د. ندى مأمون إبراهيم - الكائن اللطيف..

ما الذي يمكن أن تحظى به امرأة عاملة مثلي،كل صباح أفضل من اللطف؟! ...

(ماداهوري) أو ( ماداهيرا) عاملة النظافة الثلاثينية التي تعمل بالمشفى ، عز علي حفظ ونطق اسمها على نحو صحيح ....الأسماء الهندية غريبة... تربكني...لذا فضلت راحة لساني، واطلقت عليها اسم لطيفة...

لكن لم يعز علي بتاتا ، حفظ ابتسامتها اليومية التي تطبعها على وجهها كملصق ثابت لا يتغير ...توزعها على الأطباء وطاقم التمريض والمرضى وعمال المقهى ،برسم مجاني ... فتصنع يومنا...

تنتظرني كل صباح عند باب العيادة... تحمل ممسحتها وقارورة المنظف، وتهز رأسها يمنة، ويسرى فتهتز معها قامتها السمراء القصيرة ،مبدية لطفا عجيبا يجعلني أشك في نفسيتي المتقلبة!!

أفتح الباب...فتدخل بصمت...تمسح الأرض وتوضب المكتب ... ثم تمضي لحالها بذات الابتسامة ...
تربكني وأحتار في أمرها... كيف تفعل ذلك ...لا أدري ...الله أعلم.

لكن ما أعلمه ،أني لا أفعل مثلها ... أنتبه بصورة وسواسية لمظهر هندامي...والتأكد من وجود هاتفي المحمول في جيبي ، لكني لا أهتم مطلقا لتعابير وجهي الصباحية!!
ما يفرزه الصباح أقابل به زملاء العمل والسلام. ...أقطب جبيني يوما بلا سبب...ويوم آخر أبدي امتعاضي من رائحة المنظف النفاذة التي ترشها على مكتبي، أو أطل عليهم بوجه ثائر حيرته قضية كونية دارت في خلدي بالأمس...
وقد أبتسم أحيانا.... لا أدري... ربما ...

أتشاجر مع الممرضة (جين) ، على الدوام وأحيانا بلا سبب...تفرغ شحناتها السلبية ،وأفرغ شحناتي السلبية...تشتمني بالإنجليزية وأشتمها بالعربية.... ثم تهدأ هرموناتنا النسائية .... ونتبادل عصير البرتقال ...هذا ما تفعله النساء...

لكن لطيفة لا تفعل ذلك ،تحتفظ بسلوك وتعبير موحد...جعلني أعتقد أن ميزانها الهرموني في أحسن حالاته على الدوام .

ذات صباح ،دار شجار شرس بيني وبين( جين)... قائمة المرضى لم تنظم على نحو صحيح...وكالعادة وجدنا ضالتنا في معركة استعراض التقلبات ،وتنفيس مشكلاتنا الحياتية ...وقتها خرجت (جين) من العيادة، وهي تقسم أن لا تعود .

لكني لم أكترث لتلك اللعينة ، فقد حفظت تعبيرات وجهها المتعددة وتوعدها الكاذب عن ظهر قلب...
لطيفة من كانت تشغلني ... كانت تقف في ركن العيادة بهدوء ، تمسح المرآة في وداعة ...ووجهها الباسم ينعكس عليها ... هدوؤها الغريب أثار حفيظتي ، جذبتها من يدها...وسألتها متعجبة ...
-لطيفة هل تعتقدين أنك امرأة مثلنا؟
هزت رأسها المبتسم بإيجاب ...
قلت لها...
- إذا لماذا لم تتشاجري يوما؟ أو عاكستي لطفك الدائم بفعل آخر؟! ثلاث سنوات وأنت لا تملكين من تعابير البشر سوى بسمة، ووداعة طفل؟ هذا ممل!!

رفعت حاجبيها وقابلتني بابتسامة أعرض شدت حافة فمها ،ثم ما لبثت أن فاجأتني بسيل دموع لم أستعد له...
رأيت في وجهها خليط انفعالات متتابعة جمعت فيها كل تقلبات البشر إلا الفرح...
واندفعت تحكي كلاما كثيرا بلا توقف... خلطت فيه الإنجليزية والأوردو والعربية...فهمت من بين دموعها الغاضبة قصة طلاقها من زوجها... حزن وجهها حكى لي معاناة ابنها صاحب الإعاقة... ونظرات يأسها فضحت معركة سرطان يخوضها والدها المستسلم...
واصلت لطيفة حديثها المندفع بين الدموع...لكني لم أعد أسمع....
بل واصلت النظر في وجهها... أتفحص ما حبسته من أعاصير،
،خلف سياج لطف وابتسامة....

ربما انتظرت سؤالنا طويلا...لكننا اكتفينا بتوظيف لطفها، لصالح مزاجنا الصباحي...الكائنات اللطيفة صمتها محير وضجيجها مختزن في عمق سحيق.

تنبهت لها وهي تمسح دمعها بطرف قميصها، وقد بدا عليها بعض الارتياح...ثم شدت وجنتيها تكرر الابتسامة .
ابتسمت بدوري ...قربت منها عصير البرتقال ...وربت على كتفها...
قلت لها...
- لن تحصل المتنمرة (جين ) على عصير اليوم ،هو من نصيبك ...
أهلا بك يا (ماداهوري) في نادي النساء المتقلبات ، الشاكيات.

--------------------------
الكاتبة : د. ندى مأمون إبراهيم . 2023 .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى