د. عبدالجبار العلمي - الشَّاعرُ المَغْربي مُحَمَّد الشِّيخي وصِناعةُ السَّبائِك الشِّعْرية

يعتبر الشاعر محمد الشيخي، حسب التصنيف الزمني المتداول للشعراء المغاربة، من جيل الستينيات - كما أعلم عن كثب ـ وإنْ كانتْ بعضُ الدراسات تحسَبُه ضمن جيل السبعينيات. فالواقعُ أنه بدأ كتابة الشعر في أواخر الستينيات. وقد نشر له الملحق الثقافي قصيدة بعنوان " الحُزن " في تلك الفترة. وإذا كان قد تأخر في نشر دواوينه، فذلك يعود إلى الصعوبات التي كان يعرفها الطبع والنشر في بلادنا آنذاك، فكل الدواوين القليلة الصادرة آنذاك، تم طبعها على نفقة أصحابها كما تم توزيعها بجهودهم الخاصة. وهكذا لم تظهر أشعار محمد الشيخي مطبوعة في ديوان إلا في بدايات الثمانينيات ، حيث أصدر ديوانه الأول "حينما يتحول الحزن جمراً "( الدار البيضاء أبريل 1983 ) ، ثم توالى صدور دواوينه كما يلي : " الأشجار " ( الدار البيضاء ،1988، وقد كتبت قصائده ما بين 83 و86 ) ؛ وردة المستحيل " ( منشورات فضاءات مستقبلية الدار البيضاء، 2002 )"؛ ذاكرة الجرح الجميل " ( فضاءات مستقبلية الدار البيضاء 2005 ) ؛ " زهرة الموج" ( دار الحرف للنشر والتوزيع القنيطرة ، 2009 ) ) ؛ " فاتحة الشمس" ( فضاءات مستقبلية ، الدار البيضاء ، 2015 ) .
سنتناول في هذه القراءة بعض ملامح التجربة الشعرية للشاعر محمد الشيخي من خلال نماذج أتيح لي قراءتها قراءة عاشقة ، وذلك كما يلي :
1ـ قراءة سيميائية في غلاف ديوان " الأشجار ".
2 ـ قصيدة "طفولة الماء " من ديوان ذاكرة الجرح الجميل ".
3 ـ قصيدة " أول الكلام " من ديوان "وردة المستحيل".
4 ـ ديوان " فاتحة الشمس " وصناعة السبائك الشعرية.
1 ـ قراءة سيميائية في غلاف ديوان " الأشجار " :
الأشجار تموت واقفة على حد تعبير الشاعر الفلسطيني معين بسيسو رحمه الله، دلالة على الشموخ والسمو والثبات على المبادئ والصمود في وجه أية ريح . وغلاف الديوان دال على هذا الشموخ ، فقد كتب الفنان عبدالله الحريري لفظ الأشجار بإطالة الألفات واللام إلى الأعلى ، مستخدما اللون الأخضر رمز الينوعة والخير والنماء ، فضلا عن الجذوع المنبثقة من تربة خصبة مازالت تنبت أشجاراً أخرى في طريقها إلى الأعالي ، وقد أخذت تظهر في أغصانها وريقة خضراء يانعة دلالة على ولادة جديدة لهذه الأشجار . إن هذه الأشجار هنا، تثمر ثمرات الشعر الجميل الذي يتجلى لنا جماله في الحروف المزدحمة المحيطة بجذع الشجرة الصاعدة كنظيرتها شامخة إلى الأعلى لتعبر عما يعتمل في الذات الشاعرة من آمال وأحلام بشموخ الإنسان والتشبث بالكرامة والعزة والقيم الأصيلة. وإذا كان صاحب لوحة الغلاف قد اختار اللون الأسود لأرضيته دلالة على أن العتمة تغمر الكون الشعري وراء الغلاف الناتجة عن أحزان الذات الشاعرة وضيقها بواقع تسوده الكثير من دواعي الإحباط ، فإنه حرص على إضاءة هذه الظلمة المدلهمة في الأرضية بجذع الشجرة الأبيض الذي يشع بالضوء والنور ، مشيرا إلى أن بعد هذه الظلمة نورا ، وأن بعد ذلك الضيق انفراجا، وهذا يتناغم مع رؤية الشاعر إلى العالم .وهذا يتنافى مع ما ورد في العرض التعريفي الموجز للشاعر حسن نجمي حين صدور الديوان 1988 المنشور في جريدة الاتحاد الاشتراكي، فهو يرى أن في النص " سوداويةً وقلقَ المشاعر" ـ " حضورَ الزمان وغياب الفضاءات " ـ سلطةَ النص الشعري القديم في مستوى التناص داخل المجموعة " ليس ثمة "تغير في رؤية أو حساسية الشاعر تجاهَ الأشياء والحالات الخاصة والعامة"، وينتهي إلى طرح السؤال التالي : " إلى أي حد استطاعَ هذا الديوان الشعري الجديد أن يحقق تحولاً عن سابقه " حينما يتحول الحزن جمراً ؟ " . الواقع أن السوداوية التي ألمح إليها الشاعر حسن نجمي ، أخذت تتلاشى وأنَّ ثمة استبشاراً بانطفاء جذوة الحزن . وإذا ما عُدنا إلى قصيدة "الأنهار" ( ص : 5 ) ، سنصادف تحولاً في رؤية الشاعر بالملموس نحو التفاؤل والحلم:
" إنها الأنهارُ ..
تَجْري فوق جغرافية الحُلم..
وإنا لَنرى الأحْبابَ
يولدونَ مِن تَوَهُّجِ الجَمْرِ الذي
يكبرُ في ذهولِ هذه الخَرائط.. فعم تتساءلون ..؟!
إنها الإشارة اركضي ..
أيتها الأنهارُ في أزمنة الرفضِ ..
ورتلي طقوسَ الخِصب في تمتمة الأرض .."
فلنلاحظ مثلاً على مستوى المعجم المستخدم في النص أنه الحلم والتفاؤل : "الأنهار ـ الحلم ـ الأحباب يولدون ـ الإشارة ـ الخصب .. أما فيما يخص غياب الفضاءات ، فأمر غير وارد ، فمن الجدير بالملاحظة أن الفضاءات هي السائدة من الغلاف إلى الخط الذي كُتب به الديوان الذي يملأ الصفحات بجماليته وبنطه الغليظ ـ، فيشكل فضاءً جميلاً يحفه ضياء البياض. أما توظيف الشاعر التناص مع التراث الشعري العربي القديم ، فأمر يُحسب للشاعر ، فلم يكن يوظف التناص في شعرهم إلا شعراء قلة عن وعي وتمكن، ومن أبرزهم عندنا الشاعر أحمد المجاطي. فلماذا يكبت الشاعر مخزونه الشعري والثقافي الذي من شأنه أن يغني شعره، ونعتبر النص الشعري القديم سلطة قاهرة ينبغي أن نحيد عنها؟
2 ـ "طفولة الماء " من ديوان "ذاكرة الجرح الجميل "
تتألف القصيدة من ثلاثة مقاطع مرقمة من : 1 إلى 3
شجَرٌ يأتي .. !
قد تَرَاهُ يُصَفِّفُ أَوْراقَهُ
في مَمْشَى الْقَصٍيدَةِ.
ـ أَنْدَلُسٌ .. !
قَدْ تًرَاهَا
تَصْعَدُ مِنْ جُرْحِ ذَاكَ الْمَسَاءِ،
تَسَاقَطٌ مِنْ عُشِّ هَذَا الْفَضَاءِ الرَّمَادِيِّ،
- هَا غَرْنَاطَةُ هَذًا الْحُلْمِ
تُشَرٍّعُ نًافِذَةَ الشِّعْرِ ،
تَزْرَعُ دَالِيةَ العِشْقِ
فِي حُجْرَةِ الْقَلْبِ ،
فِي مَسْكَنِ الشَّمْسِ
وَالدَّمْعَةِ الْعَاشِقَهْ !
يمكن أن نعتبر هذا المقطع المحكم البناء الذي تأخذ ألفاظه بعضها برقاب بعض عن طريق التدوير أحيانا ، جملةً شعرية طويلة حسب تصنيف الشاعر الباحث أحمد المعداوي (المجاطي) ، حيث يحددها بأنها هي التي تتجاوز الست عشرة تفعيلة ، " شريطة أن تتكرر عددا من المرات في القصيدة الواحدة." وقد تكررت الجملة الطويلة في ثلاثة مقاطع هي التي تتكون منها القصيدة، وتنتهي الجملة الطويلة في قصيدة الشاعر محمد الشيخي في المقطع الأول بقافية مقيدة مجردة (ه/ذا الماءْ ) ، وينتهي المقطع الثاني بقافية مطلقة موصولة بهاء السكت ( عاشقهْ ) ؛ كما أن المقطع الثالث ، ينتهي بنفس قافية المقطع الأول قافية مقيدة مجردة (ه/ذا الماءْ) . وإذا كان لفظ الماء يتكرر في قافية المقطعين ، فإنه في الأول يتكرر مع لفظ الطفولة ، بينما يتكرر في المقطع الأخير مع لفظ الشيخوخة ، فالذات الشاعرة مدركة للزمن الهارب المنفلت من بين يديها :
" زمن هارب .. !
ما تبقى من أشواق الظهيرة
لامتصاص ثُمَالةَ هذا الوقت.
وهل يكفي لاشتعال الفراشة
في هذيان العرس الأخير ؟
وما قد تبقى
من سورة اللون ،
هل يكفي لاشتعال الطفولة
في شيخوخة هذا الماء ؟
ثمة على مستوى المعجم في هذا المقطع الأخير كلمات دالة على الزمن : زمن هارب - الظهيرة - الوقت - العرس الأخير - الطفولة - الشيخوخة ، هذا بالإضافة إلى فعل تبقى المتكرر مرتين المرتبط بالزمن الهارب ، وفعل يكفي المستخدم مرتين في صيغة السؤال عن مدى كفاية الزمن المتبقي لمزيد من الأحلام الوردية والآمال الطفولية البريئة. وهل يتوقف توقُ الإنسان إلى تحقيق آماله العريضة ؟
يبقى أن نقول: إن الشاعر كزميله في تحكيك الشعر وتجويده أحمد المجاطي، ينحو منحاه أيضا في المزج بين البحور الشعرية في قصيدة واحدة. فقد استخدم الشاعر في قصيدته " طفولة الماء " بحرين متقاربين: المتقارب في المقطع الأول ، والمتدارك في المقطعين الثاني والثالث ( فعولن - فاعلن ) وهما كما هو معلوم ( عِلُنْ فَا - لُنْ فَعُو )، وربما استخدم الشاعر المتقارب البطيء للدلالة على زمن الطفولة والصبا والشباب الذي مازال ممتدا إلى الأمام ، بينما وظف وزن المتدارك الذي يُزاحَف فيصير خببا للدلالة على سرعة انقضاء الزمان وهروبه دون توقف إلى نهاية المطاف. القصيدة تزخر بالصور المبتكرة شأن كتابة الشيخي الشعرية. إنه من الشعراء المُحَككين المجَوِّدين الذين لا يخرجون على الملأ بشعرهم إلا بعد أن يحسوا أنه قد استوى ونضج على نار هادئة. ولنا في تجربته الشعرية ما يؤكد ذلك ، فلا يصدر له ديوان جديد إلا بعد سنوات قد تتجاوز الخمس سنوات .
3 ـ " أول الكلام " من ديوان "وردة المستحيل"
-شَرِّع فِي وَجْهِ الْفَجْرِ
مَا يَتَبَقَّى مِنْ شَهْوَةِ اللَّيْلِ..
هَذَا أوَانُ قَصِيدَتِكَ اﻷُولَى
أوْ مِيقاتُ قَهوَتِكَ اﻷُولَى
هَلْ تَشْرَبُهَا سَوْدَاءَ؟!
-تَمَهَّلْ وَأنْتَ تُحَدِّقُ فِي قَعرِ الْكَأسِ،
سَمِّر عَينيْكَ في شَبَقِ الْمَجْهولِ
وَرَتِّلْ مَا قَد تَيَسَّرَ مِنْ سُورَةِ الْمُستَحيلِ..
لِتَقرَأْ كِتابَكَ فِي هَمْسَةِ الصُّبحِ
أوْ فِي صُراخِ الظَّهيرَةِ..
شَكِّلْ فَضَاءَاتِ الْمُنتَهَى اﻷَجمَلْ.!
أرى الشاعر المغربي محمدا الشيخي شاعراً ذا صوت خاص ، وأسلوب متميز، حيث يمكن أن تعرفَ شعرَه دون أن يكون موقَّعاً باسمه . ولا يتأتى هذا للشاعر إلا بعد تمرس دائب بالكتابة الشعرية ومعاناة طويلة في عالم الإبداع الشعري الصعب المراس ، فضلا عن الإخلاص له وتكريس كل الجهد من أجل تجويده وإتقان سبائكه لغة وصورا وبناء وإيقاعا. إن الصورة الشعرية عند الشاعر محمد الشيخي تتسم بجدتها وفرادتها ، يُشكلها بألفاظ يعسر على المرء استبدال غيرها بها ، فالسبيكة قد تم صنعها بأنامل فنان ماهر ، فكل حجر كريم قد وضع في موضعه المناسب المتناغم مع غيره من الأحجار الكريمة التي يصوغ منها سبيكته المتينة . يمكننا القول : إن معجم الشاعر مميز وصوره الشعرية مبتكرة تمتاح من خيال واسع وقدرة على تشكيل لوحات فنية غاية في الجمال والإمتاع.
شَيْءَ يُغنِي عَن حَديثِ الْقلْبِ..لَا أحَدْ
يُمْكِنُهُ أن يُوقِفَ الصُّبحَ الَّذي يمْشي مِعي فوْق رصيفِ الْعُمرِ،
يستضيء مِن سماءِ هَذا الْوَجدِ،
مَن أشعَلَ فِي ذاكِرتي
فاتحةَ الشَّمسِ؟،
-أدَمعُ اللَّيلِ،
-أم سحابَةُ الْحُلمِ الَّتي
تعبُر أرضَ الشَّهَواتِ،تستَريحُ فِي دَمي؟
الملاحظ أن في المقطع السابق ظواهر أسلوبية وبلاغية تتمثل فيما يلي: تنويع الأسلوب بين التقرير والإنشاء مما يبعده عن السقوط في الرتابة ـ غناه بالصور الشعرية الجميلة المبتكرة ، فليس ثمة سطر شعري يخلو من التصوير القائم على المجاز والاستعارة ( حديث القلب ـ الصبح الذي يمشي معي فوق رصيف العمر ـ سماء هذا الوجد ـ فاتحة الشمس ـ دمع الليل ـ أرض الشهوات .. ) ومن يعود إلى دواوين الشاعر الأخيرة، سيجد بيسر هذه الظاهرة الفنية المميزة للكتابة الشعرية لمحمد الشيخي.
4 ـ ديوان " فاتحة الشمس " وصناعة السبائك الشعرية.
وبعد هذا المنجز الشعري الباذخ الذي تمت الإشارة إلى بعض ملامحه، يصدر الشاعر محمد الشيخي ديوانه السادس " فاتحة الشمس " لمتابعة مسيره الشعري على نفس النهج من الإجادة والحضور المتفرد في المشهد الشعري العربي في المغرب. ويتضمن هذا الديوان عشرَ قصائد اختار لها الشاعر العناوين التالية : " فاتحة الشمس " ـ " أوتار " ـ "دهشة الريح " ـ " وما ذا بعد ؟ " ـ " قفا نضحك " ـ " إيقاعات مبتهجة " ـ " وجه الماء " ـ " جمرة الريح " ـ ذاك الربيع " ـ " لحظات هاربة " . وكما أسلفنا أن الشاعر محمداً الشيخي من الشعراء المقلين الذين يشعرون بالمسؤولية إزاء ما ينشرونه على الملأ ، بين ديوانه الجديد هذا وديوانه " زهرة الموج " أكثر من خمس سنوات. وهو بذلك من زمرة الشعراء الذين يُحَكِّكُونَ شعرَهم ويُجَودونه ، ولا يخرج من بين أناملهم إلا سبائك متقنة ، تنطق بالجمال وجودة الصنع. إنه ينسج على منواله الخاص المتميز في أسلوبه ولغته وتصويره وتراكيبه. ويمكن لقارئه اللبيب ـ كما تمت الإشارة إلى ذلك أعلاه - أن يتعرف على شعره دون أن يكون ممهوراً باسمه. لقد تمكن الشاعر خلال تجربته الشعرية الغنية من صياغة أسلوبه الخاص المتميز. وقد أبدع الأستاذان المبدعان محمد البكري وأحمد بوزفور في تقديم ديوان " فاتحة الشمس " ومن خلاله تجربة الشاعر الباذخة المعتقة بأسلوبهما الشعري ، وبلغتهما الأنيقة ، فكان أول تلق جميل ، واحتفال بهيج بميلاد شمس متوهجة بالشعر الجيد.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى