ميس داغر -نامق سلطان في محاولات متكررة للوصول..

مع أنّ المشي على الحبل هو من صميم مهام لاعبة السيرك، إلاّ أنّ الذي يمشي على الحبل في الديوان الذي بين أيدينا هو المؤلف، الشاعر نامق سلطان، بينما تتنحى اللاعبة لتأخذ منه مكاناً قصيّاً، يُرى ولا يمكن الوصول إليه. إنّ لاعبةَ السيرك في ديوان نامق سلطان، هي أكثر من أن تكون المرأةَ الحُلُم، التي تتراءى لخافق الشاعر، ومع كل المحاولات …لا تصلها عيناه. بل إنها ما يمكن اعتباره تمثلاً إبداعياً للغاية المنشودة الكامنة خلف القصائد كلها، والمستقر المبتغى خلف الحيوات كلها. قد تكونُ جوهرةَ نفسِه التي اختفت آثارها خلف سراب غديرٍ بين تلالٍ بعيدة، أو في أزقةِ مدنٍ تقلبت بين أمجادٍ ورذائل. إنها معضلة الشاعر المفجّرة لمشاعر العجز واللاوصول المتكرر، والتأويلات الآسية على كل ما مضى، الصارخة بعبثية حبل الحياة الممتد الحافل، حيث لا محطة يقينية واضحة يأوي إليها وينشد الراحة فيها والسكينة.
في سعيه لحل هذه المعضلة، شعريا على الأقل، تصطاد النوستالجيا المتحسّرة قلبَ الشاعر، فينهمك في تخيّل سيناريوهات مختلفة لأحداث مضت، كان يمكن لها -أي للسيناريوهات المتخيلة- أن تقود ربما إلى نهاياتٍ أقلِّ عبثية. هذه النوستالجيا المعجونة بمرارة الأسى تتعمق سرياليّتها إلى درجة أن تتحول إلى اللاإكتراث، الذي هونقيضُ الرغبة العميقة، ونتاجُ اللاجدوى.

لم أعد أشعرُ بالحيف
فالأسى لم يترك مكاناً لذلك
وما أنا إلا غريبٌ
وصلتُ المدينة في الخامسة فجراً
رأيتُ حشداً يمشي في جنازة
فتبعتُها
وحين علمتُ بأنّ المُشيّع هو الضُوء
طمِعتُ أن أفوز من المأتم بشمعةٍ واحدة
أبددُ بها ظلامَ مصابيحِكم

فالمنطق الإنساني المُثقَل تجربةً، المُنهَك استنتاجاً، يقول علامَ الشعور بالخسران، إن كان كل مَن في المدينة خاسرين!

تمثّلُ قصائد هذا الديوان، كأني أمشي على حبل، بغداد 2022، إثراءً فنّيا ومعنويّا بديلاً لحالة شعورية تنفرط فيها عُرى المعنى من قلب الشاعر الساعي إلى فهم وإدراك الوجود ومعايشته على نحوٍ أفضل، ليحاول، من ثمّ، من خلال اللغة والتأمّلات الوجدانية، إحلال شيء من سلطته في الفجوة التي خلفها غياب ذاك المعنى، مستفيداً ممّا يسمح به الشعر من استعلاء على أبعاد الزمكان ومنطق الطبيعة.
في عزلة الشاعر تحت ظل شجرةٍ مفردةٍ في تلٍّ معزول، وظنِه أنه يكتب أشياء غامضة لا يفهمُها سوى الشجرةَ وظلَها والتلّ، إنما هو في حقيقة الأمر يعبّر عن أزمة وجودية مزدوجة تعيشُها الذوات الإنسانية القلقة جمعاء. الوجه الأول لهذه الأزمة الوجودية هو بعدها الفلسفي المعروف، الذي يدور حول أسئلة الحياة الكبرى… لماذا؟ وكيف؟ وما الغاية؟ وإلى أين؟… والوجه الثاني لها هو التجربة الذاتية، المتفّردة بفهمها وتأويلها للأشياء والأحداث. وهي في حالة شاعرنا، تجربة قلقة متوترة، مهجوسة بما هو كائن وما كان له أن ينبثق بشكلٍ مغايرٍ إلى الوجود، لو تأتّى للشاعر أن يغيّر في افتتاحيات البدايات.

نعود إلى ذات الشاعر العالقة بين مكانين أو أكثر – بين نقطتي شك أو أكثر – حيث لا نقطة ثبات تتيح إمكانية الرصد الفيزيائي والنفسي لموقع هذه الذات… إنها تتأرجح، أو تدور وتدور، وإن حدث لحركتها المحمومة الركونُ إلى وُجهةٍ ما، فستشكّل هذه الوُجهة مجرد صدفة عاثرة…

هل كانت مصادفةً سيّئةً
قادتني إلى هناك؟ …
صحوتُ من نومٍ مضطربٍ
فوجدتُ نفسي على تلّة
وكأنّ الرياح
قد لبّتْ نداء سماويّا
فقذفتْ بي إلى الأعلى
وألقتْ حولي غثاء
من بقايا مسرّاتِ العالم
جلبتها الأمواجُ إلى الشاطئ
…..
إنها السابعةُ صباحا
ساعة الشمس الخاملةِ
والموجةِ الكسولةِ
والبدايةُ التي تبدو ممهِِّدةً
إلى خاتمةٍ قاسيةٍ
في المغيب

…..
الأرضُ تدور
وظلّي يدور حولي
وكلانا دائخٌ في مصيره
…..
كان يمكنُ أن أمدَّ جذورا
في الرمل
وأنشرَ أغصانا فوقي
لو طاوعتني ساقاي على النهوض
…..
سأبقى إذن هناك
أفكّر بجدوى أن أكونَ زورقا
مغروسا في الرمال
سأفتحُ صدري للنوارس
كي تبني أعشاشها
وترعى صغارها
وسأبقى أنتظرُ مصادفةً أخرى
تعيدني إلى الماء.


في ديوان نامق سلطان، هنالك دائماً ما يُغيّر وجهته، أو ينتهي به المطاف إلى غير ما يتأمل، إن كان بشرا، أو إلى غير ما يُتأمّل منه، إن كان حلماً أو سبيلا. وإن لم يحدث هذا، فنهاية المطاف ستكون خاطئة بلا شك، وتتطلب من الشاعر خيالاً خلاقاً لإعادة اكتشافها وفق احتمالات الممكن الأخرى. في الأثناء، سيظل الزمن عالقاً في نقطةٍ يتوقف عندها ليبدأ من جديد. تشريح الشاعر لعلاقته بالزمن في هذا الديوان تبدو مُلحّة وقهرية، ومتداخلة مع الثيمات الأساسية للعمل، عدا عن كونها خاضعة على الدوام للمساءلة والتشكيك والتفكّر والملامة والرجاء… إلى درجة أنني كقارئة أتساءل، هل يمكن لنا اعتبار الزمن خصماً مُراً للشاعر في معركةٍ محتدمة بينهما على صفحات هذا الديوان؟


أمضيتُ ثلاثة أيّامٍ هناك (يقول)
كنتُ أرسمُ دوائرَ وخطوطا
وأحاولُ أن أنفي ما أثبتَهُ إقليدس
وكنتُ أخفِقُ دائما
فأضحكُ بأعلى صوتي منتشيا
وأردّدَ أشعارا عن الجنّة
وأستلقي في انتظار موجةٍ
تمسحُ كلّ شيء
لأبدأ من جديد.


مررتُ من هنا مئاتِ المرّات
ولم أشهدْ معجزة واحدة
تشيرُ إلى أنّكِ يمكن أن تظهري على الشرفة
مضيئةً ، مثلُ لاعبةِ سيرك
تُمسكين السياجَ بيدٍ
وباليد الأخرى ترسمين على الهواء
طيورًا من دخان
وأزهارًا سرعان ما تتلاشى
بينما نكون نحن قد تجمّعنا على الرصيف
ثلّةَ أولادٍ فائضين على الطريق
ومصابين بخيبةٍ مزمنةٍ
نتمنّى شيئا،
ويحصلُ شيء مختلف
حتى تشرينُ، وهو أجملُ شهورنا
كان يخذلنا كثيرا
فيصير مثل أيام السّنة العاديّة.

مع تكرار محاولات الوصول إلى شريان الحياة، وفشل هذه المحاولات، تغدو الريبة، لا الثقة، رفيقةَ المحاولات التي لا تنتهي، فتحملُ ذاتُ الشاعر معها في هذه المرحلة شكّها المسبق بإمكانية الوصول إلى النهاية المأمولة في الطرق التي تغذ الخطى فيها مراراً وتكراراً. مع هذا، وفي اكتمالٍ لمفارقة العلاقة بين الأمل واليأس، يظلّ ذاك الهاجس الحالمُ بإمكانية الوصول، ينبض من بقعةٍ خافتة في عتمة الشك المتعرّش في صدر الشاعر. وتظل تساوره تلك الرغبة الراسخة القاهرة بأن تُبعَث الرؤيا من بين إغماضتيّ جَفن. حتى لكأنّ شاعرنا يكاد يرى قبس تلك الرؤيا، لكنها في الضفة البعيدة من النهر.



ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* نص الورقة النقدية التي تقدمت بها الكاتبة الفلسطينية ميس داغر إلى الندوة التكريمية التي أقامها فوروم كناية للحوار وتبادل الثقافات يوم 26 ديسمبر 2022 احتفاء بتجربته الشعرية المتميزة ضمن تاريخ الشعر العراقي المعاصر.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى