كاهنة عباس - الحالات الشعورية للشك واليقين ودور العقل .


أغرب اللحظات التي قد نعيشها ليست تلك الحالات يسكننا أثناءها الشك بل حين نكون على يقين بما يدور حولنا ،كأن نتصور أن العالم المحيط بنا هو ذاك الذي عهدناه وأننا نعرف حق المعرفة كل من قابلنا وعاشرنا من الناس وأن الزمن يسير في اتجاه خطي مستقيم وأن الحب دائم لا تشوبه شائبة وأن الخير هو المنتصر لا محالة وأن الشر هو دائما وأبدا شر وأنه في مقدورنا مقاومة الموت وأن الحياة عادلة ،فما دمنا نكد ونجتهد ونبذل ما في وسعنا لإسعادة الآخرين وخدمتهم ، فلا بد أن تكلل جهودنا بالنجاح فنحقق جل أحلامنا.
بعد طول التجربة، أدركنا أن الأمور لا تسير حسبما تمليه أفكارنا، بل غالبا ما تتبع سلسلة من الأحداث ما انفكت تتجاوزنا .
إنها من أغرب المعتقدات على الإطلاق ،عندما يكون أحدنا على يقين مما يدور حوله، فيعتبر نفسه بصفة أو بأخرى محور الأحداث ،أن كل ما يتلقاه من أخبار ومعلومات قد تتعلق به أو تخصه وأن الوقائع التي يشهدها ستسير وفق ما يريد ، بل قد يذهب به الظن أحيانا، أن الكون بأسره يتحرك حسب مشيئته.
ومن أغرب المعتقدات، أن يشعر أحدنا أن الله سيكون في صفه ،سيعاقب كل من اضطهده وأن الظالم سينال جزاءه وأن العالم بأسره سيستجيب لرغبته وسينصفه إن عاجلا أم آجلا .
أما الأغرب من هذه المعتقدات فما يخلفه فقدانها أو انعدامها لدى شق آخر من الناس من إحساس بالعبث كأن العالم لا بد أن يكون رهن إشارتهم .
ماذا لو تجسدت جميع معتقداتنا ونال كل ظالم في الأرض من منظور المظلوم جزاءه واستجاب الله حينا لكل الأدعية وتحققت كل الرغبات لأنها نابعة من يقين مطلق ؟ سيختل النظام ويعم الدمار .
فالعالم يتحول ويتطور حسب صيرورة نجهل سننها وقوانينها، لأنها ببساطة شديدة تتجاوز رغباتنا وأهوائنا ومصالحنا الآنية وتخضع لمنطق مغاير لما ننتظر.
أما عن الشك، فهو لا يقل غرابة عن اليقين لأنه نابع منه، لا يعدو أن يكون البحث المستمر لبلوغه ، باعتباره ضربا من ضروب اختلاله ،أو بالأحرى هو الوعي بغموض الحقيقة وما يحيط بها من أسرار وحجب.
ويكمن الفرق بينهما في النتيجة ،فقد أدى الشك إلى اكتشاف بعض الحقائق واعتبر سبيل من سبل نيل المعرفة ، أما اليقين فقد كان أحد أعمدة ما سمي بالثوابت أي تلك التصورات والمعتقدات التي تقوم عليها مفاهيم الخير والشر والإنسان والذات والغير والعالم والتي تشكلت على أساسها الثقافات .
هل يمكن "للانا " الكامنة في كل شخص أن تبحث عن الحق وأن تشك في إدراكه وأن تتساءل حول وجوده ؟
يصعب عليها تحقيق مثل هذه الغاية، لأنها لم تقرر مسار حياتها إلا في محطات قليلة وربما نادرة، بل عاشتها حسب رغبة الوالدين ثم المعلمين ثم الحاكم ثم الدولة ثم ما جاءت به التعاليم الدينية ثم الإشهار الإعلامي ثم الصور الفوتوغرافية ثم الحكايات والأفلام والخرافات .
فجميع معارفها نقلت إليها نقلا : أسماء الأمكنة الأزمنة وتواريخها أسماء الأشياء والكائنات والموجودات ، فتقبلتها دون اختيار دون أن تدرك حقيقتها ، فكيف لها أن تتيقن من مدى صحتها ، هي التي لم تختر لا اسمها ولا هويتها ولا تاريخها ؟
فما ينقل لنا ليس التجربة بل الحكاية التي تتعلق بمعانيها ولغتها وإلا لما تكررت المآسي مرات عديدة .
بل إن التجارب لا تعاد أبدا ،حتى تلك التي قد تبدو لنا متشابهة ،لانها وليدة سياقها الزمني والمكاني مع ما يحيط بها من أشخاص وملابسات.
ما خبرته شخصيا، أننا نعيد ما سمعناه إلى أن تتحول تلك الأقوال التي اعتبرت حقائق إلى حاجز يفصل بيننا وبين العالم ،فيحجب عنا ما نشعر به وما نريده وما نكتشفه وما نراه وما ندركه .
وما استنتجته أن حياتنا مهما حققت من نجاح ، ستصيبها خيبات عديدة تخص علاقاتنا بالآخرين وما يسيرها وما يجعلها تستمر أو تنقطع مع ما تحمله من المشاعر، لأنها لا تخلو من الانتظار والمعتقدات والتصورات . كيف لكائن زائل أن يحمل يقينا ما ؟
- بفعل الحاجة طبعا لكي يستمر، لكي ينسى أو يسهى عن حقيقة زواله ، ليخلق لنفسه واقعا جديدا .
أما الشك فقد ذهب بعيدا بالفيلسوف الفرنسي "روني ديكارت" حتى أصبح يشك في كل شيء إلا في كونه يفكر، فأنشأ مفهوم الكوجيتو أي الذات الذي تدرك نفسها بنفسها أثناء عملية التفكير، وابتدع بذلك الانسان القادر على الخروج من بوتقة اليقين للبحث عمن يكون ، كي يدرك أن التفكير ليس إلا عنصرا من عناصر هويته كإنسان بما تفترضه من مساءلة وتجاوز وتحول .
وفي الحقيقة فالرأي عندي، أن اليقين لا يرمي إلى تأكيد حقيقة ما بقدر ما يهدف إلى بعث الاحساس بالاستقرار والطمأنينة لدى الشخص ومساعدته على التواصل مع غيره من الناس .
فاليقين والحقيقة لا يجتمعان وكل الحقائق العلمية وإن كانت نسبية اكتشفت انطلاقا من الشك.
وثنائية الشك واليقين تجعلنا في مواجهة مستمرة مع سنة التحول والزوال التي تنظم العالم .
توجد علاقة بين معاني الايمان والثقة والعقيدة والشك واليقين دون أن تكون مقتصرة على مفاهيم الدينية لتشمل كل ما نأتيه من أفعال ونصدره من قرارات في حياتنا .
فالايمان نابع من الوجدان والثقة من الوثوق أي التعلق والتشبث بأمر ما وكذلك العقيدة فهي تحيلنا الى الميثاق أي ما يعقد بين طرفين أو داخل جسم ما ، كل هذه العبارات متصلة باليقين والشك، ويمكن اختزالها في معرفة ما الذي قد يحدث لنا في المستقبل القريب أو البعيد وهي تعبر عن رغبتنا في التحكم في مصيرنا .
فالبحث العميق في المعنى اللغوي للثقة والعقيدة يبينان لنا أن تلك المعرفة ليست وليدة تجربة فردية بل هي معرفة ينقلها إلينا الغير فكل وثوق أو عقد أو إيمان يفترض بالضرورة وجود الغير .
كيف الوثوق بما نجهل ، كيف الإيمان بما لا نفقه ، كيف العقيدة بما لا نعلم ؟
لقد اقترح علينا الفيلسوف الفرنسي "لبلاز باسكال" بكل جرأة للخروج من مأزق الشك واليقين في ما يخص وجود الله ،أن نفكر بروية في الرهان الآتي وهو الاعتقاد بوجوده، لأنه رهان رابح لن يؤدي إلى أية خسارة، فإن تأكد ظفر صاحبه بالجنة وإن لم يتحقق لن تنال صاحبه أية خسارة كبرى، أما الإلحاد فإنه سيخلف لصاحبه خسارة كبرى في صورة ثبوت وجود الله ولن يحقق صاحبه ربحا كبيرا إذا ما تبين أنه كان على صواب .
كذلك سعى بلاز بسكال إلى إيجاد حل منطقي لا يحتكم إلى مشاعر اليقين والشك بل إلى النتائج المفضية إلى الربح أو الخسارة ، وما يهمنا في هذا السياق ليس وجاهة رأيه أو ضعفه، بل إدراكه الإدراك الكامل بأن الشك واليقين هما حالتان متصلتان بالمشاعر والأحاسيس لا يقومان دائما على حجج عقلية ولا موضوعية بل على الحاجة الماسة للشعور بالاستقرار والأمان .
طبعا للشك القدرة على توليد الافكار الفلسفية والعلمية وهو مبعث للاساليب الحجاجية ولشتى التجارب العلمية أي أنه حالة شعورية لا تنفي النشاط العقلي بل قد تلتجئ إليه للخروج من مأزقها وبلوغ ولو درجة معينة من اليقين .
فالوثوق الحاسم الجازم بحقيقة ما ،ليس إلا عنوانا ينم عن مخاوف تشل العقل وتجعله عاجزا عن فك رموز العالم بالمكوث في النقطة الصفر دون مغادرتها .
أما ما يتجاوز الحالات الشعورية للشك ولليقين ،فهو القبول بما يحدث وهذه مسألة أخرى قد تريحنا الى حد ما، لكنها لا قد تعفينا دائما من البحث والتساؤل والتفكير.

كاهنة عباس

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى