إبراهيم محمود - سليم بركات، وشظاياه التي تسمّيه

أن تكتب عن سليم بركات، وإن أردت أن تكون كتابتك كتابة بالفعل، لا مجرد تسطير للورق، لا بد من التنبّه إلى نقطة في غاية الأهمية، وهي في كيفية قراءة ما كتبه بركات، وبمنتهى اليقظة:
ألا تكرّر في عملية الكتابة ما هو مقروء بلغة الشعر، جهة الحديث عن عالمه الغرائبي- العجائبي، وصدمة المغايرة لديه،وما لا يستطيع أحد مجاراته، كما هو المردد هنا وهناك طبعاً... وهو يكاد أن يكون القاسم المشترك الأكبر للذين يسعون إلى التوقف عند عمل له أو أكثر، أو في مجموع ما سطّره كاتبنا الكبير، وهو كبير طبعاً، وقبل أي دخول مه في مناقشة ما، أو إقرار معين بحقيقة ما، وخصوصاً من الكتاب الكرد، حيث يستظلون بظله، إجمالاً، ويفتقرون إلى الحد الأدنى من النقد، وهو ألا يكرر ما هو مسمَّى في النص المقروء، وفي الوقت الذي يسهل إبراز بؤس هؤلاء، حين يعظّمونه " وأنا لا أتحدث عن بركات بعيداً عن كونه مبدعاً ، كما أشرتُ" كما لو أنهم محاطون علماً بكل ما يخص فرادة المأتي على ذكره، ومفهوم الغرابة، أو العجيب، أو بصفته " جنّياً " وكأن في ذلك اكتشافاً.
إزاء ذلك لا قيمة لأي كتابة إن لم تهز " جسد " النص، إن لم تنبّه النص المقروء، وتضيء عالمه، كاشفاً عن تلك التصدعات أو الثغور التي تتخلله، مما يلفت نظر كاتبه إلى المعتبَر ضعفاً في نقطة أو أكثر في نصه، وما يعرّف بالكاتب نفسه، على أنه يتحرك بالمقابل ، على تخوم النص المقروء، وينظر إليه من مسافة تسمح برؤيته أكثر قابلية للقراءة، وأكثر إمكانية كشف لما يفتقر إلى الدقة أو التوازن في استعمال التعابير، ما يعني تحفيز كل من الكاتب والناقد، لأن ينظَر إلى الأبعد، ويثْري عالمه الأدبي، النقدي أكثر فأكثر .
في ضوء ذلك، أي منتَج معرفي، يسهل النظر فيه، والاعتراف بحقيقته، ومن ثم إشهار علامته المميَّزة، جهة المكتوب عما كتبه بركات، في مختلف أعماله الروائية والشعرية.
وفي الوقت نفسه، حين أشدد مجدداً، على أن قراءة الآخر، وبوصفه الآخر، وليبقى الآخر المختلف، وفي الجانب الإبداعي على وجه التحديد، يستحيل منْحه حقه، دون قراءة المغايَر في نصه، من جهة، ودون إبراز ما يستحق اعتباره كتابة حول كتابة، وتقابلها في القيمة الاكتشافية الفنية .
سوف أتوقف عند مجموعة بركات الشعرية ( الشظايا الخمسمائة: " أين يمضي هذا الذي لا تلمسه يداي؟ "، دار المدى، بغداد،ط1، 2021)،في " 136 ص " من القطْع الوسط.
وأنوّه بداية إلى أن مجموع الشظايا هذه " 499 شظية " وليس " 500 "، لأن هناك ما تكرر لدى شاعرنا" الشظية 256: ما تفعله الأمهات يفعله الآباء بعد الموت . ص 71- مكررة في الشظية332، ص 88 ).

هذه المجموعة الشعرية، شأنها شأن أكثرية مجموعاته الشعرية، تنبني على مفارقات يتولى الخيال البركاتي نسجها، وليس من السهل اعتماد أي تأويل كان أحياناً، لمقاربة المعنى الذي يجلو صورته الشعرية هذه أو تلك. وأن ثمة نمطية معهودة لمن يتابع ما أودعه مجموعاته الشعرية في السنوات الأخيرة خاصة، وما فيها من تكرارات وتشابهات، كما سنرى، وما في ذلك من تأثر شعوري أو لاشعوري، بطبيعة المكتوب عن مجمل كتاباته، ومنها الشعرية.

درس الشظايا الأكبر
من أين جيء بمفهوم " الشظية " ؟ إنها قديمة جديدة، ولو أنها في الأصل " شذرة "، كما في حال شذرات هيراقليطس " 535-475 ق. م "، والمفردة الفرنسية fragmentدالة عليهما معاً . إنما يبدو أن بركات أن يضفي على عنوان مجموعاته، ما هو أكبر إيحاء وترددَ صدى، أي ؟ شظية " وليس " شذرة " لأن مفردة بركات تلفت النظر، إلى وجود ما هو انفجاري، إلى المتنثر ضمن مساحة واسعة، تبعاً لقوة المنفجر،وما يستدعي التوقف عند حقيقة هذا المنفجر والمتحول إلى شظايا، وما للشظية كتسمية من دلالة مؤثرة على السمع والبصر .
في مقابلة هذه المفردة تشترك حواس عديدة، وفي الواجهة: السمع والبصر، ولكن اللمس من جهته لا يخفي جانب تأثره بخاصية الانفجار، والمادة المنفجرة، وما نوعية الانفجار هنا، ولا بد أن الشظية جارحة، ولكنها تستولد صوراً ومعان، وتشدّد على وجود مأساة، وما للجسد من دور مفصلي في هذا الحدث الشعري البركاتي.
ومن هنا كان اللمس متولياً " قيادة " المخيال الشعري لبركات بصورة مباشرة أو غير مباشرة، ومن خلال التالي على العنوان بمحوّله الاستفهامي : أين يمضي هذا الذي لا تلمسه يداي؟ وما يخرج عن طوعه، سلطته الحسية بالذات، وهو ما يمكن للشعر أن يدفع بالقارىء إلى معاينة هذا التوجه والخفي فيه، وما أمكن قوله بصيغ شتى.
تأتي اليد العضو الأول في ملامسة الأشياء في العالم، وبصورة غريزية، وفي الوقت الذي يكون الفم العضو الأول جهة الجمع بين أداة للتغذية، وأداة للمس، فمن خلال الفم، يتعرف الطفل على الحرارة، البرودة، الصلابة، المرونة، الخشونة والنعومة..إلخ، ولليد أن تكون مرافقة لهذه العملية، وتالياً تبقى اليد متصدرة مختلف أعضاء الجسم في الاتصال بالعالم الخارجي، وليس هناك ما هو أكثر من أدوار اليد، وفي حالات شتى بالنسبة للإنسان، ولجسدنا أن يقرّر مثل هذه العلاقة متقدماً باليد كفعل اتصال وانفصال، كفعل إشارة وحركة معينة، وما يشد المتناهي إلى اللامتناهي (العالم الحديث منفتح على اللانهاية ، للعدد الكبير ، بجميع أشكاله: الخلايا والذرات ومليارات الأفراد الذين يسكنون الكوكب ...الخ. ..كيف نفكر في هذا الانفتاح على اللانهاية الذي هو المحدود؟ الجسد منته كما الفم منته ٍ ، النهاية هي خط يعطي شكلاً إلى ما لا نهاية. يفتح الفم: أتكلم ، يمكنني نطق عدد لا نهائي من الأصوات والجمل. اللانهائي هو الخارج الذي يفتح عليه المحدود.) ، وما يشكله الاتصال بمفهومه اللمسي من معنى يعزز محورية اليد(المعنى هو تجربة للواقع. نهج. لمسة. هناك ، الفكر له علاقة بالشعر أو الحب. اللمس يقلل المسافة ولكنه لا يلغيها. بهذا المعنى ، فإن اللمس هو أكثر ما يؤدي حقًا إلى الآخر. الآخر ليس في المسافة ولا في الاندماج.) " 1 ".
نعم، نحن نرى، كما نستشعر العالم بيدنا، ومن يدنا نتلقى الأوامر، بمعنى ما، ونكتشف حدودنا ونوعيتها.
وحين نتكلم، ونتقن الكلام وما يمكن أن يقدّمه من أفكار وتعابير، يكون اللمس قد أفصح عن قدراته الكبرى، عندما الكلمات تفح عن ذلك، وعندما يصعب الفصل بين الكلمة وما للمس من فضيلة هبَة، أو عطاء، وما يترتب على هذه العلاقة من إمكانية خروج عن الحسي فينا، لمكاشفة المنفصل عنا، وهو يقيم داخلنا خارجاً، وكيف أن الجسد في كل ما يعنيه من حركات ويرتد إليه من إيماءات، وأشكال تعابير، لا يعدو أن يكون ترجمان اللمس بالذات. إنما (ما الذي تلمسه الكلمات ، وما هي حواف الواقع أو التخيل التي تلمسها ، وكيف تحافظ على ذاكرة اللمس ، ليس من خلال إحياء ذكرى الأحاسيس اللمسية ، ولكن من خلال إطلاق حقيقة الشعور ، حيث يشعر الجسد بأنه لحم ؟
لمسة الإنسان ، التي تختلف عن تلامس الحجر الذي "يلمس" آخر ، هي لمسة حقيقية من حيث أنها تلامس العالم ، عالم الكائنات الحية الأخرى ، والأشياء ، والنفس. إنها تفتح العلاقات التي من خلالها يظهر الوجود رغباته ، ووجوده الجسدي ، ونقشه في وسط القصة.) " 2 "
أن نكون كائنات لمسية، هو أن نضيء بنية هذه العلاقة، حتى لا نتجاوز ما يعطّل فينا قوة الاتصال ليس بالعالم تحديداً، إنما بأنفسنا، وهي بمرجعيتها الجسدية، ولنحسن الإقامة في المسافة الواصلة بين الجسدي والمغاير له.
إن بؤرة التوتر العائدة إلى عنوان مجموعة بركات، تقرّبنا مما هو ممكن توقعه، في سؤال فاعله" لماذا الشظايا هذه، ولماذا هي خمسمائة ؟ " ليس من صلاحيتنا، كما أرى، أن نساءله عن هذا العدد ولماذا ليس أقل أو أكثر، في الوقت الذي يشير إلى خاصة الكثرة، ولكنها ليست الكثرة المتناهية، من نوع " ألف ليلة وليلة "، وهذه الكثرة العددية تظهِر عنف المثار في الحادث، والمساحة الممكن تصورها جرّاءه، وما أُفصح عن جانب الصعوبة لدى شاعرنا، وهو يتعقب " شظاياه ؟ وهي تسمّي خاصيته الشعرية، ونسبه البركاتي، وربما ما عجز عن الإحاطة به، على وقْع الإنفجار وهول الجاري فيه، حيث اليد تتلمس، تقيس، تمتد هنا وهناك،وما استحال على يده لمسه، وفحوى هذه الحركة، وهي رهان الشاعر بالذات، إذ بين المقبوض عليه، والملموس وغير الملموس مسافة ومفارقة تسمية. كأن اللمس عامل إضاءة، وفاعل استرشاد، وبوصلة قيادة لعينيه في مشهد الانفجار المتخيَّل، وهي التي تحدد وتعلِم بالقائم. وفي الوقت الذي نقرأ هذه الصيغة الكاشفة للمراد من العنوان الرئيس، ما يغيّر في الدلالة" الشظية 31 " وهي التي يحل فيها فعل " تمسكه " محل " تلمسه ، ص 15 "، أي " أين يمضي هذا الذي لا تلمسه: تمسكه يداي؟، ومن المألوف بشكل واضح أن " الإمساك " غير " التلمس "،لأن الأخير لا يحدد أي جزء من اليدين: براحة أو او كف، أو برؤوس الأنامل، أو كامل اليدين...إلخ ، بينما الإمساك فهو فعل محدد، ويعتمد على تحديد نوعية الإمساط لجسم" بإصبعين، ثلاث أصابع، الأصابع الخمس...إلخ " المهم أن الإمساك دال على وجود خبرة في تقدير ما يحتاجه الجسم الممكن الإمساك به، من جهة أصابع اليد الواحدة أو اليدين .
نكون هنا إزاء مفهوم انفجاري للعنوان ضمناً، ونتوقع ما يؤلم في كل متابعة، أو سردية بركات ، وما ينوّع في كل شظية، قوة تعبير، أو رد فعل تخيلي، أو نفسي، والألم المتوقَّع. إننا إزاء دراما صارخة لها منحى كوني، وفاعلها نص شعري ما كان في الإمكان التفاعل معه، إلا وقد استحال انفجاراً بمجموعة شظاياه المذكورة ، كما لو أن كل شظية تحتفظ، رغم النسب الواحد جهة العنوان، بخاصيتها في المساحة، والمثار تخيلياً، وسمة الرؤية بالمقابل.

وجوه الاختلاف
شظايا بركات في غاية التنوع والاختلاف في صوغ العبارة أو الفقرات الدالة عليها. إنها حالات وارتحالات، إن جاز التعبير، وهي تتفاوت في ومضاتها الشعرية، ومأثرة الجمالي فيها. إذ إن المسافة الفاصلة بين شظية مكونة من جملة واحدة، وقصيرة، كما في الشظية " 29 " ( كل قليل خَطِرٌ . ص 14 )، وشظية تتعدى الصفحتين ، كما في الشظية " 421 " ( صص 108-110 )، أو جملة تكون طويلة نسبياً، وهي بالعشرات، وكذلك المكونة من جملتين، وشظايا تحتل ثلث الصفحة أو أكثر، تولّد تنوعاً في إيقاعات المعنى، وتثير تساؤلات بالمقابل، عما كان عليه الوضع النفسي للشاعر، وهو " يشظّي " نصه الشعري هذا. وما يستوقفه هذا التباين في القِصَر والطول من تداعيات تخيلية، وكذلك على صعيد التذوق الجمال، حيث إن الجمال حصيلة مفارقات لا تخفي تعالقاتها النصية، وهو ما تقوم به الصورة الشعرية التي تختزن داخلها طابغ المباغتة، طالما أن ( الجمال ينتظرنا في كمين ) "3 "، بتعبير بورخيس .
وفي وجوه الاختلاف، يمكننا معايشة هذا البعد الجمالي، ونوعيته، وذائقته، حيث نتعقب أثره .
أشير هنا، إلى أن في شظايا بركات ما يسهل النظر فيه، وبصورة عادية جداً، خلاف شظايا أخرى، ربما يصعب البت في المأثرة الجمالية الداخلة في تركيبها، وفي تلك العلاقات الكيميائية الملمح التي تشكل مشهداً فنياً واحداً.
ولا بد أن الذي يشغل واعية بركات، ربما، كان هذا الذي لا تلمسه يداه، ليوسّع حدود طاقته الإبداعية، كما في هذه الشذرة " 36 " :
لا يكفيني ما أفعل،
بل يكفيني ما لا أفعل . ص 16 .
ولعله فيما أودعه هذه الشظية من معنى، كان يحيط علماً بالحالتين، وإلا كيف يكون التفريق بينهما. إن عبارة " ما لا أفعل " هي التي تشده، وهي التي تمده بالطاقة، والقدرة على النظر هنا وهناك، وما " لا تلمسه يداه " كذلك .
يشير بورخيس المذكور آنفاً، في نقطة لها صلة ببعض مآثر الشعر وعبر اقتباس لافت:
( لقد قال برادلي إن واحدة من مؤثرات الشعر هي أن يمنحنا الإحساس ، ليس باكتشاف شيء جديد، بل بتذكر شيء ما كنا قد نسيناه .) " 4 "
ثمة ما يصل ما بين " تذكر شيء قد نسيناه " و ما " لم تلمسه يداه ". ما يريد بلوغه أو التحقق منه، أو التمكن منه.
لنتوقف عند التباينات.
من جهة الجملة الواحدة:
شظية 77: لا تضع يدك في يد ٍ قادرٌ أنت على كسرها . ص 26 .
شظية 83: كرم العاهر منْحُ الزبون قبلةً مجاناً . ص 28 .
شظية 104: روّضوا السماء بإعفائها من الديون الدموية. ص 36 .
شظية 192: معدنيٌّ غضب التماثيل ِ الحجر ِ بعد المغيب . ص 56 .
شظية 301: شيّدوا صرْحاً من الأخطاء النبيلة . ص 80 .
شظية 389: لكمة الجريح غير موجعة. ص 101..
شظية 445: غرباً تزدهر مجالس العائدين من أساطير الشرق. ص 115.
...إلخ
أرى أن أي قارىء لما تقدم ذكره من أمثلة، سوف يلاحظ مدى التباين، في المؤثر الشعري ونوعيته. مثلاً، لحظة التقابل بين الشظية " 77 " والشظية " 192 "، وما يتطلب بعض الجهد في الشظية " 445 ". وما يمكن للقارىء أن يطرحه من أسئلة عن نوعية الشعر في الأولى، وصعوبة التفاعل مع الثانية .
هذا ما يمكن تبيّنه في الشظية المكونة من سطرين، وربما بجملتين، كما في :
الشظية " 24 ":
تعبت الحروبُ. لم يتعب مثيروها:
حروبٌ تذكارات تتجدد أثمانها . ص 12 .
وما تحفّزه الشظية على مكاشفة عمق المعنى في الذين يسمسرون الحروب بصيغ شتى .
وما يثير المخيال الشعري في الشظية " 128 :
من تضع يديها بين فخذي الأخرى أولاً:
السماء أم الأرض؟ . ص 43 .
وما يمكن قراءته في الشظية " 333 ":
لا وجوه تحت الأقنعة:
صدّقوا الأقنعة . ص 88 .
ذلك ما يمس وظيفة القناع في إخفاء الوجه، أو تمويه حقيقته.
بركات لا يخفي تلك القدرة الهائلة لديه في تركيب عالمه الأدبي: نثراً وشعراً، وما يتطلبه ذلك من وجوب الاستعانة بضروب اللغة كاملة، في صرفها ونحوها، في مفهوم جمالها، وتفسيرها وتأويلها. وربما إقلاقه، وبدءاً من الشظية الأولى " ص 5 ":
خمّنوا ما أخمّنه:
إنه السراج الأخير مغذَّى الشعلة بزيت الجنون .
تُرى كيف يمكن إقامة علاقة تفسيرية أو تأويلية مع هذه الشظية، دون توقع التحرك في متاهة المعنى؟
وفي الشظية التالية ، الصفحة نفسها:
ضعوا الجَّمال جانباً على الأرائك، قرب قلوبكم
وضعتموها في أكياس على الأرائك:
هذا جذبُ الأيام من شَعرها،
جذبُ البرق من شعره،
جذب المعاني من شَعر عاناتها .
قد يكون في مقدوري أن أوغل في تبعات المكتوب، وأمارس تفكيكاً لكل مفردة، وليس الجملة الواحدة، وأستدعي ما يلزم من عبارات تفيد هذا الإجراء، إنما دون إمكان الطمأنينة إلى أن الذي كتِب يؤخَذ به كقراءة نقدية . ذلك ما يضع الشاعر نفسه في مواجهة ما يفصح عنه بخصوص ما يكتبه، بصيغه التي بات يعرَف بها، وإلى أي مدى يمكن اعتبادها صوراً شعرية، وليس من اعتراض عليها، ولا بأي شكل، وما هو متداول في بنية القراءات، والذين يتلقون المكتوب على أنه الإبداع الذي يتطلب من قارئه إبراز علامته الفارقة دون أن يجرؤ على قول المطلوب، ومحاول السؤال عن البعد النفسي للمكتوب. حيث الخطأ في العلاقة يرتد دائماً إلى القارىء. وهذه إشكالية كبيرة، لا يمكن للشاعر" هنا " أن يبرأ منها، أو يُعتبَر كل ما أفصح عنه شعراً أو نثراً لا يُشث له غبار
بركات حاد إلى أبعد الحدود إزاء من يقرأون له ومن زاوية النقد، غالباً. وربما أكثر من ذلك، وإن كان يشير إلى استثناء معينن ومحدود جداً، ولكنه لا يسمّي ولا واحداً من هؤلاء، ولا بد أن الذين يكيلون المديح، لما يكتبه، بعيداً عن أي مكاشفة جمالية لفنية الشعر، أو الكتابة لديه، يكون له سهم في هذا التمادي، ونشوة الأنا لدية .
حين يرد على محاوره في كتاب كامل يخص كتاباته وعلاقاته مع من حوله، بصدد النقد:
( نقدٌ مستسلم، طيّع، يمشي على الجانب الآمن من أحكامه. ما يخرج على النمطي يُربكه، ويكشفه فقيراً. وأدبي لن يستسلم ليحظى بـ " شفاعة " البؤساء النقاد إلا قلة من الأقوياء الجسورين أحفظها لهم. أما في اللغات الأخريات ( أعني الترجمة) فقد نلت قسطاً وافراً من التكريم . ) " 5 "
يعني أن أي قراءة، إجمالاً، لا تكون كما يريد بركات، لا تكون مغرضة فحسب، وإنما معبّرة عن بؤس كاتبه، ونقص في شقافته، وربما عدم نضجه، وحتى تطفله على الكتابة بالذات، كما هو الملاحَظ في تعبيره آنفاً أيضاً.

داء النمطية بركاتياً
أتحدث هنا عما يكون بركات أسير صوغه أو رهينته، في تلك الطريقة التي يعرَف بها نثراً وشعراً، جهة التكرار في المفردة الواحدة، ووضعها في مجموعة جمل، تستغرق أكثر من صفحة أحياناً.
في هذه المجموعة، ثمة الكثير منها.
في الشظية " 8 ":
الأشباح الرسامون.
الأشباح الموسيقيون.
الأشباح الراقصون.
الأشباح الكتبة بحبر شبحيّ.
الأشباح البهلوانات.
الأشباح السمكريون...ص7 .
وفي الشظية " 84 ":
أريد أن أرى الذي في المكان الداكن،
في الصوت الداكن،
في الوعد الداكن،
في القريب البعيد الداكنين،
في العظمة الداكنة،..ص28 .
وفي الشظية " 324 ":
لواعج احتياطيةٌ.
زحام احتياطيٌّ.
جنون احتياطي.
أعصاب احتياطية .
حزن احتياطي.
نزف احتياطي..ص 86.
وفي الشظية " 454 ":
برّح الرياح ضرباً.
برّح السماء ضرباً.
برّح الليل ضرباً.
برّح الفراغ ضرباً...ص 117 .
إذ في مقدوره أن يطيل في نمطيات من هذا النوع، وليس في مستطاع أحد الاعتراض، ربما لأن ذلك سيُعتبَر ضرباً بليغاً من الجهل، وعدم القدرة على فهم الإبداع وما يكونه مبنى ومعنى .
وكما نوَّعت، ثمة أمثلة كثيرة، ولافتة، من هذا القبيل، في أعمال سابقة له، كما في مجموعته الشعرية ( الأبواب كلها ) " 6 "، وفي صفحات تترى، من مثل:
وحرية خالدة،
وأصول خالدة،
وخزائن خالدة،
وجهات خالدة،
وشروق خالد. ص 25
وعلى مدى أربع عشر صفحات، في مكان آخر:
أبواب- نقدُ الصرير لها عاديٌّ
خلفها كل نقد عادي:
نقد الخائف للريح عادي.
نقد الموتى للموتى عادي.
نقد الجداول للبحر عادي...ص 60
وتستمر مفردة " عادي " حتى صفحة " 73 "
وبالطريقة هذه، يمكن الاستمرار إلى صفحات وصفحات .
وفي مكان ثالث:
ألمواجع أحوالٌ،
والمسالخ أحوال،
والمواثيق أحوال ،
والخسف أحوال،
والهتك أحوال...ص 146 .
وفي الإمكان إيراد أمثلة كثيرة، في مجموعات أخرى، حيث يسهل النظر فيها، لمعرفة هذه الهوس بما تقدم، وإزاء مفردات مختلفة، تحتل صفحات عدة، وما يترتب على ذلك من شغف نفسي مستبد به " 7 " .
لعل الذي توقفت عنده، وحاولت متابعته، ولو بإيجاز شديد، كان إشارة إلى علامات فارقة في بنية الذات الأدبية : الشعرية، كمثال حي، لدى بركات، وأن الذي نوّه إليه، يتطلب قراءة موسّعة، تستغرق تاريخه الكتابي: شعراً ورواية، حيث البداية كانت شعرية، ومنذ نصف قرن ، مع " كل داخل سيهتف لأجلي.." ومحاولة التعرف على تلك التحولات التي وسَمت شخصية المفهومية كتابة في الحالتين، ومكاشفة التداخل بينهما، وما استمر على منواله، وما بقي منواله شاداً إياه إليه، أو ما بقي مأخوذاً بنوع من الانغواء النفسي بهذه الطريقة.
وما حاولت النظر فيه في " شظاياه " هو إظهار أنها شظاياها كما تصورها، وما يفجّرها معالم جمالية لا تخفي بداعتها، وصدمة المكاشفة الفنية فيها، إنما في الوقت نفسه، ما يكون طلسماً، و تأكيد تنميط لبعض مما أشير إليه.
تُرى، هل أدرك سليم بركات هذا الذي يمضي، كما يراه هو، ولا تلمسه يداه؟



1-Juliette, Cerf: Jean-Luc Nancy, penseur du corps, des senset des arts, www.telerama.fr
جولييت سيرف: جان لوك نانسي ، مفكر الجسد والحواس والفنون
مقابلة أجرتها جولييت سيرف
2-Jean-Claude Mathieu: Le toucher des mots et la vie des gestes, DansLittérature 2011/1 (n°161)
جان كلود ماتيو: لمسة الكلمات وحياة الإيماءات
3-بورخيس: سبع ليال، ترجمة: د. عابد إسماعيل، دار الينابيع، دمشق، ط1، 1999، ص119.
4-المصدر نفسه، ص 108 .
5-سليم بركات: لوعة كالرياضيات وحنين كالهندسة، حاوره: وليد هرمز، المؤسسة العربية، بيروت،ط1، 2020، ص82.
6-سليم بركات: الأبواب ( ترديد الصدى في التلاعب بأخلاق الليل )، دار المدى، بغدادن ط1، 2017، وقد أوردت أرقام الصفحات في المتن من باب الإيجاز .
7-للمزيد، يمكن النظر في مجموعاته الشعرية التالية والأحدث صدوراً:
تنبيه الحيوان إلى أنسابه، دار المدى، بغداد،ط1، 2018 ،صص 41-43، 62-85-224...ومغانم الرياضيين والتعاليم كما التزموها، دار المدى، بغداد، ط1، 2019، ص27-33-134-صص156-158، وتنديد روحاني، دار المدى، بغداد، ط1، 2022، وهذه مجموعة حديثة الظهور، ص 8-63-83-85- 87، وفي هذه الأخيرة أورد الآتي:
الضحل
الضحلُ،
الكلّيُّ الضحل وما نُسبت إليه من أعمال ضحلة.
القرمزي الضحل.
الموت الضحل.
الأرقام الضحلة.
النكاح الضحل.
المعجوات الضحلة.
الحزن الضحل.
العناق الضحل...إلخ.





359809980_7139932052689404_3241647224793170547_n.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى