محمد الأحمد - العالم رواية 4 : رحلة بالسادار للكاتب أمين معلوف

هي رواية بمثابة رحلة مطاردة أو ملاحقة يقوم بها “بالداسار” تاجر التحف من أجل الحصول على كتاب ألفهُ العالم “المازنداري” صاحب الأسرار الكبرى في القرن السادس عشر.. كتاب فيه افتراض مُبهم تدخلنا اليه الرواية كلغزٍ خطير لا تعرفه البشرية، وهو عن “سنة 1666م التي سميت بسنة الوحش الذي سوف يفنى خلالها كوكب الأرض”. رحلة من مكان الى آخر للبحث عن كتاب ملغز يهمّ القارئ ويثيره لمتابعة مسيرة متواصلة البحث عن مفاتيح ضائعة بين الكتب وسطورها؛ ذلك الكتاب المعلوم الأهمية هو المفقود بين المفقودات، كتاب مُحَفِز على الحفرِ العميقِ..
رواية مغامرةٌ يبدأها “بالداسار أمبرياكو/ الجنوي المشرقي”، المُعَرَّفْ من عائلة “أمبرياتشي” الجنويّة العريقة، والمُستوطنة في إحدى ضواحي منطقة “جبيل” اللبنانية من أيام الحروب الصليبية على الشرق. عرف الكتاب بانه يحوى على “الاسم المئة”، وتمَّ فقده (سبقهُ إليه رجل عجوز سرعان ما مات، قبل أن يتمكن “بالداسار” من دفع ثمنه. ثم يضيع الكتاب للمرة الثانية بعد أن اشتراه موفد البلاط الفرنسي “مارمونتيل”، ويصحبه في رحلة بحرية إلى القسطنطينية)، ويتتبعه “بالسادار” من بائع الى آخر. تقع الرواية في أربعة فصول كل فصل اسماه “الكراس الأول: الاسم المئة”، “الكراس الثاني: صوت سباتاي”، “الكراس الثالث: سماء بدون نجوم”، “الكراس الرابع: إغواء جنوى”، وكل كراس خصَّ بها أوصاف الأمكنة بكل تضاريسها المعرفية. حيث نعلم أن الروائي “أمين معلوف” الفرنسي/ اللبناني الأصل (تولد بيروت عام 1949)، لم تنقصه خبرة الروائي المحترف؛ اذ سبق له ان صاغ لنا عدّة روايات مهمة أبرزها (ليون الأفريقي، سمرقند، الهويات القاتلة، اختلال العالم، غرق الحضارات، مقعد على نهر السين، الحرب الصليبية، رحلة بياتريس الاخيرة) - بغية (قراءة التاريخ)، عهدناه يغترف من كنوز البحار الليالي الالف الباهرة، واسرارها العصية، ليفتتح قراءة جديدة وممحّصة في معظم المتون التاريخية لكهوف الشرق العتيد وغائصا في حدائق الزمان السرمدي مستخرجا لآلئ جديدة من الحكايات الدفينة بين صفحات صفر تحويها تلك المجلدات الأنيقة والمُذهبة، والتي لم يتجرأ عليها عقل عربي. رواية متينة البناء عن اسرار الأسماء “التسعة والتسعين”، لتكتمل “مائة اسم من احصاها دخل الجنة”. لقد ارتسمت أنساق هذه الرواية الشيّقة عبر يوميات وضحت قدرة الكاتب على حياكة وتضفير الأحداث الفرعية مع الحدث الرئيس كاشفاً عن صراعات بين الشخصيات الرئيسة، حيرتهم، رؤية آلامهم عبر مرآة هذا العالم الشائك، توترهم الدائم بين الصدفة والخرافة، بين القدر والعقل. وعهدناه ايضاً محايداً فيما يكتب، ليثبت “كروائي مقتدر” انه الأعلم من غيره بمصادر المعلومة التأريخية التي يتخذها أرضية متينة لموضوعاته (التي لم يتخذها من مصدر واحد). ولم يعتمد المدوّنة العربية وحدها بعد ان شابها الكثير مما دسّه الكاره نكالاً مما يكرّه، وأختلقه المُحب تجمّلاً مما يُحب. ميزة الروائي الجيّد هي الكشف بحياد عن “ابستمولوجيا” عميقة لم يستطع أحد ان يصل اليها قبله، ولم تزوّقها أيدولوجيات النفاق والشعوذة، وقد خبر متانتها الحقيقية، حسب معطيات جديّة، يعمل عليها، ينظمها في سردية؛ مُتقَنة في توازنها مُقنِعة في أحداثها، ومؤثثة بتفاصيل حيوية تدفعنا لقراءتها والاستزادة المعرفية منها.
وكل منا يعرف ان جنس الرواية هو الوسيط الوحيد الذي يؤهلنا للدخول الى متون الأكاذيب لنفككها من الداخل، من أجل إعادة النظر مما لحق بنا من ضرر وتمويه.. بسبب الاختلاق التاريخي الذي مزج حياتنا بالوهم، يُعيد الصياغة، ثم يُصحح المسار بدراية العارف، ويجعل منه عقلاني، تشويقي. لذلك نعهد “رحلة بالداسار” من بين الروايات المُتقنة التي تواجه السائد بالجديد، وتُبحر خارج عوالم التكهنات لتخلصها من رتابة الواقع الفنطازي المرير.. حيث اكسبتها المواجهة أهمية، وجدّلاً بين أغلب معتنقي الديانات السماوية الثلاث، الإسلام والمسيحية واليهودية، المؤمنون باليوم الموعود حسب “مناهلها الابراهيمية”، بغية شلل العقل وحجزه بين الاقواس المظلمة.
لقد استطاع “أمين معلوف” بروايته -هذه - أن يبهر الغرب بما حملته أداته من (محمولات شرقية) بهر بها العقلية الغربية، وتلك المحولات لم تكن عصيّة الفهم على الكاتب العربي، تحتاج الى يقظة لمواجهة متونها.. وجد “معلوف” الكيفية المقنعة لتوظفيها بمهارة مع مزجها بالخيال ليضفي مشروعية قبولها كروايات مثيرة الاهتمام. لقد استطاع ان يدخل الى مدوّنات شرقية بالية غير مثيرة كامنة في العقل الشرقي مقدسة ومحرمة يصعب تناولها، والخوض في غمارها، حيث النقدية العربية برمتها لم تسمح بعبور تلك التضاريس البيّنة والفارقة في العقل الإنساني، وقد دخلها كفارس هُمام لا يشقُّ له غبار. حيث تلك المدوّنات الأثيرة التي تملأ العقل الشرقي ويقرأها بعماء من لا يريد ان يفهم مغزى محتوياتها الدقيقة. “معلوف” مبدعاً، ابتكر الشخصية المُقنعة التي تُناسب ما يريد ان يوصل به رسالته، اخترع لنا - شخصاً يكتنفه الهوس بالأرقام، والمتطير من الأرقام الفردية حيث يميل الى الأرقام الزوجية والمقتنع بأنه وجد العديد من العلامات التي تؤكد صحة ظنونه. أثناء رحلته، التي توشي بخراب العالم. والذي يدرك أن البشر سيتركون الجمل بما حمل، ويستسلمون للإرادة الإلهية، والمصير المحتوم في عالم بلا مستقبل. (أن هذه الرحلة ليست سوى وهم، وأن الاسم ليس في متناول أحد- الرواية).. شخصية مرسومة بعناية مضطربة، مرتابة. لا تعرف الحقيقة، إلى أي فريق تنساق، الدفاع عن العقل، أو القبول بمسخ الحكاية.. وفي الوقت نفسه تؤمن أن علم الأعداد قادر على توقع العديد من الأحداث، تمقت الخرافات الساذجة، لكنها قليل الحجة؛ متأرجحة مثل قشة في مهب الريح. ثمة حبكات فرعية أخرى مثل قصة الحب العاطفية التي تسلسلها قيود العبودية بين “بارنيللي وليفا”، و”حادثة شبتاي تسفي” ومحاكمته المثيرة والحيوية في الباب العالي للإمبراطورية العثمانية، فضلاً عن تفاصيل “تهريب الصمغ في البحر المتوسط”، جعلت من القارئ مشدوداً بالسرد الممتع. حول تاجر مغامر يسعى من خلال ترحاله الى اكتشاف معنى لحياته. عبر رحلة في المتوسط، والى بلدان مشتتة، ومدن محترقة، و(يواجه الخوف والخداع والخيبة، وكذلك الحب في لحظة اليأس- الرواية).
الرواية ظهرت بالعربية بترجمتين الأولى 2000م - عن “دار ورد” السورية بترجمة “روز مخلوف”: والطبعة الثانية الأكثر إتقاناً كانت عن “دار الفارابي 2001م ترجمة: “نهلة بيضون”.

محمد الأحمد



جريدة طريق الشعب في 18-09-2022

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى