حميد العنبر الخويلدي - القصيدةُ مخلوقٌ دَمُهُ لايموت

الهجر // نصٌّ عموديٌّ للشاعر البغدادي
عبد الفتاح المُطّلِبي

الهجرُ في عُرفِ الغَــرامِ حِمامُ
نارٌ لها بيــنَ الضــــلوعِ ضِرامُ
ما شئتُ لكنْ شــــاءَ حبُّـكَ آمراً
إن الهـــوى للعاشـــــقينَ إمامُ
وإذا تلا الأشواقَ في صلواتهِ
فاالوجدُ من بعدِ الصلاةِ صيامُ
العاشــــقون إذا تأوَّهَ بعضهم
فهمو بمحرابِ الشــجون قيامُ
ما ضرهم جوعٌ ولا عطشٌ بهم
فاليأسُ خبزٌ والســرابُ إدامُ
خرسٌ إذا أرخى الظلام سدولَهُ
فالصمتُ فــي لغة الغرامِ كلامُ
والصمتُ أبلغُ قالةً من هذرِهمْ
حتى ولو كرهَ الوشـــاةُ ولاموا
أهدي لهم من كــــل وادٍ وردةً
ما دامَ تبريـــــحُ الغرامِ وداموا
عوّذتُهمْ من كـــل عينٍ لم تزلْ
ترتدُّ منــــها للصــــدورِ سهامُ
لم يُشفَ من نارِالصَبابةِ عاشِقٌ
يوما ولا جَبرَ الحطامَ غرامُ
لكنّهم ماضـــــــونَ في يهمائهِ
غُبراً وقد شقّوا الثيابَ وهاموا
هم هكذا حطبٌ لنيران الجوى
حطّوا رِحالَهــــمو بِها وأقاموا
كم نادموا في الليلِ طيفَ أحبّةٍ
حتى إذا صـــاحَ المؤذّنُ ناموا
وتراهمو كالخيــــزران تمايلاً
ما ناحَ من فــوقِ النخيلِ حَمامُ
قد شِمتُ من غيم المحبةِ بارقاً
إذْ أرسـَــلَتْهُ مع الريـاح شَآمُ
عبقٌ من الدُرّاقِ يحملهُ الهوى
تُشفى بهِ الأوصـــابُ والآلامُ
في كل حرفٍ منهُ تظهرُ آمّةٌ
للعشقِ منهم سُــــــــجّدٌ وقيامُ
سميتُ باســــمِ اللهِ حينَ كتبتهُ
وعجبتُ كيــف تخطهُ الأقلامُ
لاتسأليني عنهُ فهـــوَ مُحصّنٌ
مابينَ طيّاتِ الشَـــــغافِ ينامُ
فرضاهُ فجـرٌ فـي فؤادي ساطعٌ
وصدودُهُ عنّي دُجــــىً و ظلامُ
ورغبتُ عنْ ذِكْرِاسمهِ متوجساً
من أنّ ذكري للحبيب حرامُ
مابحتُ يوماً باسمه لكنّما
باحت به في الهجعةِ الاحلامُ
فانا الثرى وهو الثريا في العُلا
من كان في العلياء كيف يُرامُ
ماذا اريدُ وفي الفؤاد له هوىً
يبدو على سيماي منه وسامُ
وخيالُهُ سكنَ الفؤادَ كأنّما
قد بانَ في عينيَّ منه غمامُ
والصمتُ يحرسُ سِرَّهُ في خافقي
فيجيلُ عن ذكر الحروف كلامُ
قدسٌ من الأقداس يشرقُ باسمه
فجرٌ ويفشو في الأنام سلامُ

.................................................

* نص نقدي مقابل

//القصيدةُ مخلوقٌ دَمُهُ لايموت// بقلم الخويلدي

في المتناول التِّلقائي العفوي ونحن نتحسّبُ
كيف تُبْنى النِّصوصُ الشّعريّةُ وتكتمل صورتُها الكلّية...؟
إذ نقولُ عنها نصٌّ او قصيدةٌ ، عملٌ أو نتاجٌ
له شكلٌ ومضمونٌ ، صورةٌ وتفاصيلٌ ، بُنيَةٌ
وجثمانٌ ، قياسٌ ومحدّداتٌ ،مكانٌ وزمانٌ ،
وماينطبق من علم ٍ ومعرفةٍ شائعيْنِ ، وكما ذكر النُّقّادُ من نظرياتٍ وافكارٍ تخصُّ وتَعِمُّ
منطلقَ القصيدة بالضبط تكوينَها ،
هذا البحث يأخذ بنا نحو حصرِ مفهومٍ، فَرضَ دَوْرَه بوضوح ، نستطيع أن نسمّيه
بعامل التَّصَيُّر التكويني ، وهو فعلٌ ميكانيكي تقانيٌّ
يجري مجرى الطبيعةِ في إتمام خليقتها ،
ليس من باب التَّقْلِيدِ وتتبُّعِ الأثرِ الاستنساخي ، إنّما من باب الاجتهاد والتحديث في الصورة المرجوّة ، فمقابلُ الطبيعة الماديةِ هناك طبيعةٌ مُبتدَعَةٌ او مُبتكَرَةٌ على ذات القرارةِ
والشَّاكلةِ ، هي الطبيعةُ التعبيرية ، وكان قد كشف العلمُ والبحثُ أنّ
طبيعةً تجريديةً للابداع بقدر مقاسات الطبيعة الكونية تعادلُها بل في منظورنا ارقى وأبلغ منها بل أكثر نضجاً ووعياً ومعطياتٍ .ولعلَّ الحضارةَ حيثما وجدت معادلٌ ونتيجةٌ لهذا النِّسْخ الاصيل ايْ نقولُ أنّها الطبيعةُ الأخرى المأمول لها .
ومن خلال هذه التَّوْطِئةِ نستغلُّ اللّمسَةَ
لنتسلّلَ إلى مصافٍ تخُصُّ كيفيةَ تكوينِ
النَّصِّ لحظةَ شروع الشاعر أو الفنان في إنجاز ما يرى ويشعر ،
وهذا التَّروّي في الكشف ، تحت عنوان كيف تُولَدُ النِّصُوصُ وتتكوّن ،،،،؟
فهل هي هندسةٌ وتنقيطٌ وتثبيتُ زوايا ،،؟
ام هي تحضيرُ موادٍ وانشائياتٍ كمثل التحضير لبناءِ قصرٍ أو مُشَيّدِ برجٍ أو جسرٍ الخ من الصناعيات .
ولطالما خلق الفنانون اعمالَهم الإبداعية
كلٌّ حسب مرامه وجنسه وطرازه .
فعندنا هنا ، نتناول الشاعر في طريقة
ابتداع نصّه ، ومن خلاله نستحصي الحالَ وتحوّلاتِ المآل في الكيفية التصيُّرية ،
والذي دوّنتْه التجربة التاريخية وثبتَ على طول الوقت ، أنّ المبدع على شاكلاتٍ عدّةٍ
في التناول ، فمنهم مَن يتناول قصيدتَه أو عملَه الفنّي على طريقةِ الطَّلْقِ المعرفي باعتبار القصيدة مخلوقاً بدأ في النمو التكويني واكتملت قواه وأعلن نزولَهُ في الحين ، كنزول الطفل من بطن امِّه لابدَّ ،
وهذه في نظرنا هي. * الطريقة الاولى المستساغة
او السمحة الصفات والنتيجة ، ويفضّلُها
الشعراءُ اكثرهم ، ويعتبرونها خاليةً من الندوب والعَوَق والعاهات وتشويه الصورة والمحاسن ، مؤمنين أنّ يَدَ القدري اشتركت وساهمت اي أنّها والوجود وقواه شِرْكةٌ ،
وما دامت الطبيعة معه ، بالتأكيد صلحَ فعل
مراماتِه وبرأ من العلل والخلل مثلما ذكرنا آنفاً ،
* والطريقة الثانية عند بعض الشعراء في تنزيل النَّص ، هي طريقة الدفع المتقطّع
والمكث حيناً قد يطول أو قد يقصر
ومنهم إلى زمن يمتدُّ ، وقد يرجع أهلُ الحَوْليات إلى هذا ، امثال الشاعر العظيم صاحب المعلّقة زهير بن ابي سُلمى وابنه
كعب بن زهير بن ابي سلمى ، ويلحق بهم الحُطَيْئة تلميذهم ، وقالوا عنهم ، إنهم التحكيكيّون ، نعم يحقّقون في معمارية وهندسة الفن الشعري
فضلاً عن الصورة وفق إجراءات النزول ،
فالبيت يتطلب وقتاً لتمام خِلْقَتِه ، فينزل حسب الدفعة والتفصيل البنيوي شلواً شلواً
وهي كذلك ثبتت طريقةً صحيّةً ، وهذا جاء من الموروث القديم .ومازال بعضٌ من شعرائنا يستولدون نصوصَهم على هذي الشاكلة ، وهي صحيح جداً كذلك ، ولكن قد تسقطنا
في عثراتِ المزاجِ والحسِّ ومالهذا من تأثير على سيمياء الصورة وحيويتها الاعتبارية ، قد نراها في التمام ولكن ليست الرياضة المرجوّة في حين طَلْق الرَّحِم اللازم ومايتعهده من نُظُمِ الجمال واستقامتها ،
ولو أردنا أن نغور في التَّحْييدِ هذا وولادة النص على دُفُعات ، نعم هو أنّ نوعاً من مبدعينا هذا طبعُهم ، فنقول هم نوعان نوعٌ
يَطلَقُ بها كما يُولَدُ المخلوقُ كتلةً واحدةً ويتم التنزيل له ،
ونوعٌ على دُفعَةٍ بعد دُفعَةٍ حتى الإتمام ولو لزمن يطول ، فشاعر يؤلف ثلاثةَ ابيات او اربعةَ كل يوم او اسبوع او ...الخ
والإسلَم والأجدر نصُّ الطّلْقة الواحدة وكان قد ذكرنا عوامل العافية والتمَيّز به عن سواه في الصنف الثاني ،
كلُّ هذا التنصيص النقدي والتوطئة من أجل رصدِ ظاهرةٍ موجودةٍ بالأحرى ، انما أردنا الكشف عنها في مقالٍ واضح ومحدّدٍ ضمن مانعتقد من منهجيةٍ آخينا فيها بين الجذور في الموروث والآفاق في المعاصرة وتستمر فلعلها حركةُ نواميس لاتبيد في الزمن .
شاعر العمود الاستاذ عبد الفتاح عبد المطلب في قصيدته أعلاه والمعنونة
+ الهجر +
موضع البحث المتواضع هذا ، افترضنا
نمطية النقد ، قاصدين الرَّصدَ باتجاه كيفية بناءه للنَّص كونه الشاعر المعروف ولابد من تَحَرٍّ لتقنيّاته الفنية،
فهل ياترى يبني عشوائياً دون تصويب ،،، ؟ وكثير منهم من بنى نصوصَهُ وهو لايعلم كيف يَبنى . وما كان عيباً أبداً ، فالشاعر يقولون يطربُ ولايعربُ .
ام أنّ بناءَه على طريقة المخلوق الكلّي في كتلةٍ صوريّة واحدة وبدُفعَة من الطّلْق الحميم الحاصل باللحظة المستدامة حدَّ الإتمام ،
ام أنّه على طريقة التقطيع النّصّي في التنزيل ، او نسميها بالتقصيد وهذه الطريقة لها شيوعٌ وموجودةٌ في الوسط الفني .
وهي أقرب إلى مدرسة المحكّكين زهير وابنه كعب والحُطَيئة ، كما ذكرَها أهلُ الموروث في تحقيقاتهم الفكرية ،
نعم نقول إن شاعرنا عبد الفتاح في قصيدته. الهجر
كان من أصحاب الطَّلْق الحميم وتنزيل المخلوق الشعري كتلةً صوريةً واحدةً ، لايتوقف في شيء أبداً ،
وكأنّنا نشهد عليه ، وهذا من خلال رصدنا
النقدي عليه وشاهدُنا المشترك النّصُّ نفسه .
إنّما نريد تبيان مانشهد به من صفات اشتملت على
العمل و حدّدتْ تقنيّتَه أثناء ولادته و الصفات كالآتي :-

1- روح الموضوع التي خاطرها الفنان هنا
واخذ معها مَدّاً وجزراً وحسب الضرورة باعتبارها المُحدث المكاشفاتي الذي يسدُّ نقص الواقع وهو مقترح المبدع بايحاء وجوديٍّ حتمي .

2- المزاج والذوق لدى مبدع العمل ، وكأنّ خيطَيْنِ من حرير تنتظم به الصور ولآلىء
اللفظ المنتقى وبشكل دقيق جداً متلائم مع السياق والمعنى من بداية النتاج إلى نهايته.

3- رابط المعنى المتوالد من بعضه حدَّ التفصيلات في الكُلّي والجِزئي ، إذ يوحى
انها اللُّحْمَةُ والسِّدَى في النسيج ، وهنا تحلُّ
طيفية وحدة الشكل والمضمون .

4- نوع لغة الشاعر وضرباته الموسيقية وإيقاع حاصل الحركة الاعتبارية المشتملة
على ذاته وهيولى تناصّاته وحركة النحو والاعراب وكلّ علوم النتاج ،
ومن خلال هذا المفهوم الفكري العام تتميّز الشعراء ،
اي يختلف بعضهم عن البعض في صفات لغته واشتقاقاتها وتراكباتها الباطنية والظاهرية وحسب مراده .
نعرف الجواهري رحمه الله من لغته وتوالدات مركباتها وجنسها ، ونميّزه عن
البحتري وعن احمد شوقي رحمهم الله جميعا .

5- المسح المسامي لبشرةِ النَّص لو دقّقنا
وهذا طبعاً ، في الحذاقة له اعتبارُ نقدٍ خاصّ عند النُّقاد ذوي الخبرة ، فلو أُتيَ بنتاج ما دون ذِكْرِ اسم الشاعر وعرضوه على ذي علم لقالَ انَّ هذا النَّص يعود لفلان المبدع مجرد يرى جِلْدَهُ وشكلَه او يسمع تنغيماتِه .
و في نفس اللحظة يألفُ نمطيةَ اوجاع الشاعر وهمومه واحزانه ، وخصوصيات تناوله مادة وخامات أشعاره
من جانب الاسلوبية الحِرَفيّة ، او غنائياته وطريقة صِيَغِهِ المرجوّة في الانشاد ، والتزويق والزخرفات ، تنقيشه وتنميقه وصبغته
وإضفاء طالع نفسيته على مِلاكات النَّص .
هنا نمتثل لعوامل بناء شاعرنا عبد الفتاح
لنتاجه - الهجر - ولبقية كامل نصوصه .فلعلها خصوصية سلوك تقني عنده ،
الشاعر لايكون غيرَهُ في خلق القصيدة ، إنّما هو ذاتُه ، فلعلّها روحٌ وحسٌّ ، إدراكٌ خاصٌّ وشعور
* هم هكذا حطبٌ لنيران الجوى
حطّوا رحالهمو بها واقاموا
* كم نادموا في الليل طيف احبّةٍ
حتى اذا صاح المؤذّنُ ناموا
هذانِ البيتانِ لوحلّلناهما تحت مجهر النقد
الباراسايكلوجي -نزعم ذلك- او فوق الوعي كما زعم أهل النقد لوجدنا أن ريحاً لهما تمسح النًَص
من مطلعه إلى مختَتَمه تشهدُ للصورة بالانتماء وتابعية الهوية، أو كأنّ جينةً لهما قطّتْ من خامة العموم الكليّ المترابط
الغيرِ مفترقٍ عن صفاته وصبغاته طالما ينتميانِ للنص ذاته ،
القصيدة مخلوقٌ بجسدٍ دمُه لا يموت ، وكما اسلف استاذي - الفرات بن علي- في إحدى دراساته النقدية ،
أن العمل الفنّي له دورتان في حركة دورانه ، كبرى وصغرى
وكما هي طبيعة الجسد .

حميد العنبر الخويلدي
حرفية نقد اعتباري -العراق.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى