د. أحمد الحطاب - حينما تُسجَنُ معاني الكلمات في أقفاصٍ مُحكَمَةِ الإغلاق

قبل الخوض في التفاصيل، فلنتّفقْ على بعض الأشياء التي لها أهمِّية بالغة في فهم وإدراك مدلول ومعاني الكلمات.

أولا، كل كلمةٍ تُستعملُ، سواءً في التَّواصل اليومي بين الناس أو في مختلف مجالات المعرفة، لها تاريخ يتموقع في الزمان والمكان. وهذا يعني أن هذه الكلمات أُنشِئت أو أُحدِثَت في ظروف معيَّنة، اجتماعية وثقافية على الخصوص. وهذا يعني كذلك أن معاني هذه الكلمات مرتبطةٌ بهذه الظروف. معاني قد يحدثُ فيها تغييرٌ إن تغيَّرت هذه الظروف.

ثانبا، كل فرد منا يفسِّر الكلمات انطلاقا من خلفيةٍ معرفية وثقافية اكتسبها مع مرور الوقت من خلال تفاعله مع الوسط الذي يعيش فيه ومع الآخرين. وهذا التفاعلُ يكون اجتماعيا-لغويا socio-linguistique حيث يصبحُ هذا الفرد، فكراً وسلوكاً، ابنَ بيئته (وسطِه). وهذا التفاعلُ هو، كذلك، الذي يُعطي للكلمات معاني معينةً في ظروف ومواقف وأوضاع معينةٍ. وهذا يعني أن الكلمات المُستعملة داخل المجتمع من أجل التواصل حصل اتِّفاقٌ جماعي حول معانيها (اتِّفاقٌ مدروسٌ جينما يتعلَّق الأمر بمختلف مجالات المعرفة أو تلقائي كما هو الشأن في التَّواصل اليومي العادي).

ما يُستنتجُ من هاذين التَّوضيحين، هو أن الكلمات هي نتيجةُ تداخُلٍ بين ظروف معيَّنة (اجتماعية، ثقافية، تاريخية، اقتصادية، علمية، دينية، إثنية، تقنية...) هي نفسُها مرتيطةُ يالزمان والمكان. ولهذا، فالكلمات لا تحمل في حد ذاتها معانيها أو لا تحمِل معانيها في طيَّاتِها، بمعنى أن هذه الكلمات ليست ثابتةُ معنىً مضموناً. وهنا، يكفي أن نُلقِيَ نظرةً على معاجم أصول الكلمات dictionnaires étymologiques التي تهتمُّ بجذور وأصول الكلمات، لنلاحظَ أن كل كلمة لها تاريخٌ وأن معانيها قد تتغيَّر مع مرور الوقت.

ومن هنا، يتَّضِح أن آلاف الكلمات صمدت عبر التَّاريخ حيث احتفظت بمعانيها إلى يومنا هذا بينما أخرى إما اختفت وإما أصبحت نادرةَ الاستعمال وأخرى صارت لها معاني جديدة. والمعاني الجديدة تنتجُ عن تغيير وتطوُّر الظروف المشار إليها أعلاه.

يكفي أن نُلقي نظرةً على المعاجم والقواميس لنلاحظ أن نفس الكلمة يمكن أن تأخذ معاني كثيرةً مختلفةً. وعلى سبيل المثال، يمكن أن نأخذ فعل "ضَرَبَ". عندما نتصفَّح المعاجم، نجد أن هذا الفعل له ما يناهز ثلاثين معنى. وكل معنى له سياقه وظروفه التي يُستعمل فيها. والمعاجم العربية مليئة يأفعالٍ وأسماء متعدِّدة المعاني لا حصرَ لها. وكل معنى له سياقٌ يرتبطٌ بزمانٍ ومكانٍ معيَّنين. وفيما يلي، هذه معاني فعل "ضَرَبَ" حسبَ معجم المعاني الجامع :

ضرَبَ القلبُ : نَبَضَ؛ ضرَب الجُرحُ : اشتدَّ ألمه؛ ضرَب العِرْقُ : اختلج؛ ضرَب في الماء : سبح فيه؛ ضرَبَ الزَّمانُ : مضَى؛ ضرَبَ بين النَّاسِ : أفسد بينهم؛ ضرَبَ شيئًا/ ضرَبَ بالشَّيء/ ضرَبَ على الشَّيء/ ضرَبَ في الشَّيء : أصابه وصدمه. وهذا هو المغنى المتداول الذي يعني حَبَطَ أو جَلَدَ أو وجَّهَ لشخصٍ ضرباتٍ؛ ضرب اللهُ قلوبَ بعضهم ببعض : سلَّط كلاًّ منهم على الآخر؛ ضرَب آباطَ الأمور: عرف بواطنَها؛ ضرَب الأرزَ: قشَّره؛ ضرَب البيضَ بالدَّقيق : خلطه ومزجه به؛ ضرَب التَّاجرُ على يد شريكه : عقد معه البيعَ؛ ضرَب الجرسَ : دقّه؛ ضرَب النَّومُ على أذنه : غلبه ونام؛ ضرَب بالأمر عُرْضَ الحائط : أعرض عنه؛ ضرَب بذقنه الأرضَ : أطرق استحياءً؛ ضرَب به الأرضَ : ألقاه عليها؛ ضرَب بيده إلى الشَّيء : أهوى بها وأشار؛ ضرَبتِ العقربُ الولدَ : لدغته؛ ضرَب رقبتَه/ ضرَب عنقَه : قتله بالسيف؛ ضرَب عُصْفورين بحجرٍ واحد : حقّق هدفين بعمل واحد؛ ضرَب على الآلة الكاتبة : كتب عليها؛ ضرَب على الآلة الموسيقيَّة : طرق وعزف عليها؛ ضرَب على الرِّسالة : ختمها؛ ضرَبَ الشيءُ ضرَبَ ضَرْبًا، وضَرَبانًا : تحَرّكَ؛ ضرَبَ العِرْقُ : هاجَ دَمُه؛ ضرَبَ الرجُلُ في الأَرض : ذَهَبَ وأَبْعَدَ.

والغريبُ في الأمر أن فعلَ "ضَرَبَ" يقترن دائما، عند عمومَ الناس، بالمعنى الواحد والوحيد ألا وهو الخبطِ و الجَلدِ وما يتمُّ إيقاعُه من ضَربٍ على الجسد. لماذا؟ لأن الضَّربَ، كعقابٍ يتمُّ إنزالُه على جسدِ الإنسان، مُتوغِّلٌ كَونِياً في الثقافات الإنسانية بما فيها العربية بل والإسلامية وذلك قبل وبعد مجيء الإسلام. وهذا الضَّربُ يتَّخذ أشكالاً متنوِّعة منها الرَّجمُ، الجَلدُ، الرَّشقُ، اللَّكمُ، الصَّفعُ، الرَّكلُ، الرَّفسُ…

و الضَّربُ، كوسيلةٍ للتَّأديب، لا يزال معمولاً به في المجتمعات العربية والإسلامية. بل لقد كرَّسته المدارس التَّقليدية ومارسته المدارسُ العصرية إلى حدود الخمسينيات والستينيات. فضلاً على أن الضربَ لا يزال يُمارَس كرادِعٍ وزاجرٍ تريوي يلجأ له الزوجُ لتأديب زوجتِه والأبُ والأمُّ لتأديب فلدات أكبادهم. وما يزيد في الطين بلَّةً، هو أن المدرسةَ نفسَها لا تبلِّغُ للطفلِ إلا المعنى الواحد والوحيد ألا وهو الضَّربُ كعقابٍ تأديبي.

قد يتساءل القارئ لماذا تطرقتُ لهذا الموضوع بالذات؟ بكل بساطة، أريد أن أبين أن فكرَ الإنسان هو الذي ينتِجُ الكلمات متأثِّراً يالظروف المُحيطة به في حياتِه اليومية والعملية. ولولا هذه الكلمات، لعجزَ الإنسان عن التَّواصل مع أندادِه. ولأبيِّنَ كذلك أن إدراكَ معاني الكلمات من طرف الأشخاصِ متعلِّقٌ بخلفياتهم الفكرية والثقافية. غيرَ أن بعضَ الناس يتعمَّدون، ببراعة فائقة، وضعَ بعض الكلمات في قَفَصٍ (قفص موجود فقط بالطبع في الدماغ) محكم الإغلاق وغير قابل للنفاذ بحيث تصبح هذه الكلمات المسجونة في هذا القفص متقوقعةً في معنى واحد ووحيد ولا معنى سواه. والضَّالعون في هذا التَّقفيصِ هم، على الخصوص، بعض السياسيين وبعض رجال الذين.

فيما يخصُّ السياسيين، تجدرُ الإشارةُ إلى أن الخِلافات التي تحدثُ بينهم رأجِعةٌ إلى كَون كل فئةٍ منهم تتشبَّثُ بالقفصِ الذي وضغت فيه معاني كلماتِها التي لا تقبلُ التَّأويلَ مهما كانت الظروفُ والحيثيات. حينها، تُصبِح الكلمات، بكيفبةٍ مُتعمَّدة، منعزلةً عن كل الظروف والحيثيات المحيطة بها لسببٍ واحدٍ ألا وهو بلوغُ أهدافٍ ومآرب مُعلنة وغير مُعلنة.

أما إذا كان السياسيون أمِّيين، فحدِّث ولا حرج إذ تتحجًّرُ الكلمات وبدون قفصٍ. وكمثالٍ لتقفيصِ الكلمات وسجنِها في متاهاتٍ لا حصرَ لها، أذكرُ مشكِلَ غلاء المعيشة من جرَّاء ارتفاع الأسعار. هناك مَن يفسِّرُ غلاءَ المعيشة بتعدُّدِ الوسطاء وبالمضاريات والجشع واغتنام الفرص… وهناك مَن يفسِّرُ غلاءَ المعيشة بالظروف الاقتصادية العالمية… وهناك مَن يفسِّرُها بانعدام الأخلاق والاستقامة… ونادرا ما تُفسَّرُ بتعزيز القدرة الشرائية للمواطنين من خلال توزيعٍ عادلٍ للثروة التي تُنتِجُها البلاد وكذلك من خلال سياسةٍ مُحكمةٍ للأجور. ولا أحدَ يربطُ غلاءَ المعيشة بفشلِ السياسات العمومية في توفيرِ تنميةٍ بشريةٍ ناجعة وبجودةِ أداء المنظومة التَّربوية وبتفشي الأمية وبانتشارِ الاقتصاد غير المُهيكل وبعدمِ وجود عدالةٍ اجتماعيةٍ…كل فئةٍ سياسيةٍ متشبِّثةٌ بما تُعطيه من معاني لكلماتِها ومُفرداتِها… قد نقولُ : إن عالمَ السياسة هو عالمُ تقفيص الكلمات لأغراضٍ قد تكون مشبوهةً أو غير مشبوهة. والكلمات التي تقوم كل فئة من السياسيين بسَجنِ معانيها في أقفاصٍ محكمةَ الإغلاق هي، على سبيل المثال : الفقر، التَّهميش، التنمية، التنمية البشرية، الكرامة، الليبرالية، الاشتراكية، توزيعٌ عادلٌ للثروة…

أما فيما يخصُّ بعض رجالَ الدين، فالأمرُ قد لا يختلفُ عن السياسة. وخيرُ مثالٍ يمكن سياقُه في هذا الصَّدد هو مثال الفقهاء المُحافظين الذين لا يريدون تطويرَ معاني كلمات فِقهِهم وتكييفها مع التَّطوُّر الذي يحصُلُ في جميع مناحي الحياة. والنتيجة هي أن ما كانت للكلمات من معاني في الماضي بقيَ محتفظاً به في أقفاصٍ صمَّةٍ لا تقبل التَّغييرَ والتَّطوُّرَ. أقفاصٌ تتوارثُها الأجيالُ إلى درجة أنها أصبحت مكانَ تقديسٍ لا مثيلَ له. والمثيرُ في الأمر أن هذه الأقفاص، غالبا ما تجدُ مَن يرعاها ويزيد من تقديسها في انعزالٍ تام عن ما يحدثُ في المجتمع والحياة اليومية من تقلُّباتٍ فكرية وتوجُّهات علمية واجتماعية. وعلى ذكرِ العلمِ، فلا بدَّ من الإشارة لكلمة "عالمٍ" التي سجنها فقهاءُنا وعلماءُنا في الأشخاص الذين لهم درايةٌ واسعةٌ في مجال علوم الدين والسنة والفقه والشريعة والمذاهب وتفسير القرآن… بينما الفرآن الكريم ينصُّ على العلم في صيغة المُفرد ولا وجودَ فيه لجمع "عِلمٍ" الذي هو "علوم". وحين يدعو اللهُ سبحانه وتعالى عبادَه لإعمار الأرضِ، فهل سيُعمِّرونها فقط وحصريا يالعلوم الدينية؟ لا أبدا! إعمارُ الأرض لن يخصلَ إلا من ما تنتجُه العلوم الدنيوية من أفكارٍ وممارسات وأساليب وسياقات ومنتوجات واختراعات… فكلمة "عالمٍ" لا يمكن حصرُها في الأشخاص المتضلِّعين في الدين بل في الأشخاص الذين لهم درايةٌ واسعةٌ في شتى أنواع المعرفة بما فيها المعرفة الدينية. وكم هي كثيرة معاني الكلمات التي سجنها الفقهاء المحافظون في أقفاصٍ مُحكمة الإغلاق، أذكرُ منها على سبيل المثال : المرأة، الجهاد، الفلسفة، العِلم، الديمقراطية، الحياة الزوجية، حقوق الإنسان، الحداثة، المساواة، التَّقدُّم…

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى