أمل الكردفاني- الأخلاق التي دمرت الأخلاق

لا زلت أعاني من الوسواس الأفلاطوني، الرغبة في خنق أفلاطون، أو العودة إلى الوراء لتدمير الفلسفة الأفلاطونية، فلسفة المُثُل. نعم كانت المثل حاضرة قبل افلاطون بآلاف السنين، وسنجد التعبير عنها في الحضارات القديمة، في نظام (لي) الصيني، وفي عبادات الفراعنة كما اشار إليها هنري برستيد في كتابه القيم فجر الضمير، ولكن أفلاطون تحديداً حرف مسار الفكر الإنساني إنحرافة كبيرة، منهياً الفكر العقلي النفعي الذي كان السفسطائيون سيقودون عبره البشر إلى وضع أفضل مما هو قائم اليوم.
دعنا نضرب مثالاً بالعدالة، العدالة ككلمة تجدد طزاجتها عند كل نطق بها، رغم أنها في الواقع ليست إلا مفردة رومانسية، فأنا لا أعرف لها معنى، حتى تلك المحاولة البائسة من فقهاء القانون حين يحاولون تعريفها بأنها: (إعطاء كل ذي حق حقه) إنما خلطت بين المادي والمعنوي.تخيل معي عزيزي القارئ كم تدمع عيناك كلما سمعت كلمة عادل: حاكم عادل، قاض عادل، زوج عادل، .. الخ. هذا في الحقيقة وهم، فالقاضي الذي يحكم بحقك لا يختلف عن الموظف الذي تدفع له رسوم لاستخراج بطاقتك فيعطيك البطاقة، متى قلنا بأن هذا الموظف عادل؟ ألا يقوم القاضي بنفس دور الموظف، أنت تلجأ له وتقدم اثباتاتك فإذا اكتملت بحيث رجح حقك في نظره أعطاك حقك، إنه ليس عادل، وإنما أدى وظيفته فقط، وكذلك الحاكم الذي يعط الشعب حقوقه، فهو ليس عادل، لأنه لم يتبرع من جيبه الخاص بل اعطاك حقك بالفعل لأن هذه هي وظيفته، فإذا رفض الموظف منحك البطاقة فليس لأنه ظالم بل لأنه لص (سرق حقك)، وكذلك القاضي وكذلك الحاكم، وكذلك الزوج، وكذلك..الخ. إن كلمة (عادل)، وكلمة (ظالم)، هما كلمتان أضفتا طابعا أخلاقياً على فعل لا يستحق أن يحصل على أي طابع أخلاقي. ما أفهمه أنا هو المصلحة التي يحميها القانون أو ما يطلق عليه البعض (الحق).
تلك المصطلحات العاطفية، نقلت البشرية من العقلانية إلى الرومانسية، وجعلت الكثيرين ينتظرون المعجزات. أما إن لم تكن المصطلحات موجودة، ولم تكن الأخلاق (كأقصى مفردات العاطفة ابهاماً )، لكان الفكر المادي والأداتي والنفعي هو الذي سيسود، وهذا النوع من الفكر كان سيقود البشر إلى صراعات كبيرة، تنتهي بخوف الجميع من الجميع، وبالتالي، الاعتماد على التفاوض المستمر لتجنب الصراع، ومن ثم وضع قوانين تتسم بالمساواة، وتطبيق وتنفيذ لتلك القوانين بجودة أكبر، لأن الإنسان العاقل لن يقبل أبداً الإنتقاص من حقوقه. ولن يصف من يمنحه حقه بأنه عادل، أو طيب، أو خلافه من تلك الصفات الفضفاضة والمبهمة، والقانون لا يكون بجودة عالية إذا لم ينتج عن صراع تتساوى فيه قوة القوى المتصارعة، وليس الاخلاق المثالية، ليست فكرة وجود حقائق في السماء لها محاكاة مشوهة في الأرض، فهذا لن يفيد بأي حال، لا خير ولا حق ولا جمال. بل الإقتناع بفكرة الصراع والمزاحمة من أجل دفع عدوك للجلوس من أجل التفاوض وبالتالي سن قانون يرسم الحدود الفاصلة بين حقك وحقوق الآخرين. وفضلاً عن أن كلمة أخلاق كلمة فضفاضة، فهي نسبية بحيث تختلف من مجتمع لآخر ومن زمان لآخر، لكن الأخطر أن الأخلاق يتم استثمارها سياسياً لفرض وصاية تشرعن لانتهاك حق الآخر في الاختلاف. فإذا انتصر الشيوعيون وضعوا قوانين تحمي مصالحهم على حساب غيرهم بحجة قيم العدالة، وإذا انتصر الرأسماليون فعلوا ذات الأمر بحجة الحرية، وإذا انتصر الدينيون والطائفيون فرضوا توجهاتهم وتوجهات طائفتهم واستغلوا ذلك للعسف بأعدائهم.
ظلت الأخلاق سلاحاً ضد البشرية على مستوى القانون، ورصاصاً يجندل المساواة. فكأنما كانت الأخلاق دائماً ضد الأخلاق. في الوقت الذي كانت سيادة النفعية ستؤدي إلى أن تكون الشعوب دائماً في حالة تجهيز لأسلحتها كي تخوض الصراع، وعلى استعداد دائم للنصر والهزيمة. لذلك أنا لا أفهم لماذا يتباكى الكثيرون على الفلسطينيين، رغم أن حال الفلسطينيين أقل كارثية من الهنود الحمر، بل حتى من الشعوب التي تعرضت للغزو بما فيهم الأوروبيين، بحيث لم تؤد تلك الغزوات إلى مجرد أخذ الأرض، بل حتى انقراض اللغات والأعراق، وتشكل مجموعات بشرية معاصرة لما بعد الغزو. من منا يستطيع أن يجزم بحقيقة أصول شعب من الشعوب؟ لا يمكن، لأن صراعات البشر كانت دائما تجدد الدماء والجينات، تجدد الأعراق وتولد شعوب على أنقاض شعوب أخرى أو تتشكل شعوب بسبب تمازج الأعراق المتباينة. فالصراع هو من بنى التاريخ ولم تبنه الأخلاق ولا فلسفة المُثل الأفلاطونية، ولولا حضور الأخلاق داخل هذا التاريخ البشري، لأفضت نتائج تلك الصراعات إلى إطالة حقب الهدنة بين البشر، إذ كانت العقلانية هي التي ستسود ويلجأ إليها البشر لإيجاد قواسم مشتركة ومحمية بالخوف والحذر والانتباه.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى