مجدي جعفر - قراءة في قصص صابر حجازي

عرفت الحياة الثقافية والأدبية صابر حجازي شاعرا مجيدا، وناقدا مقتدرا، وناشطا ثقافيا، ومحررا ومشرفا أدبيا للعديد من المجلات العربية والمواقع الالكترونية.

وسعدت بقراءة بعض قصصه القصيرة المبثوثة في ثنايا الصحف والمجلات، بعضها كتبها منذ أكثر من ربع القرن، وتشي بكاتب موهوب يعي الأصول التي يقف عليها فن القصة القصيرة، هذا الفن المخاتل والمرواغ الجميل.

بفنية واثبة يثير الكاتب صابر حجازي في قصصه هموم الإنسان المعاصر، ويفجر قضايا الواقع المعيش.

ففي قصة ( زهرة الدفلي ) يكشف عن الآثار السلبية، والمخاطر التي تنجم عن سفر الزوج بحثا عن المال، تاركا زوجته الشابة تعاني، وتقع في الغواية، وتقيم علاقة آثمة مع أحد شباب القرية.

وفي قصة ( متعطل حديث ) يُبرز هموم شبابنا، وأزمته الخانقة، ففرص العمل ضاقت أمامه، وأصبحت أشبه بثقب الإبرة، فيضطر للعمل في أعمال لا تتناسب مع مؤهله العلمي، فالشاب الذي تخرج في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، يضطر للعمل كسائق لإحدى سيارات النقل!.

وفي قصة ( العطش ) عجز الرجل عن تأمين الدواء لطفله، لقلة المال، ولشح الدواء في الصيدليات.

وفي قصة ( الشجرة ) يرينا القسوة المفرطة من المسئولين في قطع الشجرة التي يستريح في ظلالها الناس، وحرمان الفتاة من دخلها الوحيد، من الكشك التي أقامته أسفلها مستثمرة جذعها وأغصانها في إقامته.

فهو يكتب إذن عن هموم ومشاكل آنية، يعاني منها معظم أبناء المجتمع المصري الذين يعانون من البطالة، ويكابدون من أجل لقمة العيش، ويكشف عن بعض جوانب الفساد التي استشرت في المجتمع، واستغلال السلطة والنفوذ من صغار المسئولين قبل الكبار، ليثروا ثراء فاحشا، فها هو عسكري المرور الذي استأجر صبيا ليلتقط له العملات المعدنية والورقية التي يلقي بها السائقين له، خشية أن يحرر لهم المحاضر والمخالفات، وحصيلة ما يحصله هذا العسكري في الساعة الواحدة، تفوق الراتب الشهري لموظف كبير بالحكومة!.

ومحاولة الانتحار جاءت في قصتين، الأولى باسم ( انتحار ) والأخرى باسم ( العطش ).

ففي قصة ( العطش ) يقول على لسان بطل النص الذي يبحث عن الدواء لولده ولا يجده:

( كلما ذهبت إلى " صيدلية " وشممت رائحة الأدوية أتذكر حبي الأول، كانت ممرضة، عرفتها حين نقلوني إلى المستشفى في إحدى محاولاتي الفاشلة للانتحار، حتى الموت يرفضني، كنت أشكو إليها وتسمع، تضمد جروحي، تمسح دموعي، احببتها دون هدف، تمنيت الزواج منها )

ويستدعي الأب، وأساليب تربيته له، وحرمانه من طفولته، واستلابه من أبسط حقوقه، ويخاطب صورته :

( أبي .. كم كنت قاسيا علىّ، لا تعاملني كبقية الأولاد الذين كانوا في مثل سني، حتى الحلوى كنت ترفض شراءها لي كبقية إخوتي، وتقول :

-أنت ابني الكبير، أنت رجل وليس من المعقول أن تكون مثل هؤلاء، الرجل لا يمكن أن يبكي أبدا، .. الرجل لا يضحك هكذا.

الرجل .. الرجل .. ألست إنسانا ولي الحق في الخطأ والصواب، في السعادة والحزن، ولم تتوقف عند هذا الحد بل كان عقابك الأكبر أن زوجتني من فتاة لا أحبها )

ويثير في هذه القصة أخطر الأمراض الاجتماعية والأساليب الخاطئة من الآباء في تربية وتنشئة الناشئة، وتشكيل حياتهم من ألفها إلى يائها، وصياغتها وفقا لأهوائهم ورغباتهم، دون النظر إلى أبسط حقوقهم، حتى الزواج، هو من يختار له العروس، والزوجة التي اختارها له والده، هي الأخرى مرغمة على الزواج منه، فيقول :

( وزوجتي تلعن الحظ الذي ساق أهلي إلى منزل أبيها )

فلا اختيار للزوج في اختيار زوجته ولا اختيار للزوجة في اختيار زوجها، والنتيجة :

( فما ألبث أن أعود إلى المنزل طامعا في لحظات من الهدوء، حتى أجدها أمامي، أهرب إلى النوم وكثيرا إلى الشارع )

وهذه الأنفس غير السوية، هي جناية الآباء على الأولاد، وهذا ما ينبه إليه الكاتب ويحذر منه.

وتأتي قصة ( انتحار ) وأعتبرها قصة أنموذجا للقصة القصيرة الحديثة التي تومئ ولا تصرح، لغتها أقرب إلى الهمس منه إلى الزعيق، لغة وامضة وموحية، تنساب عذبة رقراقة لا يعرقل جريانها سدود أو نتوءات، وإذا كان الأب في قصة ( العطش ) قد رسخ أفكاره وأحلامه في قلب وعقل ووجدان ابنه منذ طفولته، وقدمها له على أنها النموذج والمثال الذي يجب أن يُحتذى، ففي قصة ( انتحار ) نرى المجتمع برمته شعبا وحكومة قد رسخ أيضا أن كل شيء على مايرام، وليس في الامكان أبدع مما كان، وكل سلطة في المجتمع سواء كان الأب في البيت أو المعلم في المدرسة أو الشيخ في المسجد أو الوزير في وزارته أو .. أو .. كل يردد مثل الببغاء ( تمام يا فندم )، وهذه الكلمة هي مركز النص ومحوره، هي العتبة الأهم، والتي من خللها يكشف الكاتب عن أزماتنا الخانقة، الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والنفسية، هي أزمة مركبة قد تفضي بالفرد إلى الانتحار وقد توقف نمو المجتمع كله، وتحول بينه وبين التقدم المنشود إلى الأمام، وقد تودي به إلى الهلاك، فكيف يتغير إلى الأفضل ويتقدم وكل يردد كالببغاء كله تمام يا فندم!!.

فصناعة الببغاء داخل الإنسان وترديده لكلمة ( تمام يا فندم ) هي الحدث الأبرز والذي يقوم عليه النص، من خلال أحد المهمشين والذي يعيش في غرفة متهالكة فوق السطوح، لا متاع ولا أثاث ولا أدنى مقومات الحياة الإنسانية، ومُطالب بأن يردد كله تمام، وهذا المهمش يحاول أن يتمرد على الببغاء الذي يعيش في داخله، ويحاول قتله، وينطلق من أسره وربقته، ولكنه يفشل، فتاتي صرخته في النهاية مدوية من داخل ( بوكس ) الشرطةعندما تم القبض عليه :

( كله تمام يا فندم !!)

فالببغاء في داخلنا قد رسخ رسوخ الراحتين في الأصابع.

وفي قصة ( ميلاد بائع ) يقدم لنا القاهرة كمدينة بلا قلب، لا ترحب ولا تفتح ذراعيها لابن الريف الذي يزورها للمرة الأولى، طمعا في ثقافتها وشراء الكتب وزيارة الأولياء، ولكنها لا تقدم له الوجه المشرق المضيء، فيباغته أحد النشالين بسرقة نقوده، فكيف يعود إلى قريته وقد دخل الليل، وتفشل محاولاته في إعادة الكتب للباعة نظير أن يسترد بعض ثمنها الذي دفعه لهم حتى يتمكن من العودة إلى قريته، ولكنهم يرفضونن فتتفتق قريحته عن حل للخروج من هذه الأزمة، فيرص الكتب على الرصيف، وينادي : ( كتب للبيع! ).

والكاتب ينتقل بنا إلى المجتمعات التي تخلصت من الببغاوات بداخلها، ويسرد لنا نذرا قليلا من أساليب تفكيرهم، ويوازن بذكاء بين أنماط وأساليب التفكير عندهم وأنماط واساليب التفكير عندنا، من خلال ( صوفيا ) الغربية التي تزوجت برجل شرقي من مصر، ويبرز الهوة الواسعة بين الشرق والغرب.

ويبرز المعنى الإنساني في قصة ( الطلقة ) وهي قصة قصيرة جدا، خمسون كلمة تقريبا، يعري ويكشف الصراعات بين الأفراد وبين الشعوب، وهذه الصراعات تنتهي غالبا بالحروب التي تأتي على الأخضر واليابس، ومحاولة كل منهم إفتاء الآخر والإجهاز عليه.

الكاتب يقدم في قصته المعنى الإنساني، والمشترك بين الأفراد والشعوب حتى لو اختلفت في اللون والجنس والدين والموقع الجغرافي.

..............................................................

البدايات والنهايات:

اتسمت القصص بالبدايات القوية، وتبدو القصص وكأنها منزوعة المقدمة، والقصص المنزوعة المقدمة هي القصص الجياد كما يقول ( أنطون تشكوف )، والكاتب يدخل في الحدث مباشرة، وقد يبدأ الحدث من العنوان.

وتأتي النهايات هي الأخرى قوية وحاسمة.

....................................................

الحوار :

لعب الحوار دورا مهما في قصص صابر حجازي، فمن خلاله تم اسبطان دواخل شخصياته، وكشف عن أنماط وأساليب تفكيرهم، وساعد الحوار في إنماء الحدث وتصاعده، ولا تخلو قصة من قصصه من الحوار، بل لعب الحوار في بعض القصص دور البطولة، وقامت قصة ( متعطل حديث ) على الحوار، وهي قصة بديعة، توارى فيها السرد إلى الظل وترك للحوار القيام بكل المهام، وكان الكاتب موفقا فيها غاية التوفيق، قصة حوارية متميزة ومائزة.

................................................

البُعد المعلوماتي :

لا يسرف الكاتب في تقديم المعلومات لقارئه، ولكنه يقدم له المعلومة عند الضرورة ولحاجة موضوعية وفنية، كما أشار في الهامش إلى بعض المعلومات عن زهرة الدلفي، وإذا كانت هذه المعلومات قد أفادت القارئ موضوعيا، فإنها أفادته أيضا في الربط بين خصائص وصفات هذه الزهرة وخصائص وصفات المرأة بطلة النص، ومحاولة القارئ استكشاف رمزية زهرة الدلفي / المرأة.

...........................................

الرمز

استخدم الكاتب الرمز الايحائي وهو أن يوحي إليك الكاتب بما يريد أن يقوله بعيدا عن الصراخ والزعيق والمباشرة والإنشاء الأجوف، من خلال لغته الفنية الهامسة والرامزة والموحية.

واستخدم الرمز المركب والمراوغ أيضا، والذي ينتظم النص كله ويتمرد في داخله، كما في قصتي (زهرة الدلفي ) و ( الشجرة ) فتتعالق في القصة الأولى المرأة الخاطئة مع الزهرة السامة، كما تتعالق الفتاة المكافحة والجادة مع الشجرة الوارفة الظلال، ومن خلال هذا الرمز المراوغ والمتمرد تتعدد القراءات والتأويلات.

................................................

وبعد

هذه إطلالة سريعة وقراءة عجلى في بعض قصص المبدع الكبير صابر حجازي، وأرجو أن يتاح لي قراءة كل نتاجه القصصي بين دفتي كتاب، وأناشد مبدعنا الكبير أن يقوم بتجميعها من الصحف والمجلات، لتأخذ حقها من النقد والدرس والتحليل، وأنا على يقين بأنها ستكون إضافة حقيقية لحقل السرد العربي، تحية حُب وإكبار لهذا المبدع الراقي الخلوق ولهذا الإنسان الجميل والنبيل، شفاه الله وعافاه، وأطال لنا في عمره ومتعه بالصحة والعافية.

..........................................................

العاشر من رمضان

في 27 / 9 / 2023م

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى