د. فيصل أبو الطفيل* - شعرية المفارقة في المجموعة القصصية: "الكأس المكسورة" للقاص حاميد اليوسفي.. وجهة نظر نقدية

على سبيل التقديم:

لا يوجد إنسان لا يمارس الحكي، لا يسرد الوقائع، ولا يتلقف الأخبار، إلا إذا كان إنسانا مفرّطا في إنسانيته. لا ينتمي سي حاميد اليوسفي إلى هذه الفئة ولا يمكن أن يكون نصيرا لها طالما أنه يتحصّن بتجربة أدبية غنية تتسربل نسيجا من السرد الخصيب، لتورق مجموعة قصصية من أبرز سماتها التنوع والغنى في سبك المباني وتدفق المعاني.

وعند هذا المدى، ترصد هذه الورقة أضمومة مختارة من المنجز القصصي لسي حاميد اليوسفي من خلال دراسة وتحليل نماذج بعينها مستقاةٍ من متن فريد تتلاطم داخله أمواج المفارقة لتسفر عن عنوان هذه الورقة: "شعرية المفارقة في المجموعة القصصية: الكأس المكسورة". ولتستعلن مدخلا من المداخل الممكنة التي تسمح بها القراءة، إنها تقنية المفارقة التي تتكرر بشكل يكاد يكون كاسحا في لحظات التوتر الشديد التي تفرزها أنماط التشابكات في جملة من قصص "الكأس المكسورة" التي عليها مدارُ هذه الورقة.

تشتمل المجموعة القصصية الكأس م لسي حاميد اليوسفي على 33 قصة، كُتبت خلال فترة زمنية امتدت لأربع سنوات (2018-2022)؛ أي بمعدل 8 ثماني قصص في السنة. ويمكن الاطلاع عليها في جلسة قرائية واحدة أو في جلستين على الأكثر. كما أنها تحمل طابعا مزدوجا من حيث ارتكازها على خلق متعة قرائية مسنودة بعمق دلالي يفتح بوابة المعنى على تأويلات مفتوحة وأحيانا غير متوقعة.

الإطار النظري:

تمثل المفارقة "إحدى الوسائل الفنية التي يلجأ إليها القاص لإبراز التناقض بين طرفين متقابلين، ومن خلال السرد المحكم يتولى إبراز المفارقة". إنها إذن تتأطر نظريا ضمن بلاغة الانزياح وجمالية الخرق.

ثانيا: المستوى التطبيقي:

وقع اختيارنا على ست قصص من مجموعة "الكأس المكسورة" لسببين رئيسين:

*الأول: اشتمال عناوينها على تقنية المفارقة التي تكسر توقع القارئ وتحدث الدهشة والإثارة

*ثانيا: اشتراكها جميعا في إعادة تشكيل الواقع بحسب مرجعياتها الثقافية والاجتماعية

المفارقة في ثلة من عناوين المجموعة القصصية: الكأس المكسورة : قراءة خاطفة

4-الرجل الذي يكره حماته

7-القبلة المسحورة

9-الكأس المكسورة

10-المرأة الشبح

13-الوعود الكاذبة

18-غادي الهاوية



تتضمن هذه العناوين من ناحية ترميزا وتكثيفا للمعنى، كما أنها من ناحية أخرى تشير إلى نوع من المفارقة بين الصفة والموصوف المقترن بها.

4-الرجل الذي يكره حماته

(الرجل الذي يكره حماته: يتوقع القارئ مثلا أن هذا الرجل يكره شيئا يكرهه جل الناس، فتخرج المفارقة هنا عن النمط المألوف والتقليدي الذي يمكن أن يتشكل على النحو الآتي: الرجل الذي يكره الانتظار/المدينة/الانتهازيين... إلخ.. وقد تسمح المفارقة أيضا في هذا العنوان باستحضار ملمح تناصي مع عنوان رواية حنا مينا: الرجل الذي يكره نفسه (وباستعمال شيء من القياس: من يكره حماته سيكره زوجته ومن ثم سينتهي به الأمر إلى أن يكره نفسه). وعلى أي حال، تدل المفارقة في عنوان القصة الرابعة من المجموعة على وجود توتّر اجتماعي داخل عالم مصغر هو الأسرة، تتولى فيه الحماة إشعال نيران المشكلات بما يفضي إلى زعزعة الاستقرار المنشود عند هذا الرجل الكاره لحماته. من الطريف جدا أن الجملة السردية الأولى من القصة تنضح بالمفارقة. يستهل سي حاميد اليوسفي هذه القصة بقوله: "إبراهيم موظف صغير، استقبلته حماته أثناء فترة الخطوبة بحفاوة". 16.

تعدّ هذه القصة بالنسبة لي من أجمل وأجود ما صاغته أنامل القص عند سي حاميد اليوسفي. فباستنطاق دلالة الجملة الافتتاحية يصدمنا الكاتب بسلوك غير متوقع هو أساس المفارقة المتمثلة في "حفاوة استقبال الحماة" لموظف محدود الدخل. فهل يا ترى كانت تعوّل على الاستفادة من زيادة محتملة في مرتبه يعم نفعها الزوجة وأمها؟ أم أن هذه الحفاوة إنما تختص بفترة الخطوبة (الوعد بالزواج) في انتظار خاطب آخر يستحق أن يظفر بابنتها المصونة؟. تحمل المفارقة هنا بعدا دلاليا أيضا يتمثل في هذا التناقض القائم بين "قصر ذات اليد عند الموظف الصغير" وما يقابلها من "حفاوة" لا تناسب المقام، ولا يمكن أن تحمل إلا على المجاز الذي يشوش على توقعات القارئ ويقحمه في دائرة الحيرة والغموض... تنتهي القصة بموت الحماة، لكن العقدة هنا لا تجد طريقها للحل، طالما أن مفارقة أخرى تمسك بزمام القارئ، وتقوم على طرح سؤال/هاجس هو: لماذا يزور إبراهيم أسبوعيا قبر حماته التي أذاقته العلقم في حياته؟ تعددت التأويلات وبقيت المفارقة قائمة تعبر عن نفسها بأسلوب ممتع ورشيق..

7-القبلة المسحورة

أستحضر هنا قولة جميلة لأدونيس يمكن أن نتخذها مطية لاستكشاف المفارقة في هذا العنوان. يقول أدونيس: القبلة هي الانحناء الوحيد الذي يمكن أن يسمى علوا. لنتفق بداية على أن القبلة المسحورة ليست قبلة عادية،



9-الكأس المكسورة

تمثل هذه القصة وسما خاصا للمجموعة، لأن عنوانها يتصدر الغلاف، ولأنه يعبّر في تكثيف واقتضاب عن مجموع القصص كنسق متكامل لا كبنية مفككة. ترمز الكأس المكسورة في بناء المفارقة إلى الأشياء التي تنشد الكمال والقدرة على التمام فتجد نفسها مجبرة على الاعتراف بالنقص؛ ذلك النقص الذي يمثل النصف الفارغ من الكأس.

عمر الشخصية الرئيسة في القصة صديق فتاة جميلة اسمها نرجس. تعاني من إعاقة في إحدى ساقيها. يجد عمر نفسه بين نارين: فهو يحب هذه الفتاة (أو يميل إليها) ويشفق عليها بسبب الإعاقة. هذه المفارقة النفسية تدخله في حالة من التوتر وتجعله يقيم بين برزخين متعارضين: يكون تارة في كامل صحوه، وتارة، يتناول مخدّر "المعجون" فيصير في أوج لهوه. يهرع إلى تفريق العقل بالمخدر حتى لا يصطدم بواقع مر يفسد عليه لحظاته الحميمة مع نرجس. تلك إذن تميمته في التمرد على وضعه الشائك. في النهاية، على حافة الجنون وشيء من المنطق يصدح في وجه محبوبته بحكمته الرصينة: "كلنا نعاني من إعاقة ما يا نرجس".34.

خاتمة:

محمولا بثقافته وتاريخه الشخصي ومحمّلا بقناعاته ورؤاه، يرسم سي حاميد اليوسفي شخصياته بتأن وروية، بحيث إن صورة هذه الشخصيات تتحدى القارئ وتصدمه ولا تكاد تفارق ذهنه. ذلك أنها تناقش قضايا تناسب العصر الذي أنتجت فيه، وتحدث بتقنية المفارقة التي تستظل بظلها مسافة إضافية لإضافة الدهشة إلى مسار القصص. يبرز ثراء الكتابة وتنوعها عند سي حاميد اليوسفي من خلال المخزون الكثيف من التجربة والخيال التي تعضدها طاقة كتابية كبيرة وتجربة إبداعية فريدة، تضمن لها الغنى والتجدد والاستمرار، وتتلألأ فيها الصور السردية مشحونة بالدلالات ومحتشدة بالتأويلات، وتبعث بصيصا من الأمل في قلب كل قارئ يدنو منها، ويحسن الإنصات إليها.


* د. فيصل أبو الطفيل
الكلية متعددة التخصصات-خريبكة
جامعة السلطان مولاي سليمان





د. فيصل أبو الطفيل.png


ذ. فيصل أبو الطفيل.jpg






تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى