أحمد رجب شلتوت - مساخرُ يوميَّة يرصدها منير عتيبة من النافذة والمرآة

حينما انتهيت من قراءة مجموعة “ 24 ساعة مسخرة” لمنير عتيبة، تذكرت ما قالته سوزان لوهافر في كتابها “الاعتراف بالقصة القصيرة”، فهي حينما حاولت التفرقة بين الشاعر والقاص، ذهبت إلى أن الشعراء عادة ما ينظرون في المرآة، بينما ينظر كتاب القصة من النافذة، بمعنى أن القصيدة تأتي كنتيجة لتأمل الشاعر لذاته، بينما تأتي القصة كنتيجة لتأمل القاص لوقائع الحياة خارج تلك الذات، ربما يكون ذلك صحيح نسبيا، لكن أجدني متحفظا على هذا الفصل الحاد بين ما يعتمل داخل ذات المبدع وتأثرها بما يجري خارجها.
فكل من النافذة والمرآة منبعٌ يثري تجربة المبدع، وإذا طبقنا هذه المقولة على إبداعات منير عتيبة، نجده يفعل الأمرين معا، فكأن نافذته مرآةٌ للذات، أو كأنه يطلُّ على ذاته عبر النافذة، والقارئ لنصوصه القصيرة جدا، يلحظ أن شاعرية المعنى استوجبت وجود لغة شاعرة، كما أن ذات الكاتب لا تغيب تماما عن قصصه ذات المضامين الاجتماعيَّة، لكنه يجيد التخفي خلف شخصياته أو لعله يتخذ منها أقنعة.
السخرية:
إن المتابع لأعمال منير عتيبة يلحظ ميله إلى السخرية، وخصوصا في قصص أحدث مجموعاته، “ 24 ساعة مسخرة”، ومن يتتبع مضامين قصص منير عتيبة في مجموعاته كلها، يجد أنّ القضايا الاجتماعيَّة كانت محط اهتمامه، فالبعد الاجتماعي هو المسيطر على أغلب قصصه، وقد عبر عنه بأشكال متنوعة فمنها ما يعبر عن مشكلات يعاني منها المجتمع المصري، وما منطقة خورشيد - وفيها يتركز المشروع السردي لمنير عتيبة- رغم هامشيتها إلا مرآة تعكس قضايا المجتمع الكبير، ومنها ما يعبر عن تفاصيل الحياة الاجتماعية في ذلك المجتمع، فنجد أن القصص رغم نبرة السخريَّة الواضحة فيها، تكشف عن الفقر والظروف الاقتصادية الصعبة، التي يعاني منها كثيرٌ من الناس، ويمكن القول إن منير عتيبة يتعامل مع الواقع انطلاقا من تجربة الأنا، التي تتلقى الواقع بما تمتلكه من قدرات فكرية وإبداعية، ثم تصوّره وفق استيعابها لما يزخر به من متناقضات ومظالم ومآسٍ، لذلك فهي أنا غاضبة، تدين وتسخر وتتهكم، رافضة الظواهر السلبية السائدة في المجتمع وتسخر من المتسببين فيها.
وبما أن القصة القصيرة لا تتحدد بمضمونها فقط، بل بالشكل الذي هو وعاء للمضمون، وبحسب آرنست فيشر، فالفن هو إعطاء الأشياء شكلا، لذلك نجد أن السخرية في قصص منير عتيبة لا تكتفي بكونها مضمونا للقصص، بل تتعداه لتصبح تقنية، تجعل من الشخصيات في القصص أكثر واقعية في حركتها النفسية الداخلية؛ لأنها تقوم أساسا على افتراض النقص لا على افتراض الكمال، فالنص الساخر يدفع القارئ إلى عدم الاندماج بالشخصية القصصية، ويجعل بينهما مسافة تسمح له بالتأمل، وتوفر للشخصية واقعيتها بدرجة ما.
وعموما يرتكز الخطاب القصصي الساخر في طابعه الأسلوبي على المفارقة، التي تجعله منفتحا على دلالات عديدة، ومتنوعة تظهر لنا جوانب من الواقع قد تكون خفية، ويمكن اعتبارها تناقضا فنياً يجمع بنية فنية جمالية ببنية ضمنية يفرضها الواقع ومنطق العلاقات الإنسانية.
ومفارقة الموقف، تميل إلى أن تكون كوميدية وتتحقق بإدراك المبدع لهذه التناقضات التي تدور حوله، فيعمل على تحويلها إلى طاقة فنية، وهكذا تصبح أداةً للتحريض الذهني، فالأديب يُطالب قارئه بالتأمل والمراجعة.
وللمفارقة أشكال كثيرة، يبرع منير عتيبة في استخدام أكثر أشكالها تعقيدا وهو مفارقة الموقف ومفارقة الحدث.
ومفارقة الموقف وهي مفارقة مخالفة للسلوك لا التقاليد، التي تتخذ من الأخلاق قيماً تحدد بمواقف خاصة، أما حين تصدر من البطل في القصة أخلاقٌ أو عاداتٌ غير مناسبة فهنا تحدث مفارقة الموقف.
كما نجدها في قصة “المسلماني دخل المسجد”، والمسلماني شخصٌ مجهول النسب والهوية، وجده الجد قرب المحطة وألحقه بخدمة العائلة، وزوجه من الخرساء البكماء جمالات المسلماني، وحتى يمكن إثبات الاسم في وثيقة الزواج، منحه اسم محمد المسلماني، ولأن جمالات مسلمة، فكتب الجد أمام الديانة مسلم.
هكذا أصبح الشخص المجهول مسلما، بينما رآه المسيحيون واحدًا منهم، لم يقدم أي من الفريقين المتصارعين على المسلماني دليلا يؤكد صحة زعمه، والرجل نفسه كان نادر الكلام، فلم يقل شيئا يفيد في معرفة حقيقته، ولم يُعرف عنه أبدا أنه دخل مسجدا أو كنيسة.
وهكذا انقسمت القرية بسببه إلى فريقين، وكادت تقوم بينهما معركة، فدخل المسلماني المسجد، وظن الجميع أنه يعلن انتماءه لأحد الفريقين، وصعد المنبر، وأمسك بالميكروفون ليقول للجميع: “يلعن أبوكم كلكم”، وهكذا تأتى النهاية بما يخالف كل التوقعات.
أما مفارقة الأحداث فتتحقق من التعارض في بناء الأحداث مع بعضها البعض داخل القصة، فقد تأتي من إغراق الضحية بمخاوف معينة أو آمال أو توقعات، بحيث يتصرّف على أساسها، لكنها تؤدي إلى سقوطه
المحتوم.
وتأتي الأحداث في هذا النوع من المفارقة على النقيض مما ينتظره الضحية، التي تجهل حاضر الأحداث ومستقبلها، فترتبك خططها، وتخيب توقعاتها، فتبدو مأساتها كنوع من الكوميديا السوداء، نجدها في أكثر من قصة منها سعاد خمسة متر ومهر افتراضي.
الشخصيات:
إذا كانت قصص المجموعة تصور مواقف ساخرة، أو تتناول بشكل ساخر شخصيات ومواقف من الحياة، فإن منير عتيبة قد أجاد تصويرها فنيا بشكلٍ يعبر عن هدفه من القصة، فلم تكن قضايا وأفكار قصصه منفصلة عن محيطها الحيوي، بل أتى بها ممثلة في الشخصيات، التي تعيش في المجتمع.
ومعروف أن الشخصية هي التي تقوم بالأحداث، وقد تكون هذه الشخصية هي المحور الأساسي للقصة، كما وجدنا مثلا في قصص: سعاد خمسة متر، أو المسلماني دخل المسجد، وغيرهما.
ونلاحظ أن منير عتيبة لم يسهب في وصف شخصياته، ولم يذكر سمات شكلها الخارجي، إلا إذا بقدر حاجته لها، فيكتفى بذكر صفات قليلة تتيح للمتلقي رسم صورة للشخصية في ذهنه، فمثلا لم يذكر أي وصف لكل من فتحي الشرير ورجب ريخو في قصة “مهر افتراضي”، أو المسلماني في قصة “المسلماني دخل المسجد”، وذكر أوصافا قليلة للشخصية في “سعاد خمسة متر”، فهو لم يقدم الشخصية من خلال وصفها الشكلي أو الحركي، إنما من خلال وجودها ضمن مشهد أو لقطة فنية أجاد تصويرها ببراعة، وقد اختار عتيبة لأحداث قصصه ما يسمى بالشخصيات الجاهزة، وبحسب تعريف عز الدين إسماعيل، هي الشخصية المكتملة التي تظهر في القصة دون تغير في تكوينها وتأخذ صفة واحدة لا تبارحها، على العكس من الشخصية النامية، التي لا يكتمل تكوينها إلا بتمام القص.
ونظرا لأن السخرية كانت هدفا مقصودا للكاتب في قصص أو مساخر هذه المجموعة، فإن الشخصية الجاهزة كانت هي الأنسب لذلك الغرض، وكانت الجاهزية هي السمة التي ميزت شخصيات قصص 24 ساعة مسخرة.
لعبة الضمائر:
توزع السرد في قصص المجموعة بين ضمير المتكلم ( كما في قصص: ماكينة حلاقة، خطيئة تشيكوف، الندواتي، 7 دروس في الحب، سعاد خمسة متر، على سبيل المثال) وضمير الغائب (كما في قصص: مهر افتراضي، المسلماني دخل المسجد، أهل الخير، باعوا القضية، على سبيل المثال).
فإذا عدنا إلى قصص السرد بضمير المتكلم، نجد أسبابا عديدة ألجأت الكاتب لذلك، منها نقل التأملات والمشاعر، كما نجد في قصة “أرض الحلم”، نقرأ في مفتتحها: “الحلم كائن هلامي لا يتشكل إلا عندما يسقط من سماء الفراغ إلى أرض نوم أحدهم.
فيتعرف على كينونته الحلمية، ويكون في الوقت ذاته وسيلة صاحب الأرض لمعرفة ما يحب أو يكره أو يرغب أو يخاف بحق.
فإذا استيقظ النائم تلاشت كائنات الحلم إلى الأبد أو تجمدت، انتظارا لعودته إلى النوم فتواصل الحياة في ذات الحلم أو أحلام أخرى”.
كما أنَّ المساحة الواسعة التي يمنحها السرد بضمير المتكلم لاستعراض الأفكار، قد تجعل الكاتب يسترسل إلى درجة التماهي الكامل مع السارد؛ كما في أولى قصص المجموعة “ تيتانيك في خورشيد”، وأيضا من دواعي استخدام ضمير المتكلم، طبيعة رؤية الأديب للعالم، فضمير المتكلم له وظيفته في إبراز تلك الرؤية التي تمثل أساس القصة والمرتكز الذي تقوم عليه فكرتها، وإن تكن هذه الفكرة غير صريحة ومباشرة، أيضا كما في قصة “ تيتانيك في خورشيد”.
وإذا كان ضمير المتكّلم يؤكد حضور الراوي حضورًا مباشرًا في علاقته بالأحداث، فإن ضمير الغائب يحقق حضورا ضمنيًّا للراوي فيتلازم ضمير الغائب مع راو كلي العلم، وهذا ما وجدناه في العديد من القصص.
حيث يخفي ضمير الغائب أكثر ما يظهر، فلا يصدر الكاتب أحكاما وينقلها للقارئ، بل يتيح له مساحة ما من التأويل، وفي “المسلماني دخل المسجد”، مثال على ذلك.
مساخرُ يوميَّة يرصدها منير عتيبة من النافذة والمرآة » جريدة الصباح


ALSABAAH.IQ
مساخرُ يوميَّة يرصدها منير عتيبة من النافذة والمرآة » جريدة الصباح
أحمد رجب شلتوت حينما انتهيت من قراءة مجموعة “ 24 ساعة مسخرة” لمنير عتيبة، تذكرت ما قالته سوزان لوهافر في كتابها “الاعتراف بالقصة القصيرة”، فهي حينما حاولت التفرقة ...




https://www.facebook.com/stories/10...wZF-sWYQXy6cbPMYl15N3oZNC-l7sIE&__tn__=<<,P-R

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى