حسين حمدان العساف - نقد كتاب «مقالات في أدب الحمقى والمتحامقين» لمؤلفه ( أحمد الحسين)

يبحث الأستاذ أحمد الحسين منذ فترة طويلة في ظاهرة أدبية لم تأخذ حقها بعد من العناية والاهتمام كما تستحق، هي الأدب الشعبي في العصر العباسي، اهتم بها الأستاذ، وأخذت هذه الظاهرة معظم وقته قي وقت من الأوقات، واستطاع بمواظبته على هذا البحث أن يكتب عددا ًمن المقالات، وينشر الكتب التالية:
أدب الكدية في العصر العباسي: والكتاب موضوع الرسالة التي نال بها درجة الماجستير بامتياز، نشر دار الحوار ، العام 1986
أشعار الشحاذين: جمع وتحقيق، نشر دار الجليل، العام 1986
مقالات في أدب الحمقى والمتحامقين، نشر دار الحصاد، العام 1991.
ونشرت دراسات عن مؤلفاته السابقة في (تشرين) و(الثورة) و(البيان) و(العربي)، وكتب الأستاذ عشرات المقالات في المجلات السورية التالية:(جيش الشعب) و(المرأة العربية) و(الثقافة) و(المعرفة) و(هنا دمشق) وكذلك في الجرائد والمجلات العربية التالية:(العرب) و(البيان) و(النافذة). يقع كتاب (مقالات الحمقى والمتحامقين) في مائة وسبع وستين صفحة من القطع المتوسط والورق المصقول الجيد،
عرض موجز لمقالات الكتاب:
يتضمن ست مقالات: في المقالة الأولى (نظرات في تاريخ الحما قة): يحاول المؤلف رسم ظاهرة الحماقة من خلال تتّبعه بداياتها التي يعتقد أنها كانت في العصر الجاهلي حتى يصل بها إلى العصر العباسي محاولاً إبراز الدوافع التي أدّت الى نشوئها، وإبراز مواقف الفئات الاجتماعية المختلفة من الحمقى والمتحامقين. وفي المقالة الثانية (مدخل إلى عالم الحمقى والمتحامقين): يحاول رسم صورة لعالم أولئك، بما تتيحه له المعلومات المتوفرة لد يه، حيث يسلّط الأضواء على عالمهم معتقداً أنَّ اللغة ربما تصح أن تكون مدخلاً إليه. وفي هذه المقالة يشرح معاني الحماقة كما وردت في المعجمات مبينّاً الفارق في المعنى والدلالة بين الحمق والتحامق، ثم يكشف أساليب الحمقى والمتحامقين من خلال أداء مشاهد التحامق التي غالبا ًما تؤدي إلى الإضحاك، كما يكشف العلاقات الاجتماعية التي تربط بين هؤلاء جميعاً، وفي مقالته الثالثة: (الحماقة في الأدب والمصادر الأدبية)، يحلل دوافع اهتمام المؤلفين القدامى بتدوين أخبار الحمقى والمتحامقـين، ويراها أدبية، نفسية، اجتماعية.
ويبحث في مقالته الرابعة (التحامق: أسبابه ودوافعه) محللاً الاعترافات الشخصية للحمقى والمتحامقين، ويرى أن دوافع هؤلاء الى التحامق عديدة، يبرز في مقدمتها: دافع التكسب والعيش، ثم د وافع أخرى منها: النقد وكشف الأخطاء،والتخلص من المآزق والأزمات،والتحرر من رقابة المجتمع، والاسترخاء والهروب من الواقع. ويبيّن في المقالة الخامسة: (صراع المعقول واللامعقول في أدب المتحامقين) أن العقل خسر مكانته متراجعاً أمام طغيان اللاعقل، وهيمنة الجهل على العلم، والأميّة على المعرفة، والعبث واللهو على الجد والعطاء، هذه المفارقة بين الاتجاهين المتعارضين دفعت فئة إلى الصدارة، وأقصت أخرى، هكذا تجلت رؤية أدباء التحامق لواقعهم، كما بينّها المؤلف،
وفي مقالته الأخيرة: (أبو العبر أمير الحما قة والمتحامقين) يدرس شخصية أبي العبر، ويتخذها نموذجاً لشخصية المتحامق، فيستعرض حياته، ويرى أنها مَرّت بطورين متناقضين: طور الجد، لا يعرف عنه شيئاً، وطور التحامق والتجانن، ويعلل انتقاله إلى الطور الثاني بأ نه لا يعدو أحد أمرين: الأول: أنّه لم يبلغ في شعره الجاد ما بلغه أعلام عصره كأ بي تمام والبحتري، والثاني: أن ميل أبي العبر إلى التحامق إنما هو تعبير عن زهد الناس في الجد، وإقبالهم على الهزل، ثم يحلل نماذج من أد به الجاد، ويورد مختارات من نصوص تحامقه شعراً ونثراً، ويدرس طبيعة النادرة عنده، ويجتهد في عقد مقا رنة لافتة بين أبي العبر ومذهب فلسفي معاصر، هو السريالية، ويرى بينهما أوجه شبه متعددة، يسوق عليها أمثلة من سلوكه ونصوصه.
أهم الكتب القديمة التي تناولت الحمقى والمتحامقين:
ويرى أنَّ أكثر الكتب القديمة التي تنا ولت الحمقى والمتحامقين على تباين مقا صدها واختلاف منا هجها ضاعت، ولم يصلنا منها إلاّ كتب قليلة، أهمها اثنان يُعدان الأساس لكل من يريد البحث في هذا الاتجاه: (عقلاء المجانين) للنيسابوري، و(أخبار الحمقى والمغفلين) لابن الجوزي،مع ما بينهما من فارق شرحه المؤلف،وله ملاحظات على تلك المؤلفات القديمة،رأى فيها أنّ (أكثر الأدباء لم يتجاوز اهتمامه جمع المادة، وعرضها، وتصنيفها، لا يستثني منهم إلاَّ (النيسابوري المتوفى 406هـ) الذي رأى أنَّ وعيه وتحليله للظروف الاقتصادية والاجتماعية التي عاشت فيها فئات الحمقى مثلّ طوراً متقدماً، ورؤية نا ضجة، وفكراً واسعاً، اهتدى به المؤلف إلى جوانب هامة، لكنه اختلف عنه في جوانب أخرى.
النيسابوري أقدم مؤلف التزم أسس البحث، ونبّه إلى دوافع التحامق:
- فالنيسا بوري، كما يراه، يُعَدّ أقدم مؤلف التزم بأسس البحث لدى تناوله هذه الفئات، واستوعب ظاهرة الحماقة والتحامق والجنون والتجانن، فدرسها ضمن إطارها الاجتماعي عندما (نبّه الى الدوافع والأسباب الاقتصادية والثقافية التي كانت وراء انتشارها) وعقد فصولاً بحث فيها أهم دوافع الناس إلى التحامق، فرأى أنَّ من الناس من تحامق لينال غنى، وأنّ َمنهم من تحامق ليطيب وقتاً، ويسترخي عيشاً، ومن تحامق لينجو من بلاء وآفة، والأستاذ أحمد أكّد على هذه الدوافع في كتا به، ودرس ظاهرة الحماقة في إطارها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، ورأى أنَّ د وافع الناس إلى التحامق هي التكسب والعيش والنقد والتخلص من المآزق، والهروب من الواقع إلى دنيا الوهم والخيال.
المؤلف كالنيسابوري وابن الجوزي يحدّد دلالة الفروقات اللغوية،لكنّه ينقلب عليها:
وسار الأستاذ على منهج النيسا بوري وابن الجوزي في استعراضه لكثير من المفردات اللغوية التي تصب في دائرة الحمق والتحامق، وفرّق كالنيسابوري بين الحمق والتحامق والجنون والتجانن، والتقى معه عند النقطة الفاصلة التي تميز بين الحماقة والتحامق والجنون والتجانن، والغفلة والتغافل، فيرى المؤلف مثلاً أنَّ الجنون والحماقة مرض أو طبع، لا يتكلفه المرء، بينما التجانن والتحامق من مظاهر التكلف والتصنع، وبعد أنَّ يأ خذ على أغلب المؤلفين القدامى عدم تبنيهم الحد الفاصل بين هذه الفرو قات اللغوية الدقيقة، فإ نَّ المؤلف لا يلبث أنَّ ينقلب عليها، ويقع فيما كان يأخذه على المؤلفين القدامى، فلا يرى فيها نسقاً واحدا ً فحسب، ولكنه أضاف إلى الحماقة تسميات جديدة لم تخطر ببال القدماء ولا المحدثين، وهنا بدأ يبتعد عن النيسابوري وعن (الوطواط ) مؤلف كتاب (غرر الخصائص) الذي سار على منهج (النيسابوري) فيما بعد، ويشير الأستاذ أحمد أن (النيسابوري) كان (يتحرى الحرص والدقة في ذكر مصادر كتابه، فأشار إلى من سبقوه ) [1] وكذلك الأستاذ أحمد يذكر مصادره التي عاد إليها، ويشير إلى من سبقوه، مع فارق بينهما، كن المؤلف يختلف عن (النيسابوري) في منهج تأليف الكتاب وخطته.
المؤلف يتصرف بنصوص مراجعه:
فهو لا يتحرّى الحرص والدقة أحياناً في نقل بعض النصوص نقلا دقيقا أميناً كما وردت عن أصحابها، وقد يعمد إلى تطويع بعضها بما يخدم ما يذهب إليه، كأن يضيف إلى النصوص التي يستشهد بها، إضافات ليست هي لأصحاب النصوص، ففي الصفحة (97) أشار المؤلف في الحاشية رقم (20) الى مجنون اسمه (سعد المجنون) بينما اسمه في مصدره (سعدون المجنون) [2]، وحين تحدث في الصفحة (91) عن شاعر اسمه (علي بن صلوة) يرى أنَّ شعر الحماقة كان أنفع له من الشعر الجاد، فتحامق، واستشهد على ما يقول بنص، أحالتنا حاشيته رقم (10) إلى كتاب (عقلاء المجانين) الصفحة (35) ولدى المقارنة بين النص الأصلي والنص المنقول عنه تبين أن المؤلف تصرف بالنص، فقد أورد عن الشاعر أنه: صائب الرأي، ومن شعره الجاد قوله: بينما لا يذكر (الينسابوري) ذلك، وكان ما قاله هو التالي: (علي بن صلوة القصري كان ممن يجيد الشعر، وكان محروماً، لا يؤبه له ،ومن جيد شعره:)، ثم يتابع المؤلف: (ولكن علياً لم ينتفع بجودة شعره، واتزانه، ولم يقبل الناس عليه، فكان محروماً، لا يؤبه له، فنبذ العقل جا نباً، ومال إلى التحامق، وأخذ في الهزل، والعبث، فحسنت حاله، وراج أمره حتى إنَّ الملوك والأشراف،أو لعوا به) وما ذكره (النيسابوري) هو ما يلي: ( ثم تحامق ،وأخذ في الهزل، فحسنت حاله، وراج أمره حتى إنَّ الملوك والإشراف،أولعوا به )، ولكنه لم يذكر أنَّ الشاعر المذكور قبل أنَّ يتحامق كان: (صائب الرأي ـ من شعره الجاد ـ ولكن علياً لم ينتفع بجودة شعره واتزانه ـ ولم يقبل عليه الناس ـ فنبذ العقل جانباً)، وهي عبارات مضافة إلى (النيسابوري) أقحمها المؤلف في مصدره إقحاماً. [3]
وفي محاولته التأكيد أنَّ القدماء وصفوا (أشعب) بالحماقة، أورد النص التالي في الصفحة (31) من كتابه، رقم حاشيته (36) منقولاً من كتاب الأغاني، فقد كان عامر بن لؤي والي المدينة يطلب: (أشعب فإذا هرب منه، واختفى، هجم على منزله بالشرط، وإن كان في مجلس قوم بعث إليهم يطلبه منهم، فإذا جيء به، أمره بأن يحدّثه، ويضحكه، ويسليه بنوادره وحماقاته)، وأنا أفهم أنّ النص إذا وضعه الكاتب بين هلالين، ورقم حاشيته، وأحال القارىء إلى مصدره، هو نص منقول تلزم الأما نة العلمية في البحث نقله بدقة دون حذف أو إضافة، أو تصرف - هذا إذا لم يُسخّر النص إلى غير ما يريد، وكان النص الوارد في كتاب الأغاني على لسان أشعب كما يلي: (ولي المدينة رجل من ولد عامر بن لؤي، وكان أبخل الناس، وأنكدهم، وأغراه الله بي، يطلبني في ليله ونهاره، فإن هربت منه هجم على منزلي بالشرط؛ وإن كنت في موضع بعث إلى من أكون معه أو عنده ،يطلبني منه؛ فيطالبني بأن أحدثه؛ وأضحكه.) [4] وازن بين النص المنقول والأصلي؛ وانظر كيف تصرف المؤلف فيه؛ وأضاف (الحماقات) إلى أشعب؛ وهي غير موجودة في النص،ولا في سيرة أشعب كلها التي حدثنا عنها أبو الفرج؟
اختلاف خطة كتاب المؤلف عن خطة كتاب النيسابوري:
وخطة تأليف كتاب الأستاذ أحمد الحسين تختلف عن خطة كتاب النيسابوري: فالنيسابوري في كتابه (عقلاء المجانين) كما يحدثنا الأستاذ عنه: (يقف على معنى الجنون والحماقة، ويذكر ما قيل من أسماء الحمقى وأوصافهم، ويسرد الأمثلة التي ضربت فيهم، ثم يوزع كتا به على سبعة فصول قصيرة، تكشف عن أسباب الجنون، ودوافع التحامق، وهذا دليل تقص، وبحث في محاولة منه فهم أبعاد تلك الظاهرة، ثم يعقد في كتا به ترجمات لأكثر من (100) شخصية من أعلام الحمقى والمجانين).
أمّا كتاب الأستاذ أحمد فواضح من عنوانه: (مقالات في أدب الحمقى والمتحامقين) أنه مجموعة مقالات، تتردد فيها أفكار ومعلومات وإشارات تبدو واضحة للوهلة الأولى، ففي رصده، على سبيل المثال لأسباب التحامق ودوافعه رأى أن (الاسترخاء والهرب من الواقع) دافع من دوافعه، يقابله في كتاب النيسابوري (ما تحامق ليرخي وقتا ًويطيب عيشاً)، ورأى أنه شكل من أشكال الاغتراب [5]، كّرر الحديث عنه في مقالته (صراع المعقول واللامعقول) ص(133)، وفي مقالته (مدخل الى عالم الحمقى والمتحامقين)، ذكر دوافع أبي العبر الى التحامق ص(54)، ثم ذكرها ثانية في مقالته (التحامق:أسبابه ودوافعه) ص(91)، ثم كررها مرة ثالثة في مقالته (الحماقة في كتب الأدب والدراسات ألأدبية)، ثم تحدّث عنها مرة أخرى في نهاية مقالته (صراع المعقول واللامعقول)، وأمر طبيعي أن تتردد مثل هذه الإشارات بين مقالة وأخرى حين تكون متفرقة، وتفصل بين نشرها مسافات زمنية، أمّا حين عزم المؤلف على جمعها في كتاب، فكان عليه أن يتجنب التكرار، وأن يخضع تجميع المقالات لتنسيق دقيق ومنهجية في التأليف محكمة، وفي الصفحة (129) من كتا به يقول المؤلف (فأنشد البحتري قصيدته التي أولها، ولم نر أولها، ومطلعها هو :
عن أي ثغر تبتســم = وبأي طرف تحتــكم
حسن يضيء بحسنه = والحسن أشبه بالكرم
- وفي رد ه على صفات الأحمق وأوصافه كما ذكرها القدامى من الحكماء والعلماء والأدباء: يقول المؤلف في الصفحة (51) ما يلي: (إنَّ ما يفنّد هذه التقولات التي قد تصدق أحياناً، ولا تصدق في كل الأحايين)، وللقدماء في صفات الأحمق آراء وأقوال، وليس (تقولات)، وإنَّ دلالة التقولات كما لا تخفى على الأستاذ أقرب ما تكون الى الكذب ومجا نبة الصواب، فكيف إذن، تصدق أحياناً؟ وموضوعية البحث العلمي أن يفنّد الأستاذ آراء القدامى وأقوالهم بالحجج لا بالتكذيب! والمؤلف، وهو متزود بثقافة معاصرة، يختلف عن النسا بوري في تنا ول ظاهرة الحماقة والتحامق اعتماداً على مناهج بحث لم تكن معرفة لدى القدماء، فقد أعطى الحما قة مفهوماً مختلفاً عما هو سائد بدلالة واسعة، واستخد م منا هج البحث العلمية في د راسة هذه الظاهرة. فهو لم يقتصر على المنهج الوصفي الذي تبين لنا فحسب، ولكنه استخدم أيضاً المنهج التأريخي والمنهج المقارن، كما أنه استخدم نصوص بعض الحمقى أنفسهم للتعرف على أحوالهم، واستنبط منها أحكاماً عامة، فإلى أي مدى وفق المؤلف في منا هج بحثه؟ المؤلف تناول ظاهرة الحماقة في الفترة الزمنية الممتدة من العصر الجاهلي إلى فترة لابأس بها من العصر العباسي.
يدايات ظاهرة الحماقة:
فحاول العودة الى بدايات هذه الظاهرة، واعتقد أن (سعد القرقرة) الجاهلي الذي ظهر في بلاط النعمان بن المنذر كان رائد الحمقى وأول من اكتشف دستور الحماقة، ثم انتقل إلى المحطة الثانية، فرآها في صدر الإسلام عند الصحا بي (النعيمان)، وبه يرى ( أنَّ حلقات التحامق لم تنقطع)، ثم يمضي في تقصي هذه الظاهرة تأريخياً، فيمّر بالعصر الإسلامي شا رحاً ظروفها، متتبعاً تطورها من مرحلة إلى أخرى حتى يصل الى فترة متقدمة من العصر العباسي، ويتوقف في مقالته الأخيرة عند أبي العبر الذي قتل سنة 250 للهجرة، كما يقول (ابن النديم) في (الفهرست).
ظهور أدب الحمقى والمتحامقين:
وتبين في مقالات المؤلف أن الحمقى لم يكن لهم أدب في الفترة الممتدة من العصر الجاهلي حتى نها ية العصر الإسلامي، ولم يظهر أدبهم إلاَّ في العصر العباسي، وشعرهم في مرحلة من هذه العصركان نتفاً ومقطوعات وأحياناً قصائد، والمؤلف حين بحث في ظا هرة الحما قة منذ بداياتها، إنّما كان يرصد تطورها عبر مراحلها، وكان يقارن بين كل محطة وأخرى، كمقارنته بين الحماقة عند (سعد القرقرة) و(النعيمان)، ومقا رنته بين كل مرحلة من مراحل تطورها والمرحلة التي سبقتها، محللاً أوضاعها، ومبناً أوجه الاتفاق والاختلاف فيما بينها، ومقارنته كذلك بين الكتب والدراسات الأدبية التي تناولت هذه الظاهرة.
المصادر الأساسية التي تأثر بها بحث المؤلف:
وإذا حاولنا، ونحن نتحدث عن منهج المؤلف، أن نضع البحث في إطاره المناسب، فينبغي أن نشير إلى أهمية مصادره الأساسية التي تكمن خلفه، وتوجّه مساره وهي الثلاثة التالية:
(عقلاء المجانين) للنيسابوري.
(أخبار الحمقى والمغفلين) لابن الجوزي. وقد أشار المؤلف إليها، فقال: (أولهما كتاب (عقلاء المجانين) للنيسابوري، وثانيهما (أخبار الحمقى والمغفلين) لابن الجوزي، وهما الأساس، والذخيرة الغنية التي لا يمكن الاستغناء عنها لمن يريد البحث في هذا المضمار.) [6]، ويأتي كتاب (عقلاء المجانين) في المقام الأول، ويعد النبع الثّر الذي اغترف منه المؤلف ما اغترف، واقتدى به في جوانب هامة في بحثه، فسار على منهجه في دراسة ظا هرته حيث وضعها في إطارها الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، وحلّل أسبابها، وعدّد دوافعها .
(تأريخ الجنون في العصر الكلاسيكي) ميشيل فوكو: هو كتاب معاصر، ألفه المفكر الفرنسي الكبير (ميشيل فوكو) في العام1961، ويبدو أنه شديد التأ ثير على من قرأه، أو قرأ عنه، ولست أدري ما إذا كان هذا الكتاب الشهير ترجم الى العربية أم لا؟ كما لا أدري ما إذا كان المؤلف قرأ هذا الكتاب مترجماً؟ وأكبر الظن أنه لم يطلّع عليه أصلاً ولا مترجماً، لكن من المؤكد أنّه اطلع عليه من خلال مقالة قيمّة عنه، كتبها الأستاذ (هاشم صالح) في مجلة (الكرمل) ـ ملف فوكو ـ بعنوان (فيلسوف القاعة الثامنة)، وفي هذه المقالة يستعرض الكاتب أهم أفكار الكتاب حول ظاهرة الجنون، ومن المفيد أن نمرّ على بعضها، ولو على عجل: فالمفكر الفرنسي ميشيل فوكو (يقلب للمرة الاولى المنظور السا ئد للجنون، فلم يعالجه بمثا بة مرض عقلي فقط، ورفض أن يعتبر العقل أفضل من الجنون، أو العاقل أفضل من المجنون، وكان يتساءل: هل هنالك من حدود فاصلة ونهائية بين الجنون والعقل، ولهذا رفض كل أحكام القيم المسبقة، وراح يد رس تأريخياً وبالتفصيل كيف نظرت المجتمعات الغربية للجنون طيلة أربعة قرون؟ وكيف حاكمته، واتخذت منه موقفاً؟ واكتشف أشياء مذهلة، اكتشف أنَّّ للجنون تأريخاً) [7]
ويرى الكاتب أنّ تجربة (فوكو) في دراسته تأريخ الجنون، كانت تجربة خرق واختراق، لم يكن يخشى الخروج على القانون، أو على البديهيات العمومية والمسلّمات التي لا تناقش، ولم يكن يفعل ذلك حباً في الاختلاف والتما يز والمعارضة، وإنما لكي يسقط (الحقائق) الكبرى الشائعة، ويستبدل بها الحقائق المطموسة الخفيّة.
(إنَّ تجربة الاختراق كمحور أساسي لفكر ميشيل فوكو، قد فتحت ثغرة كبيرة واسعة في الجدران العالية للثقافة الغربية والحضارة الغربية، هذه الجد ران التي لا يجوز لأحد أن يتعداها أو ينظر ما وراءها.) [8] ولم يكن (فوكو) يريد أن يدرس في كتا به هوّية الغرب أو تأريخ عقلانيته، وإنما كان يريد أن يدرس وجهه الآخر المرفوض، وجهه السالب. أو المعتبر كذلك، وتظهر ماركسية (ميشيل فوكو) في تحليله وتفسيره ظاهرة الجنون من حيث ارتباطها بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، فيرى أنّ الطبقة البرجوازية لم تفرض على المجتمع هيمنتها الاقتصادية والسياسية فحسب، وإنما فرضت عليه هيمنتها الأخلاقية والثقافية أيضاً، وكل فرد يشذ عن هذه الأخلاق، أو يخرج عن تلك القيم، سوف يفصل من المجتمع بتهمة أنه مريض، وكان يرى أن كلَّ مجتمع يرسّـخ أخلاقية محددة خاصة به، تتغير، وتتحول بتعاقب العصور والأزمان، وفي كل عصر وفي كل مجتمع هناك قوانين قسرية، هناك قوانين إكراهية، ولذلك فإنَّ الأفراد الذين يخترقون هذه القوانين سوف ينصبّ عليهم غضب المجتمع لا محالة، ويقصيهم عن ساحته، وربما لجأ الى تصفيتهم جسدياً.
ويتحدث ( ميشيل فوكو) في مقدمته عن بعض أنواع العزل التي أعطت للغرب هويته وعقلانيته، ولعل عامل العزل الأكبر بنظره كان الخط الفاصل بين العقل واللاعقل، بين العقل والجنون، وهذا ما جعل الغرب يتخذ موقفاً من المجانين بإصداره قرارات العزل الاجتماعي التي عزل بموجبها المجانين عن المجتمع، وزجهم بالسجون، وتحد ّث (فوكو) عن قراري العزل الاجتماعي: قرار العزل الأول الذي صدر في العصر الكلاسيكي في العام 1656م، وبمقتضاه، قبض على أكثر من 1% من سكان باريس، ووضعوا في المستشفى العام في باريس، واعتبروا جميعاً مجانين، وكان هذا القرار الملكي استند على قرار فلسفي خطير، نفى فيه الفيلسوف (ديكارت) الجنون من ساحة أية معرفة ممكنة، ثم قرار العزل الثاني الذي صدر في باريس في العام 1793م، وتم بموجبه عزل بقية فئات الشعب من عاطلين عن العمل ومتسكعين وشاذين عن المجانين، ولم يتغير وضع المجانين إلاّ بقيام الثورة الفرنسية الكبرى التي أعلنت حقوق الإنسان والمواطن، فلم يعد مسموحاً السجن التعسفي للناس، وأصبح في حكم الممنوع القبض على إنسان وسجنه إلا ضمن الحالات التي ينص عليه القانون وطبقاً للصيغ التي قررها [9] هذا الوضع المأساوي الذي عانى منه المجا نين في فرنسا، ورأى فيه (ميشيل فوكو) أن المجانين كانوا دوماً ضحية الظلم الاجتماعي.
المؤلف يسير على نهج (فوكو):
ومنهج (فوكو) في دراسة ظاهرة الجنون بفرنسا في العصر الكلاسيكي أغرى الأستاذ أحمد الحسين أن يطبّقه على ظاهرة الحمقى والمتحامقين في المجتمع العباسي خلال القرون الوسطى، فقابل ظاهرة الجنون في فرنسا بظا هرة الحماقة في المجتمع العربي مسلطاً عليها أضواء (ميشيل فوكو) التي أنارت له مسالك بحثه، فاعتمد المنهج المقارن، وحاول أن يكتشف هو الأخر أن للحماقة تاريخاً أيضاً راح يدرسه، وكان من الطبيعي أن يلجأ إلى المنهج التاريخي، ورأى أن الحمقى والمتحامقين في مجتمعنا كانوا أيضاً مثل مجانين فرنسا ضحية الجور الاجتماعي، وحاول أن يؤكد أن الطبقة الارستقراطية التي حكمت المجتمع العربي لم تكتف بفرض هيمنتها الاقتصادية والسياسية على المجتمع العربي فحسب، وإنما فرضت عليه هيمنتها الأخلاقية، فكانت تقصي عن الساحة الاجتماعية الأفراد الذين يخرجون عن هيمنتها الأخلاقية والثقافية ،أو يشذّون عن القيم الاجتماعية السائدة، فتلجأ إلى نفيهم وتعذيبهم وقتلهم، كما حا ول أن يقلب مفهوم الحماقة السائد، كما سنرى،فتوسع في،دلالته، وحا ول أن تكون له مثل (فوكو) تجربة (خرق واختراق) أيضاً ليسقط الحقائق الكبرى الشائعة، ويستبدلها بالحقائق المطموسة الخفّية، فأعرض عن دراسة هوية المجتمع العربي من خلال تاريخ عقلانيته، وأقبل على دراسة الوجه الأخر المرفوض للمجتمع العربي، ولدى المقارنة حا ول المؤلف أن يلغي المسافات، وأن يقارب بين ظاهرة الجنون وظاهرة الحماقة، وأن يؤكد أنّ ظاهرة الجنون في فرنسا تداخلت فيها الحماقة، وأنَّ ظاهرة الحماقة في المجتمع العربي تداخل فيها الجنون، فكيف قارن بين هاتين الظاهرتين؟ مَهّدَ للمقارنة بإلقاء سؤالين هما: كيف كان الموقف الاجتماعي من الحمقى؟ وما هي أسس ذلك الموقف ومنطلقاته؟ وللإجابة عنه رأى أنَّ المجتمع العربي والفرنسي رفضا المجا نين والحمقى والمتحامقين استناداً إلى نظريات معاد ية لهم، فـ (ديكارت) أخرج الجنون من ساحة المعرفة، ولم يسمح بتعايش الخطاب العاقل مع الخطاب المجنون.
وكان تنظيره الفلسفي هو الخلفية الايديولوجية التي استند عليها قرار العزل الاجتماعي الأول والثاني، وبمقتضى قرار العزل الأول استشهد المؤلف بنص مأخوذ من مقالة الأستاذ هاشم صالح: (وضع عشرات الآلاف من الحمقى والمجانين والمشعوذين والمتسولين والمنبوذين في أسوار من السجون التي عزلتهم عن المجتمع ) [10]. أمّا في المجتمع العربي فيرى المؤلف أن نظرة المجتمع للحمقى والمتحامقين كانت تستمد مشروعيتها، وتقوي حججها بالاعتماد على أرث ديني وأدبي وسياسي، تمثل فيما يستشهد به خصوم الحمقى، يتمثل غالباً كما يلي:
بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (الأحمق أبغض الخلق إلى الله، لأنه حرمه أعز الأشياء عليه، وهو العقل)
قول عمر بن الخطاب: (احذر الأحمق لأنه يريد أن ينفعك، فيضرك)
الخليل بن أحمد الفراهيدي: (الناس أربعة أصناف.. ورجل لا يدري، ولا يدري أنه لا يدري، فذاك أحمق، فارفضوه)
وأبيات مشهورة، اختلف الرواة في نسبتها، منهم من نسبها إلى أبي العتاهية:
احذر الأحمق أن تصحبه = إنماّ الأحمق كالثوب الخلق
كلما رقّعتـــه من جانب = زعزعته الريح يوماً فا نخرق
ويرى أنَّ تلك المنطلقات النظرية في مجتمعنا العربي (شكلت الغطاء المناسب لإجراءات أشد قسوة، تعرّض لها الحمقى والمتحامقون كالتشهير والجلد والنفي والقتل أحياناً)، ويضرب على ذلك الأمثلة التالية (فقد أبعد والي مكة أحد الحمقى المخنثين إلى عرفات،لأنه كان مستهتراً بالقيم الاجتماعية، والأخلاقية (فيجمع بين الرجال والنساء)، وأمر سليمان بن عبد الملك عامله على المدينة أبا بكر بن محمد الأنصاري أن يخصي المخنثين في المدينة لما شاع عنهم من التهتك وإفساد الرجال، فراح ضحية هذا العقاب اللاإنساني طويس والدلاّل وطريف ونومة الضحى وزرجون وهنب وابن نفاش) [11]
وكما زجّت الطبقات البورجوازية في باريس المجانين والطبقات المنبوذة في سجون خاصة، فإنَّ مؤلف الكتاب أخذ يبحث للمجا نين عن دور خاصة بهم، تعزلهم عن المجتمع، ويستشهد بما ذهب إليه (ميشيل فوكور) الذي رأى أنَّ الوضع اللإنساني للحمقى والمجانين لم يتغير في فرنسا إلاَّ بقيام الثورة الفرنسية التي دعت إلى الحرية والمساواة، كما كان للفيلسوف (ديدرو) أثر بالغ في استدرار عطف المجتمع على المجانين . أما وضع الحمقى والمتحامقين في مجتمعنا العربي، فلم يتغير بنظر المؤلف إلاّ بتكوين موقف اجتماعي متعاطف معهم، استند إلى منطلقات نظرية، أو ردها كما يلي:
(القلوب تملّ كما تملّ الأبدان). ولم ينسب المؤلف هذا القول إلى صاحبه،وهو حديث للرسول الكريم، ونصه الكامل: (روّحوا عن قلوبكم، فإنَّ القلوبَ تمل، كما تمل الأبدان).
قول أبي الدرداء: (إني لأستجم نفسي ببعض الباطل ليكون لها أقوى على الحق). فهذان القولان، يرى المؤلف، أنهما مثل الثورة الفرنسية وأفكار الفيلسوف (ديدرو) بالنسبة للمجانين، أسهما في خلق تعاطف اجتماعي واسع للحمقى والمتحامقين. وحلل (فوكو) ظاهرة الجنون، وربطها بأوضاعها الاقتصادية والسياسية والثقافية، فقد غاص فلسفياً في المجتمع الفرنسي أكثر فأكثر حتى كاد يلامس القعر الاجتماعي، ورأى أن قرار ديكارت الفلسفي الخطير الذي نفى فيه الجنون من سا حة المعرفة رافقه نفي الجنون من ميدان الواقع الاجتماعي، إذ رأت المؤسسات الاجتماعية بقيادة الطبقة البرجوازية ضرورة عزل المجانين عن المجتمع لخطورتهم عليه وعلى مفاهيمه وقيمه وثقافته، ولا يخفى ما كان لهذا الحدث الخطير من جانب اقتصادي واضح، بدت فيه، كما يرى الأستاذ هاشم صالح ماركسية (فوكو) جلية تماماً، فقد شهدت باريس في تلك الفترة أزمة اقتصادية حاد ة، اضطرت النظام أن يزجّ المجانين بالسجون، وقد أتاح إنشاء المشا في العامة في وقت الأزمات الاقتصادية سجن العا طلين عن العمل، وبالتالي امتصاص نقمتهم وحما ية المجتمع بل النظام من خطر اندلاع انتفاضات الجوع والخبز، ولهذا السبب لم يسجن فيها الأشخاص المعتبرون مجانين فقط، وإنما سجنت أيضاً طبقات الشعب المنبوذة كافة، وهذا موقف طارئ مرتبط بأزمة اقتصادية، وقد اعتبرتهم الطبقة البورجوازية يداً عاملة احتياطية رخيصة حتى إذا ما تلاشت الأزمة، شرعت البورجوازية من جديد باستغلالهم. أماّ العزل الثاني، فهو عزل بقية الطبقات الاجتماعية المنبوذ ة عن المجانين، ووضعهم في سجن خاص بهم، ومثلما ظهرت ماركسية (ميشيل فوكو) في تفسيره الموقف الاجتماعي الرافض للجنون، فإن المؤلف ربط ظاهرة الحماقة والتحامق بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، ورأى أنَّ جلد وقتل الطبقات الارستقراطية لفئة الحمقى والمتحامقين سببه خوف الطبقات الارستقراطية من وجود هذه الفئة التي رأى أنها تهدّد مكاسبها وسلطتها [12]، ورأى أنَّ الرؤيتين اللتين كانتا تعبران عن موقف المجتمع من الحمقى والمتحامقين: رؤية الرفض والإدانة، ورؤية التسامح والتساهل (عاشقاً جنباً إلى جنب وفي وقت واحد) [13]، ويؤكد على فكرة يراها هامة جداً، هي أن (المجتمعات الإنسانية في القرون الوسطى عرفت مثل هذه الازدواجية في الموقف إزاء الفئات الشعبية المنبوذة، وهذا ما نصادفه ليس في المجتمع العربي خلال القرون الوسطى فحسب، ولكن في مجتمعات أوروبا الاقطا عية والملكية في الفترة ذاتها، وما بعدها.) [14]
الخطأ التأريخي الذي وقع فيه المؤلف:
وأريد هنا أن أصححّ خطأً تاريخياً وقع فيه المؤلف، فأبّين أنَ مجتمعات أوروبا الإقطاعية والملكية في فترة القرون الوسطى، على عكس ما اعتقد المؤلف، لم تعرف ازدواجية في الموقف إزاء الحمقى والمتحامقين والمجانين، بل لم يكن لها أي موقف نحوهم، وفي تلك الفترة كان يتعايش في فرنسا ثم أوربا الخطاب العاقل والخطاب المجنون، ولم يكن يفصل بينهما فاصل، والمؤلف يحسب أن الفترة الواقعة بين تاريخي العزل الاجتماعي 1656- 1793 م هي فترة القرون الوسطى مع أنَّ (ديكارت) أغلق مرحلة العصور الوسطى في العام 1641م [15]، فأوروبا تجاوزت القرون الوسطى، ودخلت العصر الحديث في الفترة الواقعة بين تأريخي العزل المذكورين، ودخلت في أبعد تأريخ، أعني العزل الاجتماعي الأول، العصر الحديث قبل ما ئة وأربع وستين سنة على تقسيم، أو مائتين وثلاث سنوات على تقسيم آخر.
فرنسا لم تعرف الازدواجيةإزاء الحمقى والمجانين:
وليس صحيحاً أنَّ أوروبا، ولعل المؤلف يقصد فرنسا على وجه التحد يد، عرفت الازد واجية في الموقف إزاء الحمقى والمجانين في وقت واحد، فبين فلسفة( ديكارت) التي رفضت تعايش الخطاب العاقل مع الخطاب المجنون العام 1641 م وبين كتاب (ابن أخي رامو) الذي أصدره الفيلسوف (ديدرو) المتسا مح مع المجانين العام 1862 م فترة من الوقت لاتقل عن مائتي وإحدى وعشرين سنة، وبين فلسفة (ديكارت) والثورة الفرنسية التي حررّت أولئك قرابة ثلاثمائة وبضع وأربعين سنة، فأ ين الإزدواجية التي ظهرت في أوروبا في وقت واحد؟ وتبرز مرة أخرى مشكلة تصرف المؤلف بنصوص مصادره وتطويعها لتأييد وجهةنظره، فقد أورد نصاً من مصدر يتحدث عن قانون العزل الاجتماعي الأول في باريس، جاء فيه أنه بمقتضى قانون العزل: (وضع عشرات الآلاف من الحمقى والمجانين والمشعوذين والمتسولين والمنبوذين في أسوار السجون التي عزلتهم عن المجتمع) [16]، وأصل النص في مصدره كما يلي: (في العام 1656، وبناء على فرمان (قرار) ملكي تم في باريس تأسيس المستشفى العام، وخلال شهر واحد قبض على أكثر من 1% من سكان باريس، ووضعوا فيه، واعتبروا جميعاً مجانين.
ولهذا السبب لم يسجن فيها الأشخاص المعتبرون مجانين فقط، وإنما سجن أيضاً الفقراء ذوو العاهات والعجزة البائسون والشحاذون والمتسكعون التائهون والعاطلون عن العمل والمصابون بالأمراض الجنسية والشاذون جنسياً.. إلخ يضاف إلى ذلك العاهرات والفاسدون أخلاقياً) [17] ولم تكن في النص الأصلي، ولا في المقالة كلها إشارة واحدة إلى الحمقى، ولم يذكر النص أنَّ عدد المقبوض عليهم من المجانين وسائر الطبقات الاجتماعية المنبوذة الذين زجت بهم السلطة في السجن بلغ عشرات الآلاف، وهذا رقم غير دقيق، ومبالغ فيه، ويخيل إلى المرء أن هذا الرقم (عشرات الآلاف) يكاد يعادل عدد سكان باريس يومذاك، أو يقترب منه، فالنص يذكر أنَّ أكثر من 1% من سكان باريس قبض عليهم خلال شهر واحد، معنى ذلك أنَّ عدد السجناء مهما كان كبيراً، فلا يصل إلى عشرة آلاف، فما بالك بعشرات الآلاف، ويذكر مصدر آخر أنَّ العدد كان ستة آلاف ليس غير [18] وهذا رقم يمكن الاطمئنان إليه، فكم تبدو المسافة بعيدة بين عشرات الآلاف وستة آلاف؟ والمؤلف رأى أنّ الثورة الفرنسية (أعادت الاعتبار للحمقى والمجانين في حدود مصلحتها.) [19]، بينما ذكر مصدر المؤلف أنَّ الثورة أعادت الاعتبار إلى المجانين، ولم يشر إلى الحمقى.
ليس لظاهرة الحمقى والمتحامقين في المجتمع العربي والعباسي أعداء أو أصدقاء استندوا إلى منطلقات نظرية:
إنَّ ظاهرة الجنون التي عزلتها السلطة البرجوازية عن المجتمع استناداً إلى فلسفة (ديكارت) والتي لم تتحرر إلاَّ بقيام الثورة الفرنسية.
وأفكار الفيلسوف (ديدرو) المتعاطف مع المجانين، تقودنا إلى إلقاء السؤال التالي: هل كان لظاهرة الحمقى والمتحامقين في مجتمعنا العربي أعداء وأصدقاء استند واحقاً إلى منطلقات نظرية تؤيد مواقفهم كما في ظاهرة الجنون في فرنسا؟ أما أنا فأرى أنَّ أعداء الحمقى والمتحامقين وأصدقاءهم لم يستندوا إلى منطلقات نظرية تقوي حجهم، وتعزز مواقفهم، هذا إذا افترضنا أنَّ تلك المنطلقات النظرية كانت ماثلة في أذهانهم، أو كانوا سمعوا بها، أو قرأو عنها، فقول عمر بن الخطاب، إن كان له: (احذر الأحمق، لأنه يريد أن ينفعك، فيضرك)، يؤكد على صفاء سريرة الأحمق، وعلى نيته في إرادة الخير والنفع للآخرين، ولكن خشية أن يضع هذا المخلوق المسكين الأمور في غير نصابها، فإنَّ عمر بن الخطاب يدعو إلى الحذر منه، بيد أنه لا يدعو إلى أذاه، أو الإساءة إليه، وحديث الرسول: (الأحمق أبغض الخلق إلى الله، لأنه حرمه أعز الأشياء عليه، وهو العقل.) يدعوا إلى البر يه، والإشفاق عليه، لأنه محروم من العقل، ولم يكن هذا الحرمان بإراد ته، أو كان مسؤولاً عنه، لذا فإنَّ جوهر الحديث يحث الناس للوقوف إلى جانبه، ولا يحرضهم على معاداته أو احتقاره ، فضلاً عن ذلك، فإنَّ هذا الحديث الضعيف لا يصح الاحتجاج به حسب قواعد مصطلح الحديث [(المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة) تأليف الإمام شمس الدين أبي الخير محمد بن عبد الرحمن السّخاوي، المتوفى سنة 902 هـ - ص24 .]]، ولا أدري كيف تمسك بهذا الحديث الضعيف أعداء الحمقى رغم أنه يدعوهم إلى الرأفة بهم، وفاتهم الحديث الصحيح: ( روّحوا عن قلوبكم .)
الذي يراه المؤلف متعاطفاً معهم؟ ثم ما تأ ثير حديث الرسول الضعيف ثم قول عمر أمام حديث الرسول الصحيح؟ أماّ بقية الأقوال التحذ يرية كقول الخليل بن أحمد الفراهيدي وأبي العتاهية وسواهما، فلم يرتكز عليها أعداؤهم حين تشكّل موقف اجتماعي رافض لهم لسبب بسيط هو أنَّ أصحاب هذه الأقوال لم يولدوا بعد، أيام حملات التشهير والجلد والنفي والقتل التي تعرض لها من أسماهم المؤلف بالحمقى والمتحامقين في القرن الأول للهجرة، ومهما كان لهذه الأقوال من شأن، فإنها لم تدعُ إلى عزل الخطاب العاقل عن الخطاب الأحمق، ولم تدع إلى عزل اجتماعي فضلاً عن أنّها ليست مؤثرة في الحياة الاجتماعية، ولا يجسدها المجتمع في سلوكه، كما في فلسفة (ديكارت)، ولم يكن لها تأثير سلبي لأنها أضعف من ان تشكّل موقفاً اجتماعياً معادياً لهم، ولو كان لها تأثير سلبي على المجتمع لكانت شكلت موقفاً معادياً لهم حين أقبلت الدنيا منقادة إليهم، فقد صعد هؤلاء إلى السلطة، وجمعوا المال أيام الخليل وأبي العتاهية المحذرين منهم، وشهد الزمن الذي سطع فيه نجمهم أقوالاً كثيرة تحذر الناس منهم، ومع ذلك ظلت تلك الأقوال عديمة الجدوى والتأثير،أمّا المنطلقا ت النظرية التي يرى المؤلف أن المتعاطفين معهم ، استند وا إليها، فهما قولان ليس غير، أشرنا إليهما من قبل، وكان المؤلف أوردهما على النحو التالي:
حديث الرسول: القلوب تملّ ، كما تملّ الأبدان ..) .
قول أبي الدرداء: (إني لأستجمّ نفسي ببعض الباطل ليكون لها أقوى على الحق.) وقد تعتري القارئ الحيرة إذ يظن أنَّ أعداء الحمقى والمتحامقين استندوا إلى حديث الرسول، وأنّ أصدقاء هم استندوا إلى حديث الرسول أيضاً .فيتساءل: هل من المعقول أنَّ الرسول يدعو مرة إلى رفض الحمقى والمتحامقين، و يدعوا مرة أخرى إلى التعاطف معهم؟ أليس ذلك تناقضاً في الموقف والرؤيا؟ أليسا موقفين مزد وجين لم يصدرا عن رجلين مختلفين، وإنما صدرا عن شخص واحد هو الرسول الكريم؟ أو لم يكن المؤلف محقاً حين ذهب إلى أنَّ الفكرتين: فكرة الرفض والقبول عاشتا جنباً إلى جنب وفي وقت واحد؟ والحق أنَّ حديث الرسول وقول أبي الدرداء يتفقان على دلالة إنسانية واسعة جداً هي إعطاء النفس حقها في المرح والهزل والمداعبة والتندر والمؤانسة ذلك أنَّ الحياة لا تستقيم إذا كانت جداً كلها، ولا تستقيم إذا كانت هزلاً كلها، فلا بد أن تكون بين بين، ولا يجوز حصر هذه الدلالة في إطار ضيّق هو تأ ييد الحمقى والمتحامقين، أو الدعوة إلى التحامق، فهذا تحامل على النصين، وإجحاف بهما، فدلالتهما، لاتدعوإلى التعاطف مع فئة بذاتها، ولكنّها تتجه إلى الإنسان في كل زمان ومكان وبالتالي لا يمكن أن تشكل موقفاً اجتماعياً متعاطفاً مع الحمقى والمتحامقين أو رافضاً لهم
لم تكن المنطلقات النظرية سبباً في تأييدهم أو رفضهم ، فلا هؤلاء ولا هؤلاء ينطلقون من إيدولوجية معينة، لأنه لا توجد أصلاً منطلقات نظرية تدعم هذا الفريق أو ذاك، أو ترتقي في عمق تأثيرها إلى مستوى فلسفة (ديكارت) أو مبادئ الثورة الفرنسية، أو أفكار الفيلسوف (ديدرو) إلاّ مبادىء الدين الجديد التي تجاوز تأثيرها في المجتمع العربي الإسلامي على تأثير فلسفة ديكارت أو مبادىء الثورة الفرنسية في المجتمع الفرنسي والمجتمعا ت الغربية، ومبادىء هذا الدين الجديد، تدعـو إلى احترام الإنسان الذي كرّمه الله، وتدعوأن لايسخر الإنسان من أخيه الإنسان، فعسى أن يكون خيراً منه، ولا توجد في تراثنا، مهما اختلفت آراؤنا حوله، ايدولوحية تنادي بالعزل الاجتماعي كما في فرنسا وأوروبا، وإذن فالزعم القائل أنَّ الفكرتين: فكرة الرفض والقبول عاشتا جنباً إلى جنب، وفي وقت واحد افتراض نظري محض كالزعم الذي يذهب إلى وجود منطلقات نظرية في تراثنا رافضة ومؤيدة، فكلاهما لا أثر له في الواقع الاجتماعي، ثم أسأل: هل كان بين الحمقى والمتحامقين وبين الطبقة الارستقراطية صراع، كما يزعم المؤلف كالصراع الذي أبرزه (فوكو) بين الطبقة البورجوازية في فرنسا والمجانين والطبقات الشعبية المنبوذة؟ إن الإجا بة عن هذا السؤال تتوقف على تحديد دلالة المصطلح، فمن هم الحمقى والمتحامقون في مصطلح المؤلف؟ قلب (فوكو) كما تبيّن من قبل المفهوم السا ئد للجنون، غير أنّ مصطلح الجنون كان واضحاً في ذهنه منذ البداية، وكانت دراسته للجنون محصورة ضمن دائرة الجنون نفسها،لم تخرج عنها، والأستاذ أحمد الحسين قلب هو الآخر المفهوم السائد للحما قة،لكنه خرج عن دائرة الحماقة، إلى دوائر اجتماعية أخرى واسعة، فبعد أن أخذ على غالبية القدماء عدم تبينهم الحدود الفا صلة بين الحماقة والتحامق والغفلة والتغافل والجنون والتجانن إلاَّ قلة منهم، ميّزت بين هؤلاء وهؤلاء، التزم المؤلف منذ البداية بمصطلحها، إذا به يخرج بعدذلك على دلالة المصطلح أو المفهوم ليلصق بفئة الحمقى والمتحامقين فئات اجتماعية أخرى.
فعنده (الماجن) الذي يرتكب المقابح، وهو قليل الحياء، متحامق، و(المخنّث) الذي لايخلص لذكر أو أنثى، ويعاني من شذوذ جنسي متحامق، و(الظريف) وهو الحسن الهيئة، والحلو العبارة، متحامق، و(المندر) متحامق، و(المضحك) الذي غايته إشاعة المسرة في قلوب الناس، متحامق، و(الأبله) و(الطفيلي) كل هؤلاء عند المؤلف متحامقون، يقول: (وهذه التسميات مهما يختلف معناها، وتتضارب دلالتها، فإنها تصب في المحصلة النهائية في قناة التحامق.) [20]، ويبدو أن رابطاً بنظر المؤلف يربط بين هذه الفئات الاجتماعية، ويشّدها إلى قناة التحامق، فالمتحامقون، عنده، هم من يتخذون مما اشتهروا به من مواهب أو غرائز أو طباع وسيلة للارتزاق والكسب، غير أننا نلاحظ بعضهم لم يتخذه مهنة أو كسباً، ومع ذلك عدّه المؤلف متحامقاً، إنَّ تلك النماذج الإنسانية التي أشار إليها المؤلف، وعدّها متحامقة موجودة في كل زمان ومكان، تزخر بها مجتمعاتنا، وتسميها بأسمائها التي كان القدماء يسمونها بها، ولم يحدث تغيير في التسميات رغم تقادم العهد، ولم تصفهم مجتمعاتنا اليوم،كما لم تصفهم في الماضي بـ(المتحامقين)، وأنا أرى أنّ المؤلف لو أنّه لم يلجأ إلى توسعة دائرة دلالة الحمق والتحامق، ويجعلها فضفاضة، أو أنه فهم التحامق على نحو ما ساد القدماء والمحدثين لما استطاع أن يلتقط ما أسماه بـ(ظاهرة التحامق) في القرن الأول للهجرة، ولكان جلَّ ما اهتدى إليه، لا يتعدّى طائفة قليلة من الأسماء مبثوثة هنا وهناك، لا تشكلّ بمجموعها ظاهرة، ولا تقترب منها، لكنه وجد نفسه مضطّراً إلى قلب المفهوم السائد للحماقة والتوسع في دلالته ليبلغ بهذا التوسّع تشكيل الظا هرة، ثم يستطيع بعدئذ أن يبحث في تأريخها ومقارنتها مع غيرها لدى الأمم الأخرى، ومفهوم المؤلف أنّ المضحك،أو المندر،أو الفكه، أو الظريف،أو الموسوس،أو المخنث،أو الما جن، أو المجنون، أو المتجانن،أو المغفل، أو الممرور، أوالأحمق هو في نها ية المطاف متحامق، بينما يرى (ابن منظور) في معجمه (لسان العرب) أن الحماقة ضد العقل ونقيضه، والتحامق من تكلف الحماقة، وهو صحيح العقل، وإذا لم يجد المرء نفسه يحظى بشيء من تلك المواهب والطباع والغرائز والميول فبوسعه أن يطمئن أنه ليس أحمق أو متحامقاً، ويقع ضحية هذا الفهم المتعسّـف قطاع واسع جداً في كل مجتمع من المجتمعات الإنسانية، وانطلاقاً من هذا المفهوم، فإنّ القدماء والمحدثين كانوا يعيشون دون أن يد روا في وسط اجتماعي يهيمن عليه الحمق والتحامق، وإنَّ طا ئفة واسعة من كتابنا وعلمائنا وفقهائنا وشعرائنا وقادتنا وفنانينا ممن يميلون إلى المرح والدعابة وممن في طبعهم التهكم والسخرية والضحك، كانوا إذن، حمقى أو متحامقين. فالصحا بي (النعيمان) عند الأستاذ ، متحامق، لأنه مندر خفيف الروح، يشيع المرح والضحك بين جلسا ئه حيثما حلّ، وقد عدّه المؤلف المحطة الثانية في (حلقات التحامق التي لم تنقطع)، ويميّزه من الحمقى والمتحامقين أنه لم يتخذ من الحماقة وسيلة للكسب والعيش، ولم يسلم من مفهومه عالمنا اللغوي الكبير (الأصمعي)، فقد زجّه في قناة التحامق، وعدّه متحامقاً، لأنه عرف بالملح، وهذا ما يوحي إليه بقوة سياق نصه التالي: فقد كسب المجان والمتحامقون ثروات طائلة بحماقاتهم، وأصبحت الحما قة نوعاً من الامتياز الاجتماعي والاقتصادي، ولا غرابة أن نجد علماً بارزاً كالأصمعي يقول:
(بالعلم وصلنا، وبالملح نلنا ) [21]، وبهذا المفهوم يمكن أن يكون (الجاحظ) و(المازني) وغيرهما حمقى أو متحامقين، وقانا الله جميعاً من الوقوع في هذه الدلالة: من كتب عنهم ، ومن درس، أو قرأ ما كتب عنهم . وهكذا يتبيّن أنَّ للحماقة والتحامق مفهومين مختلفين، مفهوم واضح ومحدد سائد التزم به القدماء والمحد ثون، وآخر ضبابي فضفاض، متعسّف، اعتمده المؤلف في كتابه.

يتبع

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى