محمود الورداني - سطور قليلة عن شاعر كبير( 1-2 )

1/2

اعتبر مؤتمر قصيدة النثر، الذي عُقد مؤخرا، أن الشاعر عزت عامر هو رائد هذا الشكل من أشكال الفنون في مصر. والواقع أن تلك الحقيقة غابت عن الكثيرين، وإن كانت الريادة في حد ذاتها، ليست هي الأمر الهام، بل تجربة عزت عامر، وكيف قادته لكتابة قصيدة خارج السرب تماما، ولاتمت بصلة للشعر الذي كان يُكتب.. قصيدة اكتشفها الشاعر ولم يكن يعنيه أن يكون مايكتبه شعرا أو نثرا.
من جانب آخر، فإن الصداقة بيننا امتدت لما يزيد عن نصف قرن، مما يتيح لي أن أكون مطلعا على دقائق تجربته، وقد أشرت من قبل، في كتابي" الإمساك بالقمر" إلى جانب منها، وربما يكون مفيدا العودة إليه هنا.
في سن الخامسة عشرة عثر عزت على نسخة من الكتاب المقدس بجزأيه: العهد القديم والأناجيل فوقع في غرامها لأسباب فنية وألهبت خياله، حتى لو لم يكن قد فهمها في تلك السن المبكرة. وفي الوقت ذاته كان أبوه قد ارتدى الخرقة، وهام على وجهه وراء إحدى الطرق الصوفية، وهي مرتبة لا يصل إليها إلا القليلون.
وعندما نزحت الأسرة من إحدى قرى المنوفية إلى المعادي، ودخل عزت امتحان الشهادة الإعدادية، كان من أوائل الناجحين، بل والتحق بمدرسة المتفوقين الثانوية الداخلية، التي كانت الحكومة تنفق عليها بسخاء، ويحصل كل طالب على مبلغ شهري محترم باعتباره متفوقا. حصل على الثانوية العامة بمجموع أهلّه لدخول كلية الهندسة بسهولة، بل تال أثناء دراسته في قسم هندسة الطيران مكافأة شهرية محترمة بسبب تفوقه.
في تلك الفترة الباكرة تحديدا بدأ في كتابة قصائده الأولى" مدخل إلى الحدائق الطاغورية". التجربة بدأها وحده دون أن يتأثر بأحد، بل دون أن يتعرف على ما كان يُكتب آنذاك، ودون أن يعلم أن ما يكتبه سيؤسس لقصيدة جديدة هي قصيدة النثر منذ منتصف ستينيات القرن الماضي.
وفور تخرجه بعد كارثة 1967 تم تجنيده كضابط احتياط في القوات الجوية. عمل مدرسا في المعهد الفني للقوات المسلحة، وبدأ في نشر قصائده في جريدة المساء، وأفرد له الراحل الكبيرعبد الفتاح الجمل صاحب الأيادي البيض على عدة أجيال من الكتاب، صفحات بكاملها احتفاءَ بذلك الشاعر الذي لايشبه إلا نفسه، والذي يبدو مستغرقا في ذاته على الدوام. كذلك بادرت مجلة جاليري 68 بنشر عدد كبير من قصائده. فيما بعد صدرت قصائد تلك الفترة في ديوانين: مدخل إلى الحدائق الطاغورية، وقوة الحقائق البسيطة.
أكرر أن عزت عامر كان مختلفا ولم يكن يشبه إلا نفسه، ولم يكن مهتما بقراءة ما يُكتب أيامها. أظن أنني تعرفتُ عليه آنذاك. كان يأتي إلى الأماكن التي نرتادها مرتديا ملابسه العسكرية كضابط احتياط. كان قليل الكلام وبالغ الهدوء، من الصعب أن تسمع صوته حتى وهو يقرأ شعره.
المثير للدهشة أنه انخرط معنا في ممارساتنا الغاضبة والاحتجاجية التي ميّزت السنوات التي أعقبت هزيمة 1967 . وشأنه شأن عدد من الشعراء مثل محمد سيف وفؤاد قاعود، بدأ يستجيب للدعوات التي كانت توجّه له لإلقاء قصائده. وعندما بدأت جمعية كتاب الغد اليسارية أولى خطوات تأسيسها، كان أكثر الفاعلين فيها جدية وتحملا للمسئولية والأعباء الإدارية.
في العدد القادم، إذا امتد الأجل، أواصل الكتابة عن رحلة عزت عامر المدهشة ومحطة التصوف التي احتلت مكانا هاما في تجربته..
أعلى