خالد محمد مندور - جدل الحرب والعبقرية

كثير من الحقائق قد تكون معلومة لدى العديد من المراقبين والمهتمين والممارسين ولكن قد لا تتحقق لهم القدرة على الرؤية الكلية لتضافر هذه الحقائق وترابطها والتأثيرات الجدلية بين عناصرها ، والأكثر خطورة هو عمق إدراك هذه الرؤية الكلية والقدرة على الاستفادة منها وسط الظروف المتغيرة، لذلك فان الملكات الإنسانية المتفوقة ياتى دورها ، أى العبقرية .
فمن المؤكد أن تحتمس الثالث والكسندر الاكبر والجنرال جياب ونابليون بونابرت وهانز جودريان كانوا قادة عسكريين أفذاذا ، لكن صياغة الرؤية الكلية للحرب كانت تحتاج إلى عباقرة المفكرين العسكريين ، إلى سون تزو فيما قبل الميلاد والى كلاوزيفيتز في القرن التاسع عشر .
لقد أصاب كلاوزيفيتز حين قال "الحرب هي امتدادًا للسياسة لكن بوسائل أخرى،و الهدف منها هو جعل العدو ينفذ إرادتك " ، مقولة معروفة للعامة والقادة التى يرددها الكثيرون ترديدا لفظيا دون إدراك عمق معناها ، ودون أدراك أن الحرب لا يمكن اختصارها فى موازين القوى العسكرية بين المتحاربين ، بل أيضا فى حجم وتسليح وتدريب وحداثة وتنظيم القوات في ميدان القتال وليس خارجة ، ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد بل يمتد الى القدرة الكلية للمتقاتلين ، هذه القدرة الكلية التي تشمل تنظيم المجتمع وطاقاته الاقتصادية ومرونة الهيكل الإنتاجي وتنوعة ومستوى التعليم ومستوى القدرة العلمية والتكنولوجية ومستوى تطور البنية التحتية ومرونتها ، ويأتي أخيرا تحالفات المتصارعين مع قوى دولية أخرى وقدراتها وحدود استعدادها لتقديم الدعم ومستوى هذا الدعم.
لكن ذلك فإن الحرب عمل خطير جدا يتطلب اعتبار كل هذه العوامل في التقدير ليس فقط لبدء القتال بل أيضا لضمان الوصول الى النتيجة المرجوة ، فلا يكفى حجم ونوعية قواتك التى تستطيع أن تضعها فى ميدان القتال ، بحيث تصبح مواقف بعض القادة ، بعد اندلاع القتال ، بأنه لا يستطيع محاربة العدو وحلفائه ، مثيرة للسخرية لاى متابع يتمتع بالحد الأدنى من المعرفة السياسية ، ويصبح اتخاذ القرار ببدء القتال واستراتيجيته عملا متهورا يفتقد للحكمة ، وقد يقود إلى كارثة ، إذا لم يتم تقدير موضوعى لموازين القوى الكلية ومدى تطابقها مع الهدف السياسي للحرب.
لقد كشفت الحرب الروسية الأوكرانية عن القصور الكبير لدى الطرفين المتقاتلين في إدراك طبيعة الحرب ، كما كشفت أيضا عن نفس القصور لدى الدول الأخرى الداعمة لاى من الطرفين .
والمصيبة أن الدول الأقل تطورا كثيرا ما تستجيب لحالة " الايفوريا " عند اتخاذ قرار الحرب ، أي الخضوع "لحالة ذهنية وعاطفية يشعر فيها الشخص بإحساس شديد بالسعادة والفرح والإثارة والانتشاء والشعور بالذات " كما وصفتها الويكبيديا .
لقد كانت الحرب وخبراتها أحد اهتماماتي منذ زمن بعيد ، وما زالت ، وكلما توقفت أمام كتابات وأحاديث بعض القادة العسكريين والسياسين عن حروبنا السابقة أشعر بالأسف الشديد ، ليس فقط لمستوى وعيهم بل أيضا لمستوى أمانتهم التي تتداخل مع هذا الوعى بحيث تقودهم هذه التوليفة الى الديماجوجيا .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى