علوان السلمان - لطفية الدليمي في(سيدات زحل)

السرد الروائي تسجيل تاريخي لظواهر اجتماعية تحمل دلالات متنوعة يسجلها الروائي من اجل اعادة صياغة الواقع وفق حالة ابداعية يتشكل بناؤها ممتزجا بالخيال مع تزاحم السياقات والاحداث في النص كي تضفي طقسا من الاثارة والتحفيز القرائي من اجل جذب المتلقي الى احضان النص وكينونته وحراكه الداخلي..
و(سيدات زحل).. الرواية التي نسجتها انامل الرقة والجمال الابداعي لطفية الدليمي..والصادرة عن دار فضاءات للنشر والتوزيع/2012..والتي تبدا بسؤال تطرحه الروائية مدخلا لسردها(أأنا حياة البابلية ومن تكون آسيا كنعان التي احمل جوازها...) فتجيب عنه ثلاثمائة واربعين صفحة من الحجم المتوسط..وهي ترتقي الى روح الاحداث الممتدة بجذورها التاريخية ابتداء من هولاكو وجنده الذين استباحوا المدن وحولوها الى خراب فطاردهم الوعي.. وتجدد الاحتلال فكان الانكلو الامريكي الممتد بابشع صور..
اذ (حياة البابلي) الوثيقة الشاهد الموثقة لكل الاحداث بعد ان تستقر في سرداب يقع تحت المنزل الذي اختبأ فيه يوما ما عمها الشيخ(قيدار) ودون في كراريسه الموجودة هناك حكايات بغداد وخروجها كل مرة من دمارالى اعمار..الكراريس التي اضافت عليها (حياة البابلي)..اذ قامت تدوين حيوات صديقاتها وتفاصيل حياتهن تحت قسوة الحرب والاحتلال والطائفية خوفا من النسيان والموت وخراب الذاكرة بحكم الحاح صديقاتها في ان تدون حكاياتهن المؤلمة..اذ تقول راوية ..
( لكي لا ننسى قبل ان نموت وتطوى حكاياتنا احفظينا في كراساتك..)
فالبناء السردي الروائي يقوم على سرد الاحداث على لسان (حياة البابلي)..الشخصية المركزية التي يحيطها الغموض حتى انها لا تعرف نفسها نتيجة هول الصدمات..
(أأنا حياة البابلي أم انني اخرى؟ومن تكون آسيا كنعان التي احمل جواز سفرها؟..)..فحياة هنا دلالة استمرارية عموم الوجود..اما آسيا كنعان فهو اسم لايدل على دين او طائفة بل فضاء مفتوح لوجود جغرافي ـ انساني بعيد عن التجاذبات الطائفية التي اودت بحياة الكثيرين من العراقيين..
هذا يعني ان هذه الشخصية منحت السرد حركة زمكانية واسعة على امتداد العراق الجغرافي والتاريخي فكانت احضارا لسيرة وجود انساني..
(انا حياة البابلي وهذه كراساتي التي شرعت بكتابتها منذ سنوات ودونت في حكاياتها حمايةعشقنا الصاعق قصص الفقر واوجاع السجن والاختفاء..عار الخصاء وبتر اللسان خزي اغتصاب البنات وكنت كلما انهيت واحدة منها وعدت اليها افاجأ باختفاء الاسماء فتختلط الاحداث..تمحى اسماؤنا جميعا وتصبح الحكايات منسوبة للجميع فاعيد تدوين الاسماء لتختفي مرات حتى يئست..) ومن هذا نرى ان الرواية تؤسس لعالم الحروب والاحتلالات اذ رصد العراق بكل معطياته وعصوره المنتهية بدمار وقتل وطائفية عبر سؤال شكل فعل الانسان الذي يكشف عن الخراب وامتداداته التاريخية..
لقد كانت (سيدات زحل) نصا ملحميا انسانيا يعتمد سيرة ناس ومدينة متضامنان في تحمل الكوارث المتوالية..بوحدة زمانية متسعة تبدأ من سقوط بغداد على يد هولاكو وتنتهي باحتلال انكلوـ امريكي مشابه..ووحدة مكانية تمتد على مساحة العراق وتجتاز الحدود فتشمل سوريا ولبنان ونيقوسيا وتونس وكوبنهايكن.. المدن التي وطأتها اقدام الطالبين اللجوء السياسي والانساني..
لذا فالنص يتحرك وفقا لمسارين الاول تاريخي شديد الدلالة والثاني واقعي تعبيري..
(سيدات زحل) رواية نسائية محورها(حياة البابلي) التي دونت كل شيء وبطلاتها ابتداء من امها بهيجة التميمي مرورا بفتنة ومنار وامال وزينه وسامية وهالة وشروق ولمى وهيلين وتنتهي ببرسكا برنار الصحفية الفرنسية..مضافا اليها (حازم) استاذ العلوم السياسية والذي يعمل سرا مع منظمة (هيومان رايتس)حيث يزودها بمعلومات عن انتهاكات حقوق الانسان في العراق وحامد الاخرس ابو الطيور مدرس اللغة الانكليزية في ثانوية الامين الذي تعرض لعقوبة قص اللسان لانه يستخدم توصيفات الطاغية والمستبد امام طلابه..وهناك اشقاء (حياة البابلي(مهند وماجد وهاني)معارضون للسلطة لذا كان مصيرهم بين مقتول في حرب(مهند) ومعدوم(ماجد)لرفضه المشاركة في احتلال الكويت ومتواري(هاني)..اذ يغيراسمه من هاني البابلي الى عبدالحميد الحسني وسكنه من الامين الى حي تونس ومهنته من طبيب اسنان الى مهندس كهربائي اذ يفتح محلا لبيع المواد الكهربائية يديره صديقه المصري الجنسية اشرف..اضافة الى الشيخ(قيدار) عم(حياة البابلي) الشخص الغائب الحاضر يبيع بيته في الاعظمية اثر اختطاف (فتنة) ثم يؤسس جمعية سرية تشتري المخطوطات وحينما اختفى في بيت شقيقه في حي(الداوودي) ترك كنز من المخطوطات عهد به الى بنت اخيه (حياة)..
فالرواية توثق لايام الحرب بلغة مشحونة باجواء تلك اللحظات فتستغرق في رسم ملامح الحياة التي تهتز في دواخل الناس والواقع..لذا كان خطابها المضموني اداته الاحتلالات كونها تدمير للخصب والوجود..على امتداده التاريخي..
لقد استخدمت الروائية في (سيداتها)تقنية التبئير بتركيزها على شخصية الرواية الرئيسة وعوالمها كما في حياة البابلي والشيخ قيدار..فضلا عن انتقالاتها الزمكانية المنظمة(سجن ابو غريب وحي الطاووس وشارع اسكندرونه وشارع السعدون..)وهذا اضفى على السرد النفاذ الى قرار الشخصية الداخلي بتحدثها عما يقلقها والمتمثلة في..
ـ ما كتبه الشيخ قيدار بخط النسخ في مخطوطته عندما دون العنوان بالخط الكوفي فتحول الحبر بمرور الزمن الى اللون الازرق المحمر..وهنا تحدد الكاتبه مرحلتين تاريخيتين من خلال الخطوط ..
ـ حياة وكراساتها التي شرعت بكتابتها منذ سنوات..
ـ كراسة ام حياة(بهيجة التميمي)..وتلخيصها لواقعة اعتقالها عام 1968..
هذا يعني ان بطولة الرواية يشترك فيها الجميع متضامنا مضاف اليهم صحفية فرنسية شهادة كونية على احداث ما بعد 2003وما تلاها من عنف وارهاب وقتل وتدمير للوجود والبنى..لذا فالجميع منشغلون بهواجسهم اليومية وثقل الزمن وهم المكان..
فالنص الروائي شاهد لعصره بالكشف عن مصادر معلوماته..اذ حياة البابلي تحيا في عصر الكتابة وتتلقى قصصا كتبتها بطلاتها وتدونها اضافة الى ما دونه عمها الشيخ(قيدار) في كتابه(كل يعمل على شاكلته).. ودفتر مذكرات والدتها (بهيجه التميمي)الذي تروي فيه حادثة اعتقالها ..
هذا يعني ان الساردة تترك لشخصياتها ان تظهر اصواتها من خلال صوت الراوية نفسها..فضلا عن توظيف الرواية الموروث الديني والشعبي كما في (قيدار) الذي يحضر مع عائلة البابلي وينقل مخطوطاته من مكتبة حسين محفوظ واعمال المؤرخ البيرايونا وبعض مخطوطات مندى الصابئة..
فالسرد يتقاطع فيه نوعان من الخطاب اولهما تاريخي باسترجاع لحظات دخول هولاكو بغداد ومشابهتها بدخول الجيش الامريكي محتلا مدمرا من اجل خدمة الخطاب الروائي..
لقد استجابت الرواية عبر تقنيتها لاستيعاب الظواهر والتراكمات التي ولدت مع عجلة الاحتلال (ظهور الجماعات المسلحة المتطرفة وعصابات القتل والخطف والسرقة..)واستباحة الذاكرة والهوية الحضارية.. فاستدعت الرواية التاريخ باحداثه من عهد سومر وبابل ومزاوجته والحاضر على لسان(حياة البابلي) وهذا يعني انها تجمع ما بين الازمان عبر رموزها كي تقارب رؤيا الماضي وحاضرتاريخ مدينة..
(فقد احترقت تقاويم الزمان..كان العامة والجياع واللصوص المحترمين الذين فتحت لهم القوات الامريكية مصاريع ابواب القصور الرئاسية قد دمروا كل شيء لم يتمكنوا من حمله تظافر جشع تجار المأثورات مع شهوات المحرومين الذين عاشوا عقودا بين مياه المجاري واكواخ الطين فهبوا يحملون كل ما تسع عليه ايديهم مدفوعين بتاريخ موغل في الحرمان لم يميزوا بعدها بين قصر حاكم ومكتبة ومتحف..) ص6..
وبذلك قدمت لنا الروائية نصا ملحميا انسانيا يعتمد على سيرة ناس ومدينة..بتوثيق نسيجها بوقائع يمتزج فيها الواقعي بالمتخيل..


علوان السلمان

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى