إبراهيم أحمد - النسر في المطبخ

استيقظ صباحا متأخر أكثر من ساعة عن وقته المعتاد، وجد أن الساعة المنبهة القديمة قد تعطلت. قال في نفسه هذا نذير شؤم، وأحس بوحشة وحدته أليمة ممضة أكثر من ذي قبل. مع ذلك هرع ليعد شيئا يأكله قبل أن يتوجه إلى عمله في دائرة البريد. نظر من النافذة، كان فضاء بغداد متألقا بشمس ذهبية ونسيم فيه دفء، وعذوبة مبشرا بالربيع. لكنه أحس بأحشائه وخزة الساعة التي غدرت به، كيف سيتلقى نظرات مدير الدائرة الذي يتربص به محاولا التشكيك بقدراته والنيل منه؟ كان الزيت يغلي في المقلاة وهو يحاول فتح البيضة فوقه عندما انشقت لوحدها فجأة وبقوة، وخرج منها طائر دفع يديه وأسقط قشرة البيضة وسوائل دموية فوق الزيت فتناثر رذاذ ساخن منه على وجهه. بصعوبة فتح عينيه، دهش وجمد في مكانه وهو يرى الطائر يحوم فوقه! كان بحجم عصفور، يدور باحثا عن مكان يقف عليه. أخذه الخوف! ما هذا ؟ أيمكن لبيضة الدجاجة أن تخرج طيرا، ويحلق على الفور؟ ولكن أهي بيضة دجاجة حقا؟ مساء أمس وعند عودته إلى البيت اشتراها من وكيل شركة الدواجن، ومحله كبير ومعروف في شارع رئيسي! فتح الثلاجة وأخرج طبقة البيض، كانت مغلفة بالسلوفين وعليها ختم حكومي رسمي؟ إنه بيض الحكومة، ولا غبار عليه. كيف خرج منها هذا الطائر الغريب؟ ازداد توجسا وذعرا، ارتجفت أصابعه وتشنجت وأحس بجفاف مر في حلقه! وجد الطير يكبر، خلال دقائق صار بحجم غراب تقريبا، وبعينيه المدورتين كعيني بومة كان ينظر إليه وبنباهة وخبث، بحركة لا شعورية كسر جموده واتجه إلى شباك المطبخ وفتحه يدعوه للخروج. أراده أن يخرج ولا يعود فينساه كأي كابوس من هذه الكوابيس التي تداهمه هذه الأيام! لكن الطير ظل في مكانه يحدق به بنظرات لا تخلو من الحقد. وكان يكبر. فقرر أن يتجاهله،عله ينساه! "عل أحدنا ينسى الآخر!" عبارة وحيدة قالها بصوت مسموع! تصاعد الدخان من المقلاة فأغلق الطباخ، وحين طالعته طبقة البيض من الثلاجة وقد نسي أن يسدها؛ أحس برجفة! أن يخرج طير كهذا من كل بيضة، ثلاثون طيرا شرسا؟ تلك كارثة ليس عليه وحسب بل على المدينة كلها فهذا الطير الذي فتح جناحيه أضحى بدقائق قليلا نسرا كبيرا. تساءل في نفسه هل سيجرأ ويحدث وكيل الشركة الحكومية بما حدث؟ ماذا يعني ذلك لديهم؟ قرر أن يصمت، فقط أن يخرج هذا الطير المرعب. كلما تشاغل عنه، وعاد ينظر إليه يجده يكبر! الآن صارت عيناه تحدقان به بنظرات زجاجية جامدة مفزعة! إنه نسر جبار مفترس كأنه جاء لتوه من كهوف جبل شاهق بعيد، وليس من بيضة دجاجة في مطبخه الصغير التعيس، تفاقم خوفه وحين مر بالمرآة المعلقة في الممر، لمح صفرة وجهه، أنها صفرة الموت نفسه. أتجه إلى الصالة الصغيرة وتهاوى على الأريكة ممسكا جبهته، تطلع إلى الجدار. وجد النسر قد تبعه، وانتصب أمامه واقفا على عمود ستارة النافذة الطويلة ينظر إليه، منقاره المعقوف يتحرك ويتلمظ بشهية، يريد افتراسه! فكر بمن يتصل ليساعده في محنته، من سيصدقه؟ استبعد على الفور فكرته بالاتصال بالشرطة، بذلك سيصنع لنفسه قضية كبرى، ،حمل سماعة التلفون وطلب دائرته، رد الملاحظ ضجرا متأففا، أعلمه بصوت مرتعش أنه اليوم مريض جدا، ولديه حمى ورشح، ورغم إنه سمع منه كلاما جارحا، لكنه هم أن يقول له:

ـ في بيتي نسر متوحش مفترس، لو تساعدونني! لكن السماعة سقطت من يده وأغلق الخط. استحسن إنه لم يتحدث لهم بما يجري، فهم لن يكتفوا بجعله دليلا على قولهم أنه يعاني من خلل عقلي. بل سيعدونه تعريضا بالنسر شعارهم! ولكن هذا النسر ما يزال يكبر، يسمن ويطول ريشه الباهت المبقع، وبثقله المتنامي يوشك أن يكسر جسر الستارة المضمومة، أفرد جناحية وحجب نور النافذة، أعتمت الصالة، أيمكن للنسر أن يخرج من بطن دجاجة؟ ثم يكون بهذه القوة والشراسة؟ نهض بوجل وحذر واتجه إلى حجرة النوم، ألقى نفسه على الفراش وسمع حفيف جناحي النسر مدويا يدخل وراءه ويقف على جسر النافذة أيضا، ويفرد جناحيه كأنه يوشك أن يطير ولكن نظرته المسلطة عليه ومنقاره الكبير المفتوح تشيران إلى أنه سينقض عليه! ماذا جنيت ليلاحقني هذا النسر؟ ماذا فعلت أكثر من أنني كسرت بيضة دجاجة لأقتات بها وأذهب إلى العمل؟ خطر له أن يغادر البيت! ويتركه للنسر. لكنه وجد أن ساقيه جامدتان متخشبتان لا تطاوعانه على النهوض! زعق النسر وهو يثب، راح الرجل يصرخ ويصرخ ويصرخ، وهيهات! لا أحد يسمعه ، خاصة إن بيته على مشارف الصحراء ، والناس، من لا حاجة لديه؛ يلوذ في بيته متحاشيا فظاظة الآخرين، ومفاجئات الأيام!

إبراهيم أحمد

- النسر في المطبخ
أعلى