محمد الخباز - أبو الرقعمق والحماقة العاقلة

أن يُولد شخصٌ أحمقاً فذلك أمر لا يدَ له فيه، ولكن أن يختار الحمق -وهو ذو عقلٍ وافر- طريقةً له في الحياة ويترك طريق العقل فذلك أمر لا شك أنه يستوقف المتأمل. هذا ما فعله صاحبنا أبو الرقعمق أحمد بن محمد الأنطاكي نسبة إلى أنطاكية، المتوفى في التاسعة والتسعين والثلاثمائة من الهجرة، والذي قال عنه الثعالبي في يتيمته أنه: “نادرة الزمان وجملة الإحسان، ممن تصرف بالشعر في أنواع الجد والهزل، وأحرز قصبات الفضل، وهو أحد المدّاح المجيدين والشعراء المحسنين” (1). فلماذا يفعلُ من هو في مثل هذه الصفة ما يفعل، وهو يعلم أن ما يفعله هو من الحماقة، وأن حماقته أصبحت في الناس مشهورة، وأنه أصبح مشهوراً بها: لا تنكرن حماقاتي لأن بها/ لواء حمقي في الآفاق منشور/ ولست أبغي بها خلاً ولا بدلاً/ هيهات غيري بترك الحمق معذور. وهو يصر على أن يتمسك بخيار الحماقة رغم عتب العاتبين، مبرراً لهم عتبهم بجهلهم للذة الحماقة: لو علموا مالي من لذة/ لم ألح في الحمق ولم أعتب. وهو يعلم أنه يمشي في طريقٍ مخالف لطريق الناس، فطريق الناس هو طريق العقل، لكنه يختار طريقاً آخراً غير هذا الطريق عن عمدٍ وإصرار ليسلك طريق الحماقة: أستغفر الله من عقل نطقت به/ ما لي وللعقل ليس العقل من شاني/ لا والذي دون هذا الخلق صيرني/ أحدوثة وبحب الحمق أغراني. فلماذا يفعل أبو الرقعمق ما يفعل؟! هذا هو سؤال هذه المقالة.
لا يُسعفنا التاريخ الأدبي لتعليل هذه الظاهرة بأخبارٍ كثيرةٍ عن أبي الرقعمق، فأخباره تُعد على أصابع اليد الواحدة، وهي متفرقة في كتب الأدب. لكن ترجماته تشبهه بابن الحجاج البغدادي الذي استطاع أن يُوجِدَ له مذهباً شعرياً مختلفاً حتى صار علماً من أعلام الشعر الهزلي، وهو ما جعل الرافعي يذهب إلى أن أبا الرقعمق يذهب هذا المذهب مثل ابن الحجاج لأنه يجد نفسه لا تبلغ مبلغ الفحول من المعاصرين له، فيسلك مسلك الهزل ليتميز به عنهم، وينفق شعره بعد أن كان كاسداً (2). وممن ذهب مذهب أبي الرقعمق أيضاً أبو العبر الهاشمي الذي قال له أبو العميس الصميري: ويحك، ماذا يحملك على هذا السخف الذي قد ملأت به الأرض خطباً وشعراً وأنت أديب ظريف مليح الشعر؟ فقال يا كشخان أتريد أن أكسد أنا وتنفق أنت؟ (3). وقد كان أبو العبر يعيش في زمن البحتري، أما ابن الحجاج ومعاصره أبو الرقعمق فكانا يعيشان في زمن المتنبي، حتى أن ابن الحجاج من شدة غيظه هجا المتنبي أكثر من مرة، لكن المتنبي لم يكلِّف نفسه عناء الرد عليه.
لكن هذا السلوك الساخر في الشعر رغم أنه ساهم في انتشار شعر هؤلاء الشعراء في عصرهم أو نفوقه بتعبير أبي العبر، فإن غربال الثقافة لم يُبقِ من أشعارهم الشيء الكثير، فقد ضاع كثير من شعر ابن الحجاج الذي يقدر بعشرة مجلدات لم يبق منها إلا مختارات(4) ، ولم يبق إلا مقطوعات قصيرة من شعر أبي العبر تجد بعضها في ترجمته في كتاب الأغاني(5) ، ومجموعة من القصائد لصاحبنا أبي الرقعمق حفظها لنا الثعالبي في يتيمته.
وبطبيعة الحال لا يمكننا الجزم بالأسباب التي أدت إلى ضياع شعر هؤلاء كما ضاع شعر غيرهم، لكننا نظن أن من أهم الأسباب هو أن الثقافة الأدبية هي ثقافة ذات ذوق طبقي، اهتمت أكثر ما اهتمت باتجاهات شعرية معينة كشعر المديح والفخر والرثاء وغيرها من المواضيع الرسمية، واهتمت بالشعراء الذين تفوقوا فيها من فحول الشعراء. أما الشعراء الذين لم يبلغوا مبلغ الفحول في هذه المواضيع الرسمية، أو الذين انصرفوا إلى غيرها فكتبوا في الظرف والهزل مثلاً فقد أبقت الثقافة من آثارهم شيئاً قليلاً من باب الترويح عن النفس لا من باب أهميتها. وبالتالي فقد ضاع كثير من الأدب الذي يصور جوانب من حياة تلك المجمعات لا يصورها الأدب الرسمي، وهو ما يمكن أن نسميه بأدب الهامش، والذي بدأ النقاد في الفترة المعاصرة بإعادة الاعتبار له وتسليط الضوء عليه، وعلى شعرائه الذين هُمِّشوا من قبل التاريخ الرسمي، فاندثرت أخبارهم كما اندثرت أشعارهم، وربما لم يسمع الكثير باسمهم كصاحبنا أبي الرقعمق، وهو ما جعل بعض النقاد يسميهم بالشعراء المنسيين.
وصاحبنا أبو الرقعمق حسب الرواية التالية كان فقيراً في نشأته: “قال أبو الرقعمَق: كان لي أخوانٌ أربعةٌ وكنتُ أُنادمهم في أيام الأُستاذ كافور، فجاءَني رسولهم في يوم بارد وليست لي كسوةٌ تحصنني من البرد، فقال الرسول: إخوانك يقرؤون عليك السلام ويقولون: ذبحنا اليوم إرخة سمينة فاختر ما يعمل لك منها مما تشتهيه، فكتب إليهم: إخواننا عزموا الصبوح بسُحْرةٍ/ فأتى رسولُهُم إليَّ خصوصا/ قالوا اقترح لوناً يجاد طبيخُهُ/ قلتُ اطبخوا لي جبةً وقميصا. فذهب الرسول بالرقعة فما شعرتُ حتى عاد ومعه أربع خلع وأربع صررٍ في كل صرةٍ عشرة دنانير، فلبست إحدى الخِلع وعدتُ إليهم”(6) . لكن هذه الرواية على ما يبدو هي في بداية انتقاله لمصر فترجماته تشير إلى أنه أقام في مصر زماناً طويلاً، ومدح من الخلفاء الفاطميين الخليفة المعز وولده العزيز، والخليفة الحاكم بأمر الله، والقائد جوهر الصقلي، والوزير أبا الفرج ابن كلس، وغيرهم من أعيانها. ومن مدح كل هؤلاء فلا شك أنه استغنى بصلاتهم. يدلنا على فقره وفاقته قوله: لمن أمدح بالشعر/ لمن أقصد لا أدري/ تحيرت فما أدري الـ/ذي أصنع في أمري/ كأني لست مخلوقاً/ لغير الجهد والضر/ ومذ كنت فمدفوع/ إلى الفاقة والفقر. ويدلنا على غناه في مصر بعد فقره هو وصفه لمجالس اللهو والطرب والخمر ووصفه لنعومة العيش ونضارة الطبيعة وصحبة علية القوم في عدة مواضع، منها: لا تكذبن فما مصر وإن بعدت/ إلا مواطن أطرابي وأشجاني/ ليالي النيل لا أنساك ما هتفت/ ورق الحمام على دوح وأغصان/ أصبو إلى هفوات فيك لي سلفت/ قطعتهن وعين الدهر ترعاني/ مع سادة نجب غر غطارفة/ في ذروة المجد من ذهل بن شيبان/ وذي دلال إذا ما شئت أنشدني/ وإن أردت غناءً منه غناني/ سقيته وسقاني فضل ريقته/ وجاد لي طرفه عفواً ومناني/ كم بالجزيرة من يوم نعمت به/ على تصاخب نايات وعيدان/ والطل منحدر والروض مبتسم/ عن أصفر فاقع أو أحمر قان/ والنرجس الغض منهل مدامعه/ كأن أجفانه أجفان وسنان.
أما لقب (الرقعمق) فلم نجد له أصلاً في اللغة، ولا يوجد لدينا من الأخبار ما يدلنا على سبب تلقيبه به، ولكننا نجنح لتأويله على أنه تركيب لصفتي (الرقاعة) و(الحماقة)، فالرقيع من أسماء الأحمق وذاك أن عقله يحتاجُ إلى رقعٍ مثل الثوب، فبدل أن يقال لصاحبنا الرقيع الأحمق فقد اختُصر ذلك بـ (الرقعمق). وإذا تابعنا التأويل فيمكننا القول أن صاحبنا اختص بصفة الرقاعة دون غيرها من صفات الأحمق لأن عملية الرقع مشابهة لعملية الصفع، وللصفع مع صاحبنا أبي الرقعمق علاقة حميمة، حيث أن طقس المصافعة هو الطقس الأحمق المفضل لديه، فكلما اجتمع صاحبنا مع ندمائه تصافعوا على الأقفية، وكأن كل واحد يريد أن يرقع عقل صاحبه بصفعه على قفاه، ويتبارزون أيهم أصبر قفاً على الصفع! ولهذا فأبو الرقعمق يتحسر على هذه المجالس بعد أن فقدها: حزني أني مذ زمن/ ما لعبناه ولا لعبوا/ ولكم بتنا على طرب/ ورؤوس القوم تستلب/ وكؤوس الصفع دائرة/ ملؤها اللذات والطرب/ وانتخبناها وهامهم/ وأكف القوم تصطخب/ وكأن الصفع بينهم/ شعل النيران تلتهب. ويمكننا أن نستدل على ربط الصفع بالرقع بقول أبي الرقعمق: كفي ملامك يا ذات الملامات/ فما أريد بديلاً بالرقاعات/ كأنني وجنود الصفع تتبعني/ وقد تولت مزامير الرطانات/ قسيس دير تلا مزماره سحراً/ على القسوس بترجيع ورنات.
ويبدوا أن شغف أبي الرقعمق بالصفع لم ينتهِ عند مجالس الصفع، ولا عند وصفه تلك المجالس الصفعية: لا عيب فيَّ سوى إني إذا طربوا/ وقد حضرت يُرى في الرأس تفجير/ والأخدعان فما زالا يُرى بهما/ لكثرة المزح توريم وتحمير/ وذا الفعال مع الإعراض مطرد/صفع ونقع وتيسير وتعسير. بل امتد به ليفخر بقفاه الذي لا يوجد قفاً يتحمل الصفع مثله: لو برجلي ما برأسي/لم أبت إلا بنجد/ خفة ليست لغيري/ لا أراني الله فقدي/ أصبر الأرؤس في صفـ/ ع بلا حرز وعَدِّ. وليمدح قفا من طاب له أن يمدحه ويهجو قفا من أراد هجاءه، وكأنه أصبح لا يرى في الرجال إلا أقفيتهم، وهو يتخيلها في طقس المصافعة الأحمق. والظاهر أن أبا الرقعمق قد أصيب بالعمى في آخر حياته بسبب هذا الصفع كما يشير في عدة مواضع، فتاب عن طقس المصافعة، لكن نفسه كانت تنازعه الدخول فيه كلما حضره: ولا عذر ألا أدير اللطام/ إذا الصفع دار وكلي قفا/ وقد كنت تبت ولكنني/ إذا الصفع دار أتاني الجشا/ فلا تترك الصفع جهلاً به/ فما أطيب الصفع لولا العمى.
ويبدو أن طقس المصافعة هذا كان يُشبع جميع حواس المتصافعين حتى الشم منها، ذاك أن التباري في الصفع كان يصحبه تبارٍ في (الضراط): فأمَّا أكثر الحمق/ فقد سيرت في البحر/ ولا أترك في مصر/ لذكر الحمق من أثر/ فمن بعدي ليطبيـ/ ـه في النظم وفي النثر/ ومن من شدة الصفع/ له رأس بلا شعر/ ومن يضرط في الذقن/ بلا كيل ولا حزر. والضراط أيضاً كالصفع إذ هو محل للمدح والذم بما أنه مجال للتباري، لهذا يقول أبو الرقعمق واصفاً أحدهم: لحاه الله من شيخ ضروط/ ضجيج ضراطه بالنهروان/ ولكن رأسه جلد جليد/ صبور عند مختلف الطعان. ولعل هذا الاقتران بين مجالس الصفع والاستمتاع بما فيه من روائح هو ما جعل أبا الرقعمق يشبه هذه المجالس التي تجلب السرور بالبخور الطيب الرائحة: يا للرجال تصافعوا/ فالصفع مفتاح السرور/ هو في المجالس كالبخو/ر فلا تملوا من بخور.
بعد أن عرفنا هذا نعود إلى سؤالنا الأول، وهو: ما الذي يدفع أبا الرقعمق ليختار الحماقة طريقاً وهو ذو عقلٍ وافر؟ فجواب الرافعي الذي ذكرناه وإن كان مقبولاً فإنه ليس وافياً، فالحماقة عند أبي الرقعمق ليست شعريةً فقط لكي نقول إنه سلك سلوك الهزل في شعره لينفق بعد أن كان كاسداً، بل إن حماقته تعدت إلى سلوكه ولم تقتصر على شعره. وما أراه أن الحمق الذي اتخذه أبو الرقعمق طريقاً ليس هو الحمق بدلالته الخاصة الذي عرفه ابن الجوزي في كتابه أخبار الحمقى بأنه خطأ الوسيلة مع صحة المقصود، مثل الأمير الأحمق الذي أراد أن يمنع طائراً من الهروب فأغلق باب المدينة، فمقصوده صحيح وهو حفظ الطائر لكنه أخطأ في الوسيلة، بل إن الحمق عند أبي الرقعمق دلالته أعم من ذلك، فهو مخالفة الطريق الذي يسلكه الناس وهو طريق العقل عن وعيٍ وإدراك، وهي دلالة نرى أن لفظة الحمق لا تتسع لها، لكنها تشمل جزءاً منها، ولعل أبا الرقعمق معذور في استخدامه هذا اللفظ الضيق إذ لم يجد لفظة تتسع لوصف مذهبه، فاستخدم اللفظ الذي يدل على الجزء ليدل على الكل.
بعبارة أخرى، قد تكونُ الشهرةُ فعلاً حافزاً لما فعله أبو الرقعمق في شعره، لكنه لا تصلح تعليلاً لكل مخالفة قام بها أبو الرقعمق في حياته لطريق الناس، من ذلك مثلاً ميله للغلمان الذي ذكره في أكثر من موضع، هذا الميل الذي جعله لا يستطيب من الأشياء إلا دبرها، فقال هاجياً عضوه المذكر: لعنة الله عليه/ وبراغيث الكلاب/ فلكم أوقفني مو/ قف خزي واكتئاب/ ولكم أغلقت باباً/ من هواه دون باب/ عينه في كل من د/ ب على وجه التراب/ ثم لا يرضيه منه/ غير دبر مستطاب. فهذا الميل المخالف للميول الطبيعية للناس ليس مما يمكن تعليله بالرغبة في الشهرة، كما أن لفظ الحماقة لا ينطبق عليه، إلا إذا وسعنا دلالته كما أشرنا. على أن هذا الميل لم يلغ بالطبع الميل الطبيعي عند أبي الرقعمق في مرحلة الحمق، نستدل على ذلك بقوله من إحدى قصائده: أظن ودادها من غير نية/ وهل هي فيه إلا مدعيه/ فتاة لا تمل عذاب قلبي/ ولا تخليه وقتاً من أذيه/ ولا عيش سوى تقليب بظر/ وثقب من صبي أو صبيه/ على أني أقول بكل شيء/ سوى نيك العجوز القذمليه/ ولا ألوي على أحد يراني/ بعين النقص والحال الدنيه/ ومن نال العلاء حجاً ومجداً/ وأفعالاً مهذبة سنيه/ تشابه خلقه والخلق حسناً/ وحسبك بالنفاسة والسجيه/ تشاهد منه طوداً مشمخراً/ وأفعال الملوك الكسرويه. وفي هذا النص نرى أن هناك وجهاً آخر من أوجه الحماقة لدى أبي الرقعمق بدلالتها العامة غير الميول الغلمانية التي أشرنا لها، ففي هذا النص يخالف أبو الرقعمق قصيدة المديح الرسمية التي تبدأ بالغزل والتشبيب وتنتهي بالمدح ليبدأ هو بفاحش القول وينتهي بالمديح، وهو أسلوب تجده في عدد من قصائده، فقد يستهل أبو الرقعمق قصيدته المدحية بوصف مجلس المصافعة وما فيه من لهو، وقد يستهل قصيدته المدحية بالهزل، أو قد يجمع بينهما. يقول مثلاً: كتب الحصير إلى السرير/ أن الفصيل ابن البعير/ فلمثلها طرب الأميـ/ ر إلى طباهجة بقير/ فلأمنعن حمارتي/ سنتين من علف الشعير/ لا والذي نطق النبـ/ ي بفضله يوم الغدير/ ما للإمام أبي علـ/ ي في البرية من نظير. وهذا المدح الذي يشي بتشيع أبي الرقعمق يدل على انتقال أبي الرقعمق إلى مرحلة الحمق بعد أن كان يسير في طريق الناس ويكتب الشعر كما يكتبه الشعراء العقلاء حيث كان يفتتح قصائده الرزينة بالغزل الأنثوي تمهيداً للمدح، من ذلك قوله: حي الخيام فإني/ مغرى بأهل الخيام/ بالراميات فؤادي/ بصائبات السهام/ أيام وصلي حرام/ والهجر غير حرام/ لا عذب الله قلبي/ إلا بطول الغرام/ كأنما ذلك العيـ/ ش كان في الأحلام/ لم يبق من نرتجيه/ لحادث الأيام/ إلا ابن أحمد ذو الطو/ ل والأيادي الجسام. لكن هذه المدائح العاقلة لم تكن تعود على أبي الرقعمق بالنفع كما يبدو: مالي بلا سبب غودرت مطرحاً/ وقد حرمت عطاياك الجزيلات/ ولي مدائح قدماً فيك سائرة/ مستطرفات بألفاظ طريفات. فآثر أبو الرقعمق أن يستبدلها بالقصائد الحمقاء التي يطرب لها الأمير كما يشير أبو الرقعمق.
حماقة أخرى من حماقات أبي الرقعمق الشعرية خالف فيها بقية الشعراء العقلاء واشتهر بها هو أنه كان يحاكي أصوات الحيوانات والعصافير في شعره، لكن ما بقي من شعره ليس فيه إلا أمثلة نادرة، منها قوله: خذ في هناتك مما قد عرفت به/ مما به أنت معروف ومشهور/ واحك العصافير صي صي صي صصي صصصي/ إذا تجاوبن في الصبح العصافير/ ففيك ما شئت من حمق ومن هوس/ قليلهُ لكثير الحمق إكسير.
إن هذا الطريق الذي سلكه صاحبنا أبو الرقعمق، مخالفاً فيه طريق العقلاء في السلوك الحياتي وفي القول الشعري، ليس حماقةً كما يسميها هو، وإنما هو احتجاج على حماقة الدهر الذي يعيش فيه، حيث صاحب العقل المضيء يعيش مهضوم الحال، في حين أن المرتاحين بالاً ما هم إلا من ذوي العقول المنطفئة. هذا الدهر هو الذي يحتج عليه أبو الرقعمق: أشكو إلى الله دهراً غير متئد/ من قبح ما لج فيه من معاندتي/ ما زدت فيه اجتهاداً في معاتبة/ إلا وزاد اجتهاداً في مغايظتي. هذا الدهر الأحمق الذي كان أبو الرقعمق يحاول مجتهداً أن يصلح من حاله في المرحلة الأولى من حياته حيث كان يسير في طريق العقل، لكنه بقي فقيراً لا يملك من الثياب ما يخرج به، وهو صاحب عقلٍ ومروءة وأدبٍ وثروةٍ قولية لم يجد من يقدرها، فاحتج على هذا الوضع وقرر أن يسلك الطريق المخالف لطريق العقل: وقد مجنت وعلمت المجون فما/ أدعى بشيء سوى رب المجانات/ وذاك أني رأيت العقل مطرحاً/ فجئت أهل زماني بالحماقات. ليثبت حماقة هذا الدهر الذي يقدم الأحمق ويؤخر العاقل، وليصل إلى حكمته المصقولة التي صار يبثها لتلاميذه في الحماقة: فاسمعن مني ودعني/ من كثير وقليل/ قد ربحنا بالحماقا/ ت على أهل العقول. هذه الحكمة التي استطاع أبو الرقعمق أن يكتشفها بعقله المضيء ليحول به الدهر من عدوٍ يحاربه إلى صديقٍ يسالمه: حتى رأيت صروف الدهر عائذة/ من بعد ضربي وحربي بالمسالمة. بعد أن استغنى من حماقته وبلغت شهرته الآفاق واستطاع أن يصل إلى الممدوحين الذين لم يبخلوا بصلته أُنساً بحمقه وظرفه واستمتاعاً بشعره وأدبه. وهذا ما يجعل من أبي الرقعمق شخصاً فريداً من نوعه، حين استخدم عقله ليكون أحمقاً، أي أن حماقته كانت عاقلة، حيث كان العقل لها أداة، وليست حمقاء، ليعلو بهذه الحماقة بعد أن كان عقله لا يستطيع أن يعلوا به، وما علة هذا إلا حماقة الدهر الذي كان يعيشُ فيه.
وأخيراً، تجب الإشارة إلى أن أبا الرقعمق يمكن تصنيفه ضمن ما يسمى بـ(المُضحكين) أو (المُلهين) أو (مهرجي البلاط) بعبارة حديثة، وهم طبقة ضمن حاشية الأمير وظيفتها إضحاك الأمير وتسليته والترويح عنه بأفعالها وأقوالها، وقد انتشرت هذه الظاهرة في أيام الدولة العباسية حين صارت الأمراء تهتم باللهو والترويح أكثر مما تهتم بالجد والسياسة، وصارت لها مجالس خاصة للهو والشرب والمنادمة تقوم على طرح الكلفة بين الأمير وندمائه وطرح الالتزام بالآداب الرسمية والأعراف الأخلاقية، وقد كانت لهذه الطبقة رواتبها كباقي الطبقات من بيت مال المسلمين، وإن لم يكن فعلهم ضمن الوظائف الرسمية. وهذه ظاهرة لم تنفرد بها الدولة العباسية بل كانت موجودة في الدول القديمة، كالدولة الفارسية. وكلما تقدم الزمن بالدولة العباسية كلما انتشرت هذه الظاهرة وزاد اطراح هذه الطبقة للكلفة حتى وصل الأمر إلى نشوء ما يسمى بـ(الضراطنة) و(الصفاعنة) الذين كان أبو الرقعمق واحداً منهم، لكن ما يميزه عن كثير منهم هو أن سلوكه الأحمق هذا لم يكن فقط لأجل المال أو الشهرة أو الحظوة عند الأمير(7) .
————————————-
الهوامش:
– الثعالبي: يتمة الدهر في محاسن أهل العصر، ج1، ص379، (بيروت: دار الكتب العلمية، 1983م).
– انظر مصطفى صادق الرافعي: تاريخ آداب العرب، ج3، ص126، (بيروت: المكتبة العصرية، 2004م).
– الصولي: أشعار أولاد الخلفاء وأخبارهم، ص325، (مطبعة الصاوي، 1355هـ).
– يمكن للاطلاع على شعر ابن الحجاج مراجعة كتاب الأسطرلابي (درة التاج من شعر ابن الحجاج)، وقد قام بتحقيقه علي جواد الطاهر، وقد صدر عن دار الجمل عام 2009م.
– للتوسع حول أبي العبر وآثاره يمكن مراجعة دراسة شاكر لعيبي (السوريالي الأول)، ودراسة عادل العامل (أبو العبر الهاشمي، دادائي من زمن بني العباس).
– رزق الله شيخو: مجاني الأدب في حدائق العرب، ج2، ص204، (بيروت: مطبعة الآباء اليسوعيين،1913 م).
– انظر يوسف سدان: الأدب العربي الهازل ونوادر الثقلاء، (بغداد: منشورات الجمل، 2005م)، ص49-56.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى