خالد جهاد - غرفة المسافرين

لا يرحل شيءٌ من فراغ تماماً كما لا يولد منه، فاعتدنا على ضماننا لوجود أحبائنا وأشيائنا وكأنها خالدة لا تزول، كما كنا نعتقد أن طفولتنا ستنتظرنا أو ستغفو قليلاً ريثما نحقق أحلامنا لنعود إليها دون أن نوقظها وكأننا لم نغب عنها..لنرتديها مجدداً كما نرتدي ثياب النوم، وبينما كنا نعتقد أننا خدعناها فهمنا أننا لم نخدع سوى أنفسنا، وأعطينا الكثير من الأشياء أسماءاً تناسبنا لكنها لم تكن تناسبها، فعلقنا على مشجب الأيام نظراتنا ولهفتنا وضحكاتنا الخجولة وكلمات الحب التي تزاحم صمتنا ولمسات العطف التي بخلنا بها على من يحبوننا كما بخلوا بها علينا..وعدنا عندما احتجنا إليها فلم نجد شيئاً..

بحثنا عن جذورٍ، عن أصواتٍ، عن روائح قادمةٍ من زمنٍ لم نعش أجمل ما فيه طمعاً في الأجمل الذي لم يأتي، والذي كان ببساطة مجموعة ً من اللحظات الصادقة الآمنة بين من نحبهم مهما كانت متواضعة، والتي تحولها الكثرة إلى إحساس ٍ دافىءٍ لا مثيل له بالفرح والأمان والطمأنينة ولو لبعض الوقت..
فكان التجمع الحميم حول مائدةٍ صغيرة وعادية يفوق عدد الجالسين إليها والملتفين حولها حجمها الحقيقي كفيلاً بتحويلها إلى مأدبةٍ قوامها أحاديث ٌ طريفة وأخبارٌ لا جديد فيها سوى أننا كنا نسمعها من أحبائنا بطريقتهم التي نحبها، كانت الحياة مختلفة وكانت البيوت تشبه قلوب أصحابها وبصمات أرواحهم، تحمل لمساتهم ورائحتهم التي كانت تتسرب إلى شقوق الجدران فتختلط بهم وبأسرارهم وأغنياتهم وكلماتهم وصراخهم وقهقهتهم ودموعهم، فتشعر بها وقد انتقلت إليك إن نزلت ضيفاً بأحدها ذات يوم، في جزءٍ خاص يسميه الكثيرون ب(غرفة المسافرين) والتي كانت تمتد أحياناً لتشمل أغلب المنزل حسب عدد الضيوف ودرجة القرابة، مضفيةً أكثر من حياة على الأيام التي كانت شديدة الإزدحام بالأحداث رغم عدم توفر ما يتوفر اليوم من تطور، وكانت ريح القادمين من الوطن تهب علينا حاملةً بعض نفحاته في صناديق كانت تخبىء فيها بعض المؤن التي ننتظرها بسعادة ويملأ عبيرها أرجاء المنزل، كالزعتر والزيتون والصابون والجبنة القادمة من نابلس، عدا عن العديد من النباتات والأعشاب خصوصاً المرامية والتي تسمى أيضاً بالمريمية أو القصعين والتي كانت تحفظ داخل بعض الأقمشة التي نسميها بالعامية (بأجة) لكن عطرها كان يتسرب من بين الأمتعة، فيعرف أي مارٍ ببيتنا أن هناك زواراً قادمين من بلادنا عندما يشم رائحة هذه المؤن أو يلاحظون أننا بتنا نسهر لساعاتٍ متأخرة على غير العادة، لأن النوم أصبح له رونقٌ آخر وسط بحرٍ من المرتبات المتلاصقة والمتراصة على الأرض لتكفي عدد الزائرين الذين يستمر الحديث معهم بلا توقف حتى ينهكنا النعاس، ونعيدها فور استيقاظنا إلى مكان تخزينها بشكل ٍ تصاعدي يشبه القوس..

ولعل السيدة فيروز كانت محقة عندما غنت منذ أكثر من عشرين عاما ً لتقول (كان غير شكل الزيتون، كان غير شكل الصابون..وحتى انت يا حبيبي مش كاين هيك تكون، كان أوسع هالصالون، كان أشرح هالبلكون وحتى عيونك يا حبيبي كان عندك غير عيون)، ولكنها قصدت المعنى الوجداني الذي يغيب اليوم والذي كان يصنع عيداً من أصغر التفاصيل وأبسطها عكس ما يحدث اليوم من ابهارٍ يخلو من المشاعر، جعل البيوت أصغر كما أصبحت القلوب تماماً، لذلك يبدو البيت غالباً شبيهاً بقلب ساكنيه وبإحساسهم وليس مجرد جدرانٍ صماء، ومع قلة الزائرين وقلة المحبين تلاشت في البيوت غرفة المسافرين، فأخذت معها أيضاً جزءاً من تاريخنا وثقافتنا وقلوبنا ومشاعرنا وأخذت معها مرحلة ً بأكملها وهوية شعوب باتت تحلم بالماضي أكثر من المستقبل، لأنها تجد فيه الأمان والدفىء الذي تفتقده اليوم وتبحث عنه في كلمة حبٍ صادقة تتمنى أن تشتريها بكل ما تملكه..

خالد جهاد..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى