عواطف محجوب - السرد في قصيدة النثر: قراءة في ديوان “كأني أمشي على حبل” للشاعر العراقي نامق سلطان

ارتبط السرد عادة بالأجناس الأدبية النثرية كالرواية والقصة والمسرح. لأنها تقوم أساسا على الخبر، أي نقل حدث ما وتحويله من القول والمشافهة إلى محتوى لغوي عبر تقنية السرد. ولقد عرّف النقاد السرد على أنه تلك الكيفية التي تُروى بها الأحداث بترتيب منطقي وفق رؤية الكاتب وزاوية تناوله ومهاراته الفنية واللغوية. وفي ظل ظاهرة انفتاح الأجناس الأدبية على بعضها البعض ، نلحظ تسرب السرد إلى قصيدة النثر، لتختفي الحدود القائمة بين الشعر والنثر. ويتحول بذلك الشاعر إلى سارد. ومن المعلوم أن قصيدة النثر جنس أدبي لا يحتكم إلى شروط واضحة، بل هي في عمومها خلق حرّ على حد تعبير سوزان برنار، يحتكم إلى ثلاث ميزات لا غنى للقصيدة عنها حتى تكون قصيدة نثر وهي التكثيف والإيجاز والمجانية. فإن السرد المطوّع داخلها حين مازجها فذلك لغايات شعرية صرفة، لغايات جمالية، لغايات ذاتية ولغايات تمنح النصيب الأكبر للإخبار، ما يعطي القصيدة بعضا من الملامح القصصية بتتابع الأحداث وتقلص الصور واللعب الإنشائي. إذا السرد يمنح القصيدة نفسا جديدا ، حيث ينحرف التركيز على ذات الشاعر وبطولاته المجيدة نحو تفاصيل الواقع اليومي. كأن الشاعر تخلص من عدسة مكبرة تضخم ذاته، وحمل آلة تصوير، وطفق يتنقل هنا وهناك، ليصور وقائع تختلف أهميتها، ليسكبها سردا داخل قصائده وذلك بطريقة يحكمها مدى تأثيرها عليه. يتحدث تزفيتان تودوروف عن الموضوع فيقول: “ليست الأحداث التي يتم نقلها هي التي تهمّ، إنما الكيفية التي أطلعنا بها السارد على تلك الأحداث”. والمقصود هنا هي الحبكة السردية، أي كيفية إدارة مختلف عناصر السرد حتى تنتج ثقلا فنيا داخل أي نص، وهنا نخص بالقول قصيدة النثر التي نوليها الاهتمام في هذا الصدد.
يلوح لنا السرد منذ العتبة الأولى لهذه المجموعة الشعرية، أي من العنوان “كأني أمشي على حبل”. عنوان يرتكز على فعل ناقص أو شبه فاعل “كأنّ”. فهو جملة منقوصة البداية ، منقوصة الخبر، منقوصة الفعل، في اكتمالها يتضح الحدث. ويكتمل المعنى. كأن يقول مثلا:
أنا أعيش في دوّامة كأنني أمشي على حبل.
أنا أنقذ ما تبقى مني كأنني أمشي على حبل.
أنا أتأرجح في الحياة كأنني أمشي على حبل.
أنا أحكي سيرتي وسيركم كأنني أمشي على حبل.
خلف هذا العنوان إخبار كثير . شاعر يرغب في القول، يرغب في بث ذاته إلى ما حوله. فكان لا بدّ من سرد. والسرد نسيج من العناصر المتواشجة أسوقها كالتالي:

الراوي: وهو الطرف الذي يروي الحدث والقصة الكاملة. عنصر متفق عليه في المجموعة الشعرية “كأني أمشي على حبل”، وهو الشاعر الذي هو نفسه السارد. أحيانا نراه عليما وأحيانا لا يكون كذلك. فلا هو أسهب السرد ولا هو اقتضبه، كل ما فعله أنه شحنه بوقائع لا تُنسى أبدا.
يقول الشاعر يروي قصة نساء مجهولات في قصيدة لا تغلقي النافذة ص55 كراو عليم:
رأيتهن في الظّلام
يرتقن ثيابا من أعياد سابقة
وكلما انتهين من ثوب
ترنمن بما يشبه نشيدا
أو صلاة …
إحداهن
كانت تعرج
بين فانوس معلق وسط الغرفة
ونافذة تطل على الوادي
كأنها كانت تنتظر
أن ترى شمسا يافعة تشرق
مرة أخرى.

الزّمن: وهو عنصر له تأثير نفسي واجتماعي على الشاعر. بتتبعنا لخيطه داخل القصائد، نكتشف أنه متَشظ بين الحاضر الذي يسيل به الواقع اليوميّ التعيس، والماضي المسترجَع الذي لا يقل قتامة وتعاسة، وأحيانا المستقبل الذي يربي أملا يرتجى. زمن منظّم للحدث كذاك الذي يراوغ عجوزا في حاضرها لتنتظر ابنها الذي لم يعد من حدث ماض، ابنها الذي لم يرجع من الحرب في قصيدة أشياء ممكنة ص9 و 10. الزمن لعبة قلبت الماضي حاضرا والعكس يحدث أيضا، تحكمه طريقة الشاعر نامق سلطان التي تحرك خيوطه .
يقول الشاعر:
كلّما تسلقت جدار الجامع الصغير
رأيتُ وجهك يبتسم لي
من بين الأغصان
وكأنك تقول : لقد سامحتك بالأمس. ص 66

المكان: وهو الفضاء الذي دارت فيه الوقائع. له طابع وخصوصية تتماشى مع كل حدث مسرود. تعددت الأمكنة في قصائد الشاعر نامق سلطان وتنوعت. فقد تكون ذات الشاعر مكانا في حد ذاته أو قصيدته نفسها، كما طريق مدرسة يخلد لحظة اعتراف بالحب، أو حديقة ، أو غرفة ضيوف أو لوحة حائطية، وحتى شاطئ حزين، أو تلّ معزول تدرج بنا الشاعر إلى أجزائه الداخلية، من السفح إلى ظل شجرة، القرية، المدينة، المقبرة ، السيرك، حديقة البشر … إلخ. تبدو هذه الأماكن منفتحة فسيحة ومنها الضيّق المغلق، وظّفها الشاعر حسب نوع الحدث والحالة النفسية التي يمر بها البطل. كأن يكون ضائعا ويزيد المكان من تيهه وعزلته ولا يجد ملجأ يستقر فيه.
يقول الشاعر:
في الأماكن العامة
حيث الناس كلهم هناك
يمكن أن تختلط عليك الوجوه. ص82

الشخصيات: وهي الطرف الذي يقوم بالحركة وينفّذ العمل. بنشاطه ذاك تتوالد الأفعال وتتسلسل فيتشكل المعنى من الحدث. في مجموعة “كأني أمشي على حبل” نجد سيد الشخصيات هو المتكلم الأنا أي الشاعر نفسه، إلى جانب شخصيات ثانوية مختلفة، كزميلة الدراسة، العجوز، الأم، الأخت، الجّد، الجارة، الهو ضمير الغائب، الأنت المخاطب الذي يكون مرة الآخر ومرة ذات الشاعر المنفصلة عنه بالإضافة إلى عناصر الطبيعة التي وقعت أنسنتها…إلخ. في العموم هي شخصيات طحنها الأسى، نادمة على ما أفرطت من صمت، أنضجها فرن الحياة الملتهب بالعنف والخذلان، فانقلبت مواضيع وبورتريهات تُعرض لوحات في رواق الشعر لتعبر عن أزمة وجودية عامة.
يقول الشاعر:
لو كنت صياد ثعالب
لورّثت أبنائي كثيرا من الفرو
وكثيرا من الحيل لاقتناص الفرص
وتعطيل المصائد
ولآنست عزلتي
بعواء رحيم. ص69

الحدث: وهو نواة السرد، وعبره يتم تركيب بقية العناصر وتحديد خصوصيتها. وهو ببساطة الذي من أجله تتشكل القصة أو القصيدة. والحدث في مجموعة كأني أمشي على حبل” تشكّل بقوالب المعتاد ومقالب المفاجأة. يمضي في الماضي ليأتي به الشاعر إلى الحاضر، يريد أن يكرره بشجاعة غابت عن الأمس. كالاعتراف بالحب، انتظار عودة غائب، الضياع والتيه، الراوي وقد أصبح شاعرا، الحرب التي أسقطت البلاد والعباد وذبحت الإنسان، العنف الذي شوّه المكان وخدع الزمان، الموت بطرق شتى ، مخاتلات النوم وهلاوس القلق والخوف، هدم المنزل الذي هدم الأنفس ودفن الأمل. هذه الأحداث تنوعت وتفاوت وقعها في كل قصيدة، لكنها في المجمل قدمت لنا ذاتا منعزلة مهمومة. أرادت الصراخ حين رسم الخوف والقلق ملامحه بوجوه الشخصيات، لكنها خيرت الانهمار قولا وإخبارا ملتحفة عباءة الشعر.
يقول الشاعر نامق سلطان:
…جنرال متقاعد
تساقطت نياشينه
فلم يعد يذكر انتصاراته
ولا هزائمه
إنه يتجول في الأسواق فقط
ويطوف على محلات الصّاغة
والجواهرية
لعله يجد خاتمه الماسيّ
الذي فقده
في سنوات المجاعة. ص53

لقد تباين حجم حضور هذه العناصر بين القصائد، ليغيب أحدها في قصيدة ويلوح في أخرى.فنجد مثلا قصيدة تتحدث عن شخصية، وأخرى عن مكان وواحدة أخرى عن حدث، إلخ… فهل يمكن الحديث هنا عن قصيدة الشخصية أو قصيدة المكان أو قصيدة الحدث؟
إن البناء السردي الموظف في قصائد المجموعة الشعرية “كأني أمشي على حبل” للشاعر العراقي نامق سلطان، ورغم تفاوت حضور عناصره في كل قصيدة، فإنه خلّف فاعلية فنية وتأثيرا عاطفيا على المتلقي. إذ تشابكت سيرة الشاعر مع سيرة التفاصيل، وفيما بينهما تشكلت رؤية الشاعر للعالم، هذا وقد حافظت القصائد على ميزاتها الفنية التي تصنفها ضمن قصيدة النثر. فنلخص إلى أن السرد إضافة فنية بامتياز تجاوزت الرغبة في التجريب، ومثلت حلا لغياب الإيقاع العروضي. كذلك السرد جعل الذات تستفيق من انعزالها داخل نفسها لتنفتح على الواقع اليومي باعتبارها جزءا من العالم المليء بالأحداث ولا يمكن للشاعر إغفالها. ومن خلال القضايا التي يطرحها السرد داخل قصيدة النثر يمكننا اكتشاف رؤى الشاعر وأفكاره وايديولوجيته.
ولتطبيق كل ما فات، اخترت قصيدة “زورق على تلّ” ص 26 و27 من مجموعة “كأني أمشي على حبل”، الصادرة هذا العام ببغداد، عن منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق، وهي قصيدة يحضر فيها السرد بقوة عبر بنية ثلاثية وهي بنية قصصية كلاسيكية.
في البداية يستيقظ السارد وهو الشاعر من نوم مضطرب، ليجد نفسه في موقع توتر حيث يجد نفسه بطريقة غريبة على تلة قريبة من الشاطئ. ومن هناك يراقب رتابة العالم حوله، حركة الريح، حركة الأرض، حركة الموج حيث لا مصير ولا منطق يمكن أن يعول عليه. ويفكر بانجاز أفعال، لكن يخونه جسده. عدم فاعلية الشخصية أوصلنا إلى النهاية حيث يستسلم ويشغل نفسه بجدوى أن يتحول إلى زورق وينتظر الأقدار لتتدخل لصالحه. كما هو واضح، فبطل القصة هنا هو ضمير المتكلم/الشاعر الذي يحدثنا عن واقعة حدثت معه عبر سرد متسلسل حيث تتواتر الأفعال: صحوتُ/ وجدتُ/ أمدّ/أنشر/أبقى/أفكر/أفتح/ أنتظر، إلخ… كل هذه الأفعال انبثقت من الحدث الرئيسي وهو وجود الشاعر على تلة بطريقة غريبة. أما الزمن فبدأ كأنه في لعبة بين الحاضر والمستقبل، يدور حوله وظله وكلاهما “دائخ في مصيره” حيث لا مصير واضح الملامح، وهو ما يكشف الضياع الذي يعيشه الشاعر وقد عمّقته عناصر الطبيعة من حوله. وقد دارت الأحداث زمن الصباح عند الساعة السابعة، ومكانها فضاء فسيح تلة عند الشاطئ، والراوي ليس سواه، الشاعر المتكلم بضمير الأنا.
اكتملت القصيدة بالسرد، حيث كشفت الذات/الأنا عن ارتباطها بالمحيط الذي توجد فيه وانعكس ذلك من خلال خصائص المكان والزمان والأفعال البسيطة التي قامت بها الشخصية تبعا لوجودها في تلك الفضاءات. فكلها عناصر عبر لنا الشاعر من خلالها عن ضياعه وعن كم الهموم التي تأكله بلا شفقة، بينما القوى الكبرى تتحرك لا مبالية به، ليبقى أسير عجزه منتظرا تدخل معجزة ما.
وبالرغم من امتداد السرد في كل قصائد المجموعة، فإن ذلك لا يعد ضعفا، بل هو تأكيد على مجانية قصيدة النثر مع الحرص على الإيجاز والتكثيف حيث يختار الشاعر بدقة الأحداث والأفعال التي يدرجها في كل قصيدة. وبالتالي لا يمكن القول أن قصيدة النثر تخلت عن شروطها للسرد، وأن السردية الشعرية إنما هي أسلوب فني حطم الحواجز بين الأجناس الأدبية.
ولإتمام الفائدة ودقة الاستشهاد، أضع للقراء الكرام نص القصيدة المشار اليها أعلاه:
زورق على تل..
شعر: نامق سلطان
هل كانت مصادفةً سيّئةً
قادتني إلى هناك؟
صحوتُ من نوم مضطرب
فوجدتُ نفسي
على تلة
وكأن الرياح
قد لبّت نداءً سماويّاً
فقذفت بي إلى الأعلى
وألقت حولي غثاء
من بقايا مسرات العالم
جلبتها الأمواج إلى الشاطئ
…..
إنها السابعة صباحاً
ساعة الشمس الخاملة
والموجة الكسولة
والبداية التي تبدو ممهدة
إلى خاتمة قاسية
في المغيب.
الأرض تدور
وظلّي يدور حولي
وكلانا دائخ في مصيره
كان يمكن أن أمدَّ جذوراً
في الرمل
وأنشر أغصاناً فوقي
لو طاوعتني ساقاي على النهوض
سأبقى إذن هناك
أفكر بجدوى أن أكون زورقاً
مغروساً في الرمال
سأفتح صدري للنوارس
كي تبنى أعشاشها
وترعى صغارها
وسأبقى أنتظرُ مصادفة أخرى
تعيدني إلى الماء.



ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* نص الورقة النقدية التي تقدمت بها الكاتبة والناقدة التونسية عواطف محجوب إلى ندوة فوروم كناية للحوار وتبادل الثقافات التي التأمت مساء الأحد 26 ديسمبر 2022 لتكريم الشاعر العراقي نامق سلطان، وشارك فيها إضافة للشاعر المحتفى به: ميس داغر من فلسطين، د. ثريا الهادي السوسية من تونس، عواطف محجوب من تونس، حكمت الحاج من العراق.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى