سهام ذهنى - بفضل الله رأيت ليلة القدر

ممدة أنا في الفراش، ولا أحد في البيت سواي.

السكون هامس، والظلام عابس. النوافذ مغلقة، والستائر مسدلة. لا بصيص لضوء يطل عبر أي جزء من الشقة أو من أية شرفة.

ثم، ضغطة على جهاز التسجيل المجاور للفراش وسرى في الصمت صوت القارئ الشيخ محمد جبريل بكلام الله تعالى في سورة "الإسراء".

إغفاءة للشجون صاحبتها استراحة للجفون، ثم بحركة تلقائية بدرت نظرة من العينين ساورتها دهشة، مبعثها نور.

إنه نور يطل إلى جوار الفراش من ناحية جهاز التسجيل.

هل يمكن أن يكون النور قادما من الدائرة الحمراء التي بحجم النقطة، ذلك النور الضئيل الذي يشير إلى أن جهاز التسجيل في حالة عمل.

لكن هذه النقطة لم يسبق أن بعثت بمثل هذا النور الفضي المشابه لنور القمر، وإن كان ليس كمثله تماما.

سبحان الله.

إنه نور لا يضئ الأشياء الموجودة في الغرفة، لكن هو في حد ذاته نور، وجماله ليس مقصورا على أنه مجرد نور يسري في المكان، وإنما هناك إحساس مقطر بالسلام يسري عبر الغرفة إلى داخل نفسي.

سبحان الله.

إن ما أشعر به لا يقتصر على مجرد الإحساس بالسلام، وإنما هو إحساس بالإنشراح. ذلك الإنشراح الذي يبعث شعورا بالاتساع إلى الصدور فتسري الرحابة في المكان.

سبحان الله.

هذا هو ما انطلق به لساني بعد الدعاء الذي أملاه لساني على ذاكرتي ولم تمله الذاكرة على اللسان في ذلك الوقت من السحر قبيل الفجر.

سبحان الله ـ هو ما تكرر على لساني دون قصد من إرادتي، وإنما لساني هو الذي كان يتحرك دون تنبيه من المخ.

سبحان خالق الكون الذي أكرمني بإطلالة هذا النور الذي كأنه يربت على ما كان في أيامي من هموم وعلى ما سيكون. سبحان الوهاب الذي وهبني ما لم يخطر على قلبي ولا على البال في أي لحظة من لحظات العمر، وما لم تذقه روحي قبل الآن من سلام وانشراح مع فيض هذا النور.

ووجدت أصابعي تحصي مع لساني كلمة "سبحان الله" 33 مرة، ثم الحمد لله، ثم الله أكبر.

وكان هناك شعور يسري في كياني بأن ما يمر على لساني ليس مجرد تسبيح آلي مثلما يحدث من أي منا أحيانا، وإنما أنا أعزف بالتسبيح من أعماق كياني فأنزهه حقا، وأحمده حقا، وأكبره وأوحده وأؤمن بألا حول ولا قوة إلا به بكل معنى كلمة أن أحدا لا يقوى على شئ إلا بفضل الله وتوفيقه، فيزداد وقع حلاوة التسبيح في كياني، وكأنني أعزف تسبيحا. وإذا بالعزف لا يظل منفردا، بل كأن هناك من يشاركونني العزف تسبيحا باقتدار الذي يمارس عمله المعتاد.

وعلى ما أذكر فإن مساحة انتشار النور الذي كان يبدو قبل التسبيح على وشك الخفوت، إذا بتلك المساحة النورية تبدو مع التسبيح وكأنها تسري في أجزاء أخرى من الغرفة، وكأن المساحة النورية قد أخذت تنتقل من مكان إلى آخر كرقصة ـ إذا جاز التعبير ـ روحية تهفهف بما يبعث بالمزيد من الإنشراح، وبما يوحي للروح بنوع فريد من الإنسجام والطمأنينة المفقودة منذ زمان، وبنوع خاص من السلام.

لم أشعر إطلاقا بأي ذرة خوف مثلما يروي البعض ممن سبق لهم رؤية نور الليلة المباركة، ولم يتلجم لساني، بل كنت سعيدة سعادة لا تشبه أي حالة سعادة شهدتها من قبل. فقد كنت أحلق في النور وأنا في فراشي، وكأن هناك تحليقا يرافق روحي، يهدهدني، يمسح على رأسي في اتجاه عيني فلا تنسدل مني الجفون، وإنما تظل عيناي مفتوحتين تخشيان أن تحرما النظر من الإستمتاع برؤية النور الذي ليس كمثله نور.

لم أكن في حلم، كنت في علم. وكأي حلم أو علم لا بد من أن تأتي النهاية. فها هو النور يبدأ تدريجيا في التلاشي وليس الإبتعاد، بينما عيناي تدوران عبر أرجاء الغرفة بأمل المستعد المتعلق بالأهداب، برجاء الروح المهفهفة المتوسلة الطامعة، وفي الوقت ذاته الشاكرة، المذهولة، المتوردة، التي تجددت فسجدت الروح بالشكر دون أن يتحرك الجسد، وهتفت الروح بالشكر دون أن يتحرك اللسان. وصافحت الروح النور مودعة بلهفة المشتاق المضطر لقبول الفراق عندما يتأكد من أن الفراق قد حان، لأن النشوى مهما طالت فلا بد لها من انتهاء. وأعقب النشوى الروحية استرخاء وسكينة بعد ذروة الإستمتاع خلال اللقاء.

وها هو صوت الأذان معلنا أن الفجر قد أطل، وأن ليس للإنسان قوة إلا بالله ولا حول، وأنه هو وحده الذي يملك المفتاح والطول. مفتاح بهجة الروح التي هي من أمره، التي هي سره.

ويامفرح الروح أغثني ، أنصر الروح التي هي من أمرك، وطهر الجسد الذي أودعت فيه سرك إلى حين.

يا من عجز لساني عن التعبير بالشكر والإمتنان أمام عظيم ما منحه لي، ويامن تمنى عقلي على مدى أيام أن يستوعب ما رأته الروح وسط إحساس بالخجل من كل هذا الكرم، وعبر أمل في القدرة على الطاعة للرحمن الرحيم، فلا متعة في عمري تساوي ما شافته روحي بفضله في تلك الليلة التي تنزل الملائكة والروح فيها بإذنه، والتي هي سلام حتى مطلع الفجر.

سهام ذهني

من كتابي "بالنشوى قلبي ارتوى" الصادر عن هيئة الكتاب عام 2003

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى