أمل الكردفاني- النهايات الخالدة (مسرحية من مشهد واحد)

النهايات الخالدة
(مسرحية من مشهد واحد)

أمل الكردفاني

الشخصيات:

ج= جريجور
ك= كافكا
ميلينا



المسرح: شبكة عنكبوت ضخمة، في وسطها شخص على شكل خنفساء.. وهو جريجور سامسا..

(يتلوى جريجور سامسا محاولاً الفكاك من مصيدة شبكة العنكبوت.. ثم يهدأ قليلاً)

ج- آه يا جريجور.. ما الذي يحدث لك؟.. إن الملعون كافكا لا يتركك في حالك أبداً.. إنني شخصيته النابعة من عقله المريض.. حبكته التي تمثل قدري الأبدي.. إنني عالق هنا.. هنا.. رغم أنه مات.. مات وذهب إلى الجحيم.. أتمنى أن يكون قد .. ولكن.. إن كان قد مات.. فمن رماني في هذا الشرك؟
(يصرخ)
كافكا.. كافكا.. أيها الملعون.. هل قمت من موتك كالمسيح؟؟ أين أنت أيها الملعون.. اخرجني من هنا...
(يتلفت حوله، ويحاول الإفلات من الشبكة دون جدوى)
سقطت الشيوعية.. انتصرت الرأسمالية.. تحول العالم بأسره إلى جريجور سامسا.. ولكنهم لم يسقطوا في شبكة العنكبوت مثلي.. من نفض عن جثتي التراب.. من أحياني وأسقطني هنا.. أيها الملاعين.. هنا.. شبكة.. شبكة العنكبوت.. الشبكة المحاكة في هامش العالم.. هنا.. حيث أنا أكثر من مجرد حشرة.. إنما حشرة مُهددة.. حشرة بلا مصير..
(يصرخ)
أيها الملعون.. أين أنت..
(يدخل كافكا من يمين الخشبة.. يسير ببطء وأصابع يده على ذقنه.. لا يلقي بالاً لجريجور)
ك- حسنٌ.. ليست قضية كبرى.. إن الناس يؤمِّنون على حياتهم.. على سياراتهم.. على منازلهم.. على طائراتهم.. على عمالهم وعلى كل شيء يرونه يستحق الحماية.. إنهم في الواقع يخشون المستقبل.. أو.. أو فلنقل.. إنهم يعدون أنفسهم للأسوأ.. للتخلي عن ما يملكونه ولكن بمقابل.. وكل شيء قابل للتخلي..
ج- كافكا.. ألا تسمعني .. خلصني أرجوك.. أيها .. ال..
ك- إن كل ما يسعون إليه هو الاعتبار.. الاعتبار وليس التملك.. ولكنهم.. في كل الأحوال سيتعرضون للإذلال.. ربما هناك قلة.. ستظل قلة.. ولكن لكل شيء ثمن..
ج- كافكا
ك- اسمعك يا جريجور.. اسمعك جيداً..
ج- إذا.. فلتسرع ولتنقذني..
ك- استمع إليَّ جيداً يا جريجور.. استمع إلي.. (يسير ببطء جيئة وذهاباً وسبابته على ذقنه) جريجور.. أنني لم أضعك على هذه الشبكة يا جريجور..
ج- (مستنكراً) فمن وضعني هنا إذاً.
ك- لا أعرف.. انا لم أخلق شخصيتك هذي.. أنت مجرد مجاز.. والمجاز لا يمكن أن يكون حقيقة وإلا فقد قيمته... ودعني أقول بأننا نستطيع أن نقول إننا كلنا مجاز ما.. ولا تسألني لماذا؟ إذ أن الحياة والتي من المفترض أنها تقبع في الحقيقة، ألا أنها لا تقبع في الحقيقة كما يظن البعض.. إنها تقبع فيك ومعك ومنك وبك..
ج- يمكنك أن تقنع العنكبوت الضخم بما تقول حتى لا يأكلني..
ك- عنكبوت؟!!.. وهل رأيت عنكبوتا منذ أن سقطت داخل هذا الشرك؟
ج- الحق أقول.. لا.. الحق أقول.. لا أعرف منذ متى وأنا هنا.. ربما كان ذلك الآن أو قبل الآن بقليل.. وربما قبل ذلك بعشرات أو مئات السنين..
ك- ربما.. وربما تكون قابعا في المستقبل.. إذا كنت قد فقدت وعيك بالزمن فكل شيء محتمل..
ج- كيف أفقد وعيي بالزمن.. لو حدث ذلك لما استطعت الحديث معك..
ك- هل أنت متأكد من أنك تتحدث معي؟
- (يتردد).. ولكن من تكون أنت؟
ك- أنا جريجور سامسا نفسه..
ج- أنت؟؟
ك- نعم
ج- ومن أكون أنا؟
ك- إنك كافكا.. إنك أنا.. إن كل شيء محتمل.. أليس كذلك؟
ج- لا أعرف.. ما أعرفه أنني يجب أن أخرج من هنا..
ك- (يصرخ) توقف.. (بهدوء) توقف عن الشكوى.. إن مكانك الطبيعي هو هنا.. كما أن الغزالة في البراري مكانها البراري حتى لو كانو مهددة باستمرار من الضواري..
ج- لا أريد أن أكون مجازاً..
ك- ستبقى مجازاً حتى نجد اللص..
ج- اللص؟!!
ك- نعم.. اللص الذي سرق المعنى من الأشياء..
ج- أية اشياء؟
ك- كل الأشياء.. كلمة شيء التي تبحث هي نفسها عن معنى..
ج- ولكن.. ولكن من سيرحمني أنا.. انا .. إلى متى سأظل ضحية هذه السفسطة..
ك- إن الأشياء تقول لك بأنك لا تستحقها.. إنها تخبرك بذلك.. تصرخ في وجهك.. ولأنك لا تستحقها بالفعل وبما أنك قد تكون شيئاً فأنت إذا لا تستحق إلا أن تكون مجازاً.. ذلك الشيء اللا شيئي.
ج- اخرجني من هنا..
ك- (بصرامة) اخرج نفسك بنفسك..
ج- ولكن كيف؟
ك- أنظر.. أهذه شبكة عنكبوت؟..
ج- نعم..
ك- هل رأيت شبكة عنكبوت بهذا الحجم من قبل؟
ج- لا
ك- هل أنت قد استيقظت يوماً ووجدت نفسك حشرة ضخمة؟
ج- بلى
ك- هل رأيت قبل ذلك انساناً قد تحول لحشرة؟
ج- لا
ك- إذاً أنت وحدك من يستطيع اخراجك من هنا.. لأنه.. لأنه.. (يظل يمشي مفكراً جيئة وذهاباً ويداه معقودتان وراء ظهره) لأنه لا أنت ولا أنا ولا هذه الشبكة بحقيقيين..
ج- وما الحقيقي إذاً..
ك- لا شيء حقيقي..
ج- إنك مجنون..
ك- سأموت بالسل.. هل تفهمني؟
ج- لقد متَّ مسبقاً..
ك- لا لم أمت
ج- أقسم لك بأنك مت قبل مائة عام..
ك- (يذهل) ماذا تقول؟
ج- أقول بأنك مت قبل مائة عام..
ك- ولكن هذا مستحيل
ج- المستحيل هو أن تكون أنت هنا..
ك- أنا؟
ج- نعم أنت..
ك- إن هذا جنوني..
ج- لا شيء حقيقي
ك- لا شيء حقيقي..
ج- (يسترخي في رقدته فوق الخيوط) الأشياء تقول لي بأنني لا استحقها؟! (يفكر) ربما.. لأنني بالفعل لا استحقها.. ولأنها.. سواء كانت حقيقة أم مجازاً فهي منزوعة المعنى..
ك- في خريف ما.. ربما خريف ١٨٩٧ كان هناك حوذي أفريقي في موسكو.. الأسود الوحيد في موسكو.. وكان حُراَ رغم كل شيء.. لقد ظهر فجأة ونال اهتماماً واسعاً لأنه كان نادراً في بيئته.. كالذهب.. وهذا ما منحه معنى.. والتقى بفلاحة روسية وتزوجها.. فعانى أطفاله مختلفي الألوان من مجتمعهم.. حينها عاد بهم إلى أفريقيا.. وفي أفريقيا عانوا من الاضطهاد لأنهم أقل سواداً من غيرهم.. وهذا ما منحهم معنى أيضاً.. ويبدو أن المعاني تنزع إلى الحضور الاعتباطي.. لأنه وبعد أقل من سبعين عاماً عكس دريدا تفككه الهوياتي على المعنى.. أزاحه وأجله أو بمعنى أكثر تبجحاً .. قوضه.. فعل ذلك ليحصل في الواقع على معناه..
ج- ما القضية التي سيخدمها كلامك هذا؟ أنا لا زلت عالقاً هنا.. فوق شبكة لزجة ذات رائحة عفنة.. إنني حتى لا أرى عنكبوتاً ليقضي علي..
ك- لن يكون هناك أي عنكبوت
ج- (بفزع) حقاً؟
ك- حقاً.. لأنك لست بتلك الأهمية التي تستلزم وجود عنكبوت يغرز في عنقك مخدره ثم يشرنقك بالخيوط حتى تنضج قبل أن يلتهمك.. أنت لست بكل هذه الأهمية.. ولا حتى العنكبوت.. ولا أنا.. ولا أي شيء إن كان هناك شيء..
ج- والأرض.. الحياة.. والماء.. والرنين..؟
ك- هناك علاج لكل مرض.. ليس هو الموت.. ولكن هو أن تعترف بلا حقيقة المرض.. لا تقاوم قوة غير موجودة.. تلك الطاقة التي تتخيل حضورها لتؤذيك.. كأشرعة القوارب في مرسيليا أو الصَّدَف في مومباسة. حيث التقيت بجاكلي هناك.. المحامية البضة كالحلوى.. وبتاريخ الرحلات البحرية للأسياد البيض الذي احترقت أجسادهم في قبورهم منذ عهد بعيد.. والشمس فوق خط الاستواء الوهمي بدوره مثلهم.. والرياحين التي تتراقص أغصانها تحت الهجير.. والسيمفونيات الجنائزية المضحكة.. ونيران الحرب.. ولكن.. هناك علاج لكل مرض.. علاج وليس دواء..
ج- المرض؟
ك- ذلك الذي يجعلك أكثر ارتباطاً بوجودك.. لأن الحياة احساس..
ج- لم يكن لدي أبناء.. المسألة كلها لم تكن تستحق..
ك- ولذلك كان لا بد أن تسقط في شرك العنكبوت..
ج- صحيح.. غير أن ذلك لا يعني بأنني سأتوقف عن المقاومة..
ك- ليس عليك أن تتوقف عن المقاومة..
ج- لا.. لن يحدث هذا أبداً.. لن يحدث حتى لو ظللت بجسد الحشرة هذا وعالقاً بخلودي في هذا الشرك..
ك- وهذه هي المشكلة.. إنك تقاوم..
ج- وأنت؟
ك- لا.. وربما نعم..
ج- وهؤلاء الذين يقولون كلاماً معقداً.. لأن الحياة على ما تبدو عليه من بساطة لكنها ليست كذلك..
ك- الوجود؟
ج- في تاريخ ما.. وهذا ما لا يمكنني تذكره دائماً.. كان هناك ذلك الصباح.. الصباح الذي يتموضع بين نهاية الصيف وبداية الشتاء.. هذا الذي لا يمكنك أن تنساه أبداً..
ك- حيث يكثر السعال داخل عربات النقل الكبيرة..
ج- نعم.. ذلك الصباح الذي تخلصتٌ فيه من القشر الملتصق بعظمي إلى حد ما.. وكان هناك صمت يغزوه أزيز خفيف قادم من مكان ما.. استيقظت ولم يكن قربي جسد أنثى دافئ.. هل تتخيل ذلك؟
ك- هذا سهل للغالب من البشر..
ج- نظرت من خلال النافذة وشممت رائحة لحاء الشجر.. رغم أنه لم تكن هناك شجرة واحدة.. أدركت بأنني أفقد تكيفي مع محيطي.. وأنني سأشعر بالأكذوبة بعمق..
ك- الناس سيتحولون إلى حشرات.. ولكن ليس عبر تحول اجسادهم..
ج- وسيسقطون في الشرك.. دون أن يلتهمهم العنكبوت.. لأنه وبكل بساطة لا يوجد عنكبوت..
ك- ها أنت تدرك الحقيقة..
(تدخل امرأة فجأة هي ميلينا حبيبة كافكا، تقف على ركن الخشبة القصي وكأنها لا تريد أن تُلاحظ)
(ينظر جريجور وكافكا إليها ولكنهمايعودان للحديث مع بعضهما وكأنهما لم يرياها)
ك- كان ذلك آمناً جداً..
ج- مؤسف..
ك- لا أعرف.. الحب الآمن.. قد لا يكون مؤسفاً لأنه قد يكون علاجاً لمرض عابر..
ج- الخوف من فتح أبواب القصور المشيدة في القفار الموحشة..
ك- أنت معي على الخط..
ج- معك دائماً..
ك- ليس دائماً..
ج- ربما..
(تبدأ ميلينا في الرقص أمامهما على أنغام بحيرة البجع وهما يراقبانها بصمت)..
(تنتهي الرقصة وتعود ميلينا إلى مكانها في الركن القصي)
ك- أوديت بين الساحر والأمير.. (يقهقه)..
ج- التشويق.. لم يكن هناك أبداً تشويق في أساطير الحب إلا في القبلات.. أما أنت.. فتبحث عن حب آمِن.. إنك لم تعش الحياة ابداً.. ولدت طفلاً ومت طفلاً..
ك- (يتجه إلى ملينا ولكنه يقف على بعد مترين منها).. ليس كذلك.. لكنني كنت أبحث طيلة حياتي عن المجاز الأقوى..
ج- نيرودا؟!!!
ك- مجازي أنا.. ذلك الذي.. (يتأمل السماء رافعاً يديه) ذلك الذي يصف كل شيء بكلمتين أو ثلاث فقط.. ذلك الذي يشبه المعادلة الكونية.. قانون كل شيء.. عبثية كامو وحكايات التوراه.. وامرأة تخبز آخر رغيف لأبنائها قبل موتها..
ج- ولم تجد ذلك الاكسير.. اكسير المعنى..
ك- (يتوقف ويحدق مكفهراً في جريجور) كنتَ أنت دائما عائقي الأكبر.. أنت أيها الخنفساء.. الحشرة..
ج- أنا؟!!
ك- نعم.. أنت.. أنت الذي لم استطع تجاهله ولم استطع موضعته في المجاز الكلي..
ج- ولكنني.. ولكنني صنيعتك؟
ك- لا تكن أحمقاً.. أنا صنيعتك.. العالم كله صنيعتك.. حتى هذي الشباك التي تلتصق بها.. إنك المأساة.. التراجيديا الخالدة المزروعة في كل خلايا العالم وجينات الكائنات الحية.. أنت المجاز الأعظم.. والذي يجب أن يظل موجوداً ليمنح العالم معناه.. ليكون الحب بيني وملينيا قصة يمكن تقبلها.. ولكي تكون كل رواياتي تصاميماً معذبة لعبثية التشوهات.. وليكون لجيزلاف بكشنسكي قدرة على الرسم والموت قتلاً.. هل فهمتني.. ولتكون الموسيقى في بحيرة البجع سهماً يجعل أعين المستمعين تنزف دماً..
(صمت)
ج- السماء زرقاء.. هل ترى.. زرقاء جداً.. بلا سحب تقريباً.. إنها تغيظنا حينما تجعلنا نحلم بالحرية رغم أننا ندرك استحالة تحررنا..
ك- كلهم انهزموا.. من حملوا الأسلحة.. ومن فروا.. ومن قتلوا.. من ضحكوا ومن بكوا.. من وجدوا النهايات المناسبة ومن غرقوا في اللا نهاية..
ج- السماء زرقاء.. زرقاء جداً.. إنها تحب أو لا تحب..
ك- (يصيح) ميلينا..
(يسرع إليها، يمسك كفيها، ينظر إلى وجهها ولكنها تظل جامدة.. يمسح شعرها.. تسحب يديها من يده ببطء وتتراجع ببطء أيضاً مختفية خلف الكواليس، فيبقى هو لبرهة صامتاً عاجزاً قبل أن يطأطئ رأسه ويعود إلى جريجور)..
ج- هل هي النهاية..
ك- النهاية لي.. أما الخلود فلك..
ج- (يقهقه، أثناء خروج كافكا من يسار المسرح)

(ستار)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى