مجدي جعفر - قراءة في ديوان (عرض حالة دمعة) للشاعر محمود هليل

1 - النص الأصغر[/B]

لم يهتم الشاعر العربي القديم بعنوان قصيدته، فالعرب كانوا قديما يرحلون بأغنامهم وراء الكلأ والعشب، ويقيمون لأيام أو أسابيع، ثم يحملون خيامهم ويرحلون، لم يكن لهم عناوين محددة وثابتة، يمكن أن يُستدل عليهم بها، فهم قوم رُحل بلا عنوان، والشاعر العربي المعاصر أخذ يهتم بالعنوان حديثا، بعد أن استقروا وأصبح لهم عناوين وأسماء شوارع وأرقام بيوت وصتاديق بريد وبريد إليكتروني وفيس بوك... إلخ.

والباحث السيميولوجي اهتم بالعنوان اهتماما بالغا، وجعله بمثابة النص الأصغر، الذي يحمل رسالة الشاعر المضمرة، والتي يبثها للقارئ / المتلقي تفصيلا في المتن ( النص الأكبر )، إذن العتوان هو النص الموازي، وهو العتبة الأولى التي نلج من خلالها إلى النص.

وعنوان الشاعر محمود هليل ( عرض حالة دمعة ) من العناوين المستفزة للقارئ، والعنوان يلفت انتباهه ويثير مخيلته، ويفتح شهيته للقراءة، فعن أي دمعة يقدم الشاعر تقرير حالة عنها؟ وما الذي يمكن أن يقوله في سرده في المتن عن دمعته؟ والدموع هي ماء العين، وهي تنهمر في لحظات الحزن وفي لحظات الفرح أيضا، فهل يعبر عن لحظات حزن ام يعبر عن لحظات فرح؟ وهل الحزن خاص بالشاعر وحده أم حزن عام يعم معظم الناس ويمس الوطن، وتتوالد عشرات الأسئلة في ذهن المتلقي قبل أن يبدأ في قراءة الديوان.

ومحمود هليل، اختار عناوين قصائده بدقة، ويعي أهمية العنوان كمدخل ومفتتح، ويدقق ويتأنى في اختياره، ويؤرقه اختيار العنوان، يقول هليل في قصيدته الأخيرة ( بلا عنوان ) :

( محتار وعاوز أبتكر / عنوان قصيدة كلمتين / أو كلمة واحدة / مش مهم )

وكل همه :

( المهم تكون فريدة / تجمع حروف الأبجدية في قلبها / كلمة واحدة / بعشروميت جُملة مفيدة )

والذي يعني الشاعر هو اختيار العنوان الذي يعبر عن قضيته ورسالته التي تحملها القصيدة، ولن يرضى بغير اختيار العنوان الفني بديلا، وقضيته هي الوطن وحبه له، ويقف بكل قوة ضد أعداء الوطن سواء في الداخل أو الخارج، وينحاز إلى بهية / مصر، ويتمنى النصر لها، وأن تتجاوز محنتها، فالعنوان الذي يبحث عنه :

( عنوان فصيدة عشق يعصر قلبي عصر / عنوانها / لما أفرح معاها بكل نصر / عنوان قصيدة / هو / ... مصر ... )

إذن مصر هي الشغل الشاغل للشاعر، وقدم لنا عبر خمسة عشر نصا شعريا كثيرا من هموم مصر وأحزانها، وقليلا من أفراحها.

.....................................................

2 - الإهداء

وجاء الإهداء نثرا لا شعرا، وهو عتبة أخرى مهمة للولوج إلى النص، ويتماس مع مضامين معظم القصائد، ولم يأت الإهداء منبت الصلة عن المتن، وكل نص أخذ منه نصيب، فهو يهدي نصوصة إلى :

1 – إلى كل حبة رمل على أرض الوطن.

2 – إلى كل نقطة دم سالت من أجل الكرامة.

3 – إلى أرواح شهداء مصر الذين ضحوا بأرواحهم فداء وعزة.

4 – إلى كل أم ثكلى احتسبت وليدها البطل عند الله من الشهداء.

5 – إلى رُوحي أبي وأخي وإلى أمي أطال الله عمرها واخوتي وزوجتي وأبنائي.

6 – إلى مصر أهدي حروف الحب والقلق والطمانينة والحلم والمستقبل.

وعلاقة العنوان والإهداء بالنص الأكبر، علاقة ضاربة في جذور جُل القصائد، وتتبع هذه العلاقة والكشف عنها تحتاج من القارئ إلى بذل بعض الجهد، ومحاولة فك رموزها وشفراتها المبثوثة في ثنايا النصوص، وهذا ما سنحاول مقاربته من خلال القراءة المتانية للنصوص.

.......................................................

3 - الفضاء البصري والفضاء المكاني

النظر إلى الفضاء البصري المتمثل في لوحة الغلاف، والفضاء المكاني للخط الذي كُتب به العنوان واسم الشاعر، وطريقة الكتابة، وشكلها، تُعّد من العتبات المهمة أيضا، ففي أعلى وجه الغلاف نطالع كلمتي ( تفرير حالة ) وفي السطر الأسفل مباشرة وعند انتهاء كلمة حالة، يكتب كلمة دمعة، وكأن التقرير يسرد وقائع وحوادث لهذه الدمعة، أو كأنه ينز بالدموع، وتأتي لوحة الغلاف لوجهين، وجه أكثر بروزا، لا نرى فيه غير عين مفتوحة عن آخرها، وأذن طويلة وضخمة، وكأنها عين الشاعر التي ترى، وأذنه التي تسمع، ووجه آخر أقل قليلا من الوجه الأول ولا نرى فيه غير عين تنز بالدموع، والدموع دامية، ولون الخط بلون الدموع بلون الدم، قد يكون دم الشهداء المسفوك، وقد يكون تكبيرا وتضخيما للمآسي والهموم والأحزان التي يمر بها العباد والبلاد.

..................................................................

4 - براعة الاستهلال

اتسمت قصائد محمود هليل بالاستهلال القوي، فالشاعر يختزل في استهلاله الخطاب الشعري للقصيدة في رباعية أو موال أو زجل أو أي شكل من أشكال الفنون الشعبية، ولننظر إلى بدايات بعض القصائد :

في قصيدة ( همسة وطن ) يبدأها :

( بنادي الهمسة وانسجها ميتين موال

ف تغزل بالقُليب طيبة على المنوال

واشد رحال مراكب سيرها تتحول

وترسى ف حُضن عامنول وم الأول )

ويمكن التعامل مع هذا المفتتح على أنه موال، فالموال يتركب من بيتين مقفيين نُختم أشطرهما الأربعة بروي واحد، وهذا ما ينطبق على هذا الاستهلال، ويمكن النظر إليه أيضا على أنه من فن ( الدويت ) الذي أُخذ عن الفرس، وعُرف عندنا بالرباعيات، فكلمة دو معناها اثنان، فهو بيتان تُقفى شطورهما الأربعة بقافية واحدة وقد تخرج عن ذلك قافية الشطر الثالث، ويتحقق هذا في العديد من استهلالاته، فيستهل نص ( التحويجة ) بهذه الرباعية:

( ضي دارنا يعني إيه

والليالي الدافية طيبه

ضل تكعيبة حياتنا

لما بتحابي عليه )

واستهلال نص ( غصن الزيتون ) :

( ما تحرقوش غُصن الزيتون

وتجافوا في الليل السكون

وتعشقوا عتمة نهار

وتطفوا نور جوه العيون )

ولا يكتفي الشاعر باستهلال نصوصه بالرباعيات، ولكنه قد يستهل مقطعا من النص برباعية، فمن قصيدة (عرض حالة دمعة ) يستهل أحد مقاطعها بهذه الرباعية :

( الجوف صراخ وغزلتي احساسك ندم

هو انتي ليه حاسباني من ضمن الخدم

بافرد لك العمر اللي باقي في سكتك

واصلب كياني بالنطاعة والندم )

والشاعر لا يقطع صلته بمعظم الفنون الشعبية مثل : الموال، والدويت ( الرباعيات )، والزجل الذي جاء بعد ( الموشحات ) وبناءه الموسيقي على نفس بناء ( الموشح )، فأشطاره موزعة على أقفال وأدوار كما تُبنى الموشحات تماما، وتتحد قوافي الأقفال بينما تتنوع قوافي الأدوار، وشاع الزجل وانتشر بسرعة منذ عُرف في القرن السادس عشر الهجري، وأحتل مكانة مهمة وسط الفنون الشعبية، وقد توسل محمود هليل بهذه الفنون في كتابته لقصيدته العامية، وقدم لنا خلطته السحرية منها جميعا، فاكسبت قصيدته العامية فرادة، وزادتها ثراءا وتألقا وجمالا، وأصبحت نسيجا وحدها، مع عدم انغلاقه أيضاعلى الفنون الأخرى، وخاصة الفن التشكيلي.

..................................................

5 - الشاعر الجوّال

في قصيدته الأولى ( همسة وطن )، يسافر الشاعر في الزمن، باحثا في الماضي البعيد عن السنوات المشرقة، والتي هربت من حاضرنا، وواقعنا المعاش، فهذا الشاعر الجوّال، يقول عن نفسه:

( أنا الواصل فواصل وصلت الأوصال )

والشاعر ينشد :

( وأناشدكم كم سنة هاجروا أراضيها )

إذن هو يبحث عن السنوات المشرقة، سنوات العزة والفخار، السنوات التي هربت منا، وكان يجب أن نقبض عليها، ونبقيها بداخلنا، ولاندعها تهرب منا حتى لا نصل إلى حالة الضعف والهوان التي نحن عليها اليوم.

في هذا النص يستدعي من التاريخ والتراث أحداثا مهمة وشخصيات أضاءت لنا وللدنيا كلهاالحياة وأثرتها، فيستعيد أيام قادش وحطين :

( أيا مجدوفي توب قادش بروح حطين / سنين والعزة بتبحر في قلب سنين )

ومن الفراعين العظام يستدعي مينا، ولماذا اختار مينا؟

( عود بينا يا مينا وغازل القطرين / ف توصل بين وتين لوتين في ترحالك

ووحد في النفوس نبتة بريحة الطين / تصلح بين ذوات البين وبين حالك

يشق النور ظلام مدسوس في ليل حالك / يقوم النوم ضمير مدفون ويصحالك )

فحاجتنا إليوم إلى مينا ليعالج أمراضنا الاجتماعية وأوجاعنا النفسية ويوقظ الضمائر التي نامت، والتي تغط في سبات عميق.

ومن الأنبياء يستدعي يوسف الصديق :

( وكيف يوسف ما أوحالك فكنت نجاة / سقيتي الدنيا من يمُه كرامة وجاه / وهبتي النيل بوجدانك أمل وحياة )

ويستدعي كليم الله موسى :

( عصا موسى يا هادمة في جدار فرعون / يا كلمة بين أيادي الله في جبل الطور )

ويستدعي أيضا سيدنا الخضر :

( لقاء الخضر والحكمة متين دستور )

ويستدعي مريم العذراء والمسيح عليه السلام :

( براءة مريم العذراء يا أم النور / يلف دروبك الخضرا المسيح بالدور )

وينهي نصه الذي حشد فيه أنبياء الله، بوصية سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لأصحابه بأهل مصر :

( وليك كرامة ذمة وجاه رحم وأصول / وصية خير خلق الله الوداد موصول )

من يقرأ هذه القصيدة، ويقرأ كل شعر محمود هليل الوطني في هذا الديوان، يرى فيها اعتزازه بأمجاد أمته وحماسته للقضايا الوطنية، فالشاعر في هذا الديوان يقدم لنا معزوفة للوطن وأنشودة للأمة كلها، والهموم الوطنية والقومية تأتي في صدارة اهتماماته في هذا الديوان.

ويواصل الشاعر الجوّال أسفاره وجولاته عبر الأزمنة والأمكنة، ليقبض على لحظات حُب وألق إنساني جميل، نفتقدها في واقعنا المعيش.

ففي نص ( المشربية ) يقول :

( لساك بتنقش على الجدار / وبتنحت الحلم القديم / على صخرة اليوم / اللي سافر في المدى. . حتى النهار لساه بيطل / من بين ضلوع المشربية وحُسنها / ويداعب الخشب العتيق / أرابيسك آآآآه .. كان لينا علم ومدرسة / إزاي بنحضن بعضنا / تتجسد الروح في الزمن / منظر بديع / شباك حياة / حلقة قلوب متعشقة )

( ف يطل نور الفجر كأنه يبتسم / في عيون صبية مكحلة / من تحت ياشمكها الحرير )

ومن نص ( التحويجة ) أيضا :

( مسك توبه كان بريحة / التصوف في الحسين / وفي جمال خان الخليلي )

ويرصد في تجواله في نص ( تعافي يا صابرة ) أفعال الأخوان المزرية :

( طمعان في إيه فيها / طمعان في كرسيها / حالف تفجرها / وقتلت أحرارها / سبيت كنايسها / ولعنت أزهرها / جرفت ليه دينها / وقطفت أزهارها / نصبت نفسك إله / داير تكفرها / وحسبتنا أوغاد / من ضمن كفارها / .... )

ويواصل فضح الجماعة التي اغتصبت حكم مصر، وفضح كل الجماعات الإرهابية التي خرجت من رحمها، ومن نص ( خارج نطاق الكون ) :

( ابن البغايا اللي في حضن الليل / إيه الدليل لأجل إن تكفرنا / بتبيح في دم ينور القناديل )

ومن نص ( عرض حالة دمعة ) :

( ويادوب ببوسك واحضنك / وصفوني فاسق راح يبوس متبرجة / غطوك مني بالنقاب والأحجبة / سرقوك حصري بالنعومة والسلاح )

ويتناثر في الديوان مقاطع كثيرة كتبها الشاعر عن الشهداء الذين قدموا أرواحهم في سبيل الله، ثم فداء للوطن والأمة، ومن نص ( غصن الزيتون ) :

( إن كنتم أنتم .. ولا دول / حاكمة قلوبكوا المصلحة / وتغرقوا الأرض بسيول دم العيال في المشرحة / مع العساكر على الحدود / والمُر في حلق الجنود / أنا ابني مات يحمي البلد / وأنتم قضيتوا للعهود )

ويسرد قصة شعرية بديعة من لحم ودم لمُجند شهيد.

ويعري هذه الجماعة في قصيدته البديعة ( غصن الزيتون ) :

( رافعين إيديكوا بالسلام / وبتكذبوا وتحرفوا معنى الكلام )

( عاوزينها ليه متقسمة ومتشققة / ناصبين في أحلامها حبال المشنقة )

( وما تحرقوش / كل حبة ف دمها / ما تحرقوش قلب الوطن / وما تجلبوش ريحة العطن )

ويستدعي الضابط المصري الأشهر ( عزيز المصري ) الذي قاوم الاحتلال الإنجليزي بكل يسالة وشجاعة وضراوة، وهو الأب الروحي للضباط الأحرار الذين قامو بثورة يوليو 1953م ، وكان المصريون يفردون يرددون هُتافا :
( يا عزيز يا عزيز كُبة تاخد الانجليز )، فلمن يفرد الشاعر الكُبة اليوم؟

يفرد الكُبة في وجه جلاده، وفي وجه من أفقره ومنع عنه المطر والدواء، وفي وجه الجماعة الخائنة المارقة، وفي وجه كل القوى الإقليمية والدولية المتربصة بهذا البلد، يفرد الشاعر في وجوههم ألف ألف كُبة وكبة

والشاعر الذي يقرأ لمصرنا طالعها في قصيدته البديعة والماتعة ( أبين زين ) يراها : ( أشوفك مصر من تاني / بلاد طاهرة بلا تحريف / وصدقك سهم راح يرشق في عين الزيف )

.................................................................

6 - النيل والفلاح

هل المكان يشكل ناسه؟

البحر قدم لنا الصيادين، والصحراء قدمت البدو رُعاة الأغنام، والنهر قدم الفلاح، والشاعر محمود هليل ارتبط بالنهر، نهر النيل، شريان الحياة في مصر، فهو فلاح، ويعتز بمهنة الفلاحة، ويعتز بشرقاويته، وبمصريته، وقدم لنا الانتماء والولاء في أسمى معانيهما للنهر العظيم وللفلاح، ولمصر كلها، ونجد النيل متمددا في رحم معظم القصائد، واختصه بقصيدة جميلة تحمل عنوان ( شاهد عيان )، ويستهلها :

( أروي ضفافك / بالحكاوي والزجل

واروي غيطان / صبرك يا نيل / فدادين أمل )

فهو حزين من أجل النيل، وما آل إليه حاله، فالناس على ضفافه اكتفوا بتدبيج عبارات الغزل وجُمل الهيام له، ولم يقدمواغير الكلام، ولم يترجموا هذه الكلمات إلى أفعال، فيقول الشاعر :

( كتبوك قصايد / والكلام فيك ارتجل / غنوك وطن / واستخسروا فيك العمل )

ويحاول الشاعر أن يُخرج النيل من حزنه وكآبته، فيذكره بالزمن الجميل :

( ارجع يا نيل / بالذكريات يوم زفتك / بيجهزوا ست البنات / ملكة جمال زفوها ليك / شبكوا شبابها بعزتك / كان لك غرام جوه القلوب )

كانت هذه علاقة الجدود بالنيل عبر الأزمنة، فماذا جرى للأسلاف؟.

والشاعر ينوب عن النيل في تقديم شكواه :

( ها استسمحك / واحكي بلسانك شكوتك )

( لما أن صبح / كل المآسي مُمكنة / الصدر ضاق / لما استباحوا حرمتك )

ويبدأ في كشف المؤامرة التي تُحاك للنيل وللوطن :

( ركبوا القراصتة / وخطة كانت مترتبة / لأجل اما تقلب / موج كيانه وكنيته )

( الغدر صاب / والخسة جات له / من ورا / والخونة بتدارى ف جحور زي الفيران )

المؤامرة على النيل وعلى الوطن من الداخل ومن الخارج، وفي نهاية القصيدة يطالب الشاعر بسحق تلك الجماعة المارقة الخائنة، والاستئساد على القوى الخارجية التي أرادت إيقاف شريان الحياة ( النيل ) :

( يا مصر ب الله / ع الغزاة تستاسدي

يا مصر ب الله / تحمي نيلك م العطش )

( ثوري على الخاين / وحاكمي واجلدي )

( علشان طموحه / غل في الأرض وبطش )

والفلاح أكثر أهل مصر ارتباطا بالنيل، فحياته ووجوده مرتبط به، ولا نستطيع أن نتخيل ونتصور شكل الحياة في مصر بدون النيل، وعرف أجدادنا القدماء قيمة النيل وأهميته، فجعلوا أمن مصر القومي يبدأ من منابعه في بلاد الأحباش، وكانوا يسيرون الحملات إليه على مدار العام لحمايته من عبث العابثين، وكان له عند المصريين حرمة وقداسة، فهو من أنهار الجنة، وكان المصري القديم يقسم أمام الفرعون بألا يلوث ماء النهر، وجاءت قصيدته ( أنا فلاح ) لترتبط مع قصيدة ( شاهد عيان ) في علاقة متينة وقوية، لا ينفصم عراها، علاقة الفلاح بالنيل، وبالوطن، علاقة وجودية ومتعلقة بمصير المصري عامة والفلاح خاصة.

...........................................

7 – ديناميكية الصور

باختيار بعض الصور الجزئية بطريقة عشوائية من مئات الصور التي يعج بها الديوان، والتي تشكل شبكة ضخمة من الصور، بصرية غالبا وتتسم بالحركة، ومتدرجة في حركتها، من الحركة الساكنة إلى الحركة البطيئة، فالحركة السريعة، فالحركة العنيفة :

( وسكون في جوف الملهمين بيئن )، ( بترويني خمورك ضي )، ( طعم انكسار لون الضمير باهت )، ( حبل المعاني انشد في جبيني )، ( مجروح وشابط في سفينة نوح )، ( وف مد جوفك زي طير مدبوح )، ( روحك يا واد متشعلقة / متشوقة تحضن في بكرا ميت أمل ).

والصور البصرية حاضرة بقوة في هذا الديوان، والشاعر يجاري في قصائده التطورات السريعة والمتلاحقة لمدارس الفن التشكيلي، وهو ألصق الفنون بالشعر، وأفاد منه الشاعر المعاصر في إثراء قصيدته، وتوسل محمود هليل بهذا الفن كما توسل بالفنون الشعبية التي أشرنا إليها من قبل، ليقدم لنا نصوصا جديدة ومنفتحة على الفنون التشكيلية والفنون الشعبية، استفاد من المدرسة التعبيرية والسريالية وغيرها في التعبير عن الانتماء للوطن، ومحاورة واقعه، والتماهي معه وإثارة الأسئلة، ومحاولة العودة إلى الجذور، وإلبحث عن الهوية الحقيقية ، والبحث عن ذاته وهوية الوطن التي افتقدناها، وبفضل هذا ( التشكيل ) استطاع أن ينفلت من أسر المدرسة الكلاسيكية، وتصبح رؤاه أكثرعمقا في المكان وأكثر بُعدا في الزمان، فمصر حاضرة في نصوصه منذ بدء الخليقة، ويعمل على تفكيك الواقع المشوه وتفتيته، ومن ثم هدمه ومحاولة البناء من جديد ( الهدم والبناء ) ولتكون الحياة الآنية مُمكنة وأكثر احتمالا، والنفاذ إلى المستقبل برؤى جديدة، ليكون مستقبل الإنسان والوطن أكثر إشراقا.

الشاعر هليل يجسد صوره البصرية والسمعية والشمية والذوقية في الفضاء المكاني تجسيدا حسيا ملموسا، وهذه الصور التي يشكلها بمهارة واقتدار من خلال المجازات والتشبيهات المختلفة والمتنوعة، تضع قارئه في وضع المشاهد، فنجح أن يشكل مساحات بصرية في ذهن القارئ، وعن طريق الإدراك البصري، يعاود القارئ النظر والتامل.

وسيتوقف القارئ كثيرا أمام الصور المبهرة، وكأن يرسم بالكلمات لوحات تشكيلية :

صورة النيل، صورة الفلاح، صورة العراف أو قارئ الطالع، صورة عروس النيل، صورة الولي أو المتصوف، صورة الجلاد :

( أنا اللي ف عز كرب الدنيا بدعيلك / وميت كرباج على ضهري )

( ولسه علامة الكرباج على ضهري / بترسم لوحة هحفظها في بروازك / وممضية ومختومة بتسجل إنجازك / وإنجازك / بأن جراحنا في البراويز / بتتعلق على جدارك بشكل لذيذ / ولسه برضه بنحبك )

( ولسه برضه جلادك على ضهري بيشطر / ويتعزم ويضرب بس أنا صامد )

وعندما يغضب الشاعر من الحبيبة / الوطن، يتناثر الغضب في كل جنبات القصيدة، ويمتد غضبه الموجوع بحب الوطن إلى أدوات الموسيقى، وإلى أوزان الشعر، فيرسم صورا غاضبة ومتمردة، ننقل منها من قصيدة ( دموع النورس ) :

( موال بيهجر غنوته للتيه / رافض خضوع الحرف للألحان )

( وتر الكمانجة اللي اتصلب بالزيف / بيشب نوره في عتمة الزنازين )

( كافر بكل قواعد التزييف / رافض يدندن غنوته تحريف )

( والرق جافى الدق م الرقاق / ترياق حياته إنه يعيش مشدود )

( على صوت أنين الناي صراخ العود / بيعود ينادي حلمك الهربان )

وغضب الشاعر وتمرده هو غضب وتمرد الفلاح ابن الأرض وابن النيل، غضب المُحب والعاشق لترابها.

وبرع الشاعر في رسم صور بعض الأمكنة مثل المشربية، وقد أشرنا إليها في العرض، وهي صورة بديعة، وقدم في نص ( التحويجة ) خلطته السحرية، تتعالق فيها الصور البصرية بالصور الشمية، ويتعالق الزمان بالمكان، لوحة فنية رائعة.

إذا كان الفن التشكيلي قد أفاد الشعر، فإن الشعر هو الآخر أفاد الفن التشكيلي، ولو قُدر لهذا الديوان أن يقع في أيدي فنان موهوب، لألهمه عشرات اللوحات اللافتة والماتعة والمدهشة.

وبعد :

أرجو في هذه العُجالة أن أكون قد اقتربت ولو قليلا من معالم التجربة الشعرية للشاعر في هذا الديوان، ونثرت بعض قطرات الضوء حولها، كما أرجو أن أكون عند حُسن الظن وعلى مستوى الثقة ومن الله التوفيق.

........................................

ورقة نقدية لمناقشة الديوان بقصر ثقافة العاشر من رمضان مساء الثلاثاء الموافق 29 / 8 / 2023م )

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى