كاهنة عباس - الشرق والغرب ومسألة الانوار


يقال أن للشمس حركتين الأولى الشروق والثانية الغروب ، فهل من باب الصدف أن تسمى أرض الشام بالشرق باعتماد جهة بروز الشمس وأن تسمى أوروبا بالغرب بالرجوع إلى جهة غروبها ؟
لا أدري ، فلو اعتبرنا أن الشمس المقصودة على وجه الاستعارة هي شمس الحقيقة، فإن بدايتها ستكون مشرقية لا محالة ونهايتها غربية عند اكتمال الدورة، أما كيفية ظهور الحقيقة و علاقتها بالشرق وكيفية غروبها وعلاقتها بالغرب فإن الأمر يتطلب بحثا وتمحيصا من وجهة نظري الشخصية .
فالحقيقة شرقا هي عرفانية ، لان القلب هو من يعلم ويدرك ويتبصر وينتظر ويكتب ويقرأ وهو شكل من أشكال الحقيقة الايمانية العقائدية التي قامت عليها علاقة الانسان بالله أي بخالقه ، قولا وفعلا ، من هذه الزاوية فالوجدان هو السبيل الممكن لاكتساب المعرفة .
لذلك فالقلب هو المتلقي المستمع الناقل والمترجم والعقل هو من يؤول للفهم والبيان والتأويل والنشر ، إذ تحيلنا عبارة الوجدان إلى الوجود باعتباره إحساسا أي علاقة ما تربطنا بالعالم وبالاخرين ، فكان الشرق مصدر الديانات السماوية الثلاث لأنها تلقت الرسالة الالهية بالادراك والاحساس خارج الجدل والتساؤل والبحث وألفت مساراتها وسرديتها وتاريخها على ذلك التلقي باعتباره حدثا تاريخيا فاصلا في تاريخ الانسانية يبدأ بميلاد المسيح .
فكان انتشارها إما إيمانيا وجدانيا تلقائيا أو مفروضا بشن الحروب الدينية .
ذلك أن العالم من وجهة نظر شرقية موضوع تأمل ، وحدة لا تتجزأ متصلة بالوجدان ، بالعلاقة التي نشأت بين الله والإنسان ،لذلك فالزمن الموضوعي غير منفصل عن الزمن الداخلي الذاتي ، والمكان المادي سرعان ما يتحول الى فضاء إلهي مقدس بكل ما يحمله من إشارات ، والإنسان باعتباره مخلوقا مكلفا ومسؤولا ليس خاضعا على الدوام للمشيئة الالهية . فالعلاقة بين العالم والانسان والله وثيقة ومستمرة وهي المؤسس للتاريخ.
أما الغرب فقد انكب لاكتشاف العالم بتصنيف عناصره الطبيعية وتقسيمها وتشخيصها ووصفها من خلال البحث والتساؤل والتجربة . فكان لا بد له لتحقيق أهدافه من إتباع منهج فصل الذات المفكرة عن موضوع بحثها ،أدت إلى نشأة وقيام علاقة تحليلية تهدف إلى معرفة ماهية الأشياء بعناصرها ومكوناتها.
فمحور الذات وكيانها قائم على العقل لا على الوجدان، لأن التفكير هو الحجة المثبتة لوجودها وقدرتها على أن تدرك بنفسها ما يجول بداخلها فهي من توجه ذاتها وبذاتها وهي من تفكر في ذاتها بذاتها وهي من تسير ذاتها بذاتها، لذلك فهي من وجهت تاريخها وصنعته وهي من ابتدعت جميع الأفكار سواء تلك التي عبرت عنها الأساطير أم الأديان أم الفنون بل وحتى العلوم .
الذات المفكرة إذا ، القادرة على صياغة تصورات حول واقعها قد أضحت محور كل تطور وتحول، فكان لا بد لها من التخلص من معان اللغة باعتبارها تعبيرا عن ذاتية الانسان والإحتكام إلى الرياضيات لبلوغ أعلى درجات التجريد وتمثل العالم خارج كل نطاق ذاتي وجداني ثم إخضاع تلك الفرضيات للتجربة الملموسة.
وهو منهج أنار البشرية جمعاء حول إمكانيات الإبداع العلمي تجاوزت كل الحدود ،باعتمادها على منطق يتجاوز ذاتية الانسان ، تمكنت بفضله من اكتشاف الواقع من منظور أوسع وأشمل .
لذلك أفلح الغرب في إنجاز اكتشافات على كل المستويات الفردية منها والاجتماعية وفي كل الميادين سواء في العلوم الصحيحة مثل الطب أو البيولوجية أو في العلوم الانسانية غيرت حياة الناس بتسهيل الاتصال والتواصل والصحة والتنمية واستغلال الموارد الطبيعية .
لان جل الثقافات استفادت من مثل هذه الاكتشافات، فقد تبنتها دون جهد ولا بحث في مرجعياتها المعرفية المؤسسة على وجود ذات عارفة اتخذت العالم موضوعا لبحثها .
كذلك صور الغرب العالم على أنه شيء قابل للاستفادة والاستغلال بعد إخضاعه للتجربة والتحليل والاكتشاف وأعلن موت الله وتعويضه بمركزية الانسان باعتباره المتحكم في تاريخه أي في حاضره أي في مجريات الأحداث .

وعلى امتداد التاريخ، تضخمت الذات المفكرة على أساس تميزها لتشيد أسس ما سمي " بالفردانية " وتعلن استقلاليتها عن المجتمع والدولة حتى أصبحت لا تهتم إلا بتلبية رغباتها ،فانقطعت صلتها بمن حولها وباتت تعيش أزمة فقدان المعنى أو ما سمي بالعبثية، مما أدى إلى ظهور حداثة فاقدة للمعنى وللقيم ما عدا تلك المتصلة بالنفعية و "البراغماتية" .
كل هذه المنجزات العظيمة ، جعلت القلب المبصر يتيه بين الأشياء في عالم فاقد تماما للمعنى لم يعد للفرد فيه من مهمة أو غاية سوى تحقيق القدر الأكبر من الرفاهة واللذة ، لذلك أصبحت العواطف أغاني تغنى وهدايا تهدى وقصص تروى أي عنوان من عناوين البطولة .
ولان البطولات كما هو معلوم غالبا ما تكون لها نهايات درامية ، ففي عصرنا ،لا يلتجأ المحب الصادق للغة الأشرطة والأفلام والصور والعلب ونماذج الجمال واللباس والثراء والقوة والقدرة ، بل للغة أخرى غائبة وغابرة ترفض أن تكون شيئا قابلا للعرض والبيع والشراء ،إنها لغة القلب ، اللغة الأصل بكل حروفها المكتوبة على الوجوه من دموع وارتجاف وحيرة وسهد وفرح وأمل وانفتاح وطمأنينة.
قد تشتمل حالات أخرى مثل السكينة والصبر والسخاء والترفع والتأمل إذا ما تجاوزت علاقة المحبين لتصبح من صفات الزاهدين في الدنيا ومن شيم الروح الشرقية.
تلك الروح التي باتت تائهة تجوب المدن العالم لا تعرف لها مستقرا كالعصفور الذي لا يكل الهجرة لا يحط لا على جواب ولا على سؤال ، يلملم جروحه العميقة متشبثا بعقيدته وإيمانه بالاديان السماوية ، يقرؤها ويؤولها كما كان يفعل أجداده ، لكي يحاور عالما بات يتنكر له .
فالشرق قلب يفكر بحسه وحيرته وانفعاله وانتظاره ، يفكر في ما يجمعه بالعالم ، والغرب عقل يفكر في ما يمكن تحقيقه وإنجازه ومعرفته واكتشافه .
ولن يتردد العقل الفاقد لكل رؤية وجدانية عن تدمير كل من سيقاوم سيطرته، بينما سيكتفي القلب بإحساسه كي يبصر ويفكر ،مما سيجعله عنيفا مغتربا عرضة للانهيار ،كلما خابت آماله.
ومهما يكن من الأمر، فالجهات ليست إلا أقطابا للنور سواء كانت شرقية أم غربية، ومن العسير جدا فصل الأفكار عن الأحاسيس لذلك لا يمكن التحقق من الفرضيات الرياضية إلا بإخضاعها إلى التجربة أي للواقع الملموس وللمحسوس.وللحقيقة سبل متعددة متشعبة متصلة بمعرفة الانسان وبما يتجاوزه والشرق ليس قطبا واحدا ولا جهة واحدة تسيرهما بصيرة القلب ولا الغرب شق واحد خاضع للعقل.

كاهنة عباس

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى