مجلة البيان للبرقوقي..الكتاب والآداب

الحمد لله أودع الكتاب صوت الماضي وروحه بعد أن فنيت مادته وانعدمت ذاته فأصبح كحلم مضى وعهد انقضى انظر كم يشيد البناؤون من المدن والدور والهياكل والقصور والقلاع والحصون والساحات والصحون وماذا يوسعون فيها ويفسحون ويعلون من ذراها ويشرفون فما مسير كل ذلك وأين يذهب يغوله صرف الزمان وبيده طارق الحدثان ويلتهمه من الوقت بحر شديد الصولة على الإنسان وآثاره يسطو بها فيفنيها أو يكاد الله إلا شيئاً واحداً أعني الكتاب فإنه الخالد الباقي السالم على عواصف الدهر اللائح من خلال أمواج الزمن كخيال النجم في جوف المحيط.

أين أمة الأعراب - وصيدهم (ملوكهم) والقواد وأين أندلسهم وبغداد عصف الدهر بها إلا رسوما دارسات وطلولا داثرات ولكن أعمد إلى صحائفهم وافتح إحداها فهنالك العرب ومجدها والدولة وسؤددها تحي في تلك الصحف وتخفق وتتحرك وتكاد تنطق فلله من يرى شبراً من الورق يضم أمة ورجالها ودولة وأعمالها ويستوعب آراءها وأفكارها ونتائجها وآثارها فما أصغر الكتاب وما أكبر وما أعظم وما أحقر وما أضعف وما أقوى وما أفقر وما أغنى.

ويعجبني ما قاله أحد الحكماء إن مخلفات الماضي ثلاث المدن والمزارع والكتب وليست الكتب كالمدائن لا يبرح الدهر ينال منها ويتخون ولكنها أشبه بالمزارع إلا أنها مزارع ذهنية أو ما ترى الكتاب كشجرة روحانية تنمو على الزمن أصولها وتسمو فروعها وتطلع كل عام أوراقها الجديدة من الشروح والحواشي والانتقادات والردود وما إلى ذلك - فيا أيها القادر على إظهار كتاب لا تحسد الملك بأني المدن ولا الفاتح الغازي مخربها فأنت كذلك فاتح منصور مظفر ولكنك منصور على الضلال هازم للشر والباطل وأنت كذلك رب بناء ولكنه بناء أبقى على الزمن من الصخر والحديد والمرمر - بناء العقل ومدينة العلم وكعبة اليقين التي يحج إليها بنو البشر وسكان الأرض كافة.

والكتاب أيدك الله أكبر قوة لترقية المدينة والأخذ بيدها لأنك تراه مصدراً للعلم والعرفان ومنبعثاً لنور التقى والإيمان ولساناً يذيع حجة الحق وسلاحاً ينتصف من القوي للضعيف فأما أنه مصدر العلم فذلك لأنه متى حذق الطالب أوليات فن من الفنون وبلغ شأوا يدرك معه كل ما كتب في ذلك الفن فأي حاجة هناك إلى المدارس والجامعات إنما أستاذه اذذ الكتاب وكل بقعة صلحت وطابت سواء بين المائدة والسرير والروضة والغدير أو على ظهر الماء أو في ذروة شاهقة شماء فهي مدراسه وجامعته.

وأما أن الكتاب منبعث لنور التقى والإيمان فذلك لأن كل كتاب صالح إنما هو منبر تسمع منه داعى الخير وصوت الحق وخطيب الحكمة والموعظة الحسنة فأنت من كتابك الصالح في محراب ومسجد ومعبد وأنت منه بحضرة ملك كريم أجنحته تلك الصحائف المنقوشة وهل ترى الشعور الشريف بحلوه لك الكاتب الكبير في أكرم حلة من اللفظ فيدب في نفسك دبيب الغناء - إلا من قبيل العبادة وباب الصلاة والتسبيح: وهل ترى الشاعر يظهر لك من جمال زهرة البستان ما كان من قبل غامضاً عنك إلا دالا إياك على فرع من ينبوع الجمال الكلى وعلى سطر خطه القلم العلوي في صحيفة الوجود وحلية صاغتها يد الصانع الأكبر وآية جديدة من آيات الله تدل على أنه الواحد.

وأما أن الكتاب لسان لإذاعة حجة الحق وسلاح ينتصف به من القوي للضعيف فذلك لأن الكتاب صوت الشعب يحامي عنه وينافح ويعرب عن مطالبه ويبين عن حاجه ومآربه فهو برلمانه قبل البرلمان ودستوره قبل الدستور وما القلم في ذلك إلا خطيباً يسمع الشعب أجمع فهو لهذا قوة عظيمة وفرع من فروع الحكومة له شأن في وضع القوانين والشرائع وفي كل عمل ذي بال ومما لا شك فيه أن كل شعب لا محالة محكوم أو سيكون محكوماً بأرباب الأقلام من أبنائه وذوي الصوت من أهله.

والكتابة نوعان علمية وأدبية فالأولى ما كان أساسها الفحص والتنقيب للوصول إلى الأصول والنظر في الجزئيات لاستنتاج القواعد العامة كعلوم طبقات الأرض والطبيعة والكيمياء والطب والهندسة ما إليها وأما الثانية فهي ما كان محورها وصف الأشياء وصفاً يراعى فيه لذة القارئ قبل كل شيء ثم النصيحة والفائدة بعد ذلك ويكون الوصف من الدقة وحسن البيان بحيث يمثل لك الغائب حتى يقلب سمعك بصراً فإن كان الموصوف إحساساً أثار الوصف نفس هذا الإحساس في قلبك وإن كان شهوة هيجها بعينها في نفسك ولا بد من أن يكون الكاتب رجلاً عظيماً يبصر من أسرار الموصوف وبدائعه ما يخفي على معظم الناس فإن قدم لك الشيء أعارك عينيه لتبصر بها فأنت هو ما دمت تقرأ آياته وتتأمل معجزاته ومن هذا النوع الشعر منظومه ومنثوره والقصص والروايات والسير والتاريخ والخطب والمواعظ وكلام المتصوفة وكل مارقق الكبد واهتاج الفؤاد.

ولقد ذاع في هذه الأيام بين العامة وأشباههم من الخاصة مذهب مأفون أن للعلميات الفضل الأول والمنزلة العظمى وإن الأدبيات قليلة القيمة عديمة الجدوى ذلك أن الأولى مثمرة للمال والثروة مجلبة للسعادة والرفاهية وما الأدبيات إلا ملهاة للعقول ومروحة للنفوس وما الشعر إلا داعية لعب وباعث طرب وإن ليست الفكاهات إلا حامل على السخف ومسقطة للمروءة - وقد فات هؤلاء أن للإنسان شعوراً كما أن له معدة وإن له روحاً كما أن له أنياباً وأضراساً وأنه يحتاج إلى غذاء مادي من الحنطة والبقول والحلوى وإن أقدس واجبات الإنسان وأول غرض خلق لأجله هو معرفة الله في مصنوعاته وذلك ما لا يكون حتى يكشف له الشاعر والكاتب عن بدائع هذه المصنوعات ومعجزاتها وإن الإنسان في الأرض كناسك في معبد وراهب في صومعة يقرأ في النجوم إنجيلاً وفي سطور الزهر توراة ويسمع في ترنم النسيم مزامير وفي تغريد الطيور زبوراً وليس الإنسان في هذه الأرض كالحيوان الأعجم لا شأن له إلا الخضم والقضم.

لشد ما أخطأ الناس معنى الحياة فحسبوا الحياة مجرد الوجود وإنما هي لعمري الشعور والفهم والتمييز وإن يجعل الإنسان عقله ميزاناً يزن الخير والشر وإن يشعر نفسه الصدق والكرم والحياء والعفة والإخلاص والتقى واليقين.

ولا ننكر أن في الماديات شيئاً من النعيم وإن الرجل الذي تنتهي آماله في المعدة وتقف مآربه عن الحلق ولا تطمح روحه إلى ماوراء ستار مزركش أو سقف مزخرف ينعم بنوع من اللذة ولكني أحسب الإنسان فوق ذلك: قال أحد المزاح: لا ريب في أن المرتب الضخم لذة كما من اللذة أن يدعم الإنسان عيشه بأساس متين من الذهب ومن اللذة أن يكفي المرء حاجه ويروح بعيشة راضية ونعمة فسيحة ومن اللذة أن يتكئ المرء في كرسي الوظيفة ويقبض ألفا في العام ولا ريب في أن اللحم والفاكهة والسمك تقوي البنية وتبعث في الوجه حمرة العافية ولكني مع ذلك أرى أن النصب في ابتغاء المجد الصحيح أشهى والفقر في طلاب الحق أعذب وأحلى.

ما سرني اللؤم والغضارة في العي - ش بديلا بالمجد والقشف

أجل هناك مطمحاً وراء حشو المعدة وتلبية الشهوة والناس الآن أحوج ما يكونون إلى نهضة أخلاقية نتيجة نهضة أدبية فلقد أوشك الإنسان كما قال أحد المزاح أن يقع في المعدة حتى أصبح من الواجب أن يرجع إلى مكانه من العقل ويثوب إلى مثابته من القلب. وأصبح الأمر الأهم والمسألة الكبرى النظر في شرف الإنسان وعظمته وذلك مالا يكون إلا بالشاعر وكاتب الأدب.

الآداب مصدر المدنية الصحيحة والشعر مبعث الشرف والعظمة ومن ثم كانت الآداب إحدى حاجات الأمم وكان الشعر أمنية الروح ومطمح الأنفس ومن ثم كان الشعراء أول أساتذة العالم ومن ثم وجب أن ينفث الشعر في أفئدة الخلق وأن يترجم إلى العربية شعراء الغرب قديمهم وحديثهم وشعراء الفرس والديلم والهنود وتصب أبياتهم وأبيات العرب في روح هذا الشعب صبك الماء في المكان الجديب.

قال أحد كتاب الفرنسيس: من كان ينكر أن الآداب مصدر المدنية فليلق نظرة في إحدى إحصائيات السجون وإليك مثالاً: كان في سجن طولون عام 1862 عشرة وثلاثة آلاف مجرما ألف وسبعمائة وتسعة وسبعون منهم كانوا أميين وتسعماية وأربعة لا يجيدون القراءة والكتابة ومائتان وسبعة وثمانون يقرأون ويكتبون وأربعون يعرفون شيئاً طفيفاً فوق الكتابة والقراءة فكان معظم هؤلاء الأشقياء من ذوي الحرف المنحطة الدنيئة وكان العدد يقل كلما سموت إلى الحرف المستنيرة حتى يصل لك الأمر إلى هذه النتيجة: كل من في السجن ذو مهنة منحطة إلا أحد عشر أربعة من باعة الجواهر وثلاثة من خدمة الكنائس واثنان من الأطباء وممثل واحد وموسيقي واحد ولا متأدب ولا أديب: هذا الدليل قاطع إذا كانت المدنية كما نفهم نحن هي رقي النوع عقلاً وخلقاً مع ما ينجم عن ذلك من الهناء والسعادة ولكن الماديين المتعصبين للعلميات الذين إن تسلهم عن المدنية قالوا إنما هي الكهرباء والفونوغراف والمنطاد والتلغراف لا يرون النعيم إلا في هذه الأشياء فهل خيل إليهم أن السعادة أمر لا يدرك إلا بالقطار والكمال غاية لا تبلغ إلا بالبخار أو حسبوا أن البالون يعرج إلى الجنة فيما يعرج: ولا يسعني في هذا المقام إلا ذكر كلمة للحكيم راسكين هي أبدع ما قيل في هذا الصدد قال:

أيظن الماديون أن الانتقال من مكان إلى آخر بسرعة مائة ميل في الساعة أو نسج الأقمشة بمقياس ألف متر في الدقيقة زائد في سعادة الإنسان فتيلاً أو قطميراً وكيف وأرض الله من امتلائها بالطيبات والمحاسن بحيث لا يكاد المرء يلم ببعضها ماشيا الهوينا فماذا عساه يدرك منها طائراً بأجنحة البرق أو جامحاً في عنان البخار فلا يحسب الماديون أنهم استعبدوا الزمان والمسافة بمخترعاتهم فإن المسافة والزمن يأبيان بطبيعتهما الاستعباد ثم لا حاجة بالإنسان إلى استعبادهما إنما الحاجة والثمرة حسن تصريفها ومن ذا يرغب في تقصير الزمن والمسافة إلا أحمق فأما العاقل فيود لو طالت له المسافة والوقت نعم ويحب الأحمق أن يقتل الزمان والمسافة ولكن رغبة العاقل في أن يحرزهما ليحييهما وما السكة الحديدية إن فكرت إلا أداة يراد بها تصغير الدنيا ثم لا بأس على المرء إن كان حراً مخلصاً أن يسير على مهل لأن مجده ليس في السير إنما هو في العمل فإذا قال قائل القطار نافع لأنه يعيننا على نقل العلم والعرفان إلى الأمم المتوحشة قلنا له قد صح قولك لو كان لديك علم ينقل أما إذا لم يكن لديك سوى السكك الحديدية والبخار والبارود فماذا تصنع أتزعم أنك تريد نشر الدين بين التوحشين. ولو كان ذلك غرضك لقد أمكنك تنفيذه بلا بخار مدة ألف وثمانمائة عام أي منذ ظهور النصرانية إلى وقت اختراع القطار غير أني رأيت أحسن التعليم الديني ما أحدثه أهله على القدم ولعل القدم في مثل هذا الأمر أسرع من القطار. أو تزعم أنك تريد تعليم المتوحش العلم - علم الحركة والطعام والدواء - فهبك لقنته سر البخار فطار بعجلاته وسر الأكل فأجاد السلق والشي والخبز وسر الطب فعرف كيف يأسو الجرح ويجبر الكسر فماذا بعد ذلك؟ أتراك بعملك هذا قد أدنيت المتوحش خطوة من السعادة أو قربته قيد شبر من المدنية الصحيحة. كلا. بل إن أسباب السعادة أقرب إلينا من كل هاتيك الأشياء ولكنا لا نفقه ولا نبصر ووالله ما أبعدنا عن الصواب حين نحسب أن المدنية والسعادة هما في مناعم الخوان واللباس وفي ملاذ الصيد والسباق وفي مسرات الحفلات الليلية وما بها من الغناء الممل المضجر والملابس المثقلة المتعبة وفي التنافس في المنصب والسلطة والثراء والصيت وما أبعدنا عن الصواب وأضلنا عن الجادة حين نظن أن مثل هذه الحقائر هي مما يجوز لنا أن نفخر بإذاعته بين الشعوب المتوحشة والأمم البربرية.

ولعل المتوحش حين يتعهد غرسه ... ويجتذب على المحراث والمعول نفسه

ويصبو إلى حبيبه كلفا ويحن إلى عهد الصبا شغفاً ويملأ صدره رجاء ويتهل إلى ربه دعاء أقرب إلى المدنية وأدنى إلى السعادة - فهذه هي أسباب الهناء ودواعي الصفاء وعلى عرفاننا بها وتعليمنا الناس إياها يتوقف نعيم العالم وسعادته فأما على الحديد والزجاج والكهرباء والبخار فلا.

وإني من حسن الظن وجميل الرجاء بحيث آمل أن يهتدي الناس يوما ما إلى هذه الحقيقة فإنهم قد التمسوا السعادة من جميع الوجوه إلا الوجه الصواب وضربوا في كل طريق إلا الطريق الأسد. وكأني بهم سيجربون الوسيلة الصحيحة والطريقة المثلى بطبيعة الحال إلا تراهم قد جربوا الحرب والتجارة ومظاهر الأبهة والفخامة وجربوا البخل والكبرياء والتحاقر والتصاغر وكل أسلوب للعيش وطريقة للحياة توقعوا من ورائها فضل الهناء والسعادة. وشموا من تلقائها رائحة الغبطة والنعيم - نعم وبينما هم يمتطون كل صعب في سبيل السعادة ويركبون كل عوصاء إذا بالسعادة قد أوجدها الله بمرأى عيونهم في سحب السماء. وبمنال الفهم في نبات الروضة الفيحاء وكثيراً ما رأينا الملك الجليل والسلطان الكبير قد كثرت عليه آفات الملك وفدحته أعباء الدولة فخرج هارباً على وجهه ثم ما لبث أن وجد المملكة العظمى والراحة الكبرى في قيراطة من الأرض وذراع من الظل ولكن الإنسان لم يصدق ذلك وما يزال يضرب صفحاً عن السحاب ويقتلع النبات يقيم مكانه الصانع والمداخن ويطلب السعادة من غير وجهها حتى عثر أخيراً على العلوم الطبيعية فحسب ضلة وخطأ أن السعادة في مكتشفات الكيمياء ومخترعات الطبيعة فشحن السحاب في الأوعية الحديدية وأرسلها تجري مجرى السحاب واستخرج من النبات خيوطاً فنسجها ثياباً له جيدة رخيصة وظن أن هذه هي السعادة - ظن أن المسير بسرعة السحاب ونسج كل شيء من أي شيء منتهى الهناء والنعمة.

ولما كذبت في ذلك أيضاً ظنونه ورأى أن السعادة ما زالت منه كأبعد ما كانت أصبح يفتش عن غلطة جديدة يرتكبها ولكني أحسب أنه قد استنفد في هذا الأمر جميع الغلطات فلا غلطة هناك بعد فأما وقد نفدت حيله وعلم أنه لا فرق بعد الاعتياد بين السير الحثيث وبين البطيء وأنه ليس في استطاعة مصانع مانشستر وما تخرج من الأقمشة والثياب أن تكسب الإنسان راحة النفس ورخاء البال فرجائي أنه سيعلم بعد ذلك أن الله ما صبغ حواشي السحاب وألبس السندس مناكب الغاب إلا ليسعد الإنسان برؤية الخالق في آثاره وبتنفيذ أوامره تعالى من نشر الأمن والسلام وبث الخير والبر بين جميع مخلوقاته على السواء وليس إلا بهذا يبلغ الهناء وتدرك السعادة.

هذا مذهب راسكن ومذهب كل مؤمن بالله طاهر النفس صادق النظر بعيد الرأي شغلته محبة الله عن حب ذاته وصرفته دواعي المروءة والبر والرحمة عن خدمة الشهوات وإطاعة الأهواء ورأى في عجائب الكائنات وروائع الأرضين والسموات مندوحة عما يشغل الجهلة الأغرار من زخرف الدنيا وزبرج الحياة ولعبات الأطفال والصبية: ولعل في كل إنسان مقداراً من الإيمان صغيراً أو كبيراً بحسب فطرته تبديه التربية الحسنة والتفقيه في الدين وعلوم الأدب وليس أبعث لهذا الإيمان من الشعر الكريم الفاضل فإن نفس الحر لتشعر بشغف عظيم إلى أشياء مجهولة ومعاني مبهمة وتحن حنيناً شديداً إلى روح ذلك الجمال الخفي فهي كالأعمى الذي يعشق الحسان من غيران يراها ولا تزال تتلهف على ذلك السر الغريب وتهيم حتى ينشد الشعر الرائع النفيس فيجلو عمى النفس فتبصر الجمال الغريب الذي طالما اشتاقته ونزعت إليه: هذا الجمال هو أثر الله الذي لا تخلو منه ذرة من الوجود والذي يراه أهل اليقين وذوو القلوب المبصرة والذي قد كان يراه الجهلة الكفار الأغبياء لولا ما ضرب الشيطان (حب الذات) على قلوبهم وأبصارهم ويعجبني جداً ما قاله الحكيم الإنكليزي وليم هازلت في هذا الموضوع

من فضل التربية الأدبية إنها تلطف الحسن وتهذب الذوق وتفسح مدى النظر وتبعد مسافة الرأي وتعود النفس أن تعني من شؤن الخلق وأحوال العالم بمثل ما تعنى به من شؤنها وأحوالها وأن تحب الفضيلة لذات الفضيلة وأن تؤثر المجد على الحياة والشرف على الغنى ومن فضل التربية الأدبية أنها تبعث أفكارنا إلى ما بعد عن مدارك البشر من معاني الجمال ونأى عن مشاعر الخلق من آيات الشرف والجلال فتعقد الصلة بين نفوسنا وبين أسرار الأبد وتمزج أرواحنا بروح الله ومن فضلها أن تنزع الجبن من قلوبنا وتسل من أفئدتنا مهابة الملوك والجبابرة فتعتق رقابنا من رق الخضوع للسلطة الظالمة والألقاب الكاذبة.

نعم إن بالنفس الإنسانية مهما كانت نزعة إلى الجمال أينما كان وحنينا إلى أن ترى عيشاً نعم مما يكون عادة في هذه الدنيا وحياة ألذ وسنة أعدل ونظاماً أكمل والإنسان لا يزال يتمنى الأماني العذبة ويحلم الأحلام المعسولة ثم لا يجد إلا حقائق مرة ونتائج سيئة وأحوالاً كريهة فيصبح لذلك من نفسه في سجن وظلمة وفي كرب وغمة فمن له بمنقذ من ذلك الحبس والوحشة وكاشف لذلك الضيق والغصة ومن له بمن ينقل ذهنه إلى عالم مصور من اللذة والنعيم والصفاء والرخاء لا سنة فيه إلا العدل والإنصاف تثاب الفضيلة فيه أحسن الثواب ويحل بالرذيلة أنكل العقاب من للإنسان بذلك إلا القصصي والشاعر ألا ترى الطفل إذا فرغ من آفات النهار ومكارهه زحف في العشاء إلى أمه أو أبيه أو جديه يسألها حكاية أو قصة ثم يراها مهما حقرت مملوءة باللذائذ والرجل يأتيك يستعير منك رواية يقرأها أعني يستعير منك بضع ساعات يتحول أثناءها شاعراً يصور الأمور والأحوال كما ينبغي أن تكون لا كما هي كائنة أو ما ترى الرعاع والغوغاء يذهبون أفواجاً أفواجاً ليسمعوا من المحدثين أقاصيص عنترة وأبي زيد وكيف يذوبون رقة وصبابة عند أحاديث الحب والغرام وتغرورق عيونهم عند ذكر الأشجان وسماع المراثي وتحمى الدماء في عروقهم عند الحماسيات والمفاخر ألا ترى الموسيقى الذي هو شعر الأفئدة لا يصدح بمكان حتى يعود كعبة القصاد ومنهل الوراد فبربك أيها العود ماذا تقول وبماذا تحدث القلوب حتى تنصاع إليك هذا الانصياع وتسرع نحوك هذا الإسراع وبربك أيها الصوت الرخيم من أين جئت حتى كان لك من اللذة في الروح مالم يك لشيء غيرك فلا شيء في هذه الدنيا كلذتك إنما تلك لذة قدسية تصف لنا نعيم الجنة.

ولقد سمي أدباء العرب أمتع الشر وألذه المرقص وما عدوا في ذلك عين الصواب فإن الشعر الجميل ضرب من النغم لا يكتفي بأرقاص الأعضاء حتى يرقص أجزاء النفس بعد إذ هي جامدة فتنطلق انطلاقاً لا تعود قط بعده إلى حالها الأولى من الجمود وما من إنسان إلا وفي طبعه ميل إلى عالم الجمال واللذة أعني إلى عالم الشعر والقصص وهذا الميل يشتد في ذوي الأمزجة الحارة حتى يكون غليلاً فأما أن يروي من مناهل الرواية والنظم وإلا نزع بصاحبه إلى مواطن الإثم والجريمة أو طوح به في مهواة الجنون وهذه حقيقة لا نعلم كيف يقف أمامها الماديون القائلون بأن الشعر والأقاصيص ومحدثات الخيال آخذة في الاضمحلال مشفية على الانقراض: رأي فائل ومذهب باطل لا نرى في تفنيده أبلغ من الكلمة الآتية لفيكتور هوجو وبها نختم هذا المقال الذي قد تنفي عظاته ما يحدث طوله من الملال.

يزعم الكثيرون ولا سيما سماسرة الأسهم والسياسيون أن الشعر يتلاشى ويضمحل فهذا كقولهم أن جمال العالم يتلاشى ويضمحل وأن الرياض قد خلعت وشي برودها وحلى ورودها وأن الشمس قد أضلت مشرقها بعد أن فقدت رونقها وأنك قد تجوب جنات الأرض فلا يباسمك ثغر إقحوانة ولا يفغمك عبق ريحانة وإن القمر قد قوض خيام نوره بعد أن طوى أطناب شعاعه والبلبل قد وجم بعد طول ترتيله وتسجاعه وإن الليث قد خرست زماجره وقلمت أظافره والنسر قد هيض جناحه وكف طماحه والسحاب قد حبس ودقه وأطفأ برقه وإن البطون قد ضنت بالحسن والمليح وجادت بالسيء والقبيح فلست ترى وجهاً جميلاً أو طرفاً كحيلاً أو خصراً نحيلاً أو خداً أسيلا وإن الرأفة ضاعت فلست ترى باكياً على قبر أو واقفاً بطلل تفر يبكي عهود الأحباب والحبائب ومنايا الأصحاب والأقارب وإن الحنان قد زال فلا أم ترأم ولدها ولا ابنة تجب والدها وإن المروءة قد قضت نحبها وأسلمت الإنسانية رمقها.




ملاحظات: بتاريخ: 24 - 8 - 1911
أعلى