إبراهيم بيومي مدكور - النفس وخلودها عند ابن سينا - 4 -

لا نظن بعد الذي تقدم أن الرئيس ابن سينا قد ادخر وسعا في إثبات حقيقة مغايرة للجسم ومتميزة عنه كل التميز، وأن في الكائن الحي شيئا غير لحمه ودمه هو مصدر حركته وحسه وتفكيره. وسواء أكان موفقا في برهنته دائماً أم لا فالمهم أنه أعتمد - كما اعتمد أنصار المذهب الروحي قديما وحديثا - على بعض الظواهر التي لا يمكن تفسيرها ماديا، وأرى أنها تستلزم قوة كامنة ومبدأ خفيا هو النفس. وهذه الظواهر قسمان: جسمية وعقلية؛ ومن الأولى يتطرق الخلل والوهن غالبا إلى برهنته. ففي اللحظة التي يتحدث فيها عن الإحساس أو الحركة زاعما أنها لا تفهم إلا إن سلمنا بقوة روحية تشرف عليها وتنظمها نراه يبعد عن الآراء الحديثة كل البعد؛ أما حين يعرض للشخصية والتفكير والظواهر النفسية في وحدتها واتصالها ويقرر أنها تستدعي أصلا غير الجسم وأمرا مخالفا للبدن فانه يدلي بأفكار تقربه من المحدثين بقدر ما تبعده عن زملائه ومعاصريه. وهذا هو الجزء الذي بقى للخلف من برهنته، والذي يجدر بنا أن ندخره ونحتفظ به. ولسنا ندعي مطلقا أنه أثبت وجود النفس بأدلة هي اليقين وحجج لا تقبل النقض؛ فتلك كانت ولا تزال مشكلة المشاكل وموضوع الخلاف بين الماديين والروحيين. والمهم أنه اهتدى في هذا الباب إلى أكثر البراهين إقناعا وأعظمها وضوحا.

والآن وقد فرغ من إثبات وجود تلك الحقيقة المخالفة للجسم فلا بد له من أن يحددها ويبين ماهيتها ويعين خواصها ومميزاتها. وليس تحديد النفس من الأمور الهينة؛ فقد كان مثار اختلافات كثير بين الفلاسفة الأقدمين، ومبعث أخذ ورد طويلين بين أفلاطون وأرسطو بوجه خاص. ولم يكن ابن سينا بعيدا عن هذه الآراء المتباينة والمذاهب المتفرقة، فإن الباب الأول من كتاب النفس لأرسطو، الذي يعد حجته الأولى ومصدره الرئيسي، موقوف في جملته عليها وخاص بعرضها ومناقشتها. وسيراً على سننه يعقد في كتابه الشفاء فص (في ذكر ما قاله القدماء في النفس وجوهرها ونقضه) وفيه يلخص كل ما جاء في الباب الآنف الذكر. ليبين مذاهب الفلاسفة السابقين، ويناقشها على نحو يشبه كثيراً ما صنعه أرسطو. واختلاف هؤلاء الفلاسفة في رأيه راجع إلى أن للنفس أثرين ظاهرين هما الحياة والحركة من جانب والإدراك من جانب أخر، ففريق بهره الأثر الأول وحاول تجريد النفس بواسطته فقط، وفريق آخر لم يفهم في طبيعتها إلا الإدراك، وفريق ثالث رأى أن يجمع بين هذين الجانبين. ويراد بالفريق الأول كل أولئك الذين عدوا النفس مصدر الحياة والحركة الذاتية، فخلطوا بينها وبين الدم الذي إن سفح كان الموت، أو بينها وبين الجواهر الفردة - أو الهباء كما يسميه ابن سينا - التي كان يظن أنها متحركة دائماً. وأما الفريق الثاني فيعتقد أن الشيء لا يدرك سواه إلا إذا كان مبدأ له ومتقدما عليه؛ ولذلك عدوا النفس واحداً أو جملة من المبادئ التي يختلف نوعها وعددها تبعا للفلاسفة فظنوا أنها نار أو هواء أو أرض أو ماء أو بحار؛ أو جعلوها مركبة من العناصر الأربعة كما ذهب إلى ذلك أبناء دقليس زعما منه أن الشبيه هو الذي يدرك الشبيه، فلا بد أن يكون في النفس جزء من الأشياء التي تدركها وأما الفريق الأخير فيرد النفس إلى العدد لأن الأعداد مبدأ الوجود والحركة والإدراك

واضح أن ابن سينا يشير في كل هذا إلى آراء الفلاسفة السابقين لسقراط في النفس، أمثال طاليس وديمقريط وفيثاغورس وإن كان لم يصرح بأسمائهم. ولم يقنع بتخليص هذه الآراء، بل ناقشها مناقشات طويلة عنيفة نكتفي بأن نسرد أمثلة منها. فيعترض على الفريق الأول أنه لم يفسر السكون، ذلك لأن النفس أن كانت متحركة بذاتها فكيف تسكن. على أنه ليس من السهل على هذا الفريق أن يحدد نوع الحركة الذي تقوم به النفس. ويرفض المذهب الذري الذي أثبت بطلانها في نواح أخرى. ولا يخفى تهكمه بأولئك الذين يزعمون أن الكائن لا يدرك إلا ما صدر عنه ملاحظا أن الإنسان يعلم أشياء كثيرة لم يقل أحد إنه أصل لها. وليس بصحيح مطلقا أن الشبيه فقط هو الذي يدرك الشبيه، لأنه لو سلم هذا كان معناه أن العالم العلوي لا يعرف من أمر العالم السفلي شيئا

ليس هناك شك في أن وقوف ابن سينا على هذه الآراء ومناقشته لها قد هيأت له الفرصة لتخير أحسن تعريف يلتئم مع طبيعة النفس ووظائفها. إلا أن هناك عاملين قويين يقتسمانه.

وصوتين عظيمين يتجاذبانه، وهو بينهما في حيرة واضحة وتردد ظاهر أو تناقض مكشوف أحيانا. فحين يقرأ عبارات أرسطو الأخاذة وتحليلاته المنظمة واعتراضاته المفحمة لا يلبث أن يرددها ويسير وراءها. وحين يسمع أفلاطون ينادي بجوهرية النفس وتميزها التام عن البدن يستولي عليه هذا النداء ويصادف هوى في نفسه وإن كان لا يتفق مع آراء أرسطو. وقد يقف موقفا وسطا بين هذين الطرفين المتقابلين محاولا الجمع والتوفيق.

يبدأ ابن سينا فيلاحظ أن الأجسام الطبيعية مكونة من هيولي وصورة. فأما الهيولي فهي تلك المادة التي يتكون منها الجسم كالخشب الذي يصنع منه الكرسي أو كالحديد الذي يعمل منه السيف. وأما الصورة فهي ما به تتميز الأجسام بعضها عن بعض وتتحدد ماهيتها وتقوم بوظائفها. فالأرض لا تفترق عن الماء بمادتها بل بصورتها، والإنسان إنسان بصورته لا بمادته المكونة من العناصر الأربعة، والسيف لا يقطع بحديده بل بحدته. وبما أن الكائن الحي جسم طبيعي فهو من مركب هيولي وصورة، والأخيرة هي التي تميزه من الكائنات غير الحية إذ أنها مصدر حياته وحسه وحركته. فالنفس إذا صورة الجسم. والصور كمالات كلها وكمالات أولية، لأن وجود الأشياء المختلفة لا يكتمل إلا بها. وليست النفس كمالا أوليا لجميع الأجسام، بل للأجسام الطبيعية فقط التي تمتاز بالحياة عن الأجسام الصناعية وتشتمل على آلات وأعضاء تقوم بوظائف متباينة. فهي كمال أولي لجسم طبيعي آلي

يخيل إلينا أن القارئ سيدرك على الفور المصدر الذي أخذت عنه هذه الأفكار. فإن ابن سينا لم يصنع شيئاً أكثر من أنه لخص الفصلين الأول والثاني من الباب الثاني من كتاب النفس لأرسطو ولم يكتف بأن يعتنق آراء الفيلسوف اليوناني، بل أبى إلا أن يردد بعض ألفاظه وتعبيراته. فلفظ (كمال) الذي يتشبث به ويبني عليه تعريفه ترجمة صحيحة لكلمة (أنتليشيا) اليونانية، وقوله أن (النفس صورة الجسم) ترجمة أخرى لتعبير أرسطي مشهور فإذا كان التعريف السابق ناقصاً أو معيباً من بعض نواحيه فالذنب في هذا لا يرجع إلى الفيلسوف العربي وحده، وإنما يشاركه فيه أستاذه اليوناني صاحب الفكرة الأولى. وإذا تركنا جانبا لفظة (كمال) أو (أنتليشيا) وما فيها من غموض فإنا لا نلبث أن نصطدم بهذه الجملة: (النفس صورة الجسم). تعبير رائع أخاذ من غير شك، لكنه لا يقدم كثيراً في تفهم حقيقة النفس وتحديد ماهيتها. وكم عودنا أرسطو هذه التعبيرات الحلوة التي يدمج فيها بعض المشاكل دون أن يحلها وفكرة الصورة من الأفكار الجوهرية في مذهبه إلا أنها في الوقت نفسه من أدق نقطة وأصعبها تلاؤما مع نزعة الواقعية. فان من يقول بالصورة يدنو من المالية الأفلاطونية وإن تحامل عليها. والواقع أن أرسطو لم يأل جهدا في نقد مثالية أفلاطون التي تقول إن النفس حقيقة متميزة من الجسم. ويصرح بأن ما ذهب إليه الأفلاطونيون والفيثاغوريون من أن النفس جوهر روحي أشبه بالخيال منه بالحقيقة؛ ولا يستطيع أن يتصور أن نفسا ما تأتي من الخارج وتحل في جسم ما. وكيف نقبل هذا ومؤداه أن النفس تدخل الجسم كما يوضع مظروف في ظرف خاص؛ ومن المقرر أن المادة غير قابلة للعزل عن صورتها ومع هذا فإن أرسطو يفسر النفس تفسيرا أدخل في باب المثالية من فرض أستاذه؛ فإنه يعتبرها صورة، وليست الصورة شيئا أو مادة بأي شكل من الأشكال. تناقض واضح ومنتظر من كل فيلسوف واقعي لا يزال يحتفظ بقدر من المثالية.

وكأن ابن سينا قد أدرك ما في التعريف السابق من نقص بدليل ما لاحظه من أنه لا يفسر النفس من حيث هي وإنما يعرفها من ناحية صلتها بالجسم فقط. لهذا أخذ على عاتقه أن يتلافى هذا النقص وأن يوضح ذات النفس مميزا إياها بخاصتين رئيسيتين هما الجوهرية والروحية. وفي حديثه عن هاتين الخاصتين يعرب لنا عن جدلي ماهر ومحلل دقيق وباحث عميق. ونحن نعلم أن الجوهر والعرض متقابلان بل ومتناقضان وإن كان تناقضهما غير صحيح، فأن كل ما ليس بجوهر عرض. فإذا استطعنا أن نثبت أن النفس ليست واحدا من الأعراض لزم من هذا أنها جوهر قائم بذاته. ولعل أول شيء ينفي عنها العرضية هو أنها مستقلة كل الاستقلال عن الجسم؛ وهذا الأخير محتاج إليها تماما الاحتياج في حين أنها لا تحتاج إليه في شيء. ولن يتعين جسم ما ويتحدد إلا إذا اتصلت به نفس معينة. وعلى عكس هذا النفس هي هي سواء اتصلت بالجسم أم لم تتصل به. ولا يمكن أن يوجد جسم بدون النفس مع أن هذه تستطيع أن تعيش بمعزل عنه؛ وما دامت هي مصدر حياته وحركته فلا وجود له بدونها. ولا أدل على هذا من أنه يتغير ويصبح شبحا من الأشباح إذا ما انفصلت عنه. فالنفس إذن جوهر قائم بذاته لا عرض من أعراض الجسم.

وهنا يبتعد ابن سينا عن أرسطو بعدا واضحا؛ فإن من المبادئ المسلمة لدى الأخير أن ليس ثمة وجود مستقل للصورة بمعزل عن مادتها.

وليس القول بجوهرية النفس من الآراء التي أبتكرها ابن سينا؛ فقد سبقه إلى هذا أفلاطون وتوسع فيه رجال مدرسة الإسكندرية. غير أن هناك فارقاً بينه بينهم، فبينما هؤلاء يعدون النفس جوهر لا غير يقرر هو أنها جوهر وصورة للجسم في آن واحد، وفي هذا من التعارض ما فيه وإن كان يفسره بأنه جوهر في ذاتها وصورة من ناحية صلتها بالجسم. والسر في هذا التعارض الذي وقع فيه الفارابي من قبل أن الفيلسوفين العربيين متأثران بمصدرين مختلفين؛ فقد أخذ فكرة الصورة عن أرسطو كما أخذ فكرة الجوهر عن أفلاطون؛ ولم يريا أية غضاضة في أن يطلقا هاتين على النفس، خصوصاً وقد ذلل لهما أرسطو ذلك؛ فانه لم يستعمل كلمة (جوهر) في معنى محدود فيطلقها على المادة تارة الصورة أخرى وعليهما معا مرة ثالثة. ومن الغريب أن صاحب كتاب الربوبية الحزاني يفسر عبارة أرسطو المشهورة: (النفس صورة الجسم) تفسيرا يشبه كل الشبه ما جاء به فلاسفة الإسلام؛ ولعل هؤلاء تأثروا به وخلطوا على نحو ما صنع الأرسطية والأفلاطونية ولكنه لا يفوتنا أن نلاحظ أن ابن سينا كلما بعد عن جو الآراء الأرسطية وخلص إلى نفسه عد الروح جوهرا فحسب ولم يشر قط إلى صورتها. فإذا كان يعرفها في الشفاء والنجاة الذين يحاكي فيهما جماعة المشاثين أنها كمال وصورة للجسم فإنه لا يتحدث عنها في كتاب الإشارات الذي يبدو فيه استقلاله وشخصيته إلا باسم الجوهر الروحي القائم بذاته. وفي هذا ما يبين لنا كيف غلبت أفلاطونيته على انتسابه لأرسطو في هذا الموقف.

(يتبع)


للدكتور إبراهيم بيومي مدكور

مدرس الفلسفة بكلية الآداب


مجلة الرسالة - العدد 194
بتاريخ: 22 - 03 - 1937

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى