مجدي شعيشع - قِط 🐈‍⬛ أُم طلعت

أحضرت طُعم الصيد فى علبة سلامون فارغة وغطيته ببعض الطين ليظل حياً، خلف ساقية الأبعادية الطين عطِن مخلوط ببقايا القش يكثر فيه الطُعم ويكبر حجمه.

جهزت غابة رومي حوالي المترين، واشتريت صنارة و خيط بلاستيك وثقل رصاص و عوامة فلين.

وفى طريقى وصلت بيت السيدة أم طلعت، العتيق، الذي أَجَرتَ منه غُرفة فى نهايته تطل على شارع البحر، لعمي فريد الجزار، كي تأنس بالناس من حولها،
كتب الأستاذ أحمد فريد على تلك الغُرفة كازينو الزمالك، رغم مساحتها الصغيرة كَسَى جُدرانها من الداخل والخارج بصور الفريق، الكازينو مطعم فول وطعمية فى الصباح، ومقهى بعد الظُهر، ومحل جزارة فى المواسم والأعياد.

تجلس أم طلعت خلف شباك عتيق مرتفعاً عن الأرض قليلاً، يُفتح للداخل، ومن الخارج تحميه قُضبان حديد، لا يُغُلق الا ساعة النوم، لا تنام حتى تنام قططها، كأنها أنجبتهم، يحلم الأطفال فى مثل عمري أن ينالهم من الرفاهية ما يناله أصغر قِط من قططها.

تتبختر الابتسامة على شفتيها دون سبب، حتى تصيب عدوى ابتسامتها من يحظى بزيارتها، محتشمة فى غير تكلف، تطل من بين سياج نافذتها كالشمس تشرق على النخيل، ألقيت عليها السلام، استوقفتني، تسمرتُ تحت النافذة، من بين قضبان الحديد مدت يدها بطبق زنك فارغ، وباليد الأخرى قرشين صاغ، والأساور تعانق ذراعها عناق العطر للزهر.

"قُل لعمك فريد، بقرش فول وقرش طعمية، لِستي أم طلعت".
امتلأ طبق الفول، كان دخولي البيت أمراً حتمياً، تتجول في أنحائه رائحة البخور الهندي تجول العطر بين بتلات الورد، وثريات اللؤلؤ تغازل ستائر الحرير فى زوايا مملكتها، تتكحل عيون النجف بالتحف والفضيات فترسم على قبة السماء ملائكة من نور.

أم طلعت سيدة فى منتصف الستينات مكتنزة فى غير ترهل، فتافيت امرأة وقفت لها السعادة بالمرصاد، بحثت عنها طويلاً، وعلى ضفاف ميت حديد أماط الزمن لثامها عنها، لعلها تجد فيها ضالتها.

دعتني للفطور، تعللت بذهابي للصيد، رفض مُتلجلج، يعني موافقتي.
هَمَست بصوت حنون لتُسقِط عن جبهتي عناقيد الخجل، يا حبيبي أنا خالة والدك، وافقت دون تردد، وأنا متلهف لدخول بيت عريق له مهابة القصور الملكية، الستائر كفساتين السهر، والكريستال يزين ثريات الذهب كالنجوم حول البدر فى قبة .

ناولتني بصلة، وقالت بهدوء وابتسامه: فول عمك فريد يشتهى البصل، ممكن تساعدنى فى تقطيعها.
أخذتها باستحياء وضعتها على حرف طاولة الطعام، وعزمت أن أهوي عليها بقبضتي الصغيرة وأقسمها نصفين، لكن رهبة البيت حالت دون قدرتي، ثم وضعتها بين باب الغرفة وحلق الباب، وأغلقُت عليها الباب بسرعة، طار على أثرها قلب البصلة كالسهم فى رأس القط الأسود الرابض (كالمعبود باستت فى مصر الفرعونية) أطاحت بالغفوه من عينيه، يتظاهر بالهدوء، يستنكر وجودي.
تصرُخ عيونه الملتهبة: أنت غير مرغوب فيك.
صفعته بنظرة حادة: أنا فى بيت جدتي، قِط مثلك يحلم بصيد فأر، أو ينام فى دوار غنم.
أوغل صدري بعيونه المريبة وهو يتمرغ على السجادة الحرير، ومازال الشرر يتطاير منها، وهو فى الأصل لقيط كأغلب قطتها، لو صادفنى قط مثله أُسمى على حجر صغير وألقيه عليه، فيهرب.

أول من أدخل الراديو ميت حديد، أم طلعت، وضعته فى نافذتها المطلة على شارع البحر، الاستماع مجاني، يتجمع الرجال تحت النافذة، فى الصباح قرآن كريم وفى المساء أخبار وأم كلثوم.

تلوك أم طلعت مرارة فقد زوجها الثري، وتبتلع غصتها قبل دخول أي ضيف، تلتف حولها القطط كالطيور على أقدام من يطعمهم.

تتزين حياتها بنفحات الكرم، وهي السيدة الوحيدة فى ميت حديد التي تربي قططاً لا أصل لها، أظنها من باب الصدقة.
القطط فى ميت حديد نوعان، نوع يتلصص تحت الموائد يخطف ما تطوله يده، وحضوره مقبول، ونوع أسود يلبِسه شيطان، وحضوره ممقوت، يفتقر كلاهما لرفاهية الشيرازي أو السيامي.

عَقَدت اتفاقاً معي، أعطتنى علبة صفيح فارغة، لها فتحة مستديرة فى وسطها، حرفها مثني للداخل حاد كشفرة الحلاقة، وحذرتنى منه، واعطتني خمسة قروش مقدماً على أن أعود لها بما أصطاده كي تقدمه طعاماً للقطط.

على ضفة الترعة يتدلى الخيط بهدوء، يحمل صِنارة فضية ملفوفة بالطُعم، تبتلع ريقها الجاف على وجه النهر، عجزت صِنارتي الصغيرة عن تحقيق صيد سمكة واحدة، أسدد بها ديني، الخجل يقطر من الصِنارة، ورأسها كالشادوف يسقط مرغماً فى فم النهر ويرتفع بالخيبة فلا يتعلق فى طرفها شيء.

أشتاق لسمكة يطربني صوت قفزها فى عُلبتي الصفيح الفارغة.
تطفو البساريا على وجه الماء الجاري، تحتمي بضفة الترعة، وهو المكان الأنسب للصيد وماهى الا دقائق حتى بدأت حفلة زار فى قاع العلبة، أقامتها البساريا التي استجارت بالصِنارة من السمك الكبير، وامتلأ نصف العلبة تقريباً، أكبر واحدة فيها أصغر من أصبعي البنصر.

عُدت لأم طلعت، ليس فى العلبة من سمك البلطي إلا رائحته، فتحت لى الباب، قفز القط الأسود على العلبة، قفزة نِمر جائع على غزال شارد، نفضت يدى منها، تلقفتها يديه، سقطت فى مدخل البيت من الخارج، حاول الدُغُم -هكذا كنا نسميه- أن يصل للسمك، فتحة العلبة مستدير وضيّقة، تتحرك العلبة على الأرض دون وعي، والقط يحاصرها بشراهة المغتصب الذي تتملص منه الضحية، يدفع الأرض برجليه، يدس رأسه النافر غيظاً وحُمقاً فى حلقها، ينتظره مصير ذكر النحل بعد الوصول للملكة.

استعصت عليه كَسَمِ الخِياط فى وجه الجمل.
كلما راودها استعصمت، حتى حُشِرت بين درجات السلم وقضبان الحديد على إحدى جانبيه، واستسلمت فى إحدى زاوياه رغم عنها، استجمع القط قوته المفرطة، ارتخى فم العُلبة فابتلعت رأسه ابتلاع الأفعى لفريستها، سقط فى جُب معتم، لا شبعت شهوته ولا ظل على البر.

تدحرج الخبر بين الناس، فتجمهرت الحشود على نواصي الشوارع متأبطين الحذر.

يدفع رأسه للقاع فيختنق، يرجع للخلف تلتقمه حافة العُلبة من الداخل، تحزُ رقبته حزاً، كان الدخول مستحيلاً وأصبح الخروج أكثر استحالة، سقط فى الشارع، والاقتراب منه يعنى الهلاك، يجرى فى أي اتجاه، يقفز فى أي مكان، حتى الجُدران لم تعد ملاذاً آمناً، يترنح وسط البيوت كفأر أعمى سقط فى حفل زفاف قِط جائع.

القط لا يتوقف عن الجري والقفز بجنون وعشوائية، كثور معصوب هائج، لطخ دمه الجدران والشوارع، قبضت على يدي الصغيرة بكفها البارد المرتجف، لست أدرى هل تحتمي بي أم تصرف عنى الخوف الذي حاصرنا، وبصوت خافت تدعو للقط بالخلاص.

انحرف القط قليلاً صوب بركة مفتوحة على النهر أمام بيتها، يجري بأقصى سرعة كمن يجري على محيط دائرة وينتظر حد النهاية، سقط فى البركة، ألهبت المياه الباردة الجروح الغائرة فى رقبته كلها، كلما قفز وهبط، تضيق قبضة العلبة على رقبته، خارت قواه وأشرف على الموت، تحولت البركة لبقعة دم فى منديل أبيض، غطس دقائق، طفت العُلبة فارغة، تتحلقها أرغفة خبز جاف أطعمته أم طلعت لأسماك البِركة قبل دقائق، ومن بعيد طفا القط على صفحة الماء ممدداً بدون رأس تنهشه البساريا.


أَبْعَادِيَّة
هي مساحة من الأرض يمنحها الوالي أو الحاكم لأقاربه أو أتباعه بعيدا عن العمران ليقوموا باستصلاحها وزراعتها.
أمثلة : ” قرر محمد علي بعد حكم مصر عام 1805 نوعا من الملكية الفردية، وأقطع أبعادية من الآراضي البور لكل من أعيان الدولة ورجال الجهادية... “

مجدي شعيشع - مصر

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى