى عري مادي وهم يعذبون سجناء الرأي ! والمثال لذلك ما حدث في واقعة تعذيب شهدي عطية الشافعي ، فوفقاً لما ورد في حكم جنوب القارهة الابتدائية، الدائرة الرابعة، فإنه، عندما دخل شهدي عطية الليمان، استقبله نفر من الضباط والصف، منهم الضابط عبد اللطيف رشدي، ومرجان، وحسن منير، والصول مطاوع، وعدد كبير من الحراس حيث أوسعوه ومن معه، ضرباً بالكراسي والعصي والكرابيج والأحذية، ثم انفردوا بالمرحوم شهدي عطية، وأمروه بالمرور على صفين من الحراس: صف على ظهور الخيول، وصف يقف أرضاً، حيث كان يمر عليهم، ويتسلمونه ضرباً بالكرابيج ! ثم اصطحبوه إلى مكان " العروسة "، وأمروه بخلع ملابسه، وقاموا بالاعتداء عليه بالضرب على ظهره، ثم قلبوه على الوجه الآخر ( ! ) وأوسعوه ضرباً، ثم سحلوه أرضاً، وكان عاري الجسد" .. إلى آخره".

وهذا الكلام الوارد في حكم المحكمة، يثبت أنه حين يكون المواطن عارياً من حماية القانون، فإن هذا العري الرمزي يمكن أن يصبح في أي وقت عرياً مادياً، فيرعى سجين الرأي من ملابسه، ويضرب بالكرابيج على ظهره، ثم يقلب عارياً، ويضرب بالكرابيج مرة أخرى على بطنه !

وهذا هو السبب في ضرورة تمسك الأحرار بحكم القانون، لأنه الحماية الوحيدة لهم من أي بطش أو تعذيب !

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى