مصطفى فودة - قراءة فى رواية "يوميات امرأة مشعة" للكاتبة نعمات البحيرى.. صراع المرض وشجاعة المقاومة

يوميات امرأة مشعة هى الرواية الأخيرة للروائية والقاصة نعمات البحيرى ( 1953 – 2008 ) كتبت فيها جانبا من سيرتها الذاتية فى فترة مرضها بسرطان الثدى ومحاولة التغلب عليه عبر الكتابة ، اختارت الكاتبة أن تكون الكتابة عن تجربتها فى المرض فى شكل رواية "فى محاولة منى لتجاوز الأزمة كان يجب أن أخرج إلى منطقة أقل تورطا مع المرض ساعدنى ذلك على النظر بحياد هادى إلى الصورة كاملة .. أن تقف خارج المشهد وتتأمل جيدا " ، والأقرب أن النوع الأدبى الذى ينتمى أليه العمل الأدبى هو رواية السيرة الذاتية .
منذ أن يطالعنا عنوان الرواية (يوميات امرأة مشعة) وهو يشير إلى مرض السرطان ولعلها استلهمته أثناء علاجها بجلسات الأشعات وجلسات العلاج الإشعاعى ، ناهيك عن ملمح السخرية بعنوان الرواية وهو الملمح الذى سنراه سائدا فى كثير من أجزاء الرواية .
أهدت الكاتبة الرواية "إلى كل الذين امتدت أياديهم البيضاء لنجدتى من بين مخالب الوحش ليته لا يعود .." وهى عبارة امتنان من الكاتبة إلى كل من ساعدها ووقف بجابها بمرضها عكس كل من تخلى عنها من الأقارب والأصدقاء على ما سنرى بالرواية ، ذكرت الكاتبة مقولتين أحدهما لكافكا " ينبغى عدم السخرية من البطل وهو يترنح على خشبة المسرح بعد أن أصيب بجرح قاتل " ولعلها تشير إلى نفسها وتتماهى مع ذلك البطل المترنح على خشبة المسرح ، والمقولة الثانية لمحمود درويش " فى كل كتابة إبداعية نصر صغير على الموت.." ولعل الساردة تتماهى مع المقولة الثانية فى كتابة الرواية لعلها تكون نصرا صغيرا على الموت أو نوع من المقاومة أو العزاء .
اتخذت الكاتبة من أصابتها بمرض سرطان الثدى واستئصال احدهما ورحلة علاجها بالمستشفيات الحكومية وما واجهته من عقبات بيروقراطية وطبية ومن ساندها ومن ابتعد عنها عند مرضها موضوعا لكتابة الرواية ، وقد كتب كثير من الكتاب عن تجربة المرض وعلى سبيل المثال الشاعر أمل دنقل فى مجموعته الشعرية أوراق الغرفة 8 وهى الغرفة التى أقام فيها الشاعر يمعهد الأورام أثناء مرضه بالسرطان وهى من أجود شعره وأروعه فى وصف مرض السرطان وانتظار الموت، كذلك كتب الشاعر حلمى سالم مجموعة شعرية وهى مدائح جلطة بعد تعافيه من جلطة المخ التى شلت نصفه الأيمن بمقدمة للدكتور جابر عصفور وتناوله موضوع شعرية المرض ويبدو أن الاعمال الأدبية التى يكون دوافعها المرض هى من أخصب أعمال الأديب لما بها من صدق فنى والتخلى عن كثير من زهو وغرور الحياة .
كانت السخرية هى الملمح الرئيسى بالرواية وهى السمة الأبرز فى أسلوبها فعنوان الرواية (يوميات امرأة مشعة) عنوان ساخر بلاشك وعبارة (بألم) نعمات البحيرى أسفل العنوان بدلا من بقلم وهى عبارة ساخرة أيضا تعبر عن رحلة الساردة أثناء المرض والتى تسميه بالوحش ، وقد امتلأت الرواية بالسخرية فى كثير من المواقف التى واجهتها فمثلا وصفت الساردة غرفة الجراحة بالسلخانة " دخلت غرفة الجراحة قاعة كبيرة أشبه بالسلخانة لكن بشروط أخف وطأة ، رأيتها حين رافقت جدتى ذات مرة وأنا صغيرة لشراء لحمة رأس وكرشة وفشة وكوارع " ص32 .
واجهت الساردة تلك الفترة العصيبة من حياتها بالسخرية كما ذكرنا وبالقراءة والكتابة والفكاهة أحيانا وبسماع الأغانى التى تحبها بمسجل السيارة الصغيرة التى تسميها "فلة بنت خوخة اللى جت بعد دوخة " ومنها أغنية محمد منير نعناع الجنينة وصديقتها بطة ( فاطمة ) تردد نعمات البحيرى على نفس لحن الأغنية ، وأغنبة محمد منير لسه الأغانى ممكنة ، واغانى فيرروز التى تقول عنها أنها تكشف عن قدر من الود تجاه الحياة برغم صعوبتها .
كانت الثقافة ملمح رئيسى وأساسى بالرواية وقد احتشدت الرواية بالثقافة فى أجزاء كثيرة منها ولعل عبارتى الاستشهاد لكافكا ومحمود درويش تشير إلى ذلك ، فكانت القراءة والكتابة أحد أدوات المقاومة عند الساردة منذ صغرها تقول " فكان لابد من سبيل للمقاومة فعرفت القراءة والكتابة أحد أدوات المقاومة وأنا أعاهد نفسىعلى تفادى ميراثأمى من الإستسلام والإذعان " ص52 وفى موضع آخر " كنت أدرك أن الثقافة ترتقى بالفتاة التلقائية والريفية بداخلى " لكن مع الوقت كنت أشعر أننى أقرأ ثقافة وعليِ أن أعيش فى تخلف لكننى عشقتها فقد كنت عبر القراءة أجدنى دون أدنى شك أفك قيودى واحدة فواحدة وأعمل على حل العقد التى تسبب فيها غبرى فى شروط الممكن والمباح " ص31 ، وفى موضع آخر " سأعترف أن متع الدنيا تم اختزالها فى متعة الكتابة والقراءة ومشاهدة السينما لأعيش حيوات كثيرة ربما تعويضا عن فكرة الخلود التى كانت تؤرقنى منذ طفولتى " ص ، أعترف أننى ثقفت نفسى بنفسى فى الوقت الذى كان بيتنا لا يعرف من الكتب غير بطاقة التموين"ص25 وأعتبرت أن كتبها هم أطفالها الحقيقيون وتعيش من أجلهم .
قامت الساردة بتعرية النظام الطبى فى مصر فالاطباء يتعاملون مع المرضى بتعالى وصمت وكأنهم كهنة فى المعابد القديمة ، كل المرضى أمامهم لحم معطوب أغلب الاطباء غير مثقفين يرضعون الطب فى سرنجة معدنية مجرد تقنيات حديثة منزوعة من كل ماهو شخصى وانسانى وتضمن عبارة برنارد شو عن الأطباء بانهم الجزارون المهذبون ، وممرضات يشبهن أورام صغيرة تتحرك على أقدام " بدا الطابق لمرضى الأورام من كل نوع بؤس الحظ والطالع كائنات بائسة مذعنة للمرض والياس والاستسلام وممرضات هن اصلا يشبهن أورام صغيرة تتحرك على أقدام "ص28 ووصفت فنى الاشعة بأنه أشبه بالدمى البلاستيكية ,ابيض بياض الشمع وبارد الروح ومصمت العينين ، وهى أوصاف تكشف خلو أشخاص المنظومة الطبية من الروح الانسانية رغم فخامة المبانى والشكل المعمارى الفخيم ، أصيبت الساردة بفيروس( سى) أثناء تحاليل الدم داخل المستشفى " شئ مفجع أدخل لعلاج مرض أخرج به ومعى مرض آخر هدية " .
عبرت الكاتبة بمرارة عن غياب بعض الأصدقاء " احتجب عن مجال السمع والبصر أصدقاء كنت أعدهم من أعمدة حياتى وأركانها ، ورغم هذا سامحتهم ورحت التمس لهم أعذارهم وأنا أراهم مثل أوراق الشجر اليابسة التى ارغمها الشحوب والإصفرارعلى التساقط " ص93
كانت إصابة الكاتبة بالمرض ورحلة علاجها الطويلة بمعهد الأورام زلزالا كبيرا إجتاح حياتها استرجعت فيها حياتها منذ الطفولة وتذكرت ظلم أبيها حين حدد لها سقف تعليمها بدبلوم تجارة " تمردت على أبى حين حدد مستوى تعليمى بدبلوم تجارة تعس وبائس فتجرأت وتجاسرت وذاكرت لأحصل على دبلوم تجارة حتى أتفادى الزواج من أبن عمه ، الطينة من الطينة واللتة من العجينة ، كما تقول أمى" . كانت الكاتبة على غير وفاق بأسرتها أفراد أسرتها وخاصة أبيها وينظرون إليها كمتمردة ،لأنها غيرمحجبة وتكتب أدبا وغير متزوجة وتعيش وحدها فى مدينة بعيدة ، و كأنت تنعى نفسها فى مرارة بأن أسرتها ينتظرون موتها ليرثوا ما شقت من أجله " أخوتى ينتظرون إجراء الغسل والدفن وإعلان الوراثة حتى ينقضوا على ما شقيت من أجله ، غبت وتعبت وكافحت من أجله"
أجادت الكاتبة أستخدام تقنيات سردية أضفت على العمل الأدبى الجمال الفنى والعمق والجاذبية فاستخدمت عدة تقنيات منها البورتريه فى رسم عدة شخصيات وعلى سبيل المثال بصفحة 122 " يذكرنى الطبيب الاخصائى ببورتريه فان جوخ الدكتور جاشيه اصدق صورة للمزاج السوداوى فى العصر الحديث "
لم يمض السرد فى خط مستقيم بل انقطع فى بعض المواقف الصعبة وتشظى الزمن بين الحاضر والماضى مستخدمة تقنية الاسترجاع (الفلاش باك) وكانت تقنية ضرورية ومناسبة فى إستخدامها أثناء تلقيها العلاج الكيماوى والإشعاعى فكانت تمكث فترة طويلة تسترجع ذكريات الطفولة فى المدرسة مثل قيام زميلاتها بإجبارها على خلع حمالة صدرها وهى كانت الوحيدة التى تلبسها ثم قامت كل واحدة بارتدائها ، وأسترجاع ما لاقته من عنت وظلم من أسرتها ومن مجتمعها فيما بعد فكانت تلك الذكريات تسرى عنها وتخفف ساعات العلاج الطويلة .
كان السرد بلغة عربية بسيطة وسهلة ولكنها لغة تصويرية للمواقف التى واجهتها وهى صغيرة وكبيرة تعبرعن أحزانها وأفراحها واستخدمت بالسرد كلمات عامية مثل" سبوبة "و"عدة شغل" و"بزنس" وكان استخدامها باللغة العامية والمتداولة موفقا تماما لبيان معان لاتؤديها الفصحى ، أما الحوار فكان معبرا وبجمل قصيرة وباللهجة العامية مثلا الحوار بين الساردة وأمها
- أخبار سليم إيه ( زوج الساردة عراقى )
- كويس
- بيكلمك
- لأ
- أمال عرفتى منين انه كويس
- طالما ماعنديش خبر سئ يبقى كويس
- تفتكرى عرف اللى حصل .
- أو مايعرفشى ... مش فارقة معايا .
كانت رواية يوميات امراة مشعة عملا فنيا بديعا حكت فيها الساردة عن تجربة مرضها بسرطان الثدى والذى أدى إلى بتر أحد ثدييها وما لاقته من عناء بيروقراطى وطبى وشجاعتها فى مواجهة المرض ومقاومته بالسخرية والفكاهة والبوح واسترجاع ذكريات الطفولة وإبداء مرارتها من الاهل والاصدقاء من خلال عمل أدبى أقرب إلى السيرة الذاتية وإستخدام تقنيات سردية أضفت على العمل الادبى جاذبية وفنا رائعا عبرت عن موهبة كبيرة للكاتبة نعمات البحيرى رحمها الله تعالى .
__________________________________________________________________
كتبت هذه القراءة بمناسبة ذكرى ميلاد الكاتبة نعمات البحيرى رحمها الله تعالى ( الذكرى السبعون) وقد قرأت جانبا منها بمداخلتى بالندوة التى أقامتها ورشة الزيتون الثقافية يوم الأثنين 2023/6/19إحتفاء بذكرى مولدها فى 16/ 6/ 1953 .
May be an illustration of text

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى