محمد عمار شعابنية - زكريا عيساوي شاعر كبير رغم سِنّه الصغيرة

في الوقت الذي تشتكي فيه الكتابات ألأدبية من الإهمال والتخلّي عن شراء كتب أصحابها وتقلّص تشجيعها وتحوّل القراءة إلى فعل شحيح في وطننا العربي ، كثر انخراط بعض المولعين بالأدب شعرا وقصة ورواية وخاطرة أو نصّا مسرحيا في نشر نصوص أقلّ ما يقال عنها إنها تجارب شبابية لا يمكن التغافل عن تقييمها وتقويمها لأنها تعتبر إضافاتٍ وتواصلا للإنتاج حتى لا يختفي الموجود ولا يظهر ما هو جديد مثل ما حدث للأدب العربي الذي عانى من القطيعة والشّح في إبراز ما يَعِد بالإستمرارية منذ انتصاب الإمبراطورية العثمانية إلى أواخر القرن الثامن عشر.
ولا يشكّ مهتمّ بالأدب في أن للتجارب الجديدة ما يمكن قراءته بفكر فاحص لغربلة غثّه من سمينه والتنويه بنصوصة الواعدة والأخذ بأيدي وأفكار أصحابها ليصبحوا قادرين على شقّ طريقهم نحو التّميّز والحضور المثري .
وفي تونس برزت بالخصوص بعد انتفاضة جانفي 2011 كتابات متعددة تشيء بأنْ تعبّر عن مشاعر وأحاسيس أصحابها من الشبان وحتى اليافعين إزاء ما حدث ونقل مشاعر عموم المواطنين ، غير أن الأبرز منها بوضوح هو ما كتبه الشاعر الشاب زكريا عيساوي ونشره في مجموعة شعرية قبل أن يتجاوز العشرين من عمره تحت عنوان" شامة في خيالي " ، لأنه من مواليد 5/12/2003 ،على نفقته الخاصة في إحدى أكبر دور النشر بالبلاد .
وأنا بحكم علاقتي بالشعر وممارسة الكتابة فيه لا أشك في أن جُل القصائد البالغ عددها عشرين وثلاثة نصوص قد كتبها صاحبها في مرحلة تعليمه الثانوي لتحتل 125 صفحة من الأثر المنشور عِلما بأنّ زكريا بلغ نهائيات برنامج " أمير الشعراء " في دورته العاشرة.
لذلك علينا أن نقتنع بأننا في حالات إطلاع (على) وسماع ( لِـ) واستمتاع (بـ) غنائيات شاعر كبير رغم عمره الصغير، هذا إلى جانب قدرته على إلقاء أشعاره بما يستبي أسماع المتلقين.
هو شبيه بالفرنسي أرتور رامبوArthur Rimbaud الذي شرع في كتابة أشعاره منذ السادسة عشرة من عمره ونشرها في كتاب عند بلوغه العشرين سنة بعنوان " فصل في الجحيم"Saison en enfer قبل أن يتوقّف عن الكتابة بعده، وبأبرز شعراء الرومانسيةالإنجليزية جون كيتش Jean Kitsch الذي أقام بلاده وأقعدها بشره قبل أن تدركه المنيّة في السادسة والعشرين من عمره وبالتونسي إبو القاسم الشابي الذي ترك ديوان " أغاني الحياة " و" الخيال الشعري عند العرب " ويوميات الشابي " وغيرها قبل أن يتوفاه الأجل المحتوم في الخامسة والعشرين من عمره .
وإذ لاتنتظر التوَقّف عن الكتابة من زكريا عيساوي فإننا نتمنى له حياة مديدة إلى سن الشيخوخة التي لا يحتضنها أرذل العمر لنقرأ ويقرأ له من سيعيش بعدنا أحلى القصائد في مجاميع شعرية قادمة .
أما المجموعة الشعرية التي حرّضتني قراءة قصائدها على كتابة هذه الفقرات فإنها قد وضعتني إمام تجربة ناضجة لو قرأها غيري بعد إخفاء إسم صاحبها لأعتقد أنها لشاعر متمرّس على الكتابة منذ أكثر من عشر سنوات على أقلّ تقدير،إذ تتميّز نصوص الشاعر بانتقاء الكلمات والعبارات من قاموس شعري عتيد إلى جانب جزالة اللغة المستثمرة من طرفه وتعابيرها الباذخة وجَرّ الخيال الشعري ليحتضن الواقع ويفصح عنه بصُوَر وإيحاءات بديعة والإتكاء الصَّلب على مساند الحِكمة التي ظهرت جليّة ومضيئة في العديد من أبيات القصائد وانتقاء إيقاعات راقصة من البحور الخلياية حتى عندما تكون المواضيع موغلة في القتامة والخيبات المستقاة من واقع متأزم ومحبط والسّعي إلى تأصيل نمط تأليفي خاص .. كل ذلك وغيره يتبيّن من خلال جهد إبداعي يسعى الشاعر الشاب من خلاله إلى أن يسبق وقته بمشروعه ليلفت الأنظار نحوه في ما يقول ويُحبّر .
وقبل انخراطي في قراءة مجوعة زكرياء عيساوي الشعرية حاولت أن أجتاز عَتَبة الكتاب لأطّلع على القصائد قائمة على عنوان يتكوّن من جارّ ومجرور ويتهيّأ جارّه ملموسا وظاهرا وهو ( شامة ) بينما يظلّ مجروره هلاميّا ولا محسوسا وهو ( خيالي ) ويؤلفَا عبارة " شامة في خيالي " وسعيْت بعد اجتيار العتبة بصعوبة إلى أن أبحث عن قصيدة أو عنوان قصيدة يحمل ما ورد في الغلاف، ليقيني بأن أكثر من خمسة و تسعين في المائة من الشعراء والكتّاب عموما يستخرجون عناوين كتبهم ممّا ذكروه في نصوصهم، غير أني لم أعثر إلاّ على جملة قريبة من العنوان ورد ذكرها في الصفحة 25 من قصيدة ّ غزل يلُوح من المراثي " وهي ّكأنّ الفجر وشْم بخُلْده" كما أن كلمة وشم وردت عابرة مرّة أخرى في موضع آخر دون أن يكون لها مدلول يذكر ... وإذا كان عيساوي قد أكّد على أن الخيال يقين في بيت يقول :
ضجّة أخرى والقصيدة تنمو
لـيـلة أخرى والخـيال يقـيــنُ
فمن المسلَّم به هو أنه يعتبر الخيال خُلْدا يقينًأ ،والخُلد هو ما يرسم في الذاكرة من صدى أحداث فائتة واليقين هو حصيلة تفاعلات متواترة ينطلق من الخيال وتمرّ بالتصوّر التفكير إلى أن تصبح يقينًا وكأني بالشاعر يريد أن يقول إستنادا إلى مقولة أندري الكاتب الفرنسي جيد André Gide أستطيع أن أتصوّر عالما فيه إثنان مع إثنين تساوي خمسة Je peux concevoir un monde où deux plus deux font cinq.
وعليه فإنني أرى أن عنوان المجموعة الذي هوّ " يا وشمة في خيالي " يجوز أن يصبح " يا وشما بخلدي " أو " يا وشمة في يقيني " واليقين معطى شعوري ظاهر والوشمة فيه تعني العلامة والسمة التي تلازمه .ولا أشكّ في أنّ الشاعر على يقين من أنه أمام حالات بعضها مُرْبك وبعضها محرّض على الحُلم ومناشدة الهدوء والتفاؤل ، وفي مجموع قصائد الكتاب مكاشفات شعرية تؤكد ذلك .
فهل إستطاع تطبيق هذه المقولة ؟ فمن خلال القصيدة الأولى نتأكّد من الوجهة التي ولّى الشاعر فكره نحوها حين بدأ قصيدته الأولى " شاعر مـا " بهذه الأبيات
قادمًا من أحزانكم وهـواكـم
أتـحدّى جميـعَ مَن قـتـلـونــا
قلبيَّ المنفيُّ انـتـماءٌ لـفـجْــرٍ
لـحّض الكـون قُـبلةً وجـبـينا
شاعرٌ ما سيخلع الموْت عـنّا
ويُـقَـفّـي بــــلادَه اليـاسـمـينـا
رُبّــمــا يــنْـفـع الحنيـن ولــكـنْ
عـطَش الرّوح يـقْتَضي أنْ يكونَا
من قصيدة " شاعر ما ـ ص 29

فالأفعال المعلنة في هذا المقطع للقيام بها مشتقّة من : القدوم والتحدي والتلخيص والخلع وّالتقْفيّة وكلما أفعال تسعى إلى أن تجاوز ما هو موجود للوصول إلي ما هو مفقود .. فالقدوم يهدف إلى ترك الآحزان والأهواء الجوفاء والتحدي يرمي إلى استصغار كل القتلة والتلخيص يدلّ على احتواء الشيء دون إطالة الوقت أو الحدث والخلع يتوق إلى إلغاء ما هو واقع وهو الموت في هذه القصيدة والتقفية ترنو إلى إحلال شيء جميل مكان شيء قبيح ، ويدلّ ذلك في أن الشاعر يحِنّ إلى تخطّي كلّ كئبب ورتيب إلى معانقة كل ما هو هادئ ومريح ، غير أنّ ما ينشده زكريا عيساوي يحتاج إلى صبر وتضحيات ومزيد من الكراهية لِما هو مُشين وكثيرا ومن الحب لما هو نبيل . وا لملاحظ هو أن أحاسيس الشاعر إزاء ما ذكرته تتحرّك بين مَدّ وخزر كأنها أمواج إلا أنها لا تتكسّر مثل الموج بينما تظل محافظة على تماسكها حتى عندما يكتشف صاحبها أن هناك تناقضات في ما يتحرّك حوله أو يراه أو يلمسه أو يسمعه وهو يدرك أنّ تلك التناقضات لن يكون لها زوال إلاّ عندما تنتصر الجروح ليخرج أصحابها من الظلمة ،ويتطلّب ذلك كفاحا شجاعاوصـامـدا يغذّيه العشق بـــلادي يـا لِــقَـا حُـسْـن وحُــزْنٍ
كـمـا ظـمّ الصـليـبُ لـه المَسـيـحُ
هُـدُوءًا صـاخِـبـا وغـمـوض نُورٍ
وتَـشْـويـشًـا يُحَـرّكـه الـوضُـوحُ
رُوَيْــدَك إنّ هـذي الأرض قَـبْـــرٌ
إذا لـم تـنْـصـرْ فـيـهَـا الجُــروحُ
ولـمْ يعْـشـقْ شَـقِـيُّ القـوم فـيهـا
ولـمْ يـعـشـقْ ولـم تـسكُـنْـه رُوحُ
صص 20 و21 من قصيدة " عزل يلوح من المراثيّ

فالعـشـق شـعـور نـبـيـل ولا يُـمْـكنُ أنْ يـكون حِـكْرًا على غَـنِيّ أو فقيـر ولا على سعيـد أوْ شـقِي بل إنّ المواطن الصادق هوّ من يحبّ وطنه ويحب الأرض والإنسانية جمعاء ولا يستحقّ هذه الصفات مَـنْ خالف نواميس الحياة ، وقد يسرق غنِيُّ مكتسبات شعبه ويفرّ للعيش خارج الوطن في الوقت الذي يُسخّر فيه غنِيٌّ آخر كلّ طاقاته المالية والفكرية لخدمة بلاده وقد يتطوّع مُدْقعٌ لا يحصل على قوت يومه إلا بعُسْر للذّود عن حُرمة بلاده عندما يستهدفها الغزاة والأعداء بينما يظل آخر من صنفه يسبّ ويلعن المكان الذي لم يوَفّر له ما يحتاج إليه . والعشق عند زكريا اكتمال عاطفي لا يفكّر فيه صاحبه في غير ممارسته بعيدا عن الحالات النفسية والإجتماعية التي تطوّقه منذ اكتشافه لما يجري حوله :
وعِيتُ على الدّنيـا بقلب مُحـــاربٍ
تَـرِقّ ـ ولكن ـ للــديـار حـــمـائمُـهْ
فـعـاد كـطفْـل مَـزّق العيـد ثــــَوْبـهُ
فـَحَــوّلَ كُـل الليـل ثـوْبـا يـلائـمُــهْ
كَشيْخ حكيمٍ يزْعـم الكـوْن فسْحةً
مِـنَ الحُـبِّ ، لكنْ لم تُـفِدْه مزَاعِـمُهْ
صص29 و30 من قصيدة " عكر من جرروحنـا"

إنّ المُحبّ يشعر بأنّ ما يؤْلمه راحـة وأنّ ما ينزف به الجرْح ليس ألاّ عطـر وهذا ما يجعله مُصرّا على ممارشة العشق الذي لا ينمو إلا عندما بنمو العذاب موازيا له .
وقد تبيّن لي أنّ زكريا عبسـاوي قد صاغ أفكار المقطع أعلاه والقصيدة عمومًا في بحر الطويل التي كان ملائمًا للفكرة العامة للنص ، وهذا بالرغم من صعوبة الكتابة في هذا الوزن الذي يتحاشاه حتى الراسخون في كتابة الشعر العمودي لصعوبته وخضوعه النادر ليبنّي الأساليب والصوّر الشفّافة والمعاني المستحدثة، أنا أعرف الكثيرين من الشعراء الذين لا يستخدمون إلا الأوزان الشعرية التي لا ترهقعم إلتِوَاءات إيقاعاتها ـ وفيهم من تقدّم به العمر إلى ما بعد الكهولة ـ وأضَع يدي على صدر زكريا العيساوي الذي استطاع أن يصوغ أفكاره في البحر الطويل دون عناء بل أستطاع أن يجدّد فيه ليؤكد أنه بحر شعري مفتوح لإبداعات الشعراء الذين تستهويهم الكتابة في " فعولنْ مفاعيلنْ فعولنْ مفاعلُ".. وإذا كان جُلّ شعراء النثر غير قادرين حتى على صياغة أبيات في المتقارب وهو المتكوّن من" فعولنْ فعولنْ فعولنْ فعولْ " فأنا أعتقد أنهم غير مؤهلين لو حاولوا جميعا ـ باستثناء الذين تحوّلوا من العمودي إلى المنثور ـ لكتابة بيت واحد في الطويل ، وهذا لا يستنقص نصوص الذين يبقى الجيّد منها محترما شرط أن لا يكثر الصراخ حوله بالإدعاء بأنه البديل لآنّ القصائد العمودية والحرّة قد نحتت لنفسها صياغات وتراكيب وتعابير وهندسات جديدة جعلتها واعدة بحماية أطُرها وخطاباتها من كل شكل متطاول عليها .
وفي مجموعة " شامة في خيالي " قصيدة نثرية واحدة كتبها عيساوي ولم يعزّزها بغيرها رغم أنه قدّمها في صياغة مبهرة وبرّاقة وبناها بصُوَر ملفتة ، ولست أدري هل أنه اكتشف أن راحة فكره في كتابة الشعر الموزون أم أنه اكتشف أنّ قصيدة النثر لا يستسيغها قلمه .. والقصيدة التي ذكرتها عنوانها "صورة من الداخل " وفي مقطعها الأوّل يقول:
مُسْتلْقِيًا على موْجٍ يُشبه الرّخامْ
والبحْرُ، غاباتُ انتظارْ
والرّيح تلُفّ كُلَّ جسمه كالكفنْ
ينْعَسُ على شفتيْه ملحٌ طفيفْ
ناظرًا للأعلى
وفوْق جبينِه السّماءُ معلّقةٌ كقطعَة فضّهْ
أو هيّ رمادِية كالنّفْس.
ص29 من القصيدة المذكورة.

وهذه القصيدة لا تتجاوز أسطرها الثمانية والعشرين وهي موزّعة على سبعة مقاطع منها ثلاثة يتكوّن كل منها من سطر واحد ، وتلك من التقنيات التي يستعملها أصحاب قصائد النثر لإقناع أو إيهام قرائها أنها تحمل رسائل يصعب أحيانا أن تفصح عنها مقاطع طويلة .
وقد يكون زكريا قد تخلّى أيضا عن كتابة قصيدة النثر لأنّه لم يتمكّن من حفظها باعتبار أنه يحفظ بسهولة قصائده الموزونة التي يضيف إليها عند الإلقاء أمام المتلقين حركات يديْه وتموّج نبراته الصوتية وتغيير تقاسيم وجهه حسب ما يتماشى مع الإهتزازات والإنبسياطات التي تحرّك تموّجات القصيدة . والواضح بلا منازع أنّ آلاف قصائد النثر لا يحفظ منها متقبلوها أكثر من أعداد لا تزيد عن المائة ، وحتى أصحابات لا تحتوي ذاكراتهم على أكثر من عشر نصوص من بين العشرات الأخرى ، ذلك أنّ للحافظ قابلية استقبال ما هو موزون من الشعر باحتفاء تذكّري يرغّبه فيه الإيقاع الخارجي إذ أنّ ما يسميه الناثرون إيقاعا داخليا لا يستند إلى أيّ برهان لساني أو نسق صوتي .
لهذا الشاعر الشاب ولَعٌ الكتابة في البحر الطويل فهو إذ لا يهابه يبني فيه أهراما من الكلام الأنيق الذي يحوّله من وزن رتيب في قصائد السابقين إلى محْمل ناعم تستند إليه المعاني الخلابة والزّخارف الجذّابة..ففي قصيدة " غريب التراب "يكشف صاحبها عن مدى التوجّع الذي يشعر به وكأنه جوْقة موجعات كثيرة .. فالجوْقة تتألف من أصوات متعددة لتنسج موسيقاها ولكنها في خاطر الشاعر جوقة أتعاب وعذاب تظللّ تنمّي اللحنَ فيه ليسكتَ، ولكن أيّ لحن هذا ؟ .. إنه لحن الألم ، فمن خلال القصيدة الأولى نتأكّد من الوجهة التي ولّى الشاعر فكره نحوها حين بدأ " شاعر مـا " بهذه الأبيات الألم ، فهل يُسكتُ الألم من يكابده إذا كانت أنّ الغربة عن التراب صعبة ولا أخفي على أحد.أنني عند قراءة هذه القصيدة وغيرها في المجموعة تفطّنت إلى أن زكريا العبساوي يعلّق على ما حدث تعليقا مباشرا يسعى إلى تسمية الأشياء بمسمياتها ويصفها بالأساليب المعروفة التي قد تمزج كلامه بكلام غيره وتبعد عنه صفة التميّز وبصمة الفرادة بل ينحى منحى مغايرا قد يعتقده البعض في القراءة الأولى أنه هروبا من الموضوع وانزياحا عنه ولكنه يتأكد في قراءة ثانية أنّ الكلام الذي قاله لا يخرج من مناخ الموضوع بل يعمّق خطوطه والأبيات التالية تبرهن على ما ذكرت :
به جوْقةٌ مــن مُـوجعــات كثيـرةٍ
تظلّ تُـنَمّي اللحـنَ فيه لـيـسـكُـتَـا شفـافيّـة بيـن السمـاء وأرضــها
يُضَمّـنُهـا، إذْ حُزْنَـه الحُـرّ شقـّتـا
ومـا نـفسُـه إلاّ نُـفـوسٌ تـطايـرتْ
أذا هَـبّـت الأرواح منــها تـلـفّـتَـا
يُحاربُ عـنْهـا عِـلَّةَ الكَوْن ماحِيًـا
فتيـلَ خَيال الغَـيْـب حين تَـشَـتَّـتَـا
لـه نـظــرة فَـنـّيّـةٌ فـــي قِـتـالـــها
وفي قَـنْص ذاك العَـيْش مهْـما تَفَتّـتَا
صص 93 و94 من قصيدة "غريب التراب "

ومن عادة الشعراء اغتنام الفُرَص ، والفرصة التي اغتنمها شاعرنا ليست مفرحة لأنّ حزنها ظاهر من خطابها الذي قّدّمه الشاعر من وحي اغتبال الإعلامية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة من طرف الجيش الإسرائيلي بعيار ناري أثناء تغطيتها لاقتحام هذا الإخير لمخيّم جنين.. وبالرغم من أنّ الشعراء أصبحوا يبتعدون عن شعر المناسبات لما يشوبه من التّكلف والمبالغة أحيانا فإن زكريا العيساوي قد أطلق قصيدته بصدق في التعبير وبتعريّة لما يشعر به من أسى أزاء ما حدث وهو يعلم أنه إذا لم يكتب قصيدة تليق بتأبين هذه الصحفية المجاهدة التي وُصفت بعد وفاتها بأنها من أبرز الشخصيات في وسائل الإعلام العربية فسوف يفقد الرهان ، لذلك جاء نصّه هادئا في ثورته وثائرا في هدوءه لتوخّي الصواب والموضوعية بما يعيد الحياة لشيرين أبو عاقلة في ذهنه لأنه على يقين بأنها كبيرة في المشهد الفلسطيني المجاهد
يقول في سياق القصيدة التي جاءت على البحر الطويل: وقــدْ قــتَـلوهـــا وردةً بـعدــد وردةٍ.
فـمـال بـنا إذْ مالَ من روْعِهِ الغُصْـنُ قــصرْنـا وحَـبّـاةُ القــلـوب تـنـاثـــرًا
على كلّ رُوحٍ باتَ مِنْ إسْمِهـا يَـدْنُـو
وأضحَـى لنا شِبْهًا لِوَى الرّعْدِ في الدُّجى
ويُشْـبـهُهـا مِـن فَـرْطِ عِـفّـتِهـا المُـزْنُ
فـتَـنْـسُـجُ مِـنْ ضِـلْـعِ الـيـمَــامِ رِسالـةً
تُـدَوِّي إذا تـأْسَـى وتـنضـجُ إذْ تـحـنُــو
ص108 من قصيدة "شيريـن أبـو قاعلة

يـتّـضح مـن المقطع المعروض وقصيدته أنّ الشاعر الشاب قـد اقتنع أثناء قراءة الشعر القديم والحديث أنّ ما قالة المتنبي وألمعري وأبو تمام من القدامي والياس أبو شبكة وأحمد شوقي والبارودي من شعراء القرن العشرين لا يمكن أن يغضّ عنه القارئ النظر عندما يتعلّق الآمر بأنه ديوان شعري باذخ وذو متانة وجزالة في البناء والهندسة اللفظية والتبليغية والزخرفية ، لذلك لم يحِدْ عنهم في مسارمنجزهم إلاّ بشَقّ طريق خاصة به لانتقاء أدوات كتابة شعره بما يتجاوز السائد بالإنتماء إلى الحداثة والنهل من قاموس اللغة المتجدد واقتباس ما يلائم الحطاب المعاصر والحديث استجابة لما يقتضيه العصر من تجديد وابتكار مُضيف في جميع المجالات التي لا تُستثنى منها مسارات الكتابة الأدبية التي أصبحت متوفّراتها سمعية وبصرية يتّسع فيها كلّ فن للنهل من الفنون الأخرى كأَنْ يستعير الشعر صُوَره من الرسم أوينهل فيه من الغناء.
ومن لوْحة الرسام مؤنس ملول التي تحمل عنوان " دماؤنا المقدّسة "من معرض" ورود بيضاء على قبر "استوحى صاحب " شامة في خيالي " قصيدة أعرضُ منها هذه الأسطر:
هيَ امرأة تقاسما الزّمـانُ
زمانُ طيّبُ مستأنِسُ قد أطلقتْه سماء أطيار الخربفِ تمرُّذًا وتَـوَرّدَا
يَطْوي الجمـال بـوِسْعِهِ
في رقصَة الدّمع الثّقيلِ
وسقطة القمَر الخفيفِ
وآخرُ غاضِبٌ
يَعْوِي وفي فَمِهِ الثّرى إذْ يحتفي من بين نهدَيْها الحريرْ
وتَصْعَق الغِرْبانُ تحتَ نعاسِه ص 73 من قصيدة ّ "لوحة "

سعى الشاعر إلى أن يكون ختام مجموعته الشعرية مِسْكًا فأَتمّها بقصيدة شعر حـر تتضمن ثلاثة أبيات من الشعر العمودي وهي موزّعة على:
ـ اربعة مقاطع في المتقارب .
ـ مقطع في الرمل .
ـ مقطع في الوافر .
ـ مقطع في الكامل .
ـ مفطعين في الطويل . وتتكوّن من 163 سطرا
وهي ـ حسب رأيي ـ تُعتبر قصيدة المجموعة لما تحمله من تموّجات إيقاعية وتماسكات تعبيرية وشفافيات تصويرية جذّابة كأنّ صاحبها يريد أن يطمئن القراء على أنه سيأتي في مجاميعه الشعرية القادمة بما يُنتظر منه أنْ يقف به على مِنَصّة البروز الواسع ، وكأنّ ألشابي قد همس في أذنيْه قا ئلا : واصل المشروع الشعري الذي حرمني الموت من إنهائه يافتى .. فكلاهما من الجنوب الغربي التونسي ، فصاحب "أغاني الحياة "أصيل مدينة توزر وصاحب " شامة في خيالي " أصيل مدينة أُم العرائس عروس مناجم الفسفاط التونسي .
ومن الظاهر أنّ قصائد زكريا قد كُتبتْ في جُل البحور الشعرية والتي سأسوقها مع تفعيلاتها لمن يحتاج إلى التعرف عليها وهي:
1 ـ الخفيف:يا خفيفًا خفّتْ به الحركاتُ ×× فاعلالُنْ مسْتفعلنْ فاعلاتُنْ.
2 ـ الوافر : بحور الشعر وافرها جميلُ ×× مُفاعلتُنْ مفاعلتُنْ فعولُ .
3 ـ الطويل : طَويلٌ له بين البحور فضائلُ ×× فعولنْ مفاعيلنْ فعولنْ مفاعلُ.
4 ـ الكامل: في أبحر الأشعار بحرٌ كاملُ ×× متفاعلنْ متفاعلنْ ومتاعلُ. 5 ـ البسيط : إنّ البسيط لديْه يُبسط الأملُ ×× مستفعلنُ فاعلُنْ مستفْعلنْ فعِلُ . 6 ـ المتاقارب : على المتقارب قال الخليلْ ×× فعولنْ فعولنْ فعولنْ فعولْ .
7 ـ الرمل : رمَلُ الأبحر ترْويه الثّقاتْ ×× فاعلاتنْ فاعلاتنْ فاعلاتْ . 8 ـ المديد : لمديد الشعر عندي صفاتْ ×× فاعلاتنْ فاعلنْ فاعلاتْ.
وهذه البحور هي نُصف بحور الخليل بن أحمد التي لا أجزم بأن زكريا قادر على الكتابة فيها كلّها غير أني استـنتجت من خلال قراءة محتويات ديوانه البِكر أنّ قصائده العمومية قد غطّت بعددها على قصائده الحرّة والتي يسمّيها المنظرون منذ تسعينيات القرن الماضي بقصائد التفعيلة، واستـنـتـجت كذلك أنّ القصائد الحرّة منفتحة على التطريز الحداثي أكثر من القصائد العمودية رغم تأنق نسيجها المُحْكم ّ ، وأرى أنّ صاحبها سيكثّف عنها في نصوصه القادمة دون تنصله من حياكة الأنسجة العمودية التي يجد راحته في إلقائها عند مشاركته في المهرجانات والتظاهرات الشعرية التي أصبحت ـ في تونس ـ تحسب لصويه الكثير من الإعتبارات في انتظار انتشاره عربيا ..وإذا افترضت أنّ زكريا قد قرأ للشعراء المجددين أو المحدثين ،أو لبعضهم ،أمثال بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي وسعدي اليوسف من العراق، وصلاح عبد الصبور وعبد المعطي حجازي وأمل دنقل من مصر ، ومحمود درويش وسميح القاسم عز الدين المناصرة من فلسطين ,آخرين من أقطار عربية أخرى فإنني لم أعثر على قصيدة حرة له متسربلة بخصوصية واحد ممّا ذكرت بل جاءت لوحاته مختومة بطابعه الخاص باستثناء واحدة افتربت ولم تنخرط في أسلوب و رؤى مظفّر النواب ومنها :
النَّمِر الأخضر يمرح في قفص الدّولهْ
أوْ في قفص السّلطهْ
أوْ في قفص الخوْف الأوشكْ
له أتباعٌ يهتمّون بزَيّ رسْمي
آتٍ من باريسَ مباشرةً
كيْ يلبسَ جلْدَ النَّمِر المتجعّد مثل مُسَوّدةِ الشاعرْ
حين يُشَطّبُ نُصفَ قصيدته
ويُسَدّدُها في السَّلهْ
لأنّ قريحتَه لمْ تنْجَحْ في تجسيدِ الغضَبِ الكامِنِ في مُقَلِ النّاسْ الصفحة 89 من قصيدة " القائد"
وختاما لهذا العرض الموجز لقصائد أصغر شاعرينشر مجموعة شعرية في تونس أرى أنه من واجب النقاد والمهتمين بالتعريف بالشعر الجميل أن يقرؤا مجموعة زكريا عيساوي ويكتبوا حولها ما يقيّمها ويقوّمها ،كما أن قنوات الإعلام الإذاعية والتلفزية مدعوّة إلى استضافة هذا الفتى الشاعر الذي قد يكون له شأن في مجاله داخل البلاد وخارجها .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى