مصطفى فودة - قراءة فى "النّوّالة" مجموعة قصصية للكاتبة هبة الله أحمد

هى المجموعة الأولى للكاتبة وقد صدرت عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 2020 وتضم سبع وعشرين قصة قصيرة ، وعنوان المجموعة هو اسم للقصة الثالثة عشرة بها وتعنى من تقف أمام النول لتغزل خيوط السجاد ، والغلاف لوجه امرأة مأزومة خلف إطار أشبه بالسجن ، وربما يشير الغلاف إلى ما تعانيه شخصيات المجموعة من أزمات وقيود ، وقد بدأت بإهداء إلى " إلى روح جدتى نفيسة الحلبى ومباركة الشافعى ، روح الحكايا ومتنها وحواشيها إلى ظل أبى الذى يزرع قلبى قمحا ومطرا " وهى عبارات تحمل عبق الحكايا وسحر الشعرية .
حفلت المجموعة بتصوير البسطاء والمأزومين والمجاذيب وأصحاب الإحتياجات الخاصة من أهالى إحدى القرى ، فمن المجذوبين بخشمون ذلك المجذوب العجوز الذى يردد أشعار صلاح جاهين ويردد كعادة المجاذيب عبارات لها معان غامضة وتحمل معان متعددة مثل " لا يا فاطمة احنا فى الحفرة سوا " عند مخاطبته للساردة ، كذلك فى قصة بيت النار الساردة التى يطلقون عليها العرافة الصغيرة حيث تحذر أهل القرية من الجنيّة التى تخطف العيال ، كما تدلهم على مكان أطفالهم الغائبين "العيال ياعمة عند الكباس" وبالفعل يجدونهم كما ذكرت لهم .
كما حفلت المجموعة بتصوير أصحاب الإحتياجات الخاصة مثل علىّ فى قصة عازف الناى والذى فقد السمع وعجزت وصفات جدته عن شفائه فكان يذهب عند الصهريج ويعزف "لم يجد من يستمع إلى صمته المملوء بالضجيج غير الصهريج وأعواد البوص " فالصمت والناى والوحدة هم رفقاء علىّ فى الحياة ، و"بركة" وحيد صابرة النوالة فى قصة النوالة والذى انتظرته خمسة عشر عاما وأنجبته بعد تخطيها الأربعين سنة وقد تخلى أبيه عنه وعنها "لم يرغب أحد فى تقبل طفل معاق" وتنتهى القصة بنهاية مجازية تعبر عن موته " فقررت بركة أنها لن تلف السجادة بالقماش الابيض كما فعلت ب "بركة" منذ ثلاثة شهور ، وبالقصة تدخل من الكاتبة فى وصف حالة بركة " ولم تفهم تشخيص الطبيب الذى قال هو الحالة الأكثر شيوعا من (Down syndrome) " متلازمة داون " وأن سبب ذلك غير محسوم وإنما قد يكون أنها أنجبته بعد تخطيها الأربعين" فهذا التحديد العلمى الدقيق من الساردة غير مناسب ذكره . وفى قصة "ندوب" أمل هى فتاة مقعدة على كرسى متحرك حيث تنسج قصص من خيالها ، كل قصة تخلف ندبة فى جسمها ومن هنا كان عنوان القصة منها ندبة لتعرضها لتحرش سائق تاكسى وكذلك تعرضها لصفعة أمها عند عودتها من الديسكو حيث كانت ترقص مع شاب كفراشة يبهرها ضوء المصباح ، وتنتهى القصة بأن أمل كانت تكلم دمى أمامها وتدخل أمها وتحملها على كرسى متحرك لتحممها .
كما حفلت القصة بتصوير البسطاء والمهمشين من أهل القرية مثل قصة سيدنا عن الشيخ عمران محفظ القرآن الكريم بكتاب القرية " كفيف له لحية كثة وعنق طويل يشرئب دائما للسماء وصوت رخيم يطرب أهل الأرض وعصافير السماء على مقام البياتى والصبا والحجاز والنهاوند " ، و صابرة فى النوالة كما سبق ذكرها ، وبائع العرقسوس فى شفا وخميس والتى رنات صاجاته تطرب الساردة وهى صغيرة ، وفى قصة كاسيت رن ، تصور هجرة الرجال بالقرية إلى الخارج للعمل وإرسال شرائط تسجيل بأصواتهم ليسمعوها ذويهم بكاسيت الجدة رن الذى اشتراه لها زوجها أثناء سفره بالعراق وقد أصبحت دارها ملتقى نسوة القرية ليسمعن شرائط رجالهن المسافرين ، كذلك منال فى قصة أم سعيد التى تقوم بجلى العروس وتجهيزها لليلة زفافها وقد ورثت المهنة عن أمها وهى غير متزوجة وليس لها ابن يدعى سعيد وإنما هو لقب إتخذته بناء عل نصيحة أمها حتى لا تتشاءم زبائنها .
"صحبة" قصة ذات نزعة إنسانية تحكى عن موجه كيمياء تعرف برفيق أثناء سفره بالقطار وأخبره أنه مسافر إلى القاهرة لعمل عملية بتر لقدم سكرى وأن الطبيب هو أحد تلاميذه وسيجرى له العملية دون أجر وقد أخفى عن أولاده هذه العملية وتتوطد بينهما صداقة حتى يعلن الرفيق عزمه بمرافقته إلى المستشفى ، بالقصة إعجاب بطريقة حكى الرفيق "انتقل من حكاية إلى أخرى بخفة عصفور فوق عود من قمح ، وحكى شيق كحكى " يحى الطاهر عبد الله " وأخال أن هذا رأى الكاتبة فى الحكاية والقصة .

كذلك صورت المجموعة خرافات وأساطير القرية مثل شرب دماء الترسة فى قصة الترسة وهى السلحفاة البحرية حيث يتم ذبحها حيث يوصف شرب دمها لنعيمة التى تعانى من نحافة أملا فى عودة خطيبها أحمد إليها وبالقصة عبارة دالة على تشابه حالتها مع الترسة " رمت نظرة لعين الترسة ورأت بها مسحة حزن وخيبة تشبه ما بها " ص20 ، كذلك فى قصة حورية القيالة حيث تحذر الجدة حفيدها سعد من أم الشعور وتعنى بها جنية التى تخطف بعض شباب القرية " إنت مش حترجع إلا لما أم الشعور تسحبك فى الترعة .. تسحبك وتخفيك يومين حداها ياولدى وتخنقك يا ضنايا علشان ما تبوح بالسر "ص23 وتنتهى القصة بدخول الجدة حجرة سعد وقت الضحى فلم تجده ، وهى نهاية مفتوحة تعطى للقارئ فرصة المشاركة فى وضع نهايتها ، وقصة دق الخلاص تصور طقس الزار الذى تقيمه بعض البيوت الشعبية إعتقادا أنه يفك عقد السيدات اللاتى تكره أزواجهن ، حيث تعانى عُليا من فشل زواجها الأول من "السيد" لغلظته وفشله معها واعتدائه عليها ومن زواجها الثانى مع سيد الصافى ومحاولة أخيها تحسس جسدها ، وهى قصة تعبرعن ظلم وقهر المرأة فى بعض البيئات الشعبية الجاهلة وذلك بطريقة فنية دون مباشرة أوخطابة ، وفى قصة مساحة الفرح تتعرض لخرافة علاج عدم الخلفة بمشاهدة ذبح بقرة ولا بد أن تكون أول من يرى الذبح " لازم تتخضى عشان تنفك (المشاهرة) ومش هتتخضى إلا إذا الدم طرطش عليك"
وظفت المجموعة الأغانى والأمثال والمأثورات الشعبية فى بدايات القصص ومن خلال السرد فقد ذكرت بعض أشعار صلاح جاهين فى بداية ونهاية قصة بخشوان ، بدأت قصة صحبة " يا حلاوة ..يا حلاوة / يا حالولى ..يا حلاوة السيد " ، والماثور الشعبى "فاضى للساقطة واللاقطة " ص39 وفى قصة أم سعيد تبدأ " حلوة يا واد وبيضا / مالية عليك الاوضة " ص48 ، و"باب النجار مخلع " فى قصة كاسيت رن ، وأغنية يمامة حلوة ومنين أجيبها . طارت يانينة عند صاحبها ، ص30 .
أجادت الكاتبة الوصف خاصة وصف الشخصيات وكانت كأنها ترسم بورتريه للشخصية مثل وصف بخشمون"وجه مقدود من دهشة الموسم ومكائد البوح ن وعين ذاهلة أغلب الوقت ، معلقة بحبال موصولة بالسماء ، وبرغم لحيته البيضاء النابتة دوما ، فإنها لا تستطيع أن تغطى طابع الحسن فى ذقنه ، وبسمة ترفل بين عينيه وشفتيه بوجل عذراء تمس الماء لاول مرة " ص9 بل وصل الوصف فى بعض المواضع إلى حد الوصف الشعرى " وقفت أمام المرآة كقصيدة تمعن فى سرد حسرة الروح . أزالت العباءة التى تخفى حقول القرنفل والياسمين ، تتامل قوامها المشدود كأوتار الكمان " ص49
حفلت المجموعة بتقنيات سردية بديعة أضافت للسرد متعة وجمالا ، فجاءت تقنية الإسترجاع فى مواضع كثيرة فى القصص مثل فى قصة سيدنا حيث يسترجع السارد طفولته مع الشيخ عمران فى الكتّاب عقب علمه بوفاة الشيخ ، وتقنية المنولوج الداخلى فى ذات القصة " واااااه يا سيدنا قدرعليك الموت يا أبو خالو" ومنولوج البطل عقب وفاة زوجته فى نهاية قصة مسلسل الساعة الثامنة "ترنح وهو يتمتم :آخ يا ليلى ، أهو فاتنا المسلسل" ص94 ، وتقنية الحلم فى قصة حورية القيالة ، وحلم اليقظة فى قصة رقصة .
كان السرد بسيطا ومتدفقا وجذابا وكان باللغة العربية الفصحى البسيطة وقد بلغت اللغة حد الشعرية فى مواضع منها على سبيل المثال " رفت روحها ، وبدت مثل قرنفلة تفرد أجنحتها ، حتى تسكب عطرها فى حضرة مُراقصها وقاطف شوقها الفاخر شبت على أطراف أصابعها لتطاله فى خلجان الحلم المربكة...يداه تطوفان ببساتينها يصهرها ، ويتسلل إلى منبعه الذى يرويه ويظمئها "ص106 ، ألا أن الكاتبة استخدمت بالسرد مفردات مغرقة فى العامية وقد أتت بمعناها بهوامش أسفل الصفحات مثل الكباس ( الساقية ) ، الصيّيت (المداح أو المنشد ) ، المتستك ( طوب ممحر بأسمنت مضاف له لون وعادة ما يكون أحمر ) ، اللحف ( طريق ضيق بين الاراضى الزراعية ) وغيرها وقد أحسنت الكاتبة ببيان معانى هذه الألفاظ بهامش الصفحات .
أما الحوار فكان باللهجة العامية حيث تعبر أفضل عن الشخصية ومستواها الإجتماعى والثقافى مثل ما جاء فى قصة سيدنا " وى وى كنت عاننسى يادكتور " ، والشيخ عمران " لولا أنى فى المخروبة دى يا ولاد الكلاب كان زمانى ولا الشيخ محمد رفعت " ، وقد وردت بعض الكلمات الفصيحة مع العامية فى الحوار وهو اتجاه لا نحمده ونفضل أن يكون كله بالعامية مثل "يا أماه إيه لازمته بس ؟" ص33 ، فكان من الأفضل أن تستخدم كلمة يا مه العامية بدلا يا أماه الفصيحة ، كذلك فى ص70 " وفى أذنيها يرن نداء بركة من عيادة التأمين الصحى فى المستشفى الجامعى "أمااااااه" أيضا كان من الأفضل أن يكون (أُميييييييييه) بالعامية وهى مواضع قليلة جدا .
رغم أن المجموعة هى الأولى للكاتبة فقد أنبأت عن موهبة فائقة فى السرد وتقنياته وإمتلاك لغة فنية جميلة ، ودفق شعرى بديع ، وثقافة شعبية موسوعية وعميقة .
مصطفى فودة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى