إبراهيم محمود - وشوم الكتابة قراءة الرعشة في كتاب "الايّام الهشّة" لفيليب بيسّون

تطرح الكتابة الجدّية نفسها، والتي تتوخى آتياً جديراً بالتسمية لها، بوصفها وشماً جسدياً. لا يعود الوشم، بالمرئي فيه مأخوذاً باسمه، إلا لأنه لا يكتفي باقتطاع مساحة معينة من الجسد، لها اعتبارها الذاتي والاجتماعي كذلك، وفي جهة معينة، وتبقى الدمغة جسدية، بخاصيتها الإنسانية، إلّا حين يشرّش الوشم في مسامات الجلد، ويتكيف معه، ويغدو من الصعب التخلص منه، ليصبح الجانب الجسدي ذاك مقروءاً من خلاله، يستحيل الوشم جلْد جسم مقروءاً، طرساً، يُقرأ بصرياً.
الألم المرافق لعملية الوشم شاهد ٌعلى هذا التفاعل الآلم والممهّد لمرئي لافت للنظر.
إنها حالة الرعشة " هزة جسمية من الداخل " تقلصات، تمددات، انكماشات تعبيراً عن عملية تسمد حضورها من مقاومة الجسد لما يحدث، وحين اكتمالها، ينبسط الجسد، معترفاً به.
في الحديث عن الرعشة، يتم تصوُّر منبّه خارجي مؤثر في الجسد، يؤدي إلى رد فعل عصبي، تأكيداً على أن ليس من حيادية في العلاقة بين ما هو جسدي وما يحيط به، وما يعتمل داخله من مشاعر وأحاسيس، من هواجس وانطباعات وإرهاصات. وفي الحديث عن وشوم الكتابة تعزيز لفعالية الكتابة التي يتجاوب معها الجسد، ويجلو حقيقتها داخلاً وخارجاً.
ربما بالطريقة هذه، يمكن القول أن ما نتفوه به، وما نكتبه، انطلاقاً مما يحفّزنا على ذلك، لا يعدو أن يكون سلسلة لامتناهية من الرعشات أو الارتعاشات إجمالاً، إذ كما أن الأذن تستقبل المؤثرات الصوتية، والعين تلك البصرية منها، والشمية، ما يخص الروائح... وهكذا، يكون عمل الرعشة في مقام ما تقدَّم بالنسبة لصلتها بتأثرات الجسد في عمومه، حيث الكلمة أكثر من كونها تهجئة أو تسطيراً، دون ظهور رد فعل بالتأكيد. وشوم الكتابة وتبعاتها هي هذه الرعشات المستمرة والوامضة، والتي تمد بجذورها في الداخل، وتمارس تأثيرها كلما نظِر فيها أو أخِذ باسمها علْماً.
ونوعية هذه الرعشة، وهي في تركيبيتها، تتوقف على مأثرة الكتابة ومدى أهليتها لأن تمارس حضورها، وتؤكد حداثتها، وما فيها من جدّية، وهي رحالة بين أمكنة .
كمثال حي، مثال مدعَم بمفهوم الرعشة، هو ما أثاره الكاتب والفنان الفرنسي فيليب بيسّون ( 1967-...)، في إحدى رواياته، وهي ( الأيام الهشّة )، من تصورات جمالية وقيم رمزية .
تنحو الرعشة، كمفهوم بنا، صوب معايشتين متوازيتين تقريباً، حيث إن المادة الرئيسة لعمله الروائي هذا، تخص الشاعر الفرنسي الشهير عالمياً آرتور رامبو( 1854-1891 )، وما في ذلك من ديناميكية لا تعرف التهدئة في الاتجاهين، فثمة نص روائي، لكاتب معاصر، وثمة شاعر، موضوع مئات الدراسات والأبحاث والمقالات، وبلغات شتى، نظراً لمكوناته الحياتية.
إنها رعشة، ما أشبهها بتلك المنحنيات العائدة لتخطيط القلب، وحالته. نبضات القلب، تستدعي مفهوم الرعشة، قوة وضعفاً: كيف تناول بيسّون رامبو روائياً؟ ماالذي دفع به، لأن يجعل منه موضوعاً لروايته، وكيف ؟ أي رامبو يُقرَأ في متن تفكير بيسون ؟ كيف جرى تقاسم شخصية رامبو من قبل الخيال والواقع روائياً؟ ما الأسئلة التي طرحها ويطرحها عمل كهذا فنياً ؟

عتبة الكتابة كتابة بدورها طبعاً
الحديث عن " الأيام الهشة " وبدءاً من صيغة العنوان، ينطوي على الكثير من محفّزات الكتابة . ولحظة النظر في صورة الغلاف، حيث تبرز صورة رامبو، الطفلية، وسيماء الحزن جلية.
لكن قبل التعرض للرواية، وكيف كان تحرُّك الروائي بين خاصية سِيرية للشاعر، وخاصية استلهامية وخيالية للروائي، ثمة ما هو مستجد، وهو أن نفتح باباً من جهتين:
من جهة الحديث عما يشكل تعريفاً بالروائي، وما يقرّبنا تأريخاً أدبياً ، تالياً، من الشاعر .

رعشة فيليب بيسون
كاتب، فنان رحالة بين كل من الخيال والواقع،حيث يأخذ من كلّ منهما، ما يضفي على موضوعه تلك القيمة الجمالية والفنية والتي تعزز فيه خاصية الرعشة.
نقرأ في بعض مما يفيد عنه سِيرياً:
(فيليب بيسون ، المولود في 29 كانون الثاني 1967 في باربيزيو سانت هيلير (شارينت) ، هو كاتب وكاتب مسرحي وكاتب سيناريو فرنسي ، وكان سابقًا مدير الموارد البشرية في مجال الأعمال. كان أيضًا ناقدًا أدبيًا ومضيفًا تلفزيونيًا.
اشتهر ككاتب برواية En l'absence des hommes في عام 2001 ، والتي نالت عدة جوائز. في عام 2023 ، لديه ما مجموعه 23 رواية ، تم تكييف العديد منها للسينما أو المسرح ، وشارك في كتابة سيناريوهات عدة أفلام تلفزيونية.
وقد نشأ ابن والد مدرس وأم كاتبة كاتب عدل ، مع أخيه الأكبر في الشقة المطلة على ملعب المدرسة حيث يعلم والده.
غالبًا ما يسخر منه رفاقه بسبب مظهره وملابسه وسلوكياته. كان في نفس الوقت الذي أدرك فيه مثليته الجنسية. خلال سنته الأخيرة ، وقع في حب ابن من الفلاحين في قريته في شارينت ، لكنهما اضطرا لإخفاء علاقتهما.
في عام 1985 ، تم قبوله في كلية روان للأعمال وتخرج من هذه المدرسة" هكذذا قيل "
واستعار أسلوبه الأدبي من الكاتبة مارغريت دوراس.
في تشرين الأول 2017 ، كان عضوًا في لجنة تحكيم مهرجان Dinard للسينما البريطانية ، برئاسة نيكول غارسيا.
في حزيران 2019 ، تم تعيينه رئيسًا لجائزة لاندرنو للقراء (التي منحت في أكتوبر 2019).
في آذار 2007 ، دعم فيليب بيسون سيغولين رويال ، المرشحة الرئاسية.
في عام 2011 ، دعم عمل جمعية Isota ، التي تقوم بحملات من أجل الزواج وتبني الأطفال من قبل الأزواج المثليين.
خلال حملة الانتخابات الرئاسية لعام 2017 ، شارك فيليب بيسون في مسيرة لدعم إيمانويل ماكرون ، المرشح أون ماركي! في بيرسي.
في أيلول 2018 ، وقع على "دعوة لمكافحة العنف الأسري" أطلقتها الممثلة موريل روبن.
في 30 آب 2018 ، أُعلن أنه تم تعيينه قنصلًا عامًا لفرنسا في لوس أنجلوس ، ليحل محل كريستوف ليموان ، الدبلوماسي والرئيس السابق لموظفي لوران فابيوس ، الذي شغل المنصب منذ عام 2015.
يعرَف بغزارة الإنتاج، له أكثر من عشرين رواية:
في غياب الرجال ، باريس ، جوليار ، 2001
شقيقه ، باريس ، جوليار ، 2001
أواخر الموسم ، باريس ، جوليار ، 2002
صبي من إيطاليا ، باريس ، جوليار ، 2003
الأيام الهشة ، باريس ، جوليار ، 2004
لحظة الهجر ، باريس ، جوليار ، 2005
طفل أكتوبر ، باريس ، جراسّيه ، 2006
التصميم على قول وداعًا ، باريس ، جوليار ، 2007
رجل عرَضي ، باريس ، جوليار ، 2008
خيانة توماس سبنسر ، باريس ، جوليار ، 8 كانون الثاني 2009
العودة بين الرجال ، باريس ، جوليار ، 6 كانون الثاني 2011
من هناك نرى البحر ، باريس ، جوليار ، 3 كانون الثاني 2013
العيش السريع ، باريس ، جوليار ، 2 كانون الثاني 2015 - سيرة ذاتية خيالية لجيمس دين
توقف عن أكاذيبك ، جوليار ، 5 كانون الثاني 2017 ، الجزء الأول من رواية السيرة الذاتية
شخصية روائية ، جوليار ، 7 أيلول 2017 - قصة إيمانويل م في طريقه إلى رئاسة الجمهورية.
غير مؤكد بول داريجراند (الجزء الثاني من رواية السيرة الذاتية) ، باريس ، جوليار ، كانون الثاني 2019 .
عشاء في مونتريال ، باريس ، جوليار ، أيار 2019 - الجزء الثالث من ثلاثية السيرة الذاتية
الطفل الأخير ، باريس ، جوليار ، 7 كانون الثاني 2021
هذا ليس خبرًا ، باريس ، جوليار، 5 كانون الثاني 2023
...إلخ) " 1 "
هذه القائمة من العناوين المختارة، تظهِر لنا ذلك الجانب الحي في شخصيته الثقافية والأدبية، وفي الوقت نفسه، تلك السمة اللافتة في الإبداع المتمثل في الرواية، واختلاف جهاتها، والحديث عن الجوائز وصِلة هذه الأعمال بما هو فنّي في تحويلها سينمائياً، وما قيل فيها، يطول كثيراً .
إنما هناك ما يرفع من شأن مفهوم الإبداع لديه، وصلته الحميمة بالواقع، في مجتمعه، قبل كل شيء، ونظرته إلى الحياة، وتأكيده على الخصوصية المعتبَرة للكاتب، أو للفرد في المجتمع نفسه، وذلك عندما يشار إلى طبيعة علاقته بما هو جنساني، وكيف ينظَر إليه، ويُعتد به، كمبدع قبل كل شيء، حيث (تتمحور كتابات فيليب بيسون حول العلاقة ومشاعر شخصياته وتكشف عن اهتمام خاص بموضوعات الغياب ، وفقدان أحد الأحباء ، والعلاقات الإنسانية ، والروابط بين الأم والابن ، والموت ، والشعور بالوحدة. في رواياته ، النساء قويات ، والرجال هشون ، والنساء شجاعة ، والإرادة بينما الرجال ضعفاء وسهل التفتيت.
ويتناول هذا الكاتب الطريقة التي يتم بها ربط العلاقات وفكها ، مع فكرة كيف نتعامل مع الغائبين ، أولئك الذين لم يعودوا موجودين.
ومن خلال هذه الكتابة نشعر بسعادة الكاتب في الكتابة.
ويتساءل فيليب بيسون عن نصيب الأنوثة والألم الذي يمتلكه والذي يوجد في قاع كل رجل ، وبالتالي يفترض نصيبه من الأنوثة وهشاشته وظلاله.
والأدب ليس موجودًا للإرضاء فحسب ، بل للإزعاج أيضًا. بالنسبة لفيليب بيسون ، الروائي ينتمي إلى العالم ، فهو موجود هناك ليقدم نظرة نقدية ، فهو يؤمن بالأدب المزعج ، فالحكاية الخيالية ليست نوع أدبي.) " 2 "
وهي بدورها جملة من النقاط التي تشكّل علامة تأكيد على المقوّم الإبداعي، وذائقته في الكتابة، وليس من حدود يمكن قياسها، أو توصيفها، لا من جهة الموضوعات، أو من جهة الطريقة كذلك.
لدينا ذلك المفهوم النهري لهذه المتابعة الحياتية والشخصية وفي تنوعها، لما يعطي لرؤيته الفنية أهمية لها مقامها الاجتماعي والتاريخي، أي ما يبقي الكاتب تحت الضوء، في الجدة والابتكار، ومن ناحية أخرى، ما يقرّبنا من عالمه الإبداعي والذي يحمل بصمته، العالم المطروح دون تحفظ طبعاً، ومن زوايا مختلفة، وهو ما سنتعرف عليه تالياً، وانطلاقاً من مثالنا المقرَّر هنا .
ففي كتاباته ثمة ما يظهر الشخصي، دون أن يكون المكتوب عنه، بأسلوبه الأدبي شخصياً، وإنما ما يجعله منضوياً في سياق المتخيَّل وعمق المقتدى فيه، وهو الذي يحرّر الكتابة من كل تبعية ستاتيكية، ويجعل من أي شخصية مهما أفصحت عن ملموسيتها، متنكرة لليومي أو للتاريخي المحض فيها، لتصبح من جهة القراءة في عهدة الكتابة التأويلية، قليلاً أو كثيراً .
وهو ما يمكن تبيّنه في لائحة من الإشارات التالية:
(تتكرر شخصيات الكاتب في روايات فيليب بيسون: ثلاثة نصوص خيالية لكاتب حقيقي (مارسيل بروست في غياب الرجال ، آرتور رامبو في الأيام الهشة ورايمون راديغيه في العودة بين الرجال)
و:على أي حال ، يولي الكتاب اهتمامًا كبيرًا لأجسادهم ، والتي هي أيضًا في قلب موضوعات الروايات التي يكتبونها. تجاربهم الجسدية (سواء كانت مرتبطة بالشيخوخة ، والرغبة ، والمرض ، وما إلى ذلك) تغذي خيالهم ، وبالتالي تؤثر بشكل مباشر على النصوص التي يكتبونها.
واليوم ، أكثر من أي وقت مضى، أصبح الجسد مادة قابلة للقراءة، نصًا متأثرًا بظواهر اجتماعية وثقافية ، مادة مكونة من رموز ، موضوع تمثيلات وتخيلات. يتم دمج تقنياته في حياتنا وبالتالي اللاوعي ، فمن واجب الكاتب تحديدها وفك رموزها ونقلها على الورق من أجل الأصالة.
و:الكتابة هي النقل على الورق لنظرة خاصة وذاتية ، نظرة كاتب راغب وشعور. ثم يتعلق الأمر بنقل منظور اجتماعي وثقافي عن الجسد إلى شخصياته ، كما هو الحال مع الطفل ، كما يلاحظ مارسيل موس: "بشكل يومي ، الطفل ، وكذلك البالغ ، يقلد الأفعال التي نجحت والتي رآها ناجحة من قبل الأشخاص الذين يثق بهم ولديهم سلطة عليه.
وثمة قول لبيسون: حياتي ليست في كتبي. من ناحية أخرى ، من الواضح أن العلاقة الحميمة لدي تظهر هناك ، في العلامة المائية ، في الفجوات. لا يمكننا الكتابة بتجاهل ما نحن عليه بعمق. سيكون ذلك مستحيلًا ، سيفترض وجود فصام تام ، مسافة مذهلة حقًا عن الذات. وبالتالي ، فإن رواياتي تحمل شيئًا مني وهواجسي ورغباتي
وكذلك: بشكل أكثر تحديدًا ، ما لاحظته في كتاباتي الشخصية هو هذا الميل إلى العودة دائمًا ليس إلى نفس المواقف نفسها أو القصص نفسها ، بل إلى التجارب والأحاسيس الجسدية نفسها. الجسد المتضرر ، الجسد المؤلم ، جسد الرغبة ، على وجه الخصوص. نفس حساسية الجسد تمر عبر جميع نصوصي ، سواء كانت تظهر رجالًا أو نساءًا أو مغايرين جنسياً أو مثليين جنسياً.
و:يجب على الكاتب أن يصبح "ممثلًا" وأن يبني شخصياته كما لو كان يصنع دورًا ، وهذا ، بينما يبدأ دائمًا مما هو عليه ، من تجربته ، من خلال الذهاب إلى عالمه الداخلي وتجربته الخاصة للعالم ، من خلال استثمار نفسه في فعل الكتابة ذاته. لأن الكاتب ، مثله مثل الممثل ، يستخدم نفس المادة الأساسية - جسده - لبناء قصصه وتجسيد شخصياته ، سواء على المسرح أو على الورق.) " 3 "
تسمّي الرواية كاتبها، كما أنها تسمّي الموقع الذي يعرَف به، وما يستحقه من اعتبار، أكثر من ذلك، إن في علامة " الرعشة " المعتمدَة في هذا المقال البحثي، ما يوسّع في رؤية الموضوع، والذي تتشكل أبعاده بعيداً عن تلك التصورات الهندسية: من هندسة الاختيار، للموضوع، إلى هندسة العبارة الواحدة، وهي بوصفها لبِنة فاعلة وحيّة في العمران الفني للنص، أو للإطار الذي يُنظَر إليه جسدياً، وما يعيشه من رعشات، على وقْع انشغاله بما هو مستجد في محيطه ونفسه.

رعشة آرتور رامبو
الحديث عن رامبو الشاعر، وبصفته من شعراء الرعشات الكبرى عالمياً، يغذّي لدى قارئه والباحث في سيرته فضولياً معرفياً، وكيفية التلاقي عبرها بين الإبداعي المتجه به إلى أبدية الحالة، واليومي الذي يسهم في إدراك تلك المشاهد الحياتية التي أورثته المزيد من المكابدات، كانت عبارة عن سيل عرمرم من الرعشات التي أثمرة رؤيا جمالية، فائقة الأثر شعرياً .
ولا بد أن وراء عمره القصير" 37 سنة " ما ينمّي لديه رصيد الإبداع.
وهناك ما يحفّز لدينا إرادة التركيز على الخطوط الكبرى لحياته هذه:
( ولد آرتور رامبو في 20 تشرين الأول 1854 في شارلفيل لعائلة برجوازية ومحافظة. الثاني من عائلة مكونة من خمسة أطفال ، والده جندي ، وأمه ابنة ملاك ريفيين. ترك والد الشاب الأسرة في عام 1861 ، وكانت والدته هي التي ربت أطفالها الخمسة بمفردها. إنها متدينة ، تطبق مبادئ تعليمية صارمة للغاية. يتفوق الشاب آرتور خلال مسيرته المدرسية ، حيث فاز بجوائز أدبية عدة مرات
وما يخص صلته بالشاعر الفرنسي الآخر فيرلين ومفهومالتجول الشعري
بعد مراسلات قصيرة بين الرجلين ، قام فيرلين بإغرائه بقلم رامبو، ودعاه إلى باريس عام 1871. قفز رامبو على هذه الفرصة ، الذي كان يحلم في ذلك الوقت بمغادرة شارلفيل حيث شعر وكأنه سجين. يلتقي الشاعران في حفل عشاء بصحبة زوجة فيرلين ووالدي زوجها. العشاء فوضوي ، ويذهب رامبو إلى أبعد من ذلك حتى يستمتع بإحداث ضوضاء أثناء تناول الطعام وتدخين غليونه رأسًا على عقب.
آرتور رامبو معروف بتهوره وعنفه وحتى شره ، فيرلين ضحية نوبات غضب رامبو طوال تاريخهم. الكحول لا يساعد ، لقد جاء يوم حاول فيه رامبو طعن فيرلين.
موسم في الجحيم: من الشباب إلى الكآبة
"ذات مرة ، إذا كنت أتذكر بشكل صحيح ، كانت حياتي وليمة حيث انفتحت كل القلوب ، حيث تدفقت كل أنواع النبيذ. هكذا يبدأ Une Saison en Enfer ، مجموعة شعرية كتبها آرتور رامبو في النثر ونشرها بمفرده في تشرين الأول 1873. هذه المجموعة هي بالتأكيد أشهر أعمال رامبو وأكثرها شهرة ، وقد كتبها رامبو في سن التاسعة عشرة فقط في عزلة مزرعة روش بين نيسانوآب 1873. الشذوذ الجنسي ، والحجة التي أطلق خلالها فيرلين رصاصتين.

ورامبو: حياة مليئة بالمغامرات
توقف رامبو عن الكتابة في سن العشرين ، ومنذ ذلك الحين عاش حياة مليئة بالمغامرات. في عام 1875 ، التحق بالقوات الاستعمارية لجزر الهند الهولندية (إندونيسيا الآن) ثم أصبح وكيلًا تجاريًا. في ديسمبر 1880 غادر إلى هرر في الحبشة وأصبح مديرًا لمنضدة يتم فيها تداول الذهب والعاج والأسلحة والحرير والحلي. في عام 1891 ، أدى ورم في الركبة إلى إعادته إلى وطنه ، وتم بتره في مرسيليا. يغادر لبضعة أسابيع في روش ليكون مع والدته وشقيقته إيزابيل. يحلم بالعودة إلى إفريقيا ، فيعود إلى مرسيليا حيث تتدهور حالته ، وتوفي هناك في 10 تشرين الثانيب 1891 عن عمر يناهز 37 عامًا ، ودُفن في شارلفيل ، مكان شبابه.
وكتابة رينيه شار تحية إليه
كتب رينيه شار في عام 1962 في الغض والصوفي Fureur et mystique "أحسنت بالمغادرة يا آرتور رامبو! ثمانية عشر عامًا من المقاومة للصداقة ، والحقد ، وغباء شعراء باريس ، فضلاً عن خرخرة النحلة العقيمة لعائلتك المجنونة قليلاً من آردن ، لقد أحسنت ببعثرهم في رياح البحر ، ورميهم تحت سكين مقصلةهم المبكرة. لقد كنت محقًا في التخلي عن جادة الكسالى ، ومحاذاة piss-lyres ، ومن أجل جحيم الوحوش ، ومن أجل تجارة ماكرة ومرحبا بالبسيط. هذا الدافع العبثي للجسد والروح ، قذيفة المدفع هذه التي تصل إلى هدفها بجعلها تنفجر ، نعم ، هذه هي بالفعل حياة الإنسان! لا يستطيع المرء ، عند الخروج من الطفولة ، خنق جاره إلى أجل غير مسمى. إذا غيرت البراكين مكانًا صغيرًا ، فإن حممها البركانية تعبر الفراغ الكبير للعالم وتجلب له فضائل تغني في جروحه. أحسنت بالمغادرة ، آرتور رامبو! نحن البعض نؤمن بدون دليل بالسعادة الممكنة معك. " ) " 4 "
وما يزيدنا قرباً من عالمه المتوتر إبداعياً، وجانب اللامنتمي فيه:
(هذا الشاب الحازم قد كتب ، في صميم عمله ، بداية حركة ستشهد عليها حياته مثل الشعر في العمل. يمكن أن يرقى تصفح عمل رامبو المكتوب إلى وضع خطى المرء في الصياغات: "كنت أذهب بعيدًا ... سأذهب ... متقدمًا ..." المغادرة ترفض ما هو معروف داخل الإضاءات نفسها.
على عتبة حياته ، تحدث كارثة ، تجبره آلام الركبة على العودة إلى فرنسا. والباقي معروف وبتر ومات. لم يجد جنونه المتنقل "المكان والصيغة".
لم يتوقف هذا الرجل أبدًا عن تشابك الكتابة مع طريقته الشخصية في السفر حول العالم ، وهو يترك لنا مسألة معرفة ما لا تكتبه ممارسة الكتابة ، بمعنى أن الكتابة تسمح بالنسيان ، وهو النسيان البنيوي الذي يتيح قلب الصفحة لتوجيه الذات نحو المستقبل.
إن العمل الحياتي المؤطر بأحرف يشكل متلقيًا غائبًا ، ويرسم حضور جسد شخص آخر يخاطب القوى المشتركة للنصوص المكتوبة واللحمة المرهقة لنشاطه كتاجر مشاء- سائرmarcheur-marchand ، وجود جسم يمكنه استيعاب حركة مثل هذا الوضع في الحركة.
العلامة هي كتابة معينة ، ولا تشغل أي قراءة. إنها تفتح على تناسق جديد للجسد ، نحو ما هو موجه غير محدود.) " 5 "
وفي ضوء ما تقدم، وتجاوباً مع الرصيد المعرفي، بوصفه حصيلة مكاشفة قاعية لما انطوت عليه حياته من مفارقات، ومن سعي محموم لديه إلى المغايرة، والاستماتة في التعبير عما يعتمل داخله من مشاعر رافضة لطبيعة المجتمع الذي ولِد فيه، ولم يستطع التكيف معه، يتراءى عالم الجسد لديه، وهو ممزق داخلاً وخارجاً، لأنه من خلاله يعرّف بحقيقته خارج الإطار المجتمعي، وقد بلغ مفهوم الإبداع لديه رتبته القصوى، إن جاز التعبير، وما يفرضه هذا الارتقاء بالجسد إلى عالم لا يعود هو نفسه " جسده " قادراً على تلبية رغبته الحميمة في ألا تكون لديه رغبة أخرى، لتكون نهايته من هناك، وليشهد ولادة جسد من نوع آخر، جسد، في مقدور الشعر وحده إبرازه .
أجدني هنا، محفّزاً على إيراد ذلك التحليل الدقيق الذي بين حالتيه هنا، وبإيجاز:
(في السادسة عشرة من عمره ، هرب رامبو لأول مرة. في العام التالي ، في عام 1871 ، خلال مغامرة جديدة ، التقى بول فيرلين في باريس ، الذي كان قد أرسل إليه قصائده. هذا الأخير ، الذي يكبره بعشر سنوات ، أرسل إليه الدعوة التالية: "تعال أيتها الروح العزيزة ، نحن نتصل بك ، نحن في انتظارك". اندفع رامبو فورًا ، ومعه جميع أمتعته ، بضع قصائد وموهبته. في أكتوبر 1871 ، خلال العشاء الأول للبارناسيين ، الذي تمت دعوته إليه ، قرأ كتابه باتو إيفري. يبهر "رضيع الألحان" ، ويسحر ، ويثير حماس مجتمع الشعراء الباريسيين. ومع ذلك ، في غضون بضعة أشهر ، خرج الشاعر الشاب من الموضة ، حتى أصبح مصدر إزعاج لفناني سان جيرمان دي بري ، الذي سئم من كبريائه وازدرائه ووقاحته.
ثم في سن العشرين ، قال رامبو ، الذي نشر Une saison en enfer قبل عامين ، "وداعًا" للشعر. ثم يضاعف الرحلات والتجوال ويغادر بحثًا عن ثروة غير محتملة في الحبشة. عندما توفي بسبب ورم سرطاني في ركبته عام 1891 ، عن عمر يناهز السابعة والثلاثين ، بدا أنه نسي عبقريته ، وقلة ممن حوله أيضًا.
كل أعماله كتبها آرتور رامبو في ست سنوات ، بين سن الخامسة عشرة والحادية والعشرين ، ثم ظل صامتًا إلى الأبد. هذا الصمت الذي أصبح أسطورة ، هذا الصمت الشعري واليومي يعكس بلا شك استحالة أو نبذ الشاعر المعذب للتعبير عن مشاعره ومشاعره. في غضون ست سنوات ، بدا الأمر كما لو أن كل عبثية الوجود قد ظهرت له في شعره ، حقيقة تم التقاطها بين زجاجتين من البراندي على غرار ألفريد جاري ، والعديد من الحلقات الهذيانية التي تميزت بألعابه مع فضلاته ، أو غيرها من الاستفزازات الفاحشة والمؤذية لأقرانه. هذا التوقف عن الكتابة ، المفاجئ والمتوقع في شعره غير الناضج ببراعة ، يعني ببساطة التخلي عن شرح مخطط الوجود الوهمي ، وكذلك استحالة إظهار ما لا يمكن تفسيره بمساعدة أداة شخصية مثل الشعر. في غضون ست سنوات ، فتح رامبو أبوابًا كثيرة جدًا أمام وجود واقع مدفون في ذلك الذي نتصور ، لدرجة أنه يحدث أحيانًا أننا نشك في شرعيتها. لكن كتاباته باقية ، وتذكرنا في كل لحظة بتعقيد الحياة التي تجتاح أجسادنا ، ومفارقة الوجود ، معجزة مرت في سجن بلا حراس أو حواجز.
ألم يكن تدميرها لذاتها العزيزة والمرغوبة خطوة إلزامية في إثبات موهبتها؟ المعاناة التي ألحقها بنفسه ، والتي شوه بها نفسه بالكتابة عما كان ينبت فيه ، ألم يكن من الضروري أن نلمح غير المرئي؟ يجسد رامبو جيلًا فنيًا ، وربما جيلًا بشريًا. إن المحظورات ، أو بالأحرى الأقفال ، التي فرضتها أعراف المجتمعات الغربية انفجرت بإرادة الشاعر ، وهذه الحاجة التي لا يمكن كبتها إلى تجربة جوانب الوجود ، الثمينة جدًا والقصيرة التي لا يمكن تفويتها.
وفقًا لنيتشه ، "إن ولادة نجم راقص تتطلب الفوضى بحد ذاتها. »؛ الموت ، قتل نفسك لمحاولة العيش ، أليست هذه هي الطريقة الوحيدة للشعور بالحياة عندما لا يكون الواقع كافياً؟ إعادة الميلاد ، أو بالأحرى الولادة ، هو في الواقع الهدف الحقيقي لرامبو: أن يولد روحيًا وميتافيزيقيًا للتعويض عن الولادة الجسدية والمادية دون الكثير من الاهتمام.) " 6 "
هوذا النجم الذي لم يغب عن سماء الإبداع، كما نقرأه هنا، وكما سيُقرأ في أمكنة أخرى، بلغات أخرى طبعاً، ومن زوايا أخرى، وفي عهدة معايير جمالية، واستقصاءات بحثية مختلفة، تعبيراً عن قابلية الاسم لما لم يُسمَّ بعد، ولما يمتلك القدرة على استيعابه ومنحه دمغة تعنيه لا سواه .
وربما أمكننا من هذا المنطلق القول على أن الذي انشغل به بيسّون كان يجد مبرّر تصوره الأدبي" الروائي " انطلاقاً مما يوازي معايير كالتي أتينا على ذكرها، ليزيد الجمالي اتساعاً.

المستجد في " الأيام الهشة "
لا منافس للرواية في إقرارها بتلك الحقوق التي تخوّلها لأن تعتمد أي أسلوب في التعبير عن خاصيتها الأدبية، أو أن تمضي بقارئها إلى أي جهة جغرافية، أو أي حقبة زمنية، لتحط فيها رحالها، ومن هناك تبني مجتمعها الأدبي، ولها ما تستطيع إليه سبيلاً ناحية التوسع حدودياً، أو الاستمرار في الزمان. تلك ميزتها الاستثنائية التي تجعلها الإمبراطورية التي تقبَل بسلطتها الرمزية، كل الفنون المعروفة، وكذلك الأنشطة التي أوجدها الإنسان، وثقافاته وعلومه. وهي تتقدم بطريقتها التي تستعير من هذه جميعاً ما يسهم في بناء مجتمعها المذكور.
دون ذلك، يصعب النظر في الرواية كفنّ أدبي من نوع مغاير لأي فن آخر، كما يصعب اقتفاء أثر كل ما يدخل في حبْك نسيجها الأدبي، والعالم الذي يتشكل من خلاله .
وما يخص رواية " الأيام الهشة " نموذج حي من هذه النماذجن كما تقدَّم، حيث نكون إزاء تاريخ معلوم بزمانه ومكانه، وشخصية منمذجة، لها مداها الأدبي وصداها الإبداعي، حيث يتم تحويل ما فيه من قدرات حياتية وجمالية وإخصابها بما هو فني، من منظور روائي، من جهة، ومن ثم الدفع بها إلى الآتي، ودون هذا الآتي، ورهان حاضره، لما أجيز لها أي اعتبار قيمي، أو رمزي.
لا تعود " الأيام الهشة " الأيام الهشة، كأثر، إنما ذات المقدرة في معطاها الأدبي.
كيف جرى رسم خريطة هذه الرواية ؟ " 7 "
الرواية مكتوبة بأسلوب اليوميات، ومن خلال إشارات معينة، وهي تركّز على الجسم المريض، لا بل المعذّب، والمأهول بالألم النافذ في كامل كيانه الجسدي، أي رامبو، كما عرِف به في نهاية حياته، وانتهى بهذا المرض العضال" السرطان "، ووسط أفراد معدودين، وبصورة خاصة: أخته" إيزابيل، وهي الساردة الرئيسة في الرواية، وأمه، ومن لهم صلة بالمشفى حيث يقيم فيه، وسواهم، تعبيراً عن مناخ الخوف والتوتر الذي يتلبس الرواية من بدايتها إلى نهايتها.
من المريض الاجتماعي، حيث رامبو متوتر من محيطه وطبيعة علاقاته وقيمه، إلى المريض عضوياً، وهو يكابد الوجع العضوي المنشأ، ولا ينبغي تجاهل صلته بما هو اجتماعي، لحظة التعرف إلى الأساب التي أوقعته فريسة المرض هذا، ومن خلال كتاباته، وأقواله بالمقابل. يعني أن الرواية في بنيتها ما كان لها من قائمة دون هذا الإقرار بهذه الحقيقة وهي أنها وليدة الأزمة، وليدة العاهة، أو المرض، أو المشكلة،وما فيها من عنصر المفارقة: بمقدار ما تفلح في إبراز شدة المرض وتفعيل أثره اجتماعياً ونفسياً، يزداد الرصيد الجمالي والاقتداري نجاحاً لها .
إن البدء استهلالاً، بمقطع شعرية من " فصل في الجحيم " لرامبو، له دلالته، ومن ذلك( سأعود مع أعضاء من حديد، البشرة داكنة، والعين غضبى:...) .
وما يردُ طي " الجمعة 22 مايو/ أيار: في أسرتنا لا يبقى الرجال "، ليس أكثر من نعي لما هو مجتمعي، ذكري الطابع، ولعبة المفارقات في العلاقات( حقيقة عندما أفكّر في الأمر، لم يفعلوا شيئاً آخر سوى أنهم يبتعدون، يبحرون، ويتحررون منّا، النساء محكوم عليهن بالبقاء في البلاد، مرتبطات بالأرض. لم أتوقف عن التساؤل: من أين لهم هذا الانجذاب إلى سماوات أخرى، في حين أن السماء هي نفسها في كل مكان . ص 9 ) .
الرهان يقوم به الرجال، دون النساء، لهذا يضطرب كل من الزمان والمكان، ولا يعود المجتمع سوياً. وفي هذه الكلمات، ما يضعنا في نطاق مجتمع يعيش حدَاداً، وفجيعة من الداخل .
تمضي الساردة، أخت رامبو في سرد وقائع عن هذا" المصاب المجتمعي الجلل " لتشير إلى أن هذه اليوميات هي شهادتها على الجاري في مجتمعها، وما يشكل تمهيداً للوقوف على حالة أخيها رامبو، وهو عزاؤها، وما يشغل الجميع بدائه( لقد اكتشف الأطبّاء أنه مصاب بالغرغرينا، ومن المناسب وقف تقدمها. ص 14 ) .
لا يغيبن عن الذهن أن تسمية المرض هذا هي أكثر من كونه مرضاً، إنه المرض بمفهومه العضوي، ولكنه، في محورته، حالة تهديد لمجتمع قائم، وقراءته في ضوء الآتي، كما هو الممكن تبيّنه بالمفهوم الروائي. مجتمع يموت فيه الرجال، يختفون، يمرضون، أو على وشك الموت، ونساء يتابعنهم، ويصفن الجاري، قلْب للواقع المرصود، علامة انهياره بالذات، ومن زاوية الرؤية الموجَّهة روائياً، حيث الساردة تترجم ما كان يجول في واعية أخيها، وهي محكومة بين حبها الكبير له، وهي تعتني به، وتقديرها لأمها، وخشيتها منها، لأنها لا تنظر إلى أخيها، وهو ابنها كما هو وضع الأم( أمي، من ناحيتها، لن تستطيع أن تمنع نفسها من المحافظة على هذا التعبير الصارم، المتباعد، عديم الشعور. لا يعني ذلك أنها لا تلاحظ شيئاً، لكنها امتنعت دوماً عن أن تتراخى. ص 15 ) .
أن تكون الأم القاعدة المجتمعية والحاضنة للابن، وهي ليست كذلك، لأنها تعبّر عن ذهنية محافظة، والبنت مترددة، والابن يعيش عالمه الداخلي، وما يرافقه من ألم، يعني أننا إزاء أزمة يستحيل تجاهلها، والكاتب يراهن على ما هو عائلي، ومن العائلي ينبني عالمه ككاتب كما رأينا.
رامبو، يمثّل خريطة إحداثيات مكانية، لجهات جغرافية، ومواقع، وشعوب، ولقاءات، وعلاقات، وما فيها من مقارنات وتجاذبات بالمقابل، لحظة التفكير بموطنه الفرنسي، والثمن المدفوع لقاء جولاته وعلاقاته وتجارته تلك( في عدن ألقيَ على الأرض. بعد ذلك كان هناك البحر، ثلاثة عشر يوماً في البحر يعاني آلاماً مروّعة، وعلى زورق مؤقت رمتْ به أمواج متقلبة، قبل المستشفى في مرسيليا. ص17) .
سنخدع أنفسنا، بمقدار ما سنخدع المفهوم الفعلي للنص، إن قرأناه وعبَرناه دون معاينته عن قرب طبعاً، أي دون النظر إلى هذا المشهد، وما كان يؤثّر في تكوينه الجسدي، وهو نهب صراعات.
إن هذا الشاعر التاجر الرحالة حامل ذاكرة مكانية، ولكنها منفتحة، وتعيش مقارنات بسواها، كما أنها في حالة غليان من الداخل، ولهذا يكون عذابه خارجياً وداخلياً في آن .
ولا بد أن يكون بتْر ساقه تعبيراً عن الحكم عليه بالثبات في المكان، أو كعقاب صارم، في التحليل النصي، لما قام به مجازفاً بحياته، غير عابىء بحقيقة قوته، وما يقوم به خارج مجتمعه( تخلَّص الأطبّاء من ساقه بإلقائها في مكان ما، لا يمكنهم حتى أن يقولوا بالضبط، ردّوا على أمّنا التي كانت تطالب بها، كان هذا هو الاتفاق. الاتفاق! آه، يا لهم من علماء مروّعين!.ص19) .
المكان محكوم بقوانينه الوضعية وصلتها بالمجتمع وأعرافه، ومن المستشفى بالذات، والروائي حين يورد قائمة المعلومات ذات الصلة بوضع " المريض " إنما يمارس مكاشفة لبنية المجتمع وتلك القوى التي تتحكم فيه، وكيف يجري تصريف قوة الفرد أو التصرف بجسده هنا .
الساردة: إيزابيل منقسمة على نفسها، موزعة الاهتمامات بين رعيتها لأخيها، وتفكيرها بأمها، وما يجري في وسطها، وبالمستشفى، إنها نفسها تتعذب، وأمها بدورها تتعذب، ورامبو يتعذب أكثر، وتركيزها على أمها يتأتى من مكانتها، وعدم اقترابها من ابنها كونها محافظة( الأم الخرقاء، المكابدة..نحن عائلة مفككة ومختلة. هل سبق لنا أن كنّا شيئاً آخر؟ ص26) .
ثمة تحويل في المقصد الروائي لأصل العبارة التي تكلمتها الساردة، وهي أنها كعائلة أكثر من كونها عائلة، بمفهومها الاجتماعي، من ناحية، واعتبارها مفككة إحالة إلى وسط اجتماعي، من ناحية أخرى، ليلتقي في صوتها صوت سارد آخر، غير مسمى، يشير إلى الكاتب بالذات .
إن ما تأتي على ذكره، جهة ما تفوه به أخوها، يظهر عنف القائم جسدياً ( أشعر دائماً بألم عصبي في مكان لساق التي بُتِرت، أي في الجزء المتبقي. لا أعرف كيف سينتهي ذلك. أخيراً أنا مذعن لكل شيء. ص27)، العبارة هذه مكتوب بالخط الأسود المشدَّد عليه، ولا يعود المبتور بدوره مجرد ساق، إنما ما يسند الجسد، كترميز اجتماعي، ولم يعد قادراً على ذلك بالمقابل.
تُرى، ما هذه التغطية النوعية لجسد أخيها المريض، ولعلاقته بالآخرين، وعلاقة الآخرين به؟ أليس فيها ما يرفع من نوعية " الضغط " الاجتماعي، ما يسجل الدرجات التي ترتفع باضظراد، تعبيراً عن لاسوية متنامية فيما يخص المجتمع؟
إن قائمة الأوصاف ذات التعبير الخارجي والكاشف لما هو معتل في جسد أخيها علامة فارقة، وهي تتقدم بشهادة حية وصادمة لمن يسبر قاع الجسد، ويتبين له ما هو كارثي، كما في الوصف المتعلق بها بعد إحدى جولاته( ثم عاد إلينا بائساً، يعشعش فيه القمل، بمظهر مهزوم، وجسد مترنح. كانت عظام وجنتيه حمراء، ويداه ترتعشان بشكل رهيب، وعيناه تائهتان في الفراغ. كان يستشيط غضباً في بعض الأحيان قبل أن يغرق في لامبالاة مخيفة..ص 41 ) .

جانب الإهمال فيه وعنفه
( أنا لا أغفل حقيقة أن آرتور، كان أول من بصق علينا في شبابه، وأنه يبصق بالتأكيد مرة أخرى، وهو يختبىء، وهو يدير رأسه جانباً . ص55) .
وما يخص عصبيته، وهي تأتي، كمثال، على ذكر أختها التي ماتت " فيتالي " ( أتذكر عندما ماتت فيتالي، كان آرتور ضحية صداع شديد العنف، ونوبات غثيان، وقيء، تماماً كما هو الأمر اليوم. لا شد أن هناك أحداثاً تؤثر في الجسد بصورة أكثر مؤكّدة، أكثر من الضربات التي قد توجَّ إلينا، أو الأورام التي يمكن أن تقوم بإنجاز مهمتها القذرة. ص 69) .
بينها وبين أخيها ثمة توتر لا يهدأ، حيث كل منهما يعرف الآخر، كما لو أنه يرى صورته في مرآته، ويكون بينهما تراسل، كأن الواحد يبث الآخر ما يفتقده ويرى صداه في المقابل، وما في ذلك من شعور بالألم، وربما إشعار ما بما هو مكبوت، جنسي، محرَّم حتى، وما يترتب على نظرات متبادلة، ودالة على الحزن المرتبط بالألم العميق، من شعور بحضوره عبر الآخر، وضعف الحيلة.
إيزابيل لا تكون مجرد ساردة، إنما وصّافة، وتنقل ما يطرأ عليه من تغير، تحت وطأة الألم المرتبط بانتشار المرض المرعب، وقراءة نتائجه في حركته وكلامه، كما في هذه العبارات التي شدّد عليها بالأسود ( ها قد مر أسبوعان بالضبط وأنا أسند جسده المترنح.الألم أحمل بين ذراعي هذا الجسد المعتل والقاصر. أرشده في نزهاته، وأراقب كل خطوة من خطواته، أقوده وأرافقه، حيثما يريد، أساعده دائماً في العودة، وفي الصعود، وفي النزول، أزيل من أمام قدمه الوحيدة العثرة والعقبة ...رغم كل ذلك أنا لست قديسة. علاوة على ذلك لا أطلب اعترافاً بالجميل من أجل ما أقوم به بما أنّي أعتبر إخلاصي أمراً طبيعياً..أكتب هذا في حالة من الرعب، لأن بعض الحقائق، بالطبع، ليس من المستحسن قولها. في وقت لاحق ينبغي عليَّ تدمير كل شيء، وإعادة كتابة شيء. سأكذب بشأنه لأن هناك الكثير الكثير مما يجب إخفاؤه، سأكذب لغرض وحيد وهو ألا يلحق العار والخجل بعائلتنا وباسمنا..ص77) .
نتلمس في هذه الفقرات ومن يومية طويلة نسبياً، ما يجعل من الجسد المعتل القاصر، بتعبير إيزابيل، إشهاراً لجرحه الكبير، وما يحيله إلى جرح معنَّى ينعكس ألماً على كامل الجسد، وفي الوقت نفسه، لتكون تعابيره هذه صارخة، ومكتوبة على نار الألم الهادئة والمروعة كذلكن وبالتالي، فإن الكتابة هذه لا تنفصل عن رؤيته لطبيعة الجسد المسطور عنه، إنه جسده الذي يسمي ما هو عائلي، ويظهر بنية المكابدة، وما يدخل طيَّ الألم الدفين، حيث سيَلان فعل الانفعال المرافق لكل معاينة، لكل مشاهدة، لكل مرافقة،لا يقصينا عن تردداته التي تستحضر الموت، وما يلي هذه الحال. لتكون الأيام الهشة مسطَّرة في ركاب مشهديات الموت بالذات .
إن ما يتفوه به آرتور وهو سابح في أوجاعه، وقبالته تكون أخته، يرفع من " سوية " الألم الذي يمهد لما هو متخوَّف منه من ناحية الأخت، ولما هو متلبّسه بالنسبة إلى الأخ آرتور( يتأمل آرتور معصمه فترة طويلة هذا الصباح، يتأمل الندبة، علامة قبيحة في امتداد عروقه. يقول :" الموت، وأنا، نحن معارف قديمة، أليس صحيحاً ذلك ؟ ". 84) .
ثمة ما يخيّم على المكان، وثمة المكان المحمول بما هو مستدعيه دون غيره، وثمة ما يذكّر باللحظة غير المرغوبة، بالنسبة للأخت، إنما ما يشير إلى جانب التكيف بين آرتور والموت. ربما يعش خاصية الموت، وجانبه الرمزي، منذ زمان طويل، وهو مصدوم بما يحيط به.
تبقى الندبة الكبرى في طابعها الذي يسبق فكرة الموت، وإمكان توقع حدوثها في أي لحظة، من قبل الأم التي تفكر فيه هي الأخرى، لكنها لا تقترب منه وتقطع المسافة الفاصلة بينهما، كأن تحتضنه، وهي اللحظة الأكثر توقعاً، وجواز حدوثها، بوصفها، وهذا ما نتلمسه، بلسان إيزابيل وفي صفحات تترى. تراه، تسمعه، ولا بد من ذلك، وتبقي المسافة الفاصلة شاغرة( تشبه هذه المسافة اللامبالاة أو ما هو أسوأ، الاحتقار...كانت نظرة آرتور، من ناحيته، تبو متوسلة، حتى لو أنكر ما أقوله. إنه يود أن تدخل، أنا متأكدة، أن تجلس على السرير...يبدو أنها استسلمت في مواجهة ما تعتقد أنه لا مفر منه، وتفضّل أن تصمت بدلاً من أن تقبل بذلك. يبدو أنها تنوي إنقاذ آرتور من الحكْم الذي حكمت به الآلهة عليه... هل ستكون نظراتها الثاقبة نظرات إدانة؟ هل يشي تعبها الواضح بالسخط، وهل تجهمها الطاغي تعبير عن ضغينة قديمة؟ ..ص 88).
نتلمس في هذا المسطور ما يحيلنا إلى ما هو مسرحي، إلى العالم الداخلي وتداعياته جهة الألم، والذي يتوزع بنسَب متباينة بين هؤلاء، ولكل جهة، جانب التمايز، وكانب المكابدة بالذات.
لعل هذا الاستمرار في عملية تدفق سيل الآلام وتنامي شدتها، يشير إلى النهاية المرسومة في واعية الجميع، وإيزابيل ، وبقلم بيسون لا ندخر جهداً في إبراز كل ما صلة بالجاري، وكما تقول الأخت العظيمة( في الواقع لم يعد سوى من أجل نفسه، من أجل تسوية حساباته، من أجل إغلاق آخر حلقة، من أجل أن يتخلص منا، ومن الطفولة، ومن الأرض وإلى الأبد.
ثلاثون يوماً أقواس مفتوحة ومغلقة.
ثلاثون يوماً، ولا يوم زيادة. ص 105) .
هل تعيش الأخت هذه تلك الحالة المازوخية وهي تلملم ما يصلها بالألم وتبثه حتى إلى وسطها الاجتماعي؟ هل هناك ما يعزز مقولة المازوخية هذه، وفي الوقت ما يحيلها إلى سادية، بإسقاطها على أخيه، وعلى أمها، وعلى كل ما يتألم لحظة رؤيته بذلك المشهد المرّوع؟ لا نستطيع الجزم بذلك، إنما هناك ما يجعل الجسد" المعروض " مفروضاً بعلّته، وما يضيء المحيط الاجتماعي، وكيفية النظر إلأيه في ضوء الموصوف الرئيس، لنكون إزاء جانب أضحوي في الموضوع: أضحوي قبل الموت، حيث كان آرتو يعاني حالة العزلة وصدمة المجتمع، وكيفية الخروج منه، وحين عاد بعد رحلته الأخيرة وهو في وضعية يُرثى لها، تمضي الأضحوية به إلى نهايتها.
والأيام المعدودة هي حدود القول المتعلق بنتيجة الألم الموزَّع هنا وهناك .
تقول الأخت ( " لن يشفى، لن يشفى .."
كنت أردّد في أعماقي النبوءة المرعبة، الحكم الذي لا يُطاق. ص 115).
تقول ذلك، وتذكر ما يؤكد على ما تقول تخوفاً ( يحدث له أن يفقد الوعي. أحياناً يستيقظ فجأة، كما لو كان يعود من الأعماق، ولا يتعرف إلي. ص 121).
وما يشكل إنذاراً طبيعياً في نطاق الجاري ، حين تقول ما يشدد على هذه المقولة:
( الأطباء يكذبون عليه.
أكَّدوا لي، دون تردد، أن حالته ميؤوس منها، وأنه لم يبق سوى انتظار الموت، وأن أيامه معدودة، وأنه حتى المعجزة باتت بعيدة المنال. ص 137) .
كما رأينا، يلاحَظ إلى أي درجة يمارس السرد لعبته في التفاصيل الدقيقة، وما يجعلنا إزاء شرح الوارد بعبارة أخرى تزيد السابق وضوحاً، وتنوّه إلى التالي إعلاماً بالأمر، دون رتوش تُذكر، من باب الإسهاب المثقل على حيوية النص، في نطاق كارثية العائلة وتشعباتها الدلالية .
التركيز على تفاصيل دقيقة، إظهار لمعنى الألم، لمفهوم النهاية، وكيفية تلقيها. وإلأ فإن الحديث عن النهاية يفقد قيمته المتوخاة، وإلا فإن ما يجري تدوينه يطاح بدوره المنصوب هنا. وفي لعبة المفارقات، حيث إن سردية " الأيام الهشة " هي سردية الموت بامتياز، وما يخص الحياة، تكون المنازعة موجودة، وما يذكّر بالحياة عبارة عن استدعاء ما كان، وما يسمّيها وفي حضرة الموت. كما نلاحظ بلسان الأخت( اليوم هو عيد ميلاد آرتور، عمره سبعة وثلاثون عاماً. قال لي بالضبط: " لم نكن نتوقع الوصول إلى هذا العمر، أليس كذلك؟ مع ذلك ما الفائدة؟ النهاية قريبة جداً الآن ..ص 145) .
ربما هوذا بيت القصيد، بما يفيد من توجيه لنظر القارىء إلى وجوب تصور كل ما يتردد في النص مدفوعاً، كحساب قولي لصالح العنصر المسيطر عليه بمناخه الكارثي : الموت .
رأينا إيزابيل وما تقوله، ورأينا ونرى إيزابيل ما تقوله جهة آرتور، نقلاً عن كلامه، ونرى ما يوجّه أنظارنا إلى الموت الموسوم هنا، باعتباره واقعة حصلت منذ زمان. أليس ما يقوله عن أن عمره " 37 عاماً " هو كثير، تعبيراً عن كونه ميتاً قبل أن يموت ؟!
لاحقاً نقرأ، بما يخص وفاته ( في سجل الوفيّات في مستشفى الكونسبسون كتبت الممرّضة بخط جميل، منتظم ومعتنى به: " رامبو ( جان نيكولا ) ، سبعة وثلاثون عاماً، تاجر، ولد في شارلفيل، ماراً عبر مرسيليا، توفي في 10 نوفمبر-تشرين الثاني 1891، عند الساعة العاشرة صباحاً. التشخيص: سرطان معمَّم ". ص 154 ).
هذا المسجل، كان قد أعِد بحكم المؤكد، إذ إن مجموعة الأقوال التي تخص آرتور، تكون مأخوذة من أفراد عائلته، ومن أخته بالذات، كما في صنعة " التجارة " ومن أين هو، وكيف وصل إلى المستشفى. إملاء المعلومات هذه له بُعد توثيقي طبعاً .
إن ما يضفي على حالة الوفاة تلك النغمة المأساوية الخاصة جداً، وبتصرف من الأم قيمة إشعارية منبّه إلى الموقف من آرتور، ومن موته بالذات، فهي أصرَّت على وجوب عدم إخبار أحد، كما تقول ابنتها، أخت آرتور( لم تكتب أي إعلان، لم تنشر أي نعي في الصحيفة، ولم تكن ترى أن من المفيد إبلاغ فريدريك ، ابنها، أخي، أخينا . ص157) .
هنا سمعنا باسم الابن الآخر. وعدم حضوره، إبراز أكثر للموت الخاص بشخص لم يكن عادياً، وأنه على قدْر حالة التقليل من شأنه، يشار إلى عظيم موقعه كشاعر، وليس أي شاعر.
أورد هنا فقرتين، مما تقدم، تأكيداً على قرار الأم الفظيع:
حين تشير في نهاية يومية لها، جهة النظر إلى أخيها ووضعه الصحي( في اللحظة التي أكتب فيها هذه السطور، على جلده الذي يرتعد، على وجهه النحيف، على جسده الهزيل، ما يزال هناك بصيص من ضوء الشمس الذي يمر. بصيص من ضوء أصفر يغضّن عينيه المبهرتين بالضوء، ويجوّف تجاعيدهما.ض 139) .
الكتابة هنا ذات حاصية وشمية، كما لو أن جسده الذي يزداد دنوَّاً من الموت، يحمل تاريخ معاناته، يشي بما هو عليه، حيث الكتابة لا تتركه غفلاً من المعنى. جسد مقرَّر بوضعه خارجاً.
وما يخص قراءتها لرسالة أمها بخصوص ابنها، ولغة اليأس الممزوج بالخوف فيها( في رسالتها التي وصلت قبل قليل، هذا ما تعبّر عنه : " هذا المرض عقاب من الله، يا بنتي. أخوك يدفع ثمن خطاياه، لا تنخدعي. لو كان حزننا عظيماً ، فكّري! كان يمكن أن يكون هناك إجحاف إذا أعفي عن أخطائه، ولهذا أنت لست مهدّدة بخطر العدوى. ربنا لا يخطىء أبداً، فهو يعرف من هم عباده المؤمنون".
في اليوم الذي سأسأل عنه بشأن عائلتي، سأكون قد دمّرت هذه الكلمات. ص 140) .
يا لها من أم ظالمة، أم تفتقر إلى العطف، والحنان، ناحية ابنها! هكذا يمكن القول أو التعليق، سوى أنها تكون مؤدية لدورها، معبّرة عن واقعة اجتماعية، وبوصفها محافظة، وتنظر إلى المجتمع وما يجب أن يكون، في ضوء معتقدها الديني هناك، وآرتور خارج هذا النطاق. وهو وجه طاغ ٍ من وجوه الصراع القائم في مجتمع، يُخشى عليه من التفكك مع الزمن.
إن ما تقوله أخته في اليومية الأخير" الجمعة 13 نوفمبر/ تشرين الثاني" يجسّد المفارقة عائلياً:
( .. لم يعد يشتكي إلى جانبي، لم يعد يشعر بالحرج من ساقه المريضة..لم يكن يريد من هذا المكان مستقرأ أخيراً له..كان يريد الشمس في الختام، لكنها قطرات المطر التي تسيل على خشب نعشه بينما كان أربعة رجال ينزلونه في الحفرة التي حفروها. بعد فترة وجيزة، حين نكون قد ذهبنا سيدفن تحت هذه الا{ض التي لم يكن يحبّها.
أشك في أنه يستريح في سلام . ص 158) .
هكذا تؤدي الرواية دورها وتنتهي عملياً، وهكذا تنوّه إلى أنها تبدأ من هنا، حين يكون لدى قارئها تصور عما حدث بدقة، وعما جرى بعد الدفن من تداعيات وتعليقات، وما يصل قارئها بفكرة الرواية أساساً، وما يمكن قوله، حين نكون في مواجهة حالة كهذه لشاعر فرنسي عظيم، أخرجه بيسون من تاريخه الأدبي، وألبسه ثوباً لا يخفي جانب الخيال المحبوك، وكأن آرتور مازال يتألم أو يتوجع، أو أنه معروض بوضعه الصحي أمام الجميع .
ينهي بيسون روايته، دون أن ينسى الاعتراف بجميل ناقد أدبي فرنسي هو جان جاك لوفرير، بتلك المعلومات القيّمة التي قدّمها عن شاعرنا في كتابه عنه والصادر سنة " 2001 " حيث شكل مرجعاً بمعلوماته لكاتبنا بيسون، وملهماً إياه " ص 159".فيما نسجه بذائقته الجمالية عنه .

طي الرواية
ثمة الكثير مما يستحق قوله، بصدد الرواية، وبصددد الموضوع الآنف الذكر. إذ إن المحفَّز على قوله جهة ما تقدم، هو في قابلية الرواية لأن تقول دائماً، وتبعاً لمقدرة كاتبها، ما ينفي نفسها، وما يؤكد خلافها، ما يميتها، ويبعثها، لتكون أكثر فينيمسية " قابلية الانبعاث والتجدد " وأن تثير لدى كاتبها ما ينمّي فيه قوى غير مسبوقة، ما يحسّسه بأنه هو وليس هو، أنه أكبر مما هو عليه، وهو منه وإليه، أنه الكل والواحد، المحدود العرَضي، واللامتناهي والسرمدي. وهو ما يُقرأ في الأدب العظيم القدْر، وفي روايات بيسون بالذات، لأنه يكون وليد المستقبل، وهو مقصده الطويل المدى
وفي المتداول عن الرواية ما يسجّل لها استثنائيتها، حيث (لم تتوقف الرواية أبداً، ومنذ أصولها اليونانية الرومانية ، عن لعبة الحقيقة والكذب. وتكمن مع القارئ. وذلك عندما يكون المؤلف ، ثم الرواية ، وأخيرًا العمل نفسه ، والاقتباس الذاتي ، تأخذ القصة طابع سيرته الذاتية ، مما يجلب عاطفة معينة وصدى مختلفًا للقراءة.) "8 "
نتعلم مما لم نتعلم منه بعد، ونتعلم من أنفسنا مما تجهله أنفسنا، لنعيش متعة البحث والمعايشة مع ما نتمكن من التفكير فيه وتخيله، لنستشعر وجوداً لا يتاح للآخرين. لكم ندشن لخاصية فردوسية تعنينا، بالمواصفات التي تعزى إلى ما نكتبه أو نبدع فيه، لحظة التفاعل مع ما هو مستجد، وما يُستخلص منه، بمعية المتخيل، ما يرفع من سوي ملَكة المتخيل، ولاتناهي الواقع بالمقابل.
إن " الأيام الهشة " خاصية تطعيمية " تفاعل فيها الواقع والخيال.
ربما هكذا نقرأ ما قيل فيها:
(بالطبع هي خيالية ، لكن المؤلف موثق بشكل غني ، سواء في رامبو أو أخته ، لدينا أيضًا فرصة لقراءة كلماتهم مباشرة داخل القصة. هذه اللوحة لأشهُر رامبو الأخيرة تجعلنا نعتقد أننا بجانب سريره ، أقرب إلى الألم والشكوك وربما الروح الغريبة "للشاعر الشاب" الذي لم يعد على فراش موته. نظرة هذه الأخت المحبة ولكن المهجورة بشكل ملحوظ ، المكرسة حتى النهاية ، لا تفشل في التحدث عن حياة آرتور. إنها تضع أعينها السرية على الشعر الذي تقدره دون أن تفهمه دائمًا بشكل صحيح ، والحياة العاطفية والرحلات إلى نهاية العالم ... جنبًا إلى جنب نشعر بنقل ، تراث يقع في أحضان هذه الأخت.
كتاب شاعري رائع وقصة معاناة تصوران ربما قليلاً ألغاز الروح وفروقها الدقيقة. قراءة عميقة وصادقة وأصيلة للحديث عن مواضيع حساسة.) " 9 "
وربما نزداد علماً ونستزيد منه، كلما أقبلنا على المتوافر منه، كما في نص مقابلة مع بيسون حول روايته هذه، ومن ذلك:
(فيليب بيسون ، كيف جئتَ لتكتب؟
ب.ب .: كانت الرسائل هي التي قادتني إلى الرواية. بدأت في كتابة الرسائل في سن السابعة عشر ، بمعدل اثنين إلى ثلاثة في اليوم. لذلك عندما خطرت لي فكرة الكتاب الأول ، بدا الأمر سهلاً بالنسبة لي ، لأنني امتلكت البادرة. تُلزمني الحقيقة أيضًا بإدراك أن الانفصال عن الحب هو الذي قررني أيضًا. ليس لأنني كنت حزينًا (وبالتأكيد كنت كذلك) ولكن لأنه ، فجأة ، كان لدي الوقت والمكان. لو لم أترك لما كنت قد أصبحت روائية.
: في الواقع ، هذا البعد حاضر جدًا في كتاباتك. علاوة على ذلك ، من العلاقة الحميمة بين شقيقين ولدت روايتك الثانية ، وهذا ما يجعل قصة مرض آرتور مزعجة. ما هو جزء من الواقع وما هو جزء الخيال في إلهامك؟
ب.ب .: أعرّف نفسي قبل كل شيء كروائي ، أي شخص يخترع القصص ، ويشكّل الأكاذيب على أمل أن يصدقها الناس. علاوة على ذلك ، الحقيقة لا تهمني حقًا ، فقط المعقولية تهمني. لذلك أرسم القليل جدًا من حياتي الواقعية لكتابة كتبي. حتى أنني سأذهب إلى حد القول إنني أصبحت روائيًا للهروب من حياتي الواقعية ، ولاختراع أشكال أخرى لنفسي. أخيرًا ، لا أعتقد مطلقًا أن ما أعيشه يوميًا ليس له أدنى اهتمام للقارئ. ومع ذلك ، من الواضح أنه لا يمكن للمرء أن يكتب بينما يتجاهل ماهية المرء: هناك بالتالي ، هنا وهناك ، سمات شخصيتي ، بعض الهواجس ، أو الاقتراضات من الناس من حولي أو من المواقف التي حدثت بالفعل. لكنها تتوقف عند هذا الحد.) " 10 "
وربما ما يغْني هذا المفهوم للرواية، وللرواية السالفة الذكر، حيث نقرأ في نص مقابلة آخرى:
( ذهبت إلى رامبو بالطبع بسبب كلماته ، ولكن أيضًا لأن أشياء كثيرة عنه هربت مني في مصيره الذي يتعذر فهمه.
- هل تشعر أنك فهمت لغز رامبو؟
قليلًا ، لكنني أفضل التحدث عن الحدس ، أعتقد أنني اقتربت من احتمال معين ، لكن بالتأكيد لم أستوعب تمامًا شخصيته المعقدة.
- لماذا اخترت التحدث عن رامبو وجهة نظر أخته إيزابيل من خلال مذكراتها الخيالية؟
لأنها رواية ولا يُعرف عنها سوى القليل. لذا كان بإمكاني أن أخترع ، الأمر الذي سمح لي بكتابة رواية وليس سيرة ذاتية. أضع نفسي في مكان شخصية بين "أنا واللعبة". علاوة على ذلك ، توفر اليوميات إمكانية إلقاء نظرة عميقة ، والتواضع الشديد.
لأن أخته ، "الخادمة العجوز" بمعايير القرن التاسع عشر ، توافق على سماع الأهوال التي قالها رامبو ، وإلحاده ، ومِثليته الجنسية فقط لأنه سيموت ولن يتمكن أحد من الوصول إلى هذه المذكرات.
- كيف تقاوم الرغبة في الحديث عن الشاعر الذي لم تذكره إلا بشكل خفي؟
كان من الصعب جدًا بالنسبة لي ألا أركز على الشاعر ، لكنها رواية مرة أخرى. أعتقد أن الروائيين يجب أن يتنازلوا عن سعة الاطلاع ، على العكس من ذلك ، لإثارة المشاعر. من ناحية أخرى ، لم تكن إيزابيل تعرف شيئًا تقريبًا عن رامبو ، الشاعر، ولذا لم أستطع التحدث عن شعره منذ أن كنت أضع نفسي في مكانه.
- كثيرًا ما يروي الكتاب القصة نفسها. يبدو أنك تهرب من هذه الفئة ، حتى لو كان هناك خيط أحمر في عملك وهو الموت.
في المظهر فقط ، لأنني إذا وجدت دائمًا جهازًا سرديًا مختلفًا ، إطارات لا علاقة لها بها ، فإننا دائمًا ما نجد الموت ، مثل مسرّع الوقت. سواء كانت في الماضي أو في المستقبل. كما نجد دائمًا كائنين وجهاً لوجه. كائنات تتساءل عن طبيعة روابطها المربوطة أو غير المقيدة. يوجد دائمًا في رواياتي رابط يتم اختباره على شيء ما ، وهذه الرابطة هي الموت العام.) " 11 "
وما يشير إلى مدى الاهتمام بالرواية هذه:
(
مشروع فيلم آخر قيد التنفيذ: تكييف الأيام الهشة. كان من المقرر أن يتم التصوير الصيف الماضي ، تحت إشراف فرانسوا دوبيرون (غرفة الضباط) ، مع غيوم وجولي ديبارديو في أدوار إيزابيل وآرتور رامبو. "لكن غيوم حاول الانتحار وانتهى به الأمر في دار لرعاية المسنين ،" يأسف فيليب بيسون. تم تأجيل التصوير لهذا الصيف. يتبع...
لا بد من القول إن هذا المحامي السابق البالغ من العمر 40 عامًا ، والذي ظهر في عالم الأدب الفرنسي قبل ستة أعوام بالكاد ، شاهد كتبه مترجمة إلى خمس عشرة لغة. وإذا كانت هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها تكييف إحدى رواياته على المسرح ، فقد تبنتها السينما بالفعل كمصدر للإلهام.
الموت. كلي الوجود في روايات فيليب بيسون. موت ، حداد ، خسارة ، هجران. ونقص. إنه موجود في جميع كتبه. "أعلم ... لكني أراه بعد الحقيقة. في كل مرة أقول لنفسي أنني سأكتب شيئًا مختلفًا. لكن بغض النظر عن مدى تغيير شخصيتي ، أو صوتي ، أو مكان ، أو قصة ، فأنا دائمًا أحفر الأخدود نفسه. كيف نتعامل مع أولئك الذين لم يعودوا هناك ، أو الذين سوف يختفون؟ كيف نتعامل مع النقص والغياب والروابط التي تتفكك؟ إنه هوسي المتكرر. لا يسعني ذلك ، إنه يحدث بدون علمي.
هذه هي المرة الأولى التي يكتب فيها فيليب بيسون رواية رسائلية. لكن هذه ليست المرة الأولى التي توجد فيها حروف في رواياته. من كتابه الأول ، في غياب الرجال ، تخلل السرد مراسلات.
فإنه ليس من قبيل المصادفة. يقر الكاتب بأنه يحب ، في الحياة الواقعية ، كتابة الرسائل. دائما. "لأن الرسالة هي إفشاء ذاتي بامتياز. نكتب هناك أشياء ربما لن نقولها شخصيًا أبدًا ، ولن نعترف بها أمام شخص ما.
- الاقتباس المسرحي لروايته: الأيام الهشة من تأليف دينيس لافالو ، الذي أخرج المسرحية أيضًا. يُعرض في مسرح بروسبيرو في مونتريال من 20 شباط إلى 10 آذار.) " 12 "
وإذا أردنا أن نحيط أكثر بمناخ الرواية، والذين أسهموا في بنائها شخصيات وعلاقات وسوى ذلك من مؤثرات الرواية وإبراز مقوماتها الفنية، وموضوعاتها، إضافة إلى ما تقدم، نشير إلى بعض النماذج الروائية لبيسون وكيف أشيرَ إليها، لتأكيد عامل التشارك في الموضوع المختار:
( العنوان" الروائي " - توقف عن أكاذيبك - لا يعطي فكرة عادلة عن رواية السيرة الذاتية للكاتب الفرنسي فيليب بيسون ، مؤلف ثمانية عشر كتابًا حيث جزء من المثلية الجنسية موجود دائمًا.
تم تكييف العديد منها للسينما (يفكر المرء ، من بين أمور أخرى ، في رواية شقيقه ، من إخراج باتريس شيرو). توقف عن أكاذيبك وحقق نجاحًا نقديًا وعامًا كبيرًا في عام 2017. في العام نفسه ، نشر المؤلف "شخصية روائية" وهي قصة الحملة الانتخابية لرئاسة الجمهورية الفرنسية إيمانويل ماكرون. ملتزمًا إلى اليسار ، وهو أيضًا كاتب مسرحي وكاتب سيناريو وناقد كتب ، دعم بيسون في عام 2011 عمل جمعية إيسوتا التي تقوم بحملات من أجل الزواج وتبني الأطفال من قبل الأزواج المثليين. وقد نشر بعض الكتب الرائعة ، من بين كتب أخرى ، في غياب الرجال (عن الانفصال) ، والأيام الهشة (عن الأيام الأخيرة لآرتور رامبو) ، والعيش السريع (المكرس لجيمس دين).) " 13 "
وفي مثال آخر، يستغرق مساحة أدبية ومكاشفة دلالية بشكل لافت:
(في كتابك "في غياب الرجال" ، يقول "مارسيل بروست": هل نروي شيئًا غير قصتنا؟ إذن ، هل يكتب الكاتب أي شيء آخر غير قصته؟ ماذا عنك؟
أنا روائي ، أي شخص يخترع القصص. لذلك أنا لا أقول الحقيقة. بل إن الأمر عكس ذلك تمامًا. كما أنني جئت للكتابة لأن الحقيقة ليست كافية ، لأن الحياة الطبيعية ليست كافية. أردت أن أصبح شخصًا آخر ، عدة أشخاص آخرين ، لست كذلك. حياتي ليست في كتبي. من ناحية أخرى ، من الواضح أن العلاقة الحميمة لدي تظهر هناك ، في العلامة المائية ، في الفجوات. لا يمكننا الكتابة بتجاهل ما نحن عليه بعمق. سيكون ذلك مستحيلًا ، سيفترض وجود فصام تام ، مسافة مذهلة حقًا عن الذات. وبالتالي ، فإن رواياتي تحمل شيئًا مني ، وهواجسي ، ورغباتي لكنها لا تخبر شيئًا عن وجودي.
في رواياتك ، إخوتك ، تعتبر الرابطة بين الإخوة أو الأخ والأخت فكرة مهمة.
في فيلم Les jours fragiles ، يبدو أن إيزابيل تتمرد قليلاً على والدتها ، وتحتفظ بمذكرات عن علاقتها ، وعودة شقيقها الملعون. وبعد ذلك ، بالتواصل مع آرتور ، يبدو أن بعض يقيناته تتراجع. ترى والدتها من منظور مختلف. إنها تعطيني انطباعًا بأنني ممزق بين شخصيتين أساسيتين لهذه العائلة. هل يمكننا الخروج من هذا النوع من المبارزة سالمة؟
موضوعاتك المفضلة هي تلك المتعلقة بالانفصال ، والخسارة ، والموت ، والهجوم على الجسد ، والصمت. هناك أيضًا علاقات ثنائية بين كائنين فقط. هناك العديد من الشخصيات الأخرى ، لكن العلاقة التي تركز عليها دائمًا تتكون من حرفين. على سبيل المثال: فنسنت وآرتور وفنسنت ومارسيل أو آرتور رامبو وشقيقته إيزابيل ولويز وستيفن. هل الرقم اثنان رمزي بالنسبة لك؟
كل شيء عن اثنين. وجها لوجه. دائماً. الأكثر أهمية هو الآخر. عندما يكون أمامنا فهو أهم كائن. يختفي الباقي.
لماذا لا تستخدم الحوار الذي هو نادر جدا في رواياتك؟
لا أعرف كيف أكتب الحوار. لا أعرف كيف ألجأ إلى التفاهات التي يحتاجونها. أنا معجب بمن يعرف كيف يكتب الحوارات. صديقي أرنو كاثرين ، إنه قوي جدًا لذلك. انا لا. لذلك أجد حيلًا ، مسكنات. أدوات روائية (مذكرات ، رسائل ، اعتراف ...) تنقذني من المرور عبر الحوارات.
في أواخر الموسم وفتى من إيطاليا ، يمكنك استخدام تعدد الأصوات ، في غياب الرجال والأيام الهشة أو العزم على الوداع ، تختار الصحيفة. تقنيات أخرى لنفس النتيجة؟ اجعل القارئ يتابع أفكار وانعكاسات الشخصيات؟
أحتاج إلى أن يتعاطف القارئ مع الراوي ، ليكون أقرب إلى القصة التي أحكيها. لهذا السبب أكتب بشكل أساسي بصيغة المتكلم المفرد وفي المضارع. هذا يعزز المصالحة. رواياتي تعمل على الحساس. إذا كانت المسافة كبيرة جدًا بين القارئ والكتاب ، فلن تنجح.
معدل النشر الخاص بك مثير للإعجاب للغاية. رواية واحدة في السنة ، وأحيانًا أكثر إذا عدت القصص القصيرة القليلة. كيف يمكنك الحفاظ على مثل هذا الإيقاع ، خاصةً مع النصوص التي تكون دائمًا قوية جدًا؟
لأنني أكتب في كل وقت. وأنا لا أفعل أي شيء آخر. ليس لدي عمل ولا مهنة أخرى. أنا مكرس تماما للكتابة. إنها رفاهية لا تصدق ، وأنا على علم بها.) " 14 "
وبصدد رواية أخرى له كذلك:
(إنها فلورنسا تحت شمس الخريف. تم العثور على لوكا غرقًا على ضفاف نهر أرنو. لوكا لم يعد موجودًا ولكنه يتحدث عن وضعه الجديد ، عن آنا ، الشابة التي تحبه كما هو (وكان) وعن ليو ، هذا الشاب الوسيم الذي التقى به ذات يوم في محطة قطار. ببطء ، من خلال لمسات صغيرة ، سيتم الكشف عن الصور والروابط التي تربط الثلاثة جميعًا.
إنها رواية بثلاثة أصوات يقدمها لنا فيليب بيسون هنا ، مؤلف لا يحتاج إلى مقدمة ، ولكنه لا يزال سيد العلاقات الإنسانية ، من الحب الملتهب أو المحبط.
مرارًا وتكرارًا هذه الكتابة بسيطة جدًا ، ودقيقة ، وكلها في ضبط النفس ، فقط ، والتي تذهب مباشرة إلى العاطفة ، دون عاطفة مع كل ذلك. ما زلنا نجد هناك مواضيع عزيزة على المؤلف ، مشاعر الحب ، المثلية الجنسية ، العلاقات الزوجية ، ألم الغياب ، عدم وجود الآخر ، ثقل الأسف.) " 15 "
وأخيراً وليس آخراً، كما يقال، في هذا المثال الدال على جانب الاهتمام الثقافي والأدبي لدى بيسون، وما يحفّزه على توسيع " امبرطورية " علاقاته الروائية الأثر:
(En l'absence des hommes : في غياب الرجال، هي أول رواية لفيليب بيسون ، هذه الرواية ستجعل مؤلفها معروفًا وملحوظًا لفرحنا الأعظم.
تحكي هذه القصة صيف عام 1916 عن صبي صغير يبلغ من العمر 16 عامًا ، من عائلة جيدة ، غير مبالٍ بالعالم من حوله. لكن في هذا العام 1916 ، العام الذي كانت الحرب العظمى مستعرة ، سيعطينا فينسينت دي ليتوال أول لقاءين أساسيين في حياته.
في يوم من الأيام ، سيلتقي بمارسيل بروست ، الكاتب العظيم ، الرجل الحساس والمثقف في العالم. ستولد صداقة حميمة بين المراهق والمؤلف الشهير. هذه فرصة لفيليب بيسون لتكريم بروست ودقة كتاباته ؛ لتقدم لنا صفحات رائعة عن الكتابة ، عن الصداقة الأفلاطونية بين رجلين.) " 16 "
...
يمكن إيراد المزيد، سوى أن الاكتفاء بما تقدم، كما أرى، يكبّر صورة الكاتب، ويضيء صفحته الأدبية والروائية والفنية، وسلوكياته الاجتماعية، وكيفية ممارساته لكتابته الروائية وغيرها
أعني كيف يعيش هاجس الجسد، وأدوار الجسد، وما يخرج الجسد عن طاعتنا، كما في مثال " الأيام الهشة "، وما يبقي الجسد طوع رغبتنا النفسية، إلى حين، وما نعيش مما هو يستجد في تينك العلاقة بين الداخل والخارج، ويكون للجسد نبراسه ومهمازه الاعتباري في بنية المؤثرات التي تظهِر لنا إلى أي مدى يكون الجسد مرهوب الجانب، في كل ما يقوّمه ويقيّمه، في كل ما يسنده ويبدد " شمل " قواه، وما يجعل المرئي فيه، وتخيل اللامرئي فيه، وشوماً، وحده الباحث في شأنه، ومن جهة الكبرى في معْلمها الأطلسي الواسع المدى، قادر على قراءتها وتنويرها !



مصادر وإشارات
1-Recherche avancée: Philippe Besson
بحث متقدم: فيليب بيسون
2- PHILIPPE BESSON, Bienvenue ! - Save my brain, Posted on 20 juillet 2010
فيليب بيسون
3- Étienne Bergeron :Se performer : écriture du corps, écriture de soi
إتيان بيرجيرون: التمثيل: كتابة الجسد ، الكتابة الذاتية
4- Manuscrits, beaux livres & facsimilés de manuscrits - Les Saints Pères :Arthur Rimbaud
آرتور رامبو
5- Michel Rossignol: Rimbaud, l’écriture en marche, Dans Le Coq-héron 2007/2 (n° 189)
مايكل روسينول: رامبو يكتب أثناء التنقل
6- Victor Pascal : La vie d’Arthur Rimbaud, ou l’anatomie d’une autodestruction.
فيكتور باسكال: حياة آرتور رامبو ، أو تشريح تدمير الذات.
7-فيليب بيسّون: الايام الهشّة، ترجمة: كامل العامري، مراجعة: د. بدرالدين عرودكي، دار المحيط للنشر، الفجيرة، دولة الإمارات العربية المتحدة، ط1، 2022 ، لاحقاً سوف ترد أرقام صفحات الرواية في المتن، وتخص هذه الطبعة .
والرواية كما هو منوَّه إليها من إصدارات عام " 2004 "، أي منذ قرابة عقدين من الزمن، وقد قرأت مقالاً عنها، في صحيفة الحياة " يوم 24 - 09 - 2004 " لهاجرة ساكير، تحت عنوان: في انتظار الذكرى المئة والخمسين لولادته ."الأيام الهشة" رواية فرنسية تبحث عن أوجاع رامبو
ومما هو مكتوب عنها، في نهاية المقال:
قراءة هذه الرواية تحثّ من جديد على الخوض في أعمال رامبو أليست قراءة رامبو مغامرة متجدّدة دائماً؟ وإعادة اكتشافها من جديد. هو الشاعر الذي برع في إحداث قطيعة كاملة مع الشعر التقليدي ولم يكن في حينه يتجاوز التاسعة عشرة. كان مسكوناً بهاجس إعادة تشكيل الذات وتحرير الحواسّ وإعادة ابتكار الحبّ، كأنّما هو ينخرط شعرياً في مشروع إعادة ابتكار الإنسان ذاته، من أجل تدشين "إيقاع جديد". إيقاع حلم بعيد من القبح والعنف والجريمة... لكن عبثية الحياة كانت أقوى، فبعد أن قطعوا ساقه في المستشفى توقفت رحلة الشاعر في 14 تشرين الثاني 1891 في مسقط رأسه في مدينة "شارلوفيل". توفي رامبو ولم يكن يبلغ بعد السابعة والثلاثين من العمر. ولحظة دفنه، كانت تمطر فوق المدينة التي هرب منها قبل عشر سنوات بحثاً عن شمس الجنوب..
وحديثاً وفي موقع " اندبندنت عربية" مقال للباحث والمترجم أنطوان أبو زيد: إيزابيل شقيقة الشاعر رامبو تروي افتراضياً عذاباته الأخيرة، بتاريخ : 23 حزيران 2023 .
وما جاء في خاتمة المقال يضيء معالم فيها:
هي رواية، على شكل يوميات، وإن كشفت بعضاً من جوانب حياة الشاعر، فإنها طرحت الكثير من الأسئلة التي تحتم على القراء استجلاء الأجوبة عنها بقراءة أعماله وإبداعاته، مترجمة أو بلغتها الأصلية...
8- Yves-Michel Ergal: De l’autobiographie dans le “ roman ompar “,
Dans Revue de littérature ompare 2008/1 (n° 325
إيف ميشيل ارغال: السيرة الذاتية في "الرواية الحديثة”
9- Littérature – Les jours fragiles, Philippe Besson.
الأدب – الأيام الهشة ، فيليب بيسون.
10-Dans l’intimité de l’écrivain, entretien avec Philippe Besson
في العلاقة الحميمة مع الكاتب ، مقابلة مع فيليب بيسون
14- Brigit Bontour: Interview – Retour sur “Les Jours fragiles” d’un Philippe Besson plus que jamais rimbaldien
بريجيت بونتور : مقابلة – نظرة إلى الوراء على: “ الأيام الهشة “ لـ فيليب بيسون الذي أصبح أكثر مما هو رامبوي من أي وقت مضى.
12- Entrevue – Philippe Besson, écrivain caméléon, 17 février 2007
مقابلة مع فيليب بيسون ، كاتب حرباء
13- André Roy: La vraie vie : “Arrête tes mensonges” de Philippe Besson
أندريه روي: الحياة الحقيقية: "توقف عن أكاذيبك" بقلم فيليب بيسون
14- Interview de Philippe Besson, Par Dédale le jeudi 26 juin 2008
مقابلة مع فيليب بيسون، مقابلة ديدال
15- Dédale : Un garçon d'Italie – Philippe Besson
ديديل :صبي من إيطاليا - لفيليب بيسون
16- Dédale:En l'absence des hommes – Philippe Besson
ديديل : في غياب الرجال - فيليب بيسون

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى