عبد الرزاق دحنون - هل يأكل الطَّاغية شوكولاتة مع أولاده؟

(قال عمر بن الخطاب لعمرو بن العاص عامله على مصر، وكان ابنه قد ضرب قبطياً سابقه فسبقه: يا عمرو، متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً)

تُرى كيف ينسج "الطَّاغية" رداءه؟ وكيف يطرز قميصه ويشكّل يديه ولسانه وأنفه ثم جسده كي يكون في خدمة الآلة الكبرى التي تطحن القيم الإنسانية في الفرد؟ أي قوة وأي قسوة وأي وحشية لابن الوطن وهو يعذب ابن وطنه؟ أي سرداب موحش هذا الذي يُدخل فيه رعيته فيحوّلها لكتلة من آلام لا تدمرها فقط، ولكنها تمنع وجودها، وهي لا تستبدها، ولكنها توهنها كي لا تكون شيئاً أكثر من قطعان حيوانات خائفة مذعورة؟ هل يحوّل "الطَّاغية" الوطن برمته إلى ثكنة عسكرية كما فعل هتلر أو مخفر شرطة كما فعل موسوليني أو مسلخ بشري كما فعل ياقوت أو عدنان؟ كيف يُمارس "الطَّاغية" الحُبَّ؟ وكيف يُنجب أولاداً؟ أيَّة رائحة لبيته؟ ما لون سريره ومخدته؟ ما نوع الأزهار المرسومة على شرشفه؟ ما شكل لحافه الذي يلتحفه في الشتاء؟ ما نوع اللهفة المتوحشة في الأنفاس اللاهثة للجنس والسرير الأنثوي؟ هل يجلب "الطَّاغية" شوكولاتة ليأكلها مع أولاده؟ ما طعم قبلته على خد زوجته؟ ما شكل تعابير وجهه في المرآة وقت الحلاقة؟ هل يستحّم بماء أم حليب أم دم؟

بعض هذه التساؤلات اللجوجة الجارحة أطلقها المسرحي العراقي المتميز "جواد الأسدي" في قراءة نص مسرحي قام بإخراجه من تأليف سعدالله ونوس وقد استخلصتها من سياقها وسقتها هنا بتصرف لأصل إلى كتاب "الطَّاغية".

بَسَطَ الأستاذ الدكتور "إمام عبد الفتاح إمام" في كتابه الخطير هذا درساً فلسفياً لصور من الاستبداد السياسي عبر حقب تاريخية مديدة. ولخطورة أفكار الكتاب وجرأتها طُبع مرات عدَّة وصادرت طبعاته وزارات الثقافة في الدول العربية حتى الطبعة الأولى المحترمة التي صدرت عن سلسلة "عالم المعرفة" الكويتية والتي لا نعلم عدد نسخها لم تصل هي الأخرى إلى معظم القراء العرب. يتساءل المؤلف في مقدمة كتابه: من يجرؤ على القول في حضرة "الطَّاغية" ما بقي متربعاً على كرسي الحكم؟ نعم، من يجرؤ على القول يا سادتي في عهد هتلر أو موسو ليني أو فرانكو؟ فإذا ما تنفس الناس الصعداء بعد زوال هذا "الطَّاغية" أو ذاك، نسوا، أو تعمدوا نسيان تلك الأيام السوداء التي عاشوها في ظله، وظنوا -واهمين- أنها ذهبت إلى غير رجعة. مع أن الأمر مختلف عن ذلك أتم الاختلاف، لأن طول ألفة الفرد مع "الطَّاغية" لم يعُد يجد -أي الفرد- معها حرجاً ولا غضاضة في الحديث اليومي عن محاسن وما فعله من أجلهم من جليل الأعمال. فحتى لو افترضنا صحة هذه المحاسن فما قيمتها إذا كان ثمنها تدمير الإنسان وتحطيم قيمه وتحويل جماهير الشعب الغفيرة إلى جماجم وهياكل عظمية تسير في طول البلاد وعرضها منزوعة الضمير والوجدان، شخصيات تافهة تطحنها مشاعر الدونية والعجز، حقيرة النفس، منخورة العزيمة؟

في النظريات السياسية القديمة والحديثة هناك فكرة واحدة لا خلاف عليها هي أن حكم "الطَّاغية" هو أسوأ أنواع الحكم وأكثرها فساداً، لأنه نظام يستخدم السلطة استخداماً فاسداً، فينتج الفساد العام (كو-را-بشن) Corruption كما يسيء استخدام العنف ضد الموجودات البشرية والحيوانية والنباتية وحتى الجمادات التي تخضع له. وقد لا حظ أرسطو بحق أنه" لا يوجد رجل حر قادر على تحمل مثل هذا الضرب من الحكم، إذا كان في استطاعته أن يهرب منه" فالإنسان الحر لا يتحمل مثل هذه الأشكال التعسفية من الحكم، إلا مرغماً، أي إذا سُدتْ أمامه كل أبواب الانعتاق. لذلك فإن عبارة أرسطو تُعبّر بدقة عن أولئك الذين يعشقون الحرية، ويمقتون العبودية، وينظرون إلى الطُّغيان على أنه تدمير للإنسان لأنه يُحيل البشر إلى عظام نخرة. والمستبد يرغب في أن تكون رعيته كالغنم دوراً وطاعة، وكالكلاب تذللاً وتملقاً، والمثل الصيني يقول: "ليس أمام الغنم اختيار عندما تكون بين براثن ذئب" ولا شك أن الاستبداد يهدم إنسانية الإنسان، والطُّغيان يُحيل البشر إلى عبيد، وإذا تحوَّل الناس إلى عبيد أو حيوانات مذعورة فقدوا قيمهم، فلا إخلاص، ولا ضمير، ولا وجدان، ولا أمانة، ولا صدق، ولا شجاعة، بل كذب، ونفاق، وتملق، ورياء، وتذلل ومداهنة ومحاولة للوصول إلى الأغراض والغايات من أحط السبل وأقذرها.

يتحول المجتمع في ظل "الطَّاغية" إلى عيون وجواسيس يرقب بعضها بعضاً، ويُرشد بعضها عن البعض. وليس بخاف ما نراه في الكثير من المجتمعات العربية من أخ يُرشد عن أخيه، وجار يكتب تقارير عن جاره، ومرؤوس يكتب زيفاً عن رئيسه. ومهما أنجز "الطَّاغية" من أعمال، ومهما قام من بناء ورقي جميل في ظاهره، فلا قيمة لأعماله، إذا يكفيه أنه دمَّر الإنسان. ولو فكرنا في الأمر لوجدنا أن حكم "الطَّاغية" هو السبب الحقيقي وراء تخلفنا الفكري والعلمي والاقتصادي، وأن الاستبداد هو المصدر الأساسي لكل رذائل مجتمعاتنا من الناحية الخلقية والاجتماعية والسياسية، لأن المواطن إذا فقد حريته الفردية، أعني وعيه الذاتي أو شخصيته المستقلة، وأصبح مدمجاً مع غيره في كتلة واحدة لا تمايز فيها كما هو الحال في قطيع الغنم فقد ضاعت آدميته في اللحظة نفسها، وقُتل فيه الخلق والابداع وانعدم الابتكار، بل يصبح المبدع إن وجد، منحرفاً والمبتكر شاذاً وخارجاً عن الجماعة. ومن ينظر في تكوين شخصية "الطَّاغية" ويسبر أغوار هذه النفس الآثمة يجد خواء يسده البطش. حقيرة هي نفس "الطَّاغية" التي تبطش بالأشياء والأحياء بطش الصبيان.

كتاب "الطَّاغية":

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى