د. محمد سعيد شحاتة - البنية السردية في قصة من وحي ليلة عاجزة للكاتبة منال رضوان (الجزء الأول)

(الجزء الأول)


تحاول الكاتبة منال رضوان في مجموعتها القصصية (طقس اللذة) أن تصاحب الحياة في بعديها الإنساني والاجتماعي متنقلة بين تضاريس تلك الحياة بكل تناقضاتها من دروب وسهول وشعاب وأودية؛ فهي تصاحب المشاعر الإنسانية في تقلباتها المختلفة، وتموجاتها صعودا وهبوطا، فتتحدث عن الحب وعن الفقد، كما تتحدث عن الخداع والإيهام، وعن المعاناة الإنسانية بأشكالها المختلفة، وملامحها المتنوعة، ويلاحظ المتأمل في المجموعة القصصية تشكيلا لملامح مجموعة من القيم تمثل مرتكزات تسعى الكاتبة جاهدة في إبرازها، ومنها قيمةُ الحرية التي تبدو في المجموعة بنية ارتكاز لكل القيم الاجتماعية التي تسعى الكاتبة إلى تسليط الضوء عليها، وكذلك قيمة الانفتاح على الآخر، سواء من خلال الحديث المباشر للشخصيات، أو من خلال عقد المقارنة بين طرفين من أطراف المجتمع، ليتكشف لنا ما يخلِّفه الانغلاق من تدمير للشخصية الفردية والمجتمعية، فتصبح حياة الإنسان بلا معنى ولا هدف، ويمثل ذلك انحرافا فكريا واجتماعيا، ومن ثم السير بالمجتمع وأفراده نحو تأويلات خرافية لمفردات الحياة إذ تتحكم الخرافة في العقول، وتحكم حياة البشر، فتتخلف المجتمعات، وتخرج من المعادلة العالمية والفعل الإنساني والاجتماعي الخلاّق، ومن القيم التي ترتكز عليها المجموعة أيضا قيمة الوفاء التي ترى أنها ذات أهمية بالغة في سيرورة الحياة، والحفاظ على تماسك البنى الإنسانية والاجتماعية في مواجهة ذلك السيل الجارف من منظومات القيم الإنسانية والاجتماعية التي حملتها تطورات الحياة، وانفتاحها على عوالم مختلفة.
وتنتمي كتابات منال رضوان إلى مرحلة ما بعد الحداثية التي هي مزيج من التجريب والعصرنة، وبذلك تقطع القصّة القصيرة مع الموروث الكلاسيكي الذي يعتمد – على حد وصف جيرالد غراف – على الوحدة والترابط المنطقي والتقابل والعقدة والخاتمة المحاطة بالدهشة أو الصدمة، ومن ثم قد لا نفاجأ إذا وجدنا قصص المجموعة تنفلت من تلك الدائرة الكلاسيكية في الكتابة، وتسعى إلى الكتابة الانسيابية، وسوف نتحدث عن ذلك لاحقا، وفي هذه المرحلة من الدراسة سوف نتوقف أمام قصة (من وحي ليلة عاجزة) محاولين رصد ملامح الكتابة عن منال رضوان، وكيفية بناء القصة بناء فكريا ولغويا، وكيفية تشكيل الرؤية وإنتاج الدلالة من خلال الحديث عن العنوان بوصفه مفتاحا تأويليا، وكذلك الحديث عن البناء الرأسي للقصة، والبناء الأفقي، وملامح كل منهما للوصول إلى التعرف على جانب من جوانب الكتابة عند الكاتبة.
العنوان وعالم النص:
من نافلة القول أن العنوان عتبة الولوج الأولى إلى عالم النص ودسائسه غير الممكنة، كما أنه المرسلة المشفَّرة بين المبدع والنصِّ من جهة والقارئ والنص من جهة أخرى، ومن ثم فإن تفكيك العنوان يساعد في الدخول إلى عالم النص، والكشف عن دلالات الخطاب وأسراره، وهذا يدل على أن للعنوان أهمية خاصة بالنسبة للعمل الأدبي، ومتلقي هذا العمل في الوقت نفسه؛ فالعنوان – كما يرى البعض – يكتسب أهميته المائزة من حيث كونه نصا قصيرا أما العمل الأدبي فهو النص الطويل، وانطلاقا من هذا المنظور سوف نتوقف أمام العنوان في قصة (من وحي ليلة عاجزة) للكاتبة منال رضوان كأحد العلامات الدالة على فهم النص، محاولين – قدر جهدنا – الوصول إلى الدلالة المتخفية خلف شبكة العلاقات اللغوية المنسوجة في النص، من خلال التفاعل الحيِّ والديناميكي بين النص والقارئ؛ لأن القراءة عملية جدلية تسير في اتجاهين متبادلين من النص إلى القارئ ومن القارئ إلى النص.
فمن حيث التكييف النحوي واللغوي للعنوان فإنه جملة اسمية (قصة من وحي ليلة عاجزة) فالعنوان خبر لمبتدأ محذوف تقديره (قصة – بعض) والخبر هنا شبه جملة مكونة من حرف الجر (من) والاسم المجرور (ليلة) ثم تأتي الصفة (عاجزة) لتخصيص هذا المجرور (ليلة) ونلاحظ أن الكاتبة حذفت المبتدأ؛ لأن وجوده مفهوم من سياق الكلام، وأبقت على الخبر؛ إذ إنه الدال الحقيقي على الرؤية التي أرادت الكاتبة نسجها من خلال هذه القصة، وهنا لابد من تأمُّل مكونات هذا الخبر، وتفكيكه؛ للوقوف على دلالاته، ومدى ارتباطه بعالم القصة، وفي البداية نجد الكاتبة استخدمت حرف الجر (من) وله دلالات متعددة في اللغة، فإذا اعتبرنا أن المحذوف لفظ (بعض) فإن حرف الجر (من) هنا يدل على التبعيض، وهذا يعني أن ما حدث في القصة من أحداث ليس كل ما نتج عن تلك الليلة العاجزة، ولكنه بعض منها، أي أن ما ترويه القصة هو مجرد جزء مما استنتجته الأنا المبدعة من أحداث تلك الليلة العاجزة، وإذا اعتبرنا أن المبتدأ المحذوف تقديره لفظ (قصة – أحداث) فإن حرف الجر (من) يكون دالا على السببية، أي أن الأحداث التي وقعت في هذه القصة كانت بسبب تلك الليلة العاجزة، ونتجت عنها، ويؤيد الدلالتين السابقتين لحرف الجر (من) لفظ (وحي) أي ما أوحت به تلك الليلة، وقد وجدنا لفظ الوحي في المعاجم العربية يدور حول معان متعددة؛ إذ جاء (وَحْي، اسم، والجمع وُحِيّ – بضم الواو وكسر الحاء وتشديد الياء - مصدر وَحَى، الوَحْيُ : كلُّ ما أَلقيتَهُ إِلى غيرك ليعلَمَه، الوَحْيُ الإِلَهِيُّ : مَا يُوحِي بِهِ اللَّهُ إِلَى أَنْبِيَائِهِ مِنْ كَلاَمٍ لِعِبَادِهِ، ووَحْيُ الشُّعَرَاءِ : مَا يُوحَى بِهِ إِلَيْهِمْ فَيُلْهِمُهُمُ الشِّعْرَ، والوَحْيُ :الصّوتُ يكون في الناس وغيرهم، والوَحْيُ: الكتابُ، والوَحْيُ :المكتوبُ، والوَحْيُ :الكتابةٌ والحطُّ، والجمع وُحِيُّ، والوحي إلى الغير: تكليمه بكلام خفيّ الصوت، وأمين الوَحْي/ أمين وَحْي السَّماء: جبريل عليه السَّلام) ومعنى ذلك أننا حين نبتعد عن الدلالة الدينية نجد أن لفظ الوحي يدل على الكتابة كما يدل على المكتوب، ويدل كذلك على كل ما يُلْقى إلى الإنسان ليعلمه، كما يدل على الكلام الخفي، ويدل كذلك على ما يلهم الإنسان فيجعله يتصرف تصرفا معينا أو يقول قولا محددا، وهنا نعود إلى دلالة اللفظ في العنوان؛ إذ إن لفظ (وحي) الوارد في العنوان يحتمل كل الدلالات اللغوية لهذا اللفظ، فهو يحتمل أن يكون المكتوب في هذه القصة من وحي تلك الليلة العاجزة، كما يحتمل أن يكون ما حدث في تلك الليلة هو الذي أوحى للكاتبة بتدوين هذه القصة، كما يحتمل أن يكون ما دار في اللاوعي لدى الكاتبة في أثناء تلك الليلة هو الذي أوحى لها بكتابة تلك القصة، وفي جميع الأحوال لابد أن نربط تلك الدلالات بدلالة حرف الجر (من) التي سبق أن أشرنا إليها، ثم يأتي اللفظ الثالث في العنوان (ليلة) وهو لفظ نكرة، ونعرف أن النكرة تدل على العموم والشمول، أي أنها ليست ليلة محددة، ولكن تلك الليلة تم تخصيصها بلفظ آخر وهو النعت (عاجزة) ونعود إلى المعاجم العربية للوقوف على دلالة اللفظ، فقد ورد (عَجَز، اسم، مصدر عَجَزَ، وعَجز فعل من يعجَز، عجْزًا وعَجَزانًا فهو عاجز، والجمع عَجَزٌ، وعَجَزةٌ، والمفعول معجوز عنه، وعجَزَ عن الشَّيءِ: ضعُف ولم يقدر عليه، ومنه ما ورد في الحديث (اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ)، وعجَزَ الشَّخصُ: لم يكن حازمًا، وأَظْهَرَ عَجْزًا: أي ضَعْفاً، وهو عَدَمُ الْقُدْرَةِ عَلَى القِيَامِ بِعَمَلٍ مَّا، وفي علوم النفس عدمُ القدرة على أداء وظيفة ما، ويكون ذلك عادة من جرّاء ضرر أو ضعف يلحق البنية، وعجَّزَ الشَّخصُ: عجَز؛ هَرِم، أسنَّ وبلغ من العُمُر مداه، وعجَّزَه: عوَّقه، ثبَّطه، وعَجَّزَ فلانا: نسَبَهُ إلى العَجْزِ والخُرْق، وعجَّزه: نسبه إلى العَجْز وعدم الاقتدار، و أعجزه المرضُ عن الاستمرار في عمله أقعده، جعله غير قادرٍ على فعل شيء أعجزه الحادثُ عن المشي، - يُعجزه الغضبُ عن الكلام) ومن هنا نجد أن الدلالة تدور حول جانبين: الأول مادي وهو عدم القدرة على القيام بعمل ما، والثاني معنوي وهو ما ورد في علم النفس من أنه عدم القدرة على أداء وظيفة ما، ويكون ذلك جراء ضرر أو ضعف في البنية، ومن الملاحظ أن الدلالتين مرتبطتان، وهذا له أهمية كبيرة في فهم أحداث القصة، والوقوف على الرؤية الفكرية التي أرادت الكاتبة نسجها من خلال تلك الأحداث؛ فالعجز الوارد في القصة عجزان، مادي ومعنوي، وإذا كانت الليلة نكرة أي دالة على العموم والشمول في نطاق جنسها فإن النعت أيضا جاء نكرة؛ ليدل كذلك على العموم والشمول في نطاق جنسه، أي يدل على نوعيْ العجز المادي والمعنوي، ويتطابق نحويا مع المنعوت النكرة.
أما من حيث التكييف البلاغي للعنوان فإنه قد جاء جملة خبرية غير مؤكدة، وهذه الصفة سوف تكون فاعلة في تشكيل العلاقات اللغوية داخل النص والتي تتشكل بمقتضاها لعبة المعنى، أي أن نوعية الجملة من حيث خبريتها سوف تكون فاعلة في تشكيل المعنى العام للنص؛ إذ يتحول النص بذلك إلى خبر محمول من الكاتبة إلى المتلقي، ولكنه ليس خبرا بالمفهوم التقليدي للخبر وإنما همٌّ يؤرِّق الكاتبة، ويستحوذ على تفكيرها، وتريد من المتلقي أن يشاركها هذا الهمَّ، ويتحمل معها أعباءه.
إن الدلالة المباشرة للعنوان هي دلالة سلبية، ومؤطَّرة بملامح محدَّدة بدت من خلال استخدام اللفظ (عاجزة)؛ فهذا اللفظ قد دفعنا مباشرة إلى توقع أفق النص، وكما أشرنا سابقا أن العجز في العنوان غير محدد، وهذا يوسِّع أفق العجز، ويجعله يسير في اتجاهين متعانقين: المادي والمعنوي؛ ليشكلا جديلة واحدة، وقد أتاحت النكرة في لفظي (ليلة – عاجزة) هذا التعانق بين الاتجاهين في العجز، كما أتاحت خبرية الجملة/ العنوان الواردة دون توكيد جعْلَ هذا التوصيف/ العجز يبدو كأنه شيء ملموس لا يحتاج إلى توكيد، أي أنه شيء واضح للعيان، ومن ثم فإن توكيده لا معنى له. وكأن النص أراد منذ البداية أن يضع المتلقي في بؤرة تفكيره بأن يأخذ الدلالة مأخذا مباشرًا من خلال دلالة الألفاظ الواردة، وأنه أراد زيادة في المعنى من خلال الزيادة في المبنى بإيراد لفظ (عاجزة) لتكون محور الأحداث، وتعطيها توصيفا بالسلب.
البناء الرأسي للنص:
تحدثنا في بداية هذه الدراسة عن ملامح القصة القصيرة عند منال رضوان، وكشفنا عن المعنى اللغوي والتكييف النحوي والبلاغي للعنوان/ من وحي ليلة عاجزة، لنخلص إلى أن النص قد نجح من خلال استخدام آلية العنوان في الكشف عن الدلالة، وتعانقت العناصر الثلاثة التي تحدثنا عنها – المعنى اللغوي والتكييف النحوي والتكييف البلاغي – في الولوج إلى عالم النص، ومحاولة اكتشاف أسراره ودسائسه، والسباحة بين عوالمه الداخلية، وفي هذا الجزء نتحدث عن حركة المعنى والبناء الرأسي للنص، والمقصود بالبناء الرأسي للنص كيفية تشكُّل المعنى جزءا بعد جزء داخل النص بحيث يؤدي كل جزء دوره في تشكيل المعنى، ويقود إلى الجزء الذي يليه حتى يكتمل المعنى، وتنغلق الدلالة، وينتهي النص، وتتكشَّف ملامح الرؤية الفكرية التي يريد المبدع مشاركتها مع المتلقي، والتأثير فيه، ودفعه إلى الانحياز، إيجابا أو سلبا، وهنا يمكن تخيُّل النص بناء يقود كل طابق فيه إلى الطابق الذي يليه، فإذا ما انتهى البناء تجلت ملامحه الكلية، وبدا للناظرين، فينحازون له أو عليه، ومن المهم أن نشير إلى أننا سوف نتوقف أمام لغة النص، وهي المادة الخام التي يتشكل منها، فنصف تلك اللغة من حيث الحقيقة والمجاز، ودورهما في إنتاج الدلالة، ونصفها كذلك من حيث خبريتها وإنشائيتها، ومن حيث اسميتها وفعليتها، وغير ذلك من توصيف للمادة الخام التي يتشكل منها النص، كما نتوقف أمام طريقة البناء/ الصياغة، ومفردات هذا البناء من حيث التقديم والتأخير، والتعريف والتنكير، والطول والقصر، والإيجاز والإطناب، وغير ذلك من آليات البناء للنص، كما نتوقف أمام اختيار الصيغ الصرفية المحدَّدة، وتأثيرها على بناء النص، والكشف عن المعنى، ومن ثم إنتاج الدلالة.
ويمكن تقسيم النص من خلال هذه الزاوية البحثية إلى أربعة أقسام يتحرك من خلالها المعنى صعودا وهبوطا ناسجا ملامح الرؤية الفكرية المتخفية وراء شبكة العلاقات اللغوية، وآلية السرد التي اتبعها النص، وفي كل قسم تنفتح الدلالة على زاوية من زوايا الرؤية؛ لتتكشف ملامح جديدة، أو تتعمق ملامحُ أشير إليها من قبل إيجازا أو تفصيلا، ففي القسم الأول يقول النص: (ألقيت بجسدي على سرير أسود، مستندة إلى يد ستينية هادئة، طمأنتني بابتسامة منهكة وشرعت في مناداة الطبيب، حالتي الصحية غير مستقرة، أعلم هذا قبل وقت طويل، ولم أكترث، لكنني كإجراء روتيني أخبرت الطبيب عن معاناتي إثر جلطتين سابقتين، شَخَص الشاب إليّ، وفي صمت حاول تغليف قلقه بابتسامة واجبة لزائرة جديدة إلى ردهات قسم الطوارئ في إحدى الليالي الخريفية). يحاول النص في البداية رسم الإطار العام الذي سوف يتحرك فيه المعنى، وقد اشتمل هذا الإطار على شخصية منهكة ومريضة وحالتها الصحية غير مستقرة، وتعاني من آثار جلطتين سابقتين، وعلى امرأة ستينية هي الممرضة التي استقبلتها في قسم الطوارئ، وعلى الطبيب وهو شاب متماسك بحكم عمله؛ إذ وصفه النص بأنه يحاول تغليف قلقه بابتسامة واجبة، واستخدام لفظ (واجبة) دال في مكانه على طبيعة عمله؛ إذ إنه لا ينبغي أن يبرز قلقه تجاه حالة المريض الصحية؛ حتى لا يصل هذا القلق إلى المريض فتزداد معاناته، أو يتضاعف مرضه، أو يدب اليأس إلى نفسه، أما من ناحية المكان فهو قسم الطوارئ في إحدى المستشفيات، وأما الزمان فهو إحدى الليالي الخريفية، ومعنى ذلك أن النص قد حدد عناصر القصة منذ البداية، ورسم الإطار العام الذي سوف تتحرك فيه الأحداث؛ كي يعطي المتلقي صورة بانورامية ترتسم في ذهنه عن أحداث هذه القصة، فيتوقع أفقا للنص الذي يتلقاه، ولكننا نلاحظ أن النص قد حدد الشخصيات (المريضة – المرأة الستينية – الطبيب الشاب) تحديدا يمكن للمتلقي أن يتصوره، وإن لم يذكر الأحداث، ولكنه في حديثه عن المكان قال (ردهات قسم الطوارئ) ولم يحدد في أي مستشفى، ولا في أي مدينة أو حيّ يمكن أن نتصوره؛ لأن تحديد الحي أو المدينة يجعل المتلقي يتخيل طبيعة المريضة، ونوع الخدمة التي يمكن تقديمها من حيث الجودة أو الإهمال، ولكن يبدو أن ذلك غير مهم بالنسبة للقصة؛ حيث إنها لن تعالج هذه الزاوية من الأحداث، وينطبق ذلك أيضا على الزمان؛ إذ لاحظنا كذلك عدم تحديد الزمان بصورة واضحة؛ حيث قال النص (في إحدى الليالي الخريفية) وهو ما يوحي بأن ذلك لن يكون له تأثير على الأحداث، أو لن يكون له دور في سير الأحداث، أو الكشف عن زوايا الرؤية الفكرية التي تتشكل في النص، ويمكن أن يطلق على هذا القسم الأول من النص التهيئة، وهو مصطلح من مصطلحات علم السرد، وقد عرَّفه علماء السرد بأنه "عنصر سردي لا تظهر أهميته عندما يذكر لأول مرة، ولكنها تظهر فيما بعد، أو بذرة سردية لا تظهر أهميتها في حينه .... والتهيئة يجب ألا يحدث خلط بينها وبين التمهيد ... التمهيد وحدة سردية تشير مسبقا إلى مواقف أو أحداث ستحدث وتحكى فيما بعد" (جيرالد برنس، المصطلح السردي، ص 20، 21) ثم ينتقل النص بعد ذلك إلى القسم الثاني وهو القسم الأشد أهمية في القصة، ويمكن تقسيمه إلى أربعة أجزاء، في الجزء الأول نجدنا في ارتباط غير منطقي ظاهريًّا بين القسم الأول وبداية القسم الثاني، ولكننا إذا تأملنا هذا القسم قليلا نكتشف أن النص يأخذنا إلى الماضي؛ فالشخصية الرئيسية في النص/ المريضة تعود بالذاكرة إلى الماضي؛ إذ تقول (فجأة.. رأيت معاناته واختناقه من اللون الرمادي الممزوج بلون الدماء وقد جثمت فوق صدره، كان عجيبًا أن أشاهد بقع الدماء بوضوح على رداء أزرق يرتديه.. لكن، كيف رأيت هذا؟!) وهو ما يسمى تيار الوعي؛ إذ تنتقل الشخصية من زمن إلى زمن، فالحالة التي تعاني منها تدفعها إلى العودة إلى ماضيها الذي ما زال يهيمن على عقلها ويتحكم فيه، ويحضر ناسجا خيوطه كلها عند تشابه اللحظات في حياة الشخصية، فمن الواضح أن اللحظة الآنية التي تمر بها الشخصية/ المريضة تتشابه مع اللحظة الماضية التي حضرت بقوة في هذا القسم من المقطع الثاني، ولكننا نلاحظ أن النص يسوق هذا المشهد غامضا إلى حد ما؛ وهو ما يتناسب مع بداية تشكُّل حضوره في ذهن الشخصية/ المريضة؛ فإذا كان المقطع الأول محددا من حيث الشخصيات (المريضة – المرأة الستينية – الطبيب الشاب) فإن هذا المشهد غير محدد، فمن تقصد بقولها (رأيت معاناته واختناقه من اللون الرمادي الممزوج بلون الدماء وقد جثمت فوق صدره)؟ وأين يقع هذا الحدث؟ هي أشياء غير محددة في البداية، وهو ما يتناسب مع طبيعة المشهد، وبداية حضوره، ثم يأتي أسلوب الاستفهام التعجبي المسبوق بأداة الاستدراك (لكن) في قولها (ولكن.. كيف رأيت ذلك؟!) من المفترض أن يكون السؤال هنا عن الكيفية، أي الهيئة التي رأت بها هذا المشهد، ولكننا حين نتأمل طبيعة السؤال وسير الأحداث نكتشف أن السؤال ليس عن الهيئة، وإنما عن السبب الذي جعلها ترى ذلك، ومن المفترض في سؤال الكيفية أن تكون الإجابة تحديد الهيئة التي رأت بها هذا المشهد، ولكن طبيعة المشهد تدل على أن السؤال عن السبب الذي دفعها إلى رؤية ذلك، على أن قائلا يمكن أن يقول إن السؤال عن الكيفية هنا سؤال منطقي، كما أن الأحداث تدل على أنه مقصود؛ إذ إن الجزء الثاني من هذا القسم يتحدث عن كيفية رؤية الأحداث أي الهيئة التي وقعت بها، فتقول (وجهت بصري صوب الحوائط الكثيرة التي تحتجزني، وجدتها تنظر إلى الجميع مبتسمة ساخرة؛ إثر محاولات دؤوب من المرأة المتعبة إعادة اللون الأبيض إلى سابق عهده، لكنه أبدًا لا يعود... كيف لي أن أشاهد هذا الكم من الأسنان المهشمة، وقد انغرست في جدران الحوائط؟ أنا لا أحلم؛ فأنا واعية لكل ما يدور حولي، غير أن الصور باتت أشد وضوحًا أو.... التباسًا! ... لا أعرف)، والحقيقة أن النص هنا بدأ يتخذ آلية أخرى في السرد وهو ما يطلق عليه تيار الوعي، وهو مصطلح ابتدعه وليم جويس؛ ليصف الطريقة التي يقدم بها الوعي نفسه، وقد عرَّفه جيرالد برنس بأنه "أحد أنماط الخطاب المباشر الحر، أو المونولوج الداخلي الذي يحاول تقديم اقتباس مباشر للذهن، أو هو أحد صيغ تقديم الوعي البشري بالتركيز على التدفق العشوائي للفكر، والتأكيد على طبيعته غير المنطقية" (جيرالد برنس، قاموس السرديات، ص 189) وقد عرفه لطيف زيتوني في كتابه معجم مصطلحات نقد الرواية بأنه "عبارة أطلقها عالم النفس وليم جيمس ليعبر عن الانسياب المتواصل للأفكار والمشاعر داخل الذهن، واعتمدها نقاد الأدب من بعده لوصف نمط من السرد الحديث يعتمد هذا الشكل الانسيابي في إبراز تجربة الفرد الداخلية، ولم تقتصر على نقل الأفكار بل أفسحت المجال أمام الاستبطان فنقلت الانفعالات والأحاسيس والذكريات والاستيهامات" (لطيف زيتوني، معجم مصطلحات نقد الرواية، ص 66) ومعنى ذلك أن تيار الوعي يدل على "الصياغة السردية التي يعتمد فيها المؤلف بشكل أساسي على وصف الحياة النفسية الداخلية لشخصيات نصه السردي، بصورة تقلد حركة التفكير التلقائية التي لا تخضع لمنطق معين، ولا لنظام تتابع خاص، فتيار الوعي إذن هو طريقة في الكتابة السردية تقدم أفكار الشخصية ومشاعرها في شكلها العشوائي" (د. يوسف حطيني، مصطلحات السرد في النقد الأدبي، ص 75) ومن الملاحظ في هذا القسم التدفق العشوائي للفكر، من خلال الانسياب المتواصل للأفكار والمشاعر والانفعالات والأحاسيس والذكريات والاستيهامات داخل الذهن، وهذا الشكل الانسيابي في إبراز التجربة الداخلية للشخصية في النص السردي يصف الحياة النفسية الداخلية للشخصية بصورة تقلد حركة التفكير التلقائية التي لا تخضع لمنطق معين، ولا لنظام تتابع خاص، ففي البداية تحضر صورة المعاناة والاختناق من اللون الرمادي الممزوج بلون الدماء في قولها (فجأة.. رأيت معاناته واختناقه من اللون الرمادي الممزوج بلون الدماء وقد جثمت فوق صدره، كان عجيبًا أن أشاهد بقع الدماء بوضوح على رداء أزرق يرتديه) وهذا مشهد يحضر بقوة في يؤرة الذهن في أثناء أن كانت الشخصية/ المريضة مستلقية على السرير مستندة إلى يد امرأة ستينية هادئة، التي طمأنتها بابتسامة منهكة وشرعت في مناداة الطبيب، ثم بعد ذلك تحضر صورة أخرى ننتقل فيها إلى مشهد آخر عبرت عنه القصة بقولها (وجهت بصري صوب الحوائط الكثيرة التي تحتجزني، وجدتها تنظر إلى الجميع مبتسمة ساخرة؛ إثر محاولات دؤوب من المرأة المتعبة إعادة اللون الأبيض إلى سابق عهده، لكنه أبدًا لا يعود، كيف لي أن أشاهد هذا الكم من الأسنان المهشمة، وقد انغرست في جدران الحوائط؟ أنا لا أحلم؛ فأنا واعية لكل ما يدور حولي، غير أن الصور باتت أشد وضوحًا أو.... التباسًا! لا أعرف) فهل كانت الشخصية/ المريضة في هذا المشهد تتحدث عن واقعها الآني لحظة استلقائها على السرير مستندة على يد المرأة الستينية أو أنها كانت تستدعي مشهدا آخر من موقف سابق حين كانت تعاني من جلطة؟ الحقيقة أن الاحتمالين واردان في هذا المشهد، وإذا ذهبنا إلى الاحتمال الأول وهو التعبير عن الواقع الآني لحظة الاستلقاء على السرير الأسود في ردهات قسم الطوارئ فإننا أمام حالة من الغيبوبة التي بدأت تسيطر على الشخصية/ المريضة، وفي هذه الحالة فإن القصة تصف واقعا آنيا للشخصية، وهو سرد عادي وتطور طبيعي في سير الأحداث في القصة، وإذا ذهبنا إلى الاحتمال الثاني، وهو أن يكون المشهد استدعاء لحالة سابقة مرت بها الشخصية/ المريضة، وكانت لحظة وجودها على السرير الأسود في ردهة قسم الطوارئ هي ما أثار الذهن فاستدعى ما مر من أحداث، ويؤكد ذلك العناصر التي دخلت في تشكيل المشهد نفسه (الحوائط الكثيرة التي تحتجزني – الحوائط تنظر إلى الجميع مبتسمة ساخرة – المحاولات دؤوب من المرأة المتعبة لإعادة اللون الأبيض إلى سابق عهده – الأسنان المهشمة، وقد انغرست في جدران الحوائط) فهذه العناصر هي تعبير عن هلوسات وانفعالات وأحاسيس وذكريات، وليست تعبيرا عن واقع آني، ثم يأتي المشهد الثالث في هذا القسم ليأخذنا إلى مساحة أبعد في حياة الشخصية/ المريضة، ففي أثناء الفحص، أو في أثناء أخذ عينات من الدم تستدعي الشخصية/ المريضة مرحلة أخرى من ماضيها (كريات ملونة تسبح وسط بحر من اللون الأحمر... للحظة ابتسمت وأنا أتذكر كرة مطاطية كنت ألهو بها على شاطئ البحر قبل زمن بعيد، ما لبثت أن وجدت أمي تحملها بين يديها وتمنحني إياها عقب جلوسها إلى جواري .. حاولتْ الإمساك بيدي المنشغلة باللهو بالكرة، وفي قلق تحسستْ أطراف أصابعي، تشبثتُ بها، وعبثًا حاولت إفلات أصابعها، كانت هي... هي أمي، لقد شعرت بالبرودة ذاتها التي غلفت جسدها يوم أن أغمضت عيني مستندة إلى كتفها في ليلة أخيرة) هل هذه الاستدعاءات تعبير عن الخوف من الرحيل كما رحلت الأم؟ هل هي بحث عن الأمان من خلال التعبير (حاولتْ الإمساك بيدي المنشغلة باللهو بالكرة، وفي قلق تحسستْ أطراف أصابعي، تشبثتُ بها، وعبثًا حاولت إفلات أصابعها) هذا التعبير الدال بوضوح على البحث عن الأمان ومحاولة التشبث بأي شيء تشعر من خلاله بالأمان؟ هل هذه الاستدعاءات محاولة للهروب من الواقع المؤلم إلى عالم الطفولة عالم البراءة المطلقة؛ ذلك أن الواقع الآني مؤلم ومليء بالمنغصات، إن كل هذه الاحتمالات واردة في هذا المشهد من القسم، ولكنها جميعا تعبر عن حالة غير مستقرة للشخصية/ المريضة، وقد عبَّرت القصة عن ذلك بوضوح في قولها (لقد شعرت بالبرودة ذاتها التي غلفت جسدها يوم أن أغمضت عيني مستندة إلى كتفها في ليلة أخيرة) إنه الخوف من الرحيل، والبحث عن الأمان، واحتضان لحظات الطفولة البريئة التي عاشت فيها الشخصية/ المريضة حياة آمنة مطمئنة، ثم يأتي المشهد الرابع من هذا القسم؛ ليجيب على الأسئلة السابقة، وتبدأ الدلالة في الانفتاح في قولها (كيف غلفت كلماتهم أوراق الشجرة الكبيرة، كيف استصرخ فحيحهم اللون الأخضر، فحوله إلى اللون الرمادي الجاثم فوق صدر الطبيب الشاب ومساعده، بل والحوائط والردهات، كل ما حولي يصطبغ الآن باللون ذاته عدا كرتي الملونة بألوان طفولية ساذجة) هي إذن هلوسات لحظة وجودها فوق السرير الأسود في ردهة الطوارئ، وتسترسل في استدعاء المشاهد من الذاكرة (يجب عليكِ النوم لسويعات قليلة قبل إتمام مراسم توديعها غدًا؛ سيكون يومًا طويلًا...... عاودت عباراتهم القاسية اختراق أذني، لكنها تشبه أصداء لحفيف الشجر أمام منزلي القديم، لقد تبينت الصوت وأعرف كيف أدققه ...... اللون البرتقالي يعني المرح، والأصفر، الأصفر يا أمي يعني العناد أو التمسك بأشياء لا قيمة لها، أليس كذلك؟ أحب لون السماء الصافية في دائرة تظلل كرتي، لكن كيف أتيتِ إلى هنا؟ ابتسمتْ.. وفجأة انتفضتُ، وقد عاودتني رؤى غائمة، ملتبسة، خافتة) هذه المشاهد تعبير واضح عن الخوف، وأكبر دليل على ذلك استدعاء صورة رحيل الأم، وما صاحب ذلك من أحداث رصدتها القصة، ويبدو أن الأم قد عانت كثيرا من الناس وطباعهم، وبدا ذلك في تعبيرات كثيرة أوردتها القصة (عاودت عباراتهم القاسية اختراق أذني – كيف استصرخ فحيحهم اللون الأخضر، فحوله إلى اللون الرمادي – كل ما حولي يصطبغ الآن باللون ذاته/ اللون الرمادي) وكلها تعبيرات تحمل دلالات سلبية على طبيعة المحيطين بالأم والتي يبدو أنها كانت تعاني منهم، وأن تلك الدلالات السلبية تسربت إلى البنت، واحتفظت بها في ذاكرتها، وتم استدعاؤها في تلك اللحظة القاسية التي خافت فيها من الرحيل مثل أمها، وسوف نتوقف أمام ذلك لاحقا، ثم يأتي القسم الثالث لتنفتح الدلالة أكثر، وتتكشف العناصر التي كانت غائمة، ويصل السرد إلى مرحلة من الوضوح أكثر (الفحص يظهر سلامة الأوعية من جلطة ثالثة، لكن يجب علينا المتابعة، والآن عن طريق المحاليل الطبية، سنحاول إعادة ضغط الدم إلى معدله... كانت أمي أول من همّ بمغادرة الغرفة عقب الاطمئنان إلى عودتي، حاولتُ الاحتفاظ بالكرة، فأومأت إليّ أنني في إمكاني الحصول عليها، ربما في وقت لاحق... لم تتكلم، لكنني سمعتها! الآن، أعرف ما الذي حدث) في البداية نلاحظ أن الأحداث تعود إلى تسلسلها الطبيعي؛ إذ إن الطبيب بعد الفحص يتحدث عن نتائجه (الفحص يظهر سلامة الأوعية من جلطة ثالثة، لكن يجب علينا المتابعة) ولكن انسيابية الأفكار والمشاعر مازالت مهيمنة على المشهد؛ فما إن سمعت الشخصية/ المريضة هذه الجملة حتى أخذتنا مرة أخرى لندخل عالمها اللاواعي (كانت أمي أول من همّ بمغادرة الغرفة عقب الاطمئنان إلى عودتي) لقد كانت أمها معها في كل مراحل الفحص، وحضور الأم هنا هو رمز للأمان الذي كانت تفتقده الشخصية/ المريضة، فلما شعرت بالاطمئنان لم يعد لوجود الأم معنى، ولكننا نلاحظ أيضا أن المريضة حاولت أن تحتفظ بشيء من طفولتها فكانت إشارة الأم بأن ذلك ليس ممكنا في الوقت الراهن (حاولتُ الاحتفاظ بالكرة، فأومأت إليّ أنني في إمكاني الحصول عليها، ربما في وقت لاحق... لم تتكلم، لكنني سمعتها) وهنا تصل الشخصية/ المريضة إلى حالة من الاستقرار، وقد بدا ذلك في قولها صراحة (الآن، أعرف ما الذي حدث) لننتقل بعد ذلك إلى القسم الرابع والأخير من القصة وفيه تلقي الضوء على عنصر آخر لم يكن موجودا في البداية، وهو الزوج الذي يبدو أنه كان مع زوجته/ المريضة منذ البداية، ولكن القصة لم تشأ أن تشير إليه لأسباب تتعلق بطبيعة السرد، ومراحل تطور الحكاية، وفي هذا الجزء من القسم الرابع تبدو ملامح جديدة في الحكاية تتكشف أبعاد يبدو أنها كانت سببا في استدعاء ما يشابهها في القسم الثالث (بعض الصراخ المكتوم لزوجي، استطاع بالكاد أن يصل إلى أذني، التفتُّ طالبة إليه رؤية بعض الأشخاص، أخبرني بأننا نوشك على الاقتراب من الفجر، إصراري جعله يحاول... لكم شعرت بالاطمئنان عقب فشله في التواصل معهم! أخبرته أن ذلك لم يعد مهمًا بعد الآن، وطلبت إليه ألا يفعل مجددًا) ففي الجزء الأول من المشهد تعبير عن الحالة التي كانت فيها وهي حالة عدم التركيز والهلوسة وكان من نتائجها (بعض الصراخ المكتوم لزوجي، استطاع بالكاد أن يصل إلى أذني) وحين أدركت وبدأ الوعي يعود إليها طلبت من زوجها استدعاء بعض الأشخاص، ولكنه أخبرها أن الوقت غير مناسب فهم قد أوشكوا على الفجر (أخبرني بأننا نوشك على الاقتراب من الفجر) ولكن إصرارها دفعه إلى الاتصال بهم، وعندما فشل كانت المفاجأة أنها في قولها (أخبرته أن ذلك لم يعد مهمًا بعد الآن، وطلبت إليه ألا يفعل مجددًا) وهذا الطلب لا يتناسب مع الإلحاح الذي دفع زوجها إلى الاتصال بهم في وقت متأخر، ولكننا يمكن استنتاج أن هذا الطلب منها يمكن أن يفسره حديثها السابق عن الأم وما مرت به من أحاديث الناس (عاودت عباراتهم القاسية اختراق أذني – كيف استصرخ فحيحهم اللون الأخضر، فحوله إلى اللون الرمادي) فهل تذكرت أفعال الناس مع أمها وهي تتشابه مع أفعالهم معها فوجدت أنها ليست في حاجة إلى أن تمر بالتجربة نفسها فطلبت من زوجها عدم الاتصال بهم؛ لأنه لم يعد مهما، وعليه ألا يفعل مجددا؟ وهو ما عبرت عنه بقولها بعد هذه التجربة القاسية من المرض (لا حيلة لي بين هذه الخثرات التي تود أن تفترس عروقي، وبين بقعات تفترش روحي كل حين، حتى تستنزف طاقتي على المقاومة، أو لعلها تحاول صدّ ذلك الاستنزاف فتعمل على لفت انتباهي بوضع نقطة جديدة في حياتي، لانتهاء صفحات، أو سطور، أو كلمات، أو حروف، أو.. أشخاص) لقد بدت الشخصية راغبة عن الأشخاص الذين ربما وجدت أنهم غير مناسبين لها بعد هذه التجربة القاسية، وربما كانوا سببا في هذه التجربة التي كادت أن تقودها إلى جلطة ثالثة، ولكنها نجت منها، ولعل ما يؤكد هذا التأويل ما قالته بعد ذلك (اعتدت الألم، ولم يعد يزعجني؛ فالألم تجربة قاسية لا يفوقها مرتبة سوى الخذلان) فهي لا تخشى الألم؛ لأنها اعتادت عليه رغم أنه تجربة قاسية، ولكن الذي يؤلمها حقا هو الخذلان، فهل كان دخولها إلى المستشفى نتيجة الخذلان؟ يبدو كذلك، وإذا صح هذا التأويل فإن استدعاء الأحداث والشخصيات لحظة هذيانها كان منطقيا؛ فهي تستدعي من مخزونها في الذاكرة ما يؤلمها، وما يتناسب مع اللحظة الآنية التي تتحكم فيها، وقد عبرت الشخصية/ المريضة عن ذلك صراحة في قولها (لم أتعرف إلى الموت بعد، وإن كان قريبًا جدًا هذه المرة؛ لكنني أدركت أن الخذلان هو الموت بعينه، كما تعلمت أنه كلما ارتفعت مراتب الألم، قلَّ الصراخ والنحيب؛ ولذا فأنا أتألم كثيرًا، حتى بت أجيد التألم حد الصمت) اتضح إذن أن معاناتها الحقيقية ليست من المرض أو الألم ولكنها تعاني من الخذلان، وهنا يبدو أن تجربة المرض كانت نتيجة الخذلان الذي تعرضت له، وهنا تعود الأمور إلى طبيعتها (عادت الأصوات إلى طبيعتها، وعدت إلى لمسات العجوز الطيبة، وقد ألقيت بجسدي على السرير الأسود مرة أخرى مستندة إلى يدها؛ لمنحي المحاليل اللازمة) وتتحدث الشخصية/ المريضة إلى الطبيب الشاب، وتقرر أنها سوف تكتب تجربتها، لتصل القصة بذلك إلى لحظة الانكشاف الحقيقية للرؤية الفكرية التي أرادت القصة التعبير عنها، وهي أن الخذلان يتساوى مع الموت، بل هو الموت الحقيقي، وأننا لابد أن نكتب عن تجاربنا؛ لأن الكتابة تمنحنا الحياة، وهنا نعود إلى العنوان مرة أخرى؛ لنكتشف أنه كان يختزل تجربة القصة كاملة؛ فعندما عبَّر العنوان (من وحي ليلة عاجزة) عن ليلة عجزت فيها عن الحركة، وأوشكت على جلطة ثالثة وجدنا خاتمة القصة تحدثنا عن أن الشخصية/ المريضة سوف تكتب تجربتها وبذلك يتطابق عنوان القصة مع خاتمتها فيشكل كل منهما قوسا تقع بينهما أحداث القصة.
. لقد لاحظنا الحركة التصاعدية للمعنى في النص، وكيف استطاعت الكشف عن ملامح الرؤية الفكرية المتخفية وراء شبكة العلاقات اللغوية، وسوف نتحدث في الجزء الثاني من الدراسة عن البناء الأفقي للنص، وكيف تشكلت الدلالة من خلال بناء الجمل البسيطة والمركبة، ومن خلال التشكيل البلاغي/ الصورة للمشاهد الواردة في النص؛ لتكون بذلك شبكتان من العلاقات تتآزران في الكشف عن المعنى، هما شبكة العلاقات اللغوية، وشبكة العلاقات البلاغية.
ألقيت بجسدي على سرير أسود، مستندة إلى يد ستينية هادئة، طمأنتني بابتسامة منهكة وشرعت في مناداة الطبيب، حالتي الصحية غير مستقرة، أعلم هذا قبل وقت طويل، ولم أكترث.
لكنني كإجراء روتيني أخبرت الطبيب عن معاناتي إثر جلطتين سابقتين، شَخَص الشاب إليّ، وفي صمت حاول تغليف قلقه بابتسامة واجبة لزائرة جديدة إلى ردهات قسم الطوارئ في إحدى الليالي الخريفية.
فجأة.. رأيت معاناته واختناقه من اللون الرمادي الممزوج بلون الدماء وقد جثمت فوق صدره، كان عجيبًا أن أشاهد بقع الدماء بوضوح على رداء أزرق يرتديه..
لكن، كيف رأيت هذا؟!
وجهت بصري صوب الحوائط الكثيرة التي تحتجزني، وجدتها تنظر إلى الجميع مبتسمة ساخرة؛ إثر محاولات دؤوب من المرأة المتعبة إعادة اللون الأبيض إلى سابق عهده، لكنه أبدًا لا يعود.
كيف لي أن أشاهد هذا الكم من الأسنان المهشمة، وقد انغرست في جدران الحوائط؟
أنا لا أحلم؛ فأنا واعية لكل ما يدور حولي، غير أن الصور باتت أشد وضوحًا أو.... التباسًا!
- لا أعرف.
كريات ملونة تسبح وسط بحر من اللون الأحمر... للحظة ابتسمت وأنا أتذكر كرة مطاطية كنت ألهو بها على شاطئ البحر قبل زمن بعيد، ما لبثت أن وجدت أمي تحملها بين يديها وتمنحني إياها عقب جلوسها إلى جواري.
حاولتْ الإمساك بيدي المنشغلة باللهو بالكرة، وفي قلق تحسستْ أطراف أصابعي، تشبثتُ بها، وعبثًا حاولت إفلات أصابعها، كانت هي...
هي أمي، لقد شعرت بالبرودة ذاتها التي غلفت جسدها يوم أن أغمضت عيني مستندة إلى كتفها في ليلة أخيرة.
يجب عليكِ النوم لسويعات قليلة قبل إتمام مراسم توديعها غدًا؛ سيكون يومًا طويلًا......
عاودت عباراتهم القاسية اختراق أذني، لكنها تشبه أصداء لحفيف الشجر أمام منزلي القديم.
لقد تبينت الصوت وأعرف كيف أدققه، أتعجب، كيف غلفت كلماتهم أوراق الشجرة الكبيرة، كيف استصرخ فحيحهم اللون الأخضر، فحوله إلى اللون الرمادي الجاثم فوق صدر الطبيب الشاب ومساعده، بل والحوائط والردهات، كل ما حولي يصطبغ الآن باللون ذاته عدا كرتي الملونة بألوان طفولية ساذجة:
اللون البرتقالي يعني المرح، والأصفر، الأصفر يا أمي يعني العناد أو التمسك بأشياء لا قيمة لها، أليس كذلك؟
أحب لون السماء الصافية في دائرة تظلل كرتي، لكن كيف أتيتِ إلى هنا؟
- ابتسمتْ.. وفجأة.
انتفضتُ، وقد عاودتني رؤى غائمة، ملتبسة، خافتة.
الفحص يظهر سلامة الأوعية من جلطة ثالثة، لكن يجب علينا المتابعة.
والآن عن طريق المحاليل الطبية، سنحاول إعادة ضغط الدم إلى معدله.
كانت أمي أول من همّ بمغادرة الغرفة عقب الاطمئنان إلى عودتي، حاولتُ الاحتفاظ بالكرة، فأومأت إليّ أنني في إمكاني الحصول عليها، ربما في وقت لاحق.
لم تتكلم، لكنني سمعتها!
الآن، أعرف ما الذي حدث..
بعض الصراخ المكتوم لزوجي، استطاع بالكاد أن يصل إلى أذني، التفتُّ طالبة إليه رؤية بعض الأشخاص، أخبرني بأننا نوشك على الاقتراب من الفجر، إصراري جعله يحاول.
لكم شعرت بالاطمئنان عقب فشله في التواصل معهم!
أخبرته أن ذلك لم يعد مهمًا بعد الآن، وطلبت إليه ألا يفعل مجددًا.
عادت الأصوات إلى طبيعتها، وعدت إلى لمسات العجوز الطيبة، وقد ألقيت بجسدي على السرير الأسود مرة أخرى مستندة إلى يدها؛ لمنحي المحاليل اللازمة.
لساعتين عالقة أنا هنا، لا حيلة لي بين هذه الخثرات التي تود أن تفترس عروقي، وبين بقعات تفترش روحي كل حين، حتى تستنزف طاقتي على المقاومة، أو لعلها تحاول صدّ ذلك الاستنزاف؛ فتعمل على لفت انتباهي بوضع نقطة جديدة في حياتي، لانتهاء صفحات، أو سطور، أو كلمات، أو حروف أو.. أشخاص. لا أعلم.
اعتدت الألم، ولم يعد يزعجني؛ فالألم تجربة قاسية لا يفوقها مرتبة سوى الخذلان.
لم أتعرف إلى الموت بعد، وإن كان قريبًا جدًا هذه المرة؛ لكنني أدركت أن الخذلان هو الموت بعينه، كما تعلمت أنه كلما ارتفعت مراتب الألم، قل الصراخ والنحيب؛ ولذا فأنا أتألم كثيرًا، حتى بت أجيد التألم حد الصمت.
ولكن ربما عليّ الآن أن أبتسم في وجه الطبيب ومساعده، كم بدت عليهما أمارات الارتياح، أخبرني الشاب أنه سيتابعني ويقرأ ما أكتب، وأخبرته لحظتها أنني سأكتب عن تجربتي تلك.
صرخ مازحًا:
_ أي كتابة ستكتبين؟ ألا يمكنكِ النوم والراحة؟!
ابتسم، بعد أن منحته وعدي الذي صدقه، وابتسمت أنا أيضًا؛ لأنني أجيد الابتسام.. أجيده حد الصمت.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى