مصطفى فودة - قراءة فى رواية صورة مريم للكاتبة مريم العجمى رحلة الكتابة بين الواقع والخيال

هى الرواية الأولى للكاتبة وقد صدرت عن سلسلة إبداعات قصصية عن الهيئة المصرية العامة للكتاب فى ثلاث وثمانين صفحة ، وقد صدرت للكاتبة من قبل مجموعة قصصية بعنوان (مصفاة هائلة تحملها الملائكة ) ، وربما يثير عنوان الرواية بعض الغموض ولكن تتضح دلالته أثناء قراءة الرواية فقد تماهت الساردة مع السيدة مريم العذراء واتخذتها شبيهة لها أى صورة لها كما العنوان وبمعجزة الكتابة ولدت الساردة طفلا/نصا دون رجل .
الرواية تجريبية بإمتياز ابتعدت الكاتبة فيها عن الكتابة التقليدية وانتهجت التجريب واللعب الفنى والتداخل بين الواقع والخيال فى بناء الشخصية وفى الأحداث وفى الزمان والمكان ، وبحيلة المرايا المتقابلة أوالقطع المتناثرة لسطح مرآة مهشم وبعدد القطع المتناثرة تكون نسخ لنفس شخصية مريم ، مريم هى الشخصية الرئيسية فى الرواية هى إنسانة مثقفة ، قارئة ، شغوفة بالكتابة والثقافة، ذات خيال واسع ، يراودها الحلم بالطيران فكانت الكتابة تعويضا عنه ، تتلذذ بتعرية الناس وتتخيلهم بلا ملابس خاصة المدرسين والمدرسات الذين عاقبوها فى المدرسة ، وهى شغوفة بالتساؤل منذ طفولتها عن أشياء لا يلتفت إليها الأطفال مثل تساؤلها لأبيها عن ما يخص الصلاة والحركات التى نفعلها فى الصلاة ، لماذا نضع اليد اليمنى فوق اليسرى ؟ لماذا نركع مرة ونسجد مرتين؟ لماذا لا ترد لى وانت تصلى؟وتساؤلها ماذا بعد البحر يا أبى . اتخذت الساردة من أحداث حياتها وخاصة تجربة الحمل والولادة والأمومة والكتابة نفسها موضوعا للرواية بالإضافة إلى أحداث طفولتها فى البيت والمدرسة عبر مشاهد غير ملتزمة فيها بالخط السردى والتتابع الزمنى المتسلسل للأحداث فتبدأ مشاهد الرواية والبطلة بجوار زوجها وهى حامل " أستيقظ على رفس داخل أحشائى ، رجل إلى جانبى على الفراش ، هل كبرت إلى الحد الذى يسمح لى بمقاسمة الفراش مع رجل ؟ " ثم تستعيد مشاهد حياتها وهى صغيرة فى البيت والمدرسة ثم تعود لمشاهد الحاضر ثم تعود مرة أخرى للماضى وهكذا فى باقى مشاهد الرواية ، وقد فُتنت الساردة بدولاب جدتها ذى الدرفتين وبهما مرآتين حيث تقف بينهما فتظهرعدة صور لها فى المرآتين نتيجة لتقابلهما معتبرة أن تلك الصور نسخ كثيرة منها ، تسترجع الساردة مشاهد من حياتها فى سبع ليال التى حددتها الطبيبة كأقصى موعد للوضع متخذة الكتابة بعدد هذه الليالى موضوعا لنص تكتبه .
تناولت الرواية خصوصيات تجربة المرأة ووصف شعورها وإحساسها بالحمل والولادة وشعورها بالطفل الذى فى أحشائها ثم إرضاعه وتناوله ثدييها وإحساسها عندما ترضعه هو إحساس لا تحسه إلا امرأة ولا تكتبه كذلك إلا امرأة "أضع يدى على بطنى المرتفعة حيث جنين يضرب بأطرافه الضعيفة الصغيرة . هنا بالداخل حياة كاملة تُخلق ، أتلمس موضع الضرب ، أتألم باسمة "ص9 ومثل استكشاف جسدها " العروق النافرة بالثديين ، أضمهما بيدي وأرفعهما كما تفعل حمالة الصدر ، أتركهما لينفرطا بحرية دون شد ورفع"ص28
كان هناك شغف ووعى حاد بالكتابة إلى حد الإحساس باللذة الحسية ص31، 32 كما كان هناك وصف طريف بعملية الكتابة بأنها "شيطان صغير مقرفص فى رأسها يملى عليها الكلمات " ص19 وتتشابه هذه الصورة مع المأثورات العربية القديمة عن شيطان الشعر ، كما وصفت مشاهد كثيرة عبرت فيه عن شغفها منذ طفولتها بالكتب الملونة التى تحوى الحكايا "تسمرت مكانى أمام الكتب الملونة التى تحوى الحكايا" ، ووصفت شغفها بالكتب "أشم رائحة الورق ، لكل كتاب ملمس ورائحة مثل البشر" كما شبهت الكلمات" الكلمات طيور فزعة لا تستقر تحلق أجرى وراءها كما كنت أجرى وراء الدجاجة الصفراء فوق سطح البيت لا أهدأ إلا إذا أمسكتها تراوغ فى كل مرة وأتعب حتى أقبض عليها " وهى صورة مشهدية بارعة عن الكتابة ، ومثل تحملها مشاق السفر إلى مدينة بجوار قريتها لحضور ندوة أدبية معللة بأنها تذاكر مع إحدى الصديقات أو غيرها من الحيل ووصف ما يحدث بالندوة ونفورها من مدير الندوة لنظرته التقليدبة والعتيقة للأدب فتطلق عليه الرجل الأصلع الجالس إلى المنصة ، ويجاملها آخر ويتحدث آخر عن قضية لم تقربها فى نصها ويأمرها مدير الندوة بقراءة كُتّاب مثل ماركيز ، مياس ، تشيكوف ، مياس ، همنجواى ومن المشاهد الطريفة طريقة كتابتها دوستويفسكى وتلعثمها فى قراءة وكتابة اسمه ( دفتوسيسكى ، لا دكسوفيكسى ، لا لا دسكوسفكى ، لا أيضا ، هذا الاسم صعب جدا سألته أن يتهجاه دوستويفسكى ) ، هذا بالإضافة إلى يوسف إدريس ، ومحمد المخزنجى ، والبساطى وإبراهيمة أصلان ، وصنع الله إبراهيم ، وذكر أسماء هؤلاء الكتاب مبررا لأنه يخاطب- فى نظره- مبتدئة فى الادب وأراد تعريفها بكبار الادباء فى العالم وفى مصر و ينبغى عليها القراءة لهم، ضاقت الساردة بالمكان وعزمت على مغادرة الندوة وعدم العودة إليها مرة أخرى .
اشتملت الرواية على تعدد للأصوات فكان صوت مريم الساردة هو الصوت الرئيسى بالرواية ولكن هناك أصواتا أخرى كأبيها وأمها ومعلمها بالمدرسة وإخصائية المسرح بالمدرسة التى تماهت معها كثيرا وكذلك المعلمة التى تحكى لهم الحكايات بالفصل وكذلك مدير الندوة وبائع الكتب عم عبد العليم عبروا عن آرائهم بأصواتهم وليس بصوت الساردة .
كانت المشهدية طريقة رئيسية فى السرد حتى يصح القول أن الرواية عبارة عن مشاهد متتالية للأحداث مثل مشهد طريقة جلسة المعلمة (أبلة سناء) بالفصل " تدخل الفصل مرة فى الاسيوع تضع قدمها حيث نجلس ، وتجلس حيث نضع الكتب ، فى مكانها المعتاد أول الصف ، لتتمكن من كشف الفصل كله ، تفتح الكتب الملونة وتبدأ الحكى. يمكننى المراهنة على أنك إذا ما أسقطت إبرة –وهى تحكى-لاستمعت إلى رنتها"ص43 ، ومن أعذب مشاهد الرواية شراء الساردة اول كتاب من مصروفها وعنوانه "قوس قزح" من محل خردوات تذهب إليه على أطراف القرية وصفه لها عابر بأنه يحوى من الإبرة إلى الصاروخ وهى تشب على أطراف أصابعها وتناديه بصوت عال حتى يسمعها وهى تسأله "عندك حكايات ياعم ؟" ص45 وبالفعل أحضر سلما وصعد وأخرج بضعة كتب نفض عنها التراب وناولها لتختار منها وبالفقرة إشارة رمزية إلى المنزلة العالية للكتاب وكذلك إلى قلة الإقبال عليه .
كان السرد بلغة عربية بسيطة وعذبة يتخلله بعض العبارات العامية موضوعة داخل أقواس وكانت معبرة مثل ظل الخشب (ملطوعا) بالطابق السفلى ، نجحت محاولاتى الكثيفة (بالزن) ، ستنفجل أعين من يراه ، أما الحوار فكان بلغة عربية بسيطة وبجمل قصيرة مكثفة مثل
- ماذا بعد البحر يا أبى ؟
- بلاد أخرى وناس آخرين .
تخللت الرواية السخرية والتهكم ممن تستاء منهم الساردة مثل وصف زوجها ( الرجل الذى بجانبى ، الرجل الذى تزوجت ) وهى عبارة عبرت فيها بأقل الكلمات عن إستيائها من زوجها الذى يستنكر علاقتها بالكتب ويطلب منها إعداد الطعام أو كوب من الشاى أو إصطحابها إلى غرفة النوم كلما رآها تقلب فى كتاب لتقرأه ، وعن مدير إحدى الندوات الأدبية حين إنتقدها بعد قراءتها لقصيدة لها علقت على كلامه " لم أفهم أبدا كلام ذلك الرجل الأصلع الجالس إلى المنصة" وهى عبارة ساخرة عبرت فيها عن تهكمها عليه لإستيائها من آرائه التقليدية ، كذلك عبارة ( الشاب ذو النظرة النافذة ) عن الشاب المثقف الذى تعرفت عليه بالندوة واستاءت من رأيه بأن الكتابة لابد أن تتولد من الألم ولا يجب أن تكون سهلة .
لعب الخيال دورا كبيرا جدا ومؤثرا ومتداخلا مع الواقع ومعوضا عما تفتقده الساردة وعلى سبيل المثال شخصية أخصائية المسرح الشابة بالمدرسة التى تحب الساردة وتطالبها بالمزيد من القراءة والكتابة والتى عرفتها على الندوات الادبية وأهميتها فى تنمية المواهب وعرفتها كذلك على الكاتب الامريكى همنجواى وروايته العجوز والبحر التى تدرس قصته باللغة الانجليزية ، وعلى الكتّاب محمود درويش ، أمل دنقل ، صلاح عبد الصبور ، فؤاد حداد ، جاهين والأبنودى ، تدربها إخصائية المسرح وزميلاتها بالمدرسة على مسرحية لعرضها قبل نهاية العام الدراسى ولما تأخرت فى تحديد موعد عرض المسرحية وأقترب الإمتحان ، لجات الساردة إلى مديرة المدرسة لتحديد موعد للعرض وهنا تساءلت المديرة "أى عرض تقصدين؟ عرض ماذا؟ وعن أى أخصائية تتحدثين ؟ لا أخصائيات مسرح بالمدرسة !" وربما كانت تلك الإخصائية إحدى شخصيات مريم نفسها المنقسمة إلى ذوات أو نسخ أخرى كما عبرت الساردة ببداية الرواية ، كذلك كانت هناك عبارات بالرواية تشكك فى حكايات الحمل والولادة للساردة ، عندما نظرت إلى جسمها بنظرة فاحصة فلم تر أثرا لأى عملية قيصرية للولادة والتى حكت عن حدوثها من قبل ، وكذلك عندما دخلت الأم إلى حجرتها المظلمة وحين أضاءت المصباح رأت ابنتها الساردة وهى تحتضن أختها الرضيعة وتلقمها ثدييها فصاحت بها
"ماذا تفعلين بأختك ؟"ص52
مما جعلنا نتشكك فى رواية الساردة عن حملها وولادتها لطفل وبزواجها أيضا ونعتبره محض خيال للساردة والتى اتخذت من هذه الحكايات موضوعا لكتابة نص ، وهو ما يفسر تماهيها مع مريم العذراء واتخاذها شبيهة لها ، وبمعجزة الكتابة ولدت الساردة طفلا/نصا دون رجل أوزواج وهو ما يفسر عنوان الرواية صورة مريم أى الشبيهة بمريم العذراء ، وبالرواية تناص مع آيات عديدة بالقرآن الكريم تناولت قصة مريم بسورة مريم وآل عمران وغيرها .
إبتعدت الكاتبة فى الرواية عن الكتابة التقليدية واستطاعت كتابة رواية تجريبية ممتعة ومثيرة ، لعب فيها الخيال دورا محوريا ، اتخذت من اللعب الفنى طريقة لبناء الشخصيات وتعددت صور/ نسخ الشخصية الرئيسية بحيلة المرايا المتقابلة أوالقطع المتناثرة لسطح مرآة مهشم وبعدد القطع المتناثرة تكون نسخ لنفس شخصية مريم ، وتداخل الواقع مع الخيال فى مشاهد حية ومتحركة غير ملتزمة بالخط الزمنى التقليدى وكأننا نشاهد فيلما مثيرا غامضا وجذابا .
---------------------------------------
القراءة الكاملة لرواية صورة مريم للكاتبة النابهة مريم العجمى وقد قرأت أجزاء مختصرة منها أثناء مناقشة الرواية بورشة الزيتون مساء يوم الأثنين ٢٠٢٣/١٠/٣٠ .
May be a doodle of 1 person and text

All reactions:
28سمير الفيل, Amal Al Sherif and 26 others

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى