أمل الكردفاني- الفاقدون لذاتهم

يعتقد البعض أن العزلة هي فقد الآخرين، ولكنها في الواقع محاولة فاشلة لاسترجاع الذات. لأن المنعزلين عن العالم والأقل تكيفاً معه هم في الواقع يفتقدون لذواتهم. إنهم يعيشون خارج أجسادهم، وخارج أرواحهم، وكأنما يشاهدون أنفسهم من بعيد. إنهم موتى حقيقيون.
لا أعرف كيف أفسر هذا الأمر، أو فلنقل ذلك الشعور الذي ينبع من الإنسان بأنه لا ينتمي إلى نفسه، وليس فقط غير منتمٍ إلى العالم، فعلى العكس، المفتقدون لذواتهم يبتلعون العالك كله في تجاويفهم، يبتلعون كل شيء في هذا العالم ما عدا أنفسهم، فهم كأكتساب الأشياء للونها حيث تمتص كل الألوان ما عدا لوناً سيكون هو لونها إثر ذلك الصد.
افتقاد الذات، مسألة تمنحنا تفسيراً مختلفاً للانتحار، فالمنتحر لا يرغب في التخلص من جسده وروحه، بل يريد العودة إليهما عبر الإنفكاك من ذلك الرابط الواهن بينه وبينهما، ليعود فيكون هو الكل. إنها تشبه الأقانيم الثلاثة. لا يحاول المنتحر أن يموت بل أن يحيا من موته، عبر إيجاد ذاته ولو في تلك الثانية التي يتدلى فيها جثمانه من حبل المشنقة. تلك الثانية ستكون -كما يتصور هو- هي لحظة ميلاده ميلاداَ حقيقياً متحايثاً مع ذاته، فلا فرق بينهما، وهي الثانية التي يتصور أنها أشد إيلاماً من كل آلام العالم.
إنني أعتقد أن ما يطلق عليه حضارة وحداثة هي أكثر أدوات فقد الإنسان لذاته، وأن البدائية هي التي عاش فيها الإنسان أكثر حقبه إلتصاقاً بذاته؛ ملاحقة الفرائس، والدخول في مجازر، وربط أنشطته بحفظ النوع وغريزة البقاء، ثم استمراره في الحياة بكل أمل. أعتقد أن كل ذلك جعله إنساناً محتفظاً بذاته. الإنسان الذي لا يملك وعياً بالخصوصية، فهو عارٍ باستمرار، يتغوط أمام الجماعة، ويمارس الجنس أمامهم كما لو كان يأكل الطعام، ويهرول مع جماعته ليقتل الجماعات الأخرى التي تزاحمه في صيد الفرائس، يذبحهم بكل أريحية، لا يشعر بالقرف من منظر سيلات مخاط أنوف الآخرين، لا يكترث للروائح العفنة، هذا هو الإنسان المحتفظ بذاته. إن نقمة الخصوصية التي أورثتها لنا الحضارة، وتعزيز دوافع غير البقاء مثل الترقي الاقتصادي والرقي الأتيكيتي، والخوف من رؤية الدم، وظهور النقود ليست فقط من أجل تقييم السلع والخدمات وتبادلها بل باعتبارها غاية، وكذلك نهاية الشيوع، وتكريس الاحتياز بالتملك على مستوى شديد الفردية، كل هذا أفقدنا ذواتنا، وجعلنا غرباء عن أنفسنا. وفي الوقت الذي تبتعد فيه الحلول عن أيدينا يوماً بعد يوم، فإن الإرهاب، والقتل، والإنعزال، والانتحار، والانغماس في التدين، أو الفساد، ستكون هي الحلول المتبقية لنا.
لكن هل هناك حلول أخرى لإعادة امتلاكنا لذواتنا؟
كيف نعود لنشعر بذواتنا؟ وكيف سنتمكن من وقف فقدنا لذواتنا؟ ونحن نخضع لتكرار الليل والنهار، وتكرار الساعات الأربعة والعشرين، ونمو اجسادنا وذبولها وموتها، دون أن نتمكن يوما من التلاحم مع ذواتنا تلاحماً حقيقياً، بحيث لا نفقد المعنى لوجودنا نفسه؟ كان على الفلسفة الوجودية أن تعطنا مفاتيح للإجابات، ولكنها لم تفعل، لقد أعادت وصف الحقيقة دون أن تطرح جديداً سوى توسعة اللغة.
ولكن قد يمكننا أن نخفف من غربتنا عن أنفسنا قليلاً بأن نحاول أن نحيا كما يجب. أياً كانت حدود مفهوم (ما يجب) ومهما كانت المفاهيم خاصة جداً. "أن نحيا كما يجب"، جملة محيرة حقاً، محيرة لأنها قد تختلط بفقد الذات كما تعبر عن الإلتقاء بالذات. تماما كالموت الذي لن نعرفه أبداً إلا من خلال موت الآخرين. ولكن لا مانع من أن نفكر فيها، وأن نستشعر المعنى، لكي نراه وإن لم نكن قادرين على الإمساك به. أن نحيا كما يجب، جملة محزنة جداً، لأننا كلما تأملنا حياتنا، بدت لنا وكأنها ذكرى قديمة وشاحبة، بماضيها وحاضرها، وبمستقبلها الذي نجهله والذي ننغمس فيه كل لحظة دون أن نعرفه. أن نحيا كما يجب قد يكون تخفيف كل ما يسبب لنا الألم. وإن لم يكن بالضرورة قد يؤدي بنا ذلك إلى السعادة. ليس الألم هو ذلك الذي ينتج عن المرض، بل ألم المرض هو أقل الآلام، إنما الألم الحقيقي هو ألم الذلة، والتي يحاول أغلب البشر تجنب تعرضهم لها بإمتهان كرامتهم. لكنهم في مرحلة ما من مراحل حياتهم لا بد أن يتعرضوا للإمتهان. ومن هنا يمكننا أن نقول بأن الحياة كما يجب هي الحياة التي يختفي فيها الخوف من الإمتهان. وبما أن ذلك أشبه بالمستحيل؛ فإنه لا إنسان يمكن أن يحيا كما يجب. فليس الإمتهان هو مسألة يتعسف فيها صاحب القوة على الضعيف، بل إن المسبب الغالب لها هو تقاطعات توجهاتنا، المتديون ضد غير المتدينيين، اصحاب السلطة ضد من لا يملكون سلطة، الأغنياء ضد الفقراء، خيارات الآخر ضد خياراتنا.. وهكذا. لم تعد القضية هي قضية ملاحقة الفرائسة واصطيادها ومنع الآخرين منها، بل نحن داخل صراع خيارات الحداثة، والآيدولوجيات، صراع القديم والجديد، وصراع الجماعة ضد الفرد والفرد ضد الجماعة، والفرد ضد الفرد ايضاً، والخارج ضد الداخل، والطموحات التي لا نعرف لها حدوداً، وخيبات الأمل، والخضوع القسري لكل المؤسسات التي تحيط بنا، حَمل جواز سفر، والقتل على الحدود والاحتجاز في المعابر، وتكميم الأفواه، والاحتكار للسلطة والثروة والقانون، كثافة العمليات النفسية التي تمارس ضد عقولنا، المسرحيات التي تكتب وتخرج وتمثل على خشبات المسارح الإنسانية الكبرى. السقوط في معضلة تجاهل التمييز بين ما هو خير وما هو شر، والارتحال وحيداً من أجل اقتناص فرصة لا نعرفها، ولا حتى نشعر بها. كل ذلك وغيره يجعلنا نفتقد "للحياة كما يجب". إذ لم نعد نعرف ما هي حدود "يجب" هذي. وهذا التفكك هو جوهر افتقاد الذات، إذ نبدو متملقين ومنافقين حين نعتقد بأننا نمثل ذواتنا الحقيقية. فهذه أكذوبة، نعلمها في عقلنا الباطن. وتشعرنا بضرورة توجيه اللوم لشيء ما.. شيء آخر، قد يكون ذواتنا التي لا ننتمي إليها، أو للآخرين الذين يمكن أن يشتملوا على كل ما هو بشري وغير بشري بما في ذلك الله تعالى.
هذا الإنفكاك ما بيننا وبين ذواتنا مسألة محيرة، لأنه من المفترض أن نكون نحن هو ذواتنا، ولكن هذا لا يحدث في الحقيقة، إننا ممثلون مسرحيون لشخصيات مسرحية في مسرحيات من الكوميديا شديدة السواد.
.....(يتبع)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى