مصطفى فودة - قراءة فى " زغرودة تليق بجنازة (مائة حكاية) " قصص قصيرة للكاتب أحمد إبراهيم الشريف

"زغرودة تليق بجنازة" هى المجموعة القصصية الأولى للكاتب أحمد إبراهيم الشريف وقد سبقها روايتان موسم الكبك وطريق الحلفا وكتاب نقدى الخطاب الشعرى عند نجيب سرور تتكون المجموعة من مائة قصة قصيرة وتقع فى مائة وإحدى عشرة صفحة .
يعبرعنوان المجموعة عن مفارقة ، فالزغرودة تعبرعن الفرح وتليق به ولا تليق بجنازة ولا بالموت ، كما يشير إلى ثنائية الموت والحياة كما ستتجلى فى المجموعة ، والعنوان الفرعى مائة حكاية دلالة على أهمية الحكاية لأبطالها الفقراء والمهمشين فى قرى الصعيد وأنها تمثل نوعا من الدفاع عن حياتهم وعن استمراها ، يقول الكاتب عن الحكاية فى مقابلة تليفزيونية " الحكى فى الصعيد وربما فى قرى مصر جميعا جزء أساسي من المقاومة ، مقاومة الفقر ، السلطة ، القهر من كل أشكال المقاومة فى الحياة ، الحكى جزء أساسى فيها" ، فكانت الحكاية فى العنوان الفرعى مقصودا وليس مجانيا فالحكاية أساس القصص ومصدرها الملهم .
كان الموت هو الثيمة الأساسية والرئيسية فى قصص المجموعة ويستحوذ على أكثر قصص المجموعة ، ويتقاطع الموت مع عناصر أخرى كثيرة بالقصص كما سنرى ، فى قصة (ملاك الموت) رأت الجدة ملاك الموت وخاطبته أثناء مروره أمام بيتهم لقبض أحد الأرواح " رايح فين بس على الصبح ؟" وأنه رد عليها بصوت عال "خليك فى حالك " وبعد قليل سمع الراوى صرخة جارتهم معلنة عن موت أبيها ، وبالقصة تشخيص للموت ، وفى قصة (الطريق إلى الجنازة) يحكى الراوى الطفل أن أمه ذهبت الى جنازة أيمن ابن جارتهم زينب الذى غرق فى البحر، وقد رفضت اصطحابه معها خوفا عليه ، ولكن فى مفارقة حلم الطفل أن أمه تبكى مثل زينب وتلطم وجهها وتشد شعرها حيث كان ممدا فى كفن أبيض ، وفى قصة (ليلة دخلة) وهى من أشد قصص المجموعة شجنا وحزنا ، دخلت العروسة الحمام لإستبدال فستان الزفاف وانتظرها الزوج وعندما تأخرت بالحمام اقتحم الباب وجدها غارقة فى دمها " فى قصة (جثة تطلب الدفن) يتقاطع الموت مع الغرائبية وتحكى عن جثة غريق غريب تطفو على الماء وأمام إحدى القرى صرخت عليها إحدى سيدات القرية تشيع الغريق بدلا من أمه ونادى آخر عليها " لو تطلب الدفنة تعالى" غيرت الجثة اتجاهها ومالت ناحية البر الشرقى" كما اهتزت الدكة الخشيبة التى استقر عليها الجسد حين النداء عليها مرة أخرى فى مشهد غرائبى عجيب ، فى قصة (فرحة حزينة) تحكى عن أم تستعد لإستقبال ولديها بعد سنوات كثيرة من طلاقها وقيام طليقها بنزعهما منها ولكنها ماتت من فرحتها أثناء انتظار زيارتهما وبالقصة مفارقة فى عنوانها وفى أحداثها ، فى قصة (لا قطارات للموتى) تحكى عن أنتظار راضى على محطة القطار فى أسيوط لجثة شقيقه سعيد ثلاثة أيام حيث مات فى حادثة فى مصر وأبلغته الحكومة أنه سيتسلم الجثة ولما طال انتظاره بالمحطة أبلغه أحد المسافرين العائدين " الميتين مش بيجوا فى القطارات " ، فى قصة (سين ميم راء) تحكى عن سمر المختفية ويمر الراوى الطفل أمام دارها ويهتف بحروف اسمها كما فى عنوان القصة لعله يراها ولكن أمها أبلغته بموتها ، وهمس الناس قتلها أخوها بطلقة خاطئة ، والقصة تهمس بالمسكوت عنه بقتل البنات بسبب الشرف ، فى قصة (أخذ وديعته) تحكى عن المهدى أحد عمال البناء سقط من على سقالة حذر أنها غير مثبتة وتهتز إلا أن الجميع ضحكوا وعندما سألت زوجة المهدى عن كيفية موته قال لها المعلم "أخذ الله وديعته.. هل نعترض ؟" وبالقصة إشارة إلى الإهمال واستخدام المقولات الدينية فى التهرب من المسؤلية .
وفى قصة (عيون بيضاء) تحكى عن موت عادل ابن حميدة وكان الطفل الراوى يتجنب المرور أمامها لاعتقاده أنها تراه ولكنه اكتشف أنها لاترى لبياض عينيها وبالقصة تناص بقصة يوسف الذى إبيضت عين أبيه من الحزن عليه " وأبيضت عيناه من الحزن وهو كظيم " ، فى قصة (غداء) يخرج حسين فى البحث عن أخيه منصور الذى غاب وعندما مر ببيت عمه أصر أن يتناول معه الغداء وعلى الحصيرة التى كان يأكل عليها تبين أن جسد أخيه يرقد تحت ترابها وبالقصة مفارقة ، فى قصة (شال أسود) تحكى أن المدرس طلب من صالح أن يخرج من الفصل بسبب مقتل والده ، واستعدادا للثأر ارتدى صالح جلبابا ازرق وشالا أسود وعلق فى كتفه بندقية أطول منه وصار مطالبا بالمبيت أمام بيت خصمه سعد سليط فى انتظار خروجه للثأر منه" ، فى قصة السقف تحكى عن موت جمال ابن خضرة ابنها الوحيد وعند القبر طلبت من البنّاء أن يبنى لإبنها دورا وله سقف حتى لا تحرقه الشمس كل صباح ، ثم ألقت طرحتها السوداء على القبر تحميه وبالقصة حنان الأمومة ، لم تكتف المجموعة بموت الإنسان فقد عبرت عن موت الحيوان ايضا فى قصة الغدار مات جمل "حميد" بعد أن أسقط حمل القمح وصاح فيه صاحبه يا غدّار ، وقد عزا موت الجمل ليس إلى تحميله حملا زائدا من القمح وتسبب فى وقوعه وقع به ولكنه عزا موته أنه أهانه وقال له يا غدّار .
حفلت المجموعة القصصية بالمفارقة ، وتتجلى فى عنوان المجموعة (زغرودة تليق بجنازة) حيث تتجاور عبارة زغرودة التى تعبر عن الفرح ولا تليق بجنازة ، وبالقصة التى تحمل نفس العنوان تحكى عن فاطمة التى أطلقت زغرودة لحظة مرور نعش حسين محمدين أمام بيتها ولم تبين القصة علاقتها بالميت و سبب تلك الكراهية له وهى من الفراغات السردية المتروكة للقارئ كى يشارك ويملأها بخياله ، فى قصة (رسائل حب) هناك مفارقة بين تلك الرسائل الحميمية الرومانسية التى يعده شاب لامرأة ولكن يتبين فى نهاية القصة أنه سيرسلها إلى جارته الأرملة التى تملك شقة متوسطة وعملا دائما وطعاما يوميا ، فى (الطريق إلى جنازة) هناك مفارقة سبق ذكرها مع ثيمة الموت ، فى قصة (غداء) مفارقة وجود جثة أخيه عند عمه وتحت الحصيرة التى كان يجلس عليها وسبق ذكرها مع ثيمة الموت ، فى قصة (عاصفة) مفارقة حضور الحاج محمد حسين صلاة جنازته بعد إختفائه أثناء عاصفة ، فى قصة (سيارة مسرعة) مفارقة موت ممدوح فى حادث سيارة مسرعة فى الوقت الذى كان يسعى فيه اسماعيل للإنتقام منه بسسب إهانته له ، وهناك مفارقة فى قصص أخرى مثل صلاة ونهاية ورصاصة مجهولة .
كانت المرأة محور عدد كبير من قصص المجموعة ، فى قصة الزيارة حكت القصة عن أم مات ابنها الجندى منذ عشرين عاما وكانت تحتفظ بصورته وهو فى ملابسه العسكرية "لمست ملامحه بيدها ، ثم أعادت الصورة واستعدت لزيارة قبره" ، وفى قصة (أمومة) تضم الجدة ابنها الشاب المريض إلى صدرها وتلقنه الشهادة وهو يردد خلفها بصوت واهن ، وعن مشكلة سفر الزوج لمدة طويلة وتركه لزوجته هناك قصة (سفر) تحكى عن امرأة زوجها فى سفر دائم ويقضى اجازة قصيرة معها كل سنتين ، وفى قصة غواية الماء عن سماح التى غاب عنها زوجها للعمل فى الخليج ورغبتها المشتعلة " كانت عيناها مشتعلتين بالرغبة ويداها تهتزان برجفة ناعمة ولما أبصرتنى أحدق فيها تركت ثيابها تبتل فى الماء " .فى قصة ليلة دخلة تنتحر عروسة ليلة دخلتها بالحمام وتومئ الى المسكوت عنه وهو الخوف من الفضيحة ، وبالقصة نوعا من الشجن والحزن على مصيرها ، فى قصة مولد النبى من القصص القليلة التى بها تصور المسرات البريئة بين شاب وفتاة تمد له يدها بصينية الشاى ليحملها للضيوف وحاول أن يمسك يدها فارتبكت وهربت " لكننى تمنيت لو تركت له يدى" ، فى قصة سين ميم راء تحكى القصة عن الفتاة سمر التى يقوم أخوها بقتلها وبالقصة مسكوت عنه وترك فراغات سردية للقارئ ليملأها ويشارك الكاتب فىيها بخياله ،
حملت كثير من قصص المجموعة سمات الحكاية الشعبية والموروث الشعبى من شفاهية وغرائبية وأساطير وعفاريت وجن وأحلام وكوابيس فبيئة القرى مصدقة ومعتقدة بهذا الموروث ولا أحد يشك فيه ، كثير من القصص تحمل الصوت الشفهى مثل حكت جدت أوقالت أمى مثل فى قصة (ملاك الموت) " تقسم أمى أنها رأت منذ دقائق ملاك الموت فى كامل هيبته يمر فى الدرب أمام بيتنا "ص19 وفى قصة (سين ميم راء) يحكى الراوى "تقول أمى أنها سمعت صرخة فى الليل ويضيف أبى كنت أعرف أن الرصاصة التى انطلقت بعد العشاء أصابت أحدا" ص34، فى قصة (مركب بطة) تقول جدتى فى حكاياتها يدخل الناس الجنة وهم يركبون مركب بطة ص42 فى قصة (نهاية) يحكى الراوى عن ما قاله أهل زوجها " أشعلت النار فى نفسها " ومايحكيه أهلها أنها سقطت لمبة جاز عليها ، وفى قصة (عفريت) انتصب شعر رأسى عندما مررت بجوار النخلتين المتشابكتين ، فعرفت أن عفريت سلامونى لا يزال مستيقظا وأنه لن يجعلنى أمر فى سلام ، فى قصة (جثة تطلب الدفن) غرائبية عن جثة تطفو فى النهر وتغير اتجاهها عندما نادى عليها أحدهم "لو تطلب الدفن تعالى" ، فى قصة (عفريتان) رأى الطفل علّام شبحين صغيرين وهو يدور خلف البقرة التى تدير الساقية وقد أدرك أنهما عفريتان عندما شربا دورق الليمون ص49 ، فى قصة غُسل تقسم صباح التى تُغسّل فتاة صغيرة أن البنت ابتسمت لها ص53 ، وفى قصة خير يا غراب ، هناك طرافة فى عنوان القصة ، اسيقظت لطيفة فزعة من صوت الغراب ورددت خير ياغراب وتحسست أطفالها النائمين إلى جوارها ، فالتشاؤم من نواح الغراب من الموروث الشعبى ، وقصة (حريق) كان عفريت سلمان شحاته يحضر كل ليلة أمام بيته ، يسمع أولاده يسبونه ولا يفكروت فى الثأر له وألقى العفريت سيجارته المشتعلة فى قلب البيت وغادر ص61 ، فى قصة (جنين) غرائبية أن ينتظر عزت الرملى طفله فى بطن أمه سبع سنوات كاملة وتقسم امرأته بأنها شعرت بالطفل يتحرك فى أحشائها ، وفى قصة (انتحار) غرائبية أن تنتحربقرة فاطمة وتلقى نفسها من الدور الثانى وغرائبية دهشة عزرائيل الحيوانات الذى جاء متأخرا ولم يعرف من قام بالمهمة بدلا منه ، وهناك قصص أخرى تحكى عن العفاريت مثل مس من العفريت ومحاولة للموت بمزاج .
كانت الغُربة موضوعا لعدد من القصص مثل قصة خطوبة طويلة حيث خطب ماهر حسين نوال وسافر إلى العراق لمدة خمسة وعشرين عاما ثم عاد وهى تنتظره ، وقصص المهاجر وروح معلقة وغريب الدار والعائد ، وفى قصة جرو غربة وسخرية حيث عاد جلال من سفريته يحمل كلبا صغيرا وسخرت منه زوجة أخيه قائلة " اللى جاب لك يخلى لك " .
كان الثأر مدار بعض القصص مثل قصة ثأر وتحكى عن رجل فر من الثأر لمدة عشرين عاما وأخيرا ذهب إلى المقهى الذى يجلس عليه خصمه فى انتظار قتله وهناك يدور بينهما حوار يعترفان فيه أنه لا فائدة من الثأر بعد هذه المدة الطويلة ، وهناك قصص اخرى عن الثار مثل رحلة نهرية وضريح بجانب القنطرة .
كان القطار موضوع بعض القصص وغالبا كان يصحبه ذكرى سيئة ، فى قصة (قطار الفجر) عن شاب تاه من أمه فى القطار وهوصغير ولا يزال يتذكر بكاؤه ، وقصة لا قطارات للموتى فى سياق أخ ينتظر جثة أخيه .
كما ورد تناص فى عبارة (رجلان يقتتلان) مع قصة النبى موسى "فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه " 15 سورة القصص ، وفى عيون بيضاء تتناص مع قصة النبى يعقوب التى ابيضت عيناه حزنا على فقد ابنه يوسف "وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم" 84 سورة يوسف .
حفلت المجموعة بتشخيص للأشياء وعلى سبيل المثال ، كان صندوقها الطينى نائما ، دارت الساقية نائحة كطفل يبكى ، صوت الباب وهو يغلق كان حزينا ، الفجر لم يغادر إلا منذ قليل ، كان عشائى ينتظرنى ، ترك حقيبة هامدة على الارض .
كانت اللغة بالمجموعة القصصية بسيطة وفى نفس الوقت لغة فنية ، صورت أحداث القصص كلقطات مصورة ، وكانت تعبيرية فى مواضع مثل "شقت الصرخة الليل نصفين ." ، "جاء الصباح بلون الدخان ورائحة اللحم المحترق" ، "فأطلقت المرأة صرخة برائحة الموت" ، وكانت لغة شعرية فى مواضع أخرى مثل " التفتت إلىّ وعيناها اتسعت بشكل جميل وتطاير شعرها فلمس يدى فارتجفت " ، أما الحوار فقد كان بالفصحى اليسيرة فى أكثر مواضع القصص ، وأما الحوار الذى جاء باللهجة العامية فكان أجمل وأقرب إلى الشخصية وأمتع فنيا مثل ما ورد فى قصة ملاك الموت "رايح فين بس على الصبح ..ورد عليها خليك فى حالك " ، وفى لا قطارات للموتى "سمعتوا عن سعيد أخوى ؟ سألوه " قال لك هيركب من محطة إية " ومثل "اللى جاب لك يخلى لك" فى قصة جرو .
قدم لنا الكاتب مجموعة قصصية بديعة ومميزة صور فيها أعماق قرى الصعيد فى لقطات تصويرية ومكثفة بلغت مائة حكاية تناولت كافة مظاهر حياة أهل هذه القرى ، وكان الكاتب على دراية كبيرة بحياتهم ومعاناتهم ومشكلاتهم فأجاد تصويرها والتعبيرعنها فنيا وجماليا .
May be a doodle of text

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى