د. ندى مأمون إبراهيم - سجل سوابق

بقي على مغادرة المدرسة الثانوية أيام قليلة ،الكل منشغل بامتحان مادة الأحياء ، وبعدها تبدأ مراسم الوداع ..وداع كل شيء.
نعم حرفيا كل شيء.
الزي الرمادي الموحد،والأحذية التي لا كعب لها، وجرس الحصة.
يقال أن في الجامعة، لا أجراس ترن.
هذا أفضل ، لطالما أزعجني رنين الجرس وسبب لي الصداع.
وسنودع بعضنا أيضا ، أنا أكره الوداع ، لا اطيقه ،
اهرب من مراسمه التي لابد أن تكون فيها الدموع حاضرة .
لكنه وداع ضروري لإتمام العبور ، والقناعة بمرحلة جديدة ،نحو عالم الكبار.
خلف أسوار الجامعة قصص أخرى تنتظرنا ، ومغامرات لطالما تخيلناها.
و" الأوتوغرافات" المزخرفة، هي مواثيق الوداع الأبدية ،نكتب لبعضنا فيها مشاعر بدائية صادقة ،وعهود نظن أنها الأبدية.
كتبت لصديقتي المقربة..
" اكتب لك بالرصاص ، علامة الإخلاص"
وكتبت لي..
"اكتب لك بالأحمر، لأني لم أجد بنجر"
لا أدري من أين أتينا بهذه العبارات العجيبة!!
لكن من المؤكد أنها كانت عبارات صادقة، نابعة من قلوب لم تجرب صداقة المصالح بعد.
وكان علينا أيضا وداع معلماتنا ..
في الجامعة لا توجد(أبلة)، هذه الكلمة ، لن ترافقنا في قادم الأيام ، علينا أن نطور من وسائل تخاطبنا ،أيام قليلة وندخل عالم المحاضرات .
ومن بين كل المعلمات، كانت تشغلني معلمتنا رقية .
ربما لأنني كنت أعمل جاهدة ، طوال دراستي الثانوية ، أن لا أقع ضحية بين يديها، فكنت افرط في الانضباط.
لدي سجل خال من المخالفات، أفخر به أمامها.
كانت تقف يوميا عند الزاوية ، تراقب استواء الصفوف الصباحية ، و تحملق في أظافرنا ،لتتأكد من اطوالها وخلوها من " المناكير".
اذكر امتداد الكحل الاسود على عينيها ،ونظراتها اليومية ،الفاحصة والمرعبة لوجوهنا .
تنظر في عيوننا و خدودنا ، لتتأكد خلوها من الأصباغ.
وتنظر إلى أحذيتنا ، تقايس بنظرها ارتفاعها..
صاحبة الكعب العالي، تسحب إلى مقدمة الصف ، لتكون عبرة لمن يعتبر.
والغريب أنها كانت محنكة، تلتقط الفتاة الجانية ،عن بعد، بعينين "كالرادار" اللاقط .
سبابتها لا تخطئ في تحديد الهدف ،تشير به ، ولا تكلف نفسها عناء الكلمات.
بعدها تعرف الواحدة منا، أنها واقعة في ورطة ، أهون ما فيها استدعاء ولية أمرها.
ما كان يحيرني هو ، استخدامها المتقن للغة الإشارة،ولذا تمنيت سماع صوتها .
سمعت من الفتيات اللواتي نالهن التوبيخ ، أن لها صوت مرعب يصم الأذان .
لكنها لم تكن بحاجة إلى حديث على أية حال، شخصية " كارزمية" لا تحتاج إلى صرف كلام.
ولذا ، وضعتها في أول القائمة.
ستكون أول من اودعه وأطلب منها ، التوقيع على" الأوتوغراف" وليكن اعترافا ضمنيا منها ، بأني طالبتها المثالية.
وجاء ذلك اليوم، وفرغنا من الامتحان، متهيئين لذرف الدموع، وخرجت الأقلام لكتابة عبارات الوداع .
فرغنا من أكل الكعك والبسكوت في احتفالية صغيرة ،ثم مدت لي صديقتي يدها بحلوى النعناع.
التقطتها من يدها، ووضعتها في فمي وبدأت في المضغ ، ولم ألحظ أن الحلوى لم تذب..
نسيت أمر الحلوى تماما ،ما أن رأيت معلمتنا رقية، وهي تخرج من غرفة الوكيلة.
لحقتها مع صديقتي ،ونادينا عليها، نطلب توقيعها على " الأوتوغراف"
وقفت كعادتها ، صامته محملقة ، تستفهم الأمر..
وكنا واثقتين ، ننظر لها بابتسامة ،ونعلم مدى الانضباط الذي نتمتع به ، لا مساحيق ،لا كعوب عالية ، ولا تسريحات شعر غريبة.
لكننا نسينا أمر حلوى النعناع اللعينة التي لا تذوب..
مازالت افواهنا ، تتحرك بصورة عجيبة.
ونظرة المعلمة المرعبة، تحاول تنبيهنا ، قبل زجرنا .
قلت لها بكل زهو، ممازحة، وأنا أمد لها الاوتوغراف..
-نحن ذاهبتان إلى الجامعة، لم نعد صغارا وسنضع الكحل مثلك يا معلمتنا.
نظرت إلينا وهي ترفع حاجبا وترخي آخر..
وعيناها تركز على حركة العلك في أفواهنا..
قالت بحزم وزجر..
- لتخرجا العلك من الفم ، قبل محادثة معلمتكما ،الكحل لا يهم ، المهم الأخلاق.
واسقط في يدنا ، نظرت إلى صديقتي ونظرت إلي..
هذا النعناع هو علك تناسينا ومضغناه ، وأمام من؟! ..أمام معلمتنا رقيه!!
لم يدر في خلدي أن تسجل عيناها الكحيلة ،مخالفة ضدنا، في آخر لحظات لنا في المدرسة.
و من نحن ؟!
مثاليات المدرسة، صاحبات الصحف البيضاء الخالية من السوابق !
نهايتنا كانت على يد علكة صغيرة، بطعم النعناع !
النعناع شوه السمعة، وقتل المثاليات.
يومها ، طال اعتذارنا ، وشرحنا للأمر..لا يمكن عبور الثانوية، بلا أخلاق!
لكنها في النهاية، اقتنعت بما نقول، وقبلت اعتذارنا.
بل وسطرت على الأوتوغراف أجمل الكلام ، وأروعه ، فكان حقا صك عبور.
والجميل أنني لم اتخرج من الثانوية ، دون سماع صوتها.
وللمفارقة كان صوتا جميلا عذبا ، لا يطابق تجهم ملامحها، ولا رواية الطالبات.
واصبحت أضع الكحل على عيني ، و قد أمضغ العلك أحيانا ، وبلا نكهات .
لكن بعيدا عن الأعين ، هذا نوع من الاحترام ، علمتني له معلمتي رقية.


--------------------------------------------
* د. ندى مأمون إبراهيم. 2023

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى