علوان السلمان - (منازل العطراني) والانفتاح على افق التجربة الحكائية (التاريخية ـ السيرية)

لحنا مينه.. (يكفي ان احلم بالنجم.. واتوجه اليه بكل ذاتي)

السرد الروائي.. فن متميز بقدرته على تصوير الواقع واستلهام تناقضاته من خلال دائرة اكثر اتساعا من أي نوع ادبي آخر (شعر او قصة ..) .. انه مغامرة فنية لخلق بنية سردية متناهية باعتمادها اللغة المجازية التي تتكيء على الصورة الفنية والرمز باعتباره عنصر يساعد على تحريك مظاهر النص وفق معطيات معرفية..مع غموض جمالي شفيف..كونه يتمتع بشمولية لخارطة الحياة وقدرتها على رصد العلاقات في دائرة الظروف المعاشة..
وباستحضارالنصالروائي(منازل العطراني) الذي نسجت عوالمه الاربعة والاربعين انامل منتجه الروائي جمال العتابي واسهم الاتحاد العام للادباء والكتاب في العراق في نشره وانتشاره/2023..كونه نص سردي يقوم على اقتناص الأحداث الواقعية وبلورتها وتحويرها لكينونة لغوية تحيلها من الواقعي إلى الجماليّ في اطار بنية سردية مستفزة للذاكرة من اجل استنطاق ما خلف مشاهده..ابتداء من الايقونة العنوانية والعلامة السيميائية الدالة والعتبة الموازية.. المفسرة للنص كما يرى رولان بارتوهي مكتنزة بوظائفها المناطة باشتغالاتها(الدلالية والتأويلية والثقافية والاخبارية.. وقد توسطت ما بين اسم المنتج وجنسه وهم يفرشوا وجودهم على لوحة مضببة بلون رمادي يحتضن وجود قروي مأزوم واعتلاه السواد الذي تخللته بعض الامتدادات الضوئية الرامزةلامل موعود يخاطب الوجدان الجمعي وفق معيار حكائي مع تركيز على النوازع الحسية.. فضلا عن تميزها بتنوع مضامينها الاجتماعية والنفسية والعاطفية والسياسية،مع اعتماد التقصي والاستقراء في معالجة الحدث..اضافة الى انهاتكشف عن خطاب اتصالي يثير الانفعال ويستفز الذاكرة عبر وحدة عضوية تشكل نسقا جماليا متداخلا والفعل السردي والاستدلالي.. مع تنوع بنيته القائمة على
تيماتحكائية منتزعة من الواقع
(النجوم الشفيفة كانت تضىء له الطريق فتسلل الى اطراف المدينة...كان الهواء باردا يحمل رطوبة طين الازقة..يساقط رذاذه على وجهه..الخر يسري في مسامه سريان البرق في الظلمة..ظل مثقل الراس..مخدر الحواس في حين بدأ الليل يوغل في النعاس بينما بسأل احد المارة ليدله الى بيت(زامل) مدركا منذ البدء مروءة الرجل المكافح المؤتمن على السر..افتتانه بقوة جسده النادرة التي لاتحتاج الى اختبار في اليوم الصعب..لحظة اقترابه من عتبة المنزل كانت هناك بقايا ذكريات تنبعث كالحلم المستحيل من بين شقوق الارض والجدران المغبرة..تتسرب العيون من خلف الباب المقفل..تتسربل قدماه المترددتان فوق الدكات الاولى برنين صوت زامل وصلوات كريمته(تينة)فيرتفع وقع انفاس(محمد)كلما اجتاحته رأفة اشباح الذاكرة..اصوات مدوية في رأسه تبعث في اوصاله رعشة خوف واخرى تتراوح بين الخوف من هذه البداية واشباح قادمة في المجهول..) ص16..
فالنص ببنياته الرؤيويةوالزمكانية المتداخلة في تشكيله وهي تحتضن الذاكرة المستلهمة لتناقضات الواقع ضمن سياق حدثي يعني بمظاهر الخطاب اسلوبا وبناء ودلالة،وهو ينطوي على افقين مترابطين:اولهما افق التجربة الذي يتجه مشيرا الى ما مضى من الزمن مكتسبا صياغة تصويرية تنقل تتابع الاحداث،وثانيهما:افق التوقع المستقبلي وفق منظور ذاتي.فضلا عن انه يطرح افقا متجاوزا بتفجيراته الدرامية المرتكزة على تقنيات فنية امتدت على امتداد الجسد النصي السابح في عوالم متصارعة مؤطرةباكثر من زاوية رؤية فكرية بحكم حركة التحول والانفعالات المشهدية التي تقوم على شبكة من العلاقات (الحدثية والشخصية..) التي تؤطرها وحدة موضوعية نابضة بالحياة،وكاشفة عن مكنونات الذات الانسانية ومناطقه الفنية وصوره المستفزة للذات الاخر(المستهلك) من اجل استنطاق ما خلفها والكشف عن عوالمه..اضافة الى مشاركة الطبيعة وهم الشخوص..
فدلالة السرد ينطلق من رؤية المنتج المحصورة بين التذكر والتعلق بالماضي وبين تصوير الواقع وتفصيل حوادثه باقسامها التي تمحورت حول شخصيتها الرئيسة (محمد) التي تهيمن على السرد الروائي وتجعل منها رواية سيرة .. فالشخصيات ( صالح كيطان ـ زهرة ـ عصام ـ زامل ـ ناصرـ جبرـ مينة ـ عويدـ فطيم ..) كلها مرتبطة به والحدث الروائي يدور حوله بالرغم من تنوع المنظور السردي الذي يدلل على تقنية روائية بتعدد زوايا السرد التي شكلت سمة فنية من سمات الرواية ..هذا يعني ان المنتج(السارد) يولي المنظور السردي عنايته بالاستعانة بالوصف حينا والمعلومات التاريخية حينا آخر ..بلغة منبثقة بفنية وعذوبة تعبيرية تنطلق من رحاب بساطتها التي تندرج على طبيعة الحدث وتشكل روايته .. وفي هذا توكيد التوحد العضوي في البنائية الفنية ..اضافة الى ان الواقع المتحرك داخل الابواب الرقمية استطاع ان يكون فاعلا في بناء الاتجاهات الحكائية ومن ثم القدرة على استلهام ورصد تحولاته..كون حركة الواقع في تقدمها شكلت الحوافز الجوهرية في تطور البنية الجمالية الحكائية.. بقيام المنتج سرد مواقفه بلغة مباشرة تحقق الوعي الخارجي للشخصية وهذا ناتج عن افتقاره الى بعد داخلي نفسي.. ولهذا السبب نلحظ ان السرد لايجري من خلال مونولوج داخلي وانما يعتمد وصف الشخصية من الخارج والكاتب فيها هو الذي يحضر في السرد وليس الشخصية..لذافالنص يمازج بين نسقين فنيين:اولهما النسق الواقعي..وثانيهما النسق التخييلي.. وهو ينتظم بخط متناسق يقوم على درامية عبر انعكاسات الذات المتحركة داخل نسيجه الحدثي وانساقه التي تتجلى فيها التحولات السردية..عبر لغة محكية وتقنيات فنية اسهمت في تحريك السرد وتناميه.. من خلال توخي الايجاز وعمق المعنى الكاشف عن تصوراته واحتواء عوالمه وتفاعله معها بشكل فني جاذب.. فضلا عن هيمنة الذاكرة التي تزيح الرؤية البصرية لتحقيق الرؤية الذهنية.. التخييلية بتوظيف طاقة لغوية متفجرة كاشفة عن قدرة المنتج(السارد) على شحن الالفاظ بدلالات غير مألوفة من اجل التحليق في افق المشهد من خلال بنية نصية تعتمد التكثيف والايجازوالاختزال الجملي مع مفارقة اسلوبية ادهاشية.. فضلا عن خلقه عالما متميزا بالثنائيات التقابلية داخل البنية المجتمعية بوعي معرفي وجمالي وتوظيف جمل تحمل بين طياتها افعالا متحركة اسهمت في تسريع السرد..كالشعر : السجن ليس لنا نحن الاباة السجن للظالمين الطغاة
وقوله:
يموت الشجر بجانب البئر عطشا لكنه لا ينحني ابدا لطلب الماء /ص7
والاهزوجة(هوه بلنده وحسه هنا)ص23..والمثل(الفاس وقع بالراس) ص6..
(اتذكر تلك اللحظة المجنونة حين زاحمني الحصان الذي يجر عربة النفط مندفعا بسرعة من جراء سياط صاحب العربة التي الهبت ظهره..كادت عجلاتها ان تسحقني لكن سيقان الحصام رمتني ودراجتي على الرصيف..تلمست رأسي حالا شعرت بالاطمئنان انه لم يصب بأذى..تجمع الناس من حولي واسرع صاحب العربة الي..لا استطيع ان اروي ما قال لكنه كان يبكي ويلطم الوجه..اتذكر انه ظل يتوسل لنقلي الى المشفى..وتلقى المزيد من شتائم المارة..امتنعت بشدة عن تسجيل شكوى ضده في مركز الشرطة..راح غير مصدق..لا اعرف اسمه ولا عنوانه..) ص38
فالمنتج(السارد) يصوراللحظة السردية المكتنزة والمترعة بالجمال بلغة قادرة على التعبير والايحاء.. بانتقاء الالفاظ البعيدة عن الضبابية والتقعر.. المشحونة بالالم ليرسمها على نافذة ادراك متلقيها فيتاملها محركا خزانته الفكرية شاغلا لها بالتحليل والتاويل..اضافة الى تميزها بدفقها الشعوري وتجذرها في الاجتماعي والسياسي مع تجاوز القوالب المتوارثة وكسر رتابة الحياة والواقع بخطوط سردية متوهجة..قابضة على اللحظة بسيميائيتها الدلالية والجمالية مع توحدها والمنظور السردي والالتقاط المشهدي.. فضلا عن تعدد المستويات الوصفية (وصف الامكنة ووصف الطبيعة..)..
وبذلك قدم المنتج عملا فنيا لا ينقل السرد التاريخي وانما ينقل تصورات المنتج له..فضلا عن التداخل الاجناسي بين فنين متباينين سرديا(السرد الروائي والسيري الذاتي) وهذا ما تكشف عنه الموجهات النصية(الشخصية والحدثوالزمكانية..) .وهو يقترب من الوعي الموضوعي للواقع الذي يصوره..كونه يعي طبيعة المتناقضات والصراعات في واقعه.. فكان مساهما في الوعي الاجتماعي والاقتصادي..وكانت (منازل العطراني) متميزة بسرديتها التي تفتح افق تجربة فرشت روحها على الحكي.. فشخوصها ترتبط بواقعها من خلال ارتباطها بمجتمعها وشخوصه..وهي تؤكد حضورها وخصوصيتها بالرغم من تداخل مقاطعها وتقاطعاتها.. وضمن هذه البنية السردية يستحضر المنتج الهم الشعبي بلغة محكية .. تتوظف داخل السرد في وصف طبيعة العلاقات وطبيعة الصراعات القائمة داخل المجتمع فيبرز الكاتب قدرته كسارد يحكي واقعا ببراعة في التقاط الواقع الاجتماعي للكشف عن دواخل الشخصية المتناقضة والوعي الذي تمتلكه.. لذا كان وصف الواقع والشخوص مجموعة من التداخلات استطاع السارد ان ياخذ مادة حكاياته منهاويشكلها ويركبها بطريقته الخاصة محافظا بقدرته على نقد الواقع ومحاولة تجاوزه.. بتحريك الاشخاص من الخارج وتحكمه فيها تحكما تاما..مما جعل مشاهده متميزة بتسجيليتها والتقاطها اللحظة العيانية بواقعية مباشرة .... ويكسبها شفافية وقدرة على بحث الواقع ضمن تناقضاته ..فكانت (منازل العطراني) قريبة من الوعي الموضوعي للواقع الذي تصوره..
فائدة:
عناوين الفصول اعتمدت الترقيم من اجل اشراك المستهلك(المتلقي) في العمل باشغال ونبش خزانته الفكرية .. اضافة الى انها تحيل على رغبة في اكساب كل فصل استقلالا داخليا من باب اكتماله بذاته .. وهذا يعني ان السردية عنده تكشف عن نزوع صوب المشهدية المبنية على حوارية تبطيء من سرعة السرد وتدفقه مفسحا لعقل المتلقي الافصاح عن رأيه دون وسيط ..



1.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى