عبد الغني نفوخ - الواقع المعيش في "الكأس المكسورة" للقاص المغربي حميد اليوسفي

"سر العبقرية هو أن تحمل روح الطفولة إلى الشيخوخة ،ما يعني عدم فقدان الحماس أبداً"*
ألدوس هكسلي


من الحقائق الثابتة أن المرحلة التي قضاها الإنسان في الطفولة تبقى راسخة متحكمة في أعماق ذاته. فهو لا يقوى أن ينفلت من قبضتها، ويخرج عن سننها المألوف. تشده إليها بقوة دفينة، لا يفطن إلى حقيقتها، ويدرك جوهرها إلا الذي عاش التجربة، وذاق حلوها ومرها.. وتنهض الذاكرة بمهمة استرجاعها واستحضارها، ثم إعادة بنائها. فهي الخزان لسراديب وقائعها وأحداثها وملامح شخصياتها. تأتي هذه الذكريات كرائحة تلتصق دائما بالأمكنة والأشياء والشخصيات لا يجدي معها نسيان.

من خلال الجانب الاجتماعي والتفاعلات الاجتماعية تنهض الكتابة القصصية عند الكاتب القاص سي حميد اليوسفي للبوح بهذا المخبوء في أعماق الذات. الذات التي تربت وأينع عودها في أحضان المناخ الاجتماعي وسط مدينة عتيقة يقال عنها: مدينة الأولياء والصالحين من الزهاد حيث والدراويش "كل قدم بصالح". ويمكن للفقير أن يعيش فيها مطمئنا. كما كان يتردد على الأسماع وقتئذ، مراكش مدينة التاريخ، فأسوارها ومساجدها وقصورها ورياضاتها، ودروبها وأزقتها تعبق بأريج التاريخ وعبق السنين الخوالي، موقعها الجذاب كأنها أميرة جميلة في يد الأطلس الكبير، على جنباتها عرصات وحدائق وسواقي تروي عطش أشجار الزيتون والتين والليمون، مدينة المليون نخلة باسقة تشرق وتسطع الشمس من بين جذلاها.. أما الساحة الكبرى "جامع الفنا" فتختصر المدينة بثقافتها الشعبية وعادات وتقاليد أهلها، فيها يجتمع المليح والقبيح..

من مدينة مراكش بفضاءاتها وأمكنتها وشخصياتها، استمد الكاتب القاص حميد اليوسفي أهم موضوعات قصصه في "الكأس المكسورة" كما في "وشوم في الذاكرة". ظواهر اجتماعية وقضايا سياسية كما عرفها مغرب السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، وما شهده من أحداث بليغة الأثر في حياة الناس قصة: بنت الشعب ص55 وما بعدها.. إن تتبعه لهذه القضايا الاجتماعية والسياسية، التي انخرط في بعضها كفاعل سياسي ونقابي، أمدته القدرة على التقاط الظواهر والسلوكات والانفعالات.. كما عاشها وعايشها، وتحويل أحداثها إلى صور أدبية. فقد زاوج بين الواقع المعيش واللغة السردية بأسلوب أدبي وسط بين اللغة العربية العالمة بقواعدها وبلاغتها وصورها الشعرية واللغة البسيطة بتوظيف الأمثال والأقوال الشعبية المحلية. فهو لم يكتب "لقارئ محدد" إنه يكتب "للبسطاء.. لبائع السجائر بالتقسيط والبائع المتجول.. وكل المقهورين.."[التقديم] ..إنه يسافر عبر عالم هذا الواقع، بين الدروب والأزقة والأسواق المحلية وساحة جامع الفنا، عبر شخصيات أشبعها الكاتب وصفا، امتد إلى دواخلها وكشف عن نفسيتها وأوضح ما يجول بخاطرها. شخصيات يتهددها الخوف والقهر والحرمان، ويقطع أوصالها الجوع والمرض.. كل ذلك ليس على حساب الخيال كعنصر أساس في العملية الإبداعية والحفاظ على جمالية اللغة السردية وانسيابها وتكثيفها.

من هذا الواقع صنع الكاتب نسيجه الأدبي في بورتريه فني إبداعي، وبلغة سلسة فيها دفء إنساني، بلغة واضحة العبارة، صادقة المعنى، وبمهارة أدبي..

إن الكاتب اليوسفي شديد الميل للبسطاء والمهمشين المحرومين من أبسط مقومات الحياة وشروطها الكريمة، معذبون في الأرض، يحملون من البؤس والحرمان ما لم يتحمله جبل الأطلس المطل على باحة مراكش.. إنه إذ يكتب للبسطاء، فهو يكتب عنهم ساردا وواصفا. لكنه لا يتوقف عند منطق السرد وحدوده، إنما يتجاوزه إلى الدفاع عن هؤلاء، يطالب بحقوقهم المشروعة. فهم "بشر من آخر درجة" ص36.. لهذا من الإنسانية والأخلاق والمبادئ والقناعات التي يؤمن بها، وجب الدفاع عنهم. إنه بهذا التوجه الفكري والأدبي يمتلك أبطاله وعيا شقيا ضد سياسة التفقير، وصناعة الجوع..

هذا التوجه مصدره تجربة حقيقية وشعور دفين في الذات ورغبة ملحة لانتشال هذه الفئة العريضة من براثين التفقير إلى حد العبودية (قصة: زياد ص42_43 /عتبة الفقر ص47_48).. والكاتب لا يقف عند حدود الدفاع عن الفقراء، بل إنه يقدم بدائل حين يتدخل منتقدا لسلوك ومحتجا ضد الجهات المعنية والمسؤولة خصوصا المنتخبين ونواب الأمة (قصة: الانتخابات ص58).. كما يحمل المسؤولية في تردي الأخلاق وانتشار الرذيلة والكذب، لوسائل الإعلام والتلفزة التي تبث برامج ومسلسلات تحط من القيم الأخلاقية والإنسانية (قصة: الحي الشتوي ص7 وقصة :الوعود الكاذبة ص39)..

بهذا الميل الشديد للبسطاء والمحرومين.. بعتبر الكاتب والقاص حميد اليوسفي امتدادا للمدرسة الواقعية في الأدب المغربي. فكل كتاباته وخاصة "الكأس المكسورة " و"وشوم في الذاكرة" تمتح من هذا الواقع المذقع لفئة عريضة من أبناء الشعب.. إنه ينضاف لكتاب سبقوه كالروائي الكبير محمد زفاف في: "المرأة والوردة ـ بائعة الورد ـ محاولة عيش.." والروائي محمد شكري في:" مجنون الورد _الخيمة _زمان الأخطاء..." وغيرهما.. فهؤلاء الأدباء يقدمون صورة عن واقع القهر والحرمان الاجتماعي، وما يموج فيه من أعطاب نفسية واختلالات اجتماعية، بكل وضوح وصدق، داعين إلى مجتمع تسوده الأخلاق الإنسانية والعدالة الاجتماعية والمساواة ..


بقلم:عبد الغني نفوخ / المغرب

مراكش 06 يونيو 2023




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى