أمل الكردفاني- التأثير الكوني: انعكاس الشعور على العمل الفني..

لا زلنا مرتبطين بالكون بشكل سري، وهو ارتباط روحي جسدي ونفسي. لكننا نرفض تصديق هذا الرابط رغم أن مؤشراته في كل مكان من حولنا.. الكون يبدو ككائن حي ضخم، كائن واحد بأقانيم متعددة، وهو كائن متوزان يعمل بميزان شديد الدقة على استرداد هذا الإتزان كلما حدث خلل مفاجئ في أحد أقانيمه. إن جسم الإنسان يعمل عمل الكون، إذ أن كريات الدم البيضاء تهاجم الفيروسات لتمنع الاختلال الجسماني عبر المرض، وإن لم تكن هذه الكريات كائنات عاقلة أو تبدو لنا وكأنها أقل عقلانية منا ومستقلة عنا، لكنها تمتلك قدرة التعرف على الفيروسات وغيرها من الكائنات فتهاجمها وترتفع حمى الجسد اثناء تلك الحرب الطاحنة داخله. وهذا الرابط بين داخلنا وخارجنا، نجده منتشراً بكثرة، فالمرأة الحبلى عندما ينقص منها الحديد أو أي مادة مكونة للجسد يتصل الكون بجسدها ويربطها بالدواء، فتشتهي نفسها أشياء غريبة كالطين وغيره. والكلاب حين تمرض تأكل العشب لتتقيأ فتخرج ديدان البطن، والنعام يأكل الحجر، وصيصان السلاحف حين تخرج من بيضها تتوجه مباشرة نحو البحر، وكل ذلك وغيره هو الرابط الكوني الخفي الذي يربطنا بكل الكائنات، ويجعلنا أقانيم متعددة داخل كيان واحد. لذلك ما أن يختل الكون فإنه يداوي نفسه ويداوي أقانيمه، ومن هنا كانت اعتلالاتنا العاطفية هي بدورها تؤثر على الكون، وهنا سيوصلنا الكون بالأدوية المناسبة كالرسم والموسيقى أو الصلاة أو الصيام أو غير ذلك من أدوية تبدو لنا رمزية ومعنوية، ولكنها في الواقع أدوية حقيقية، فاعلة، ولها وزن في المحتوى الكوني، ولذلك فهي تنعكس على العمل الفني بشكل خفي. فنحن نلمس وجود الإحساس في أغنية غناها مطربها بإحساس حتى لو لم يكن بارعاً كل البراعة فالإحساس هنا هو الدواء. ورغم أن شخصاً ما قد لا يكون بارعاً في الرسم لكننا سنلمس إحساسه في رسمه، فاللوحات الجدارية التي يرسمها المراهقون لرياضييهم المفضلين تعكس بوضوح ملامح الفنان رغم أن رسمها غير جيد من ناحية تقنية، لكنك ستعرف مباشرة وبمجرد رؤية الرسمة أن هذا ميسي أو هذا كرستيانو، أو هذا مطرب الشباب المشهور. فروح الكون تنعكس داخل العمل الفني بغض النظر عن جودته. ومن هنا ستنعكس أدوية علاج الحزن والكبت والألم في أي عمل فني وكأنما هذا العمل الفني يمتص المرض من النفس ويُلقي به في الألوان والقصائد وخلافه من أعمال الفن والأدب. وهذا الرابط الكوني الخطير لم يكتشف سره بعد، لكنه هو نفسه الذي يجعل النحل يبني خلاياه الجميلة في أغصان الأشجار، وهو الذي يجعل الحيوانات تتميز في هندستها الجمالية لمحيطها وعيشها. وكذلك هو الذي يجعل العبادة متجاوزة لكونها مجرد واجب يفضي للعقاب والثواب إلى كونها اتصالات كونية، تداوي بؤس الإنسان. ومن هنا يكون خيار الإنسان الفردي ليس إلا توهجاً للموصلات الكونية التي ربطته بالكون، مما يستدعي منا عدم التدخل في خيارات الآخرين وإلا أفضى ذلك إلى اختلال في الكون. إن كافة الخيارات الفردية التي لا تفضي إلى أذى الآخرين هي في الواقع محاولات من الكون للتوازن. وتوازن الكون يعتمد على الحفاظ على التنوع بمقاييسه المثالية، لذلك حينما أسمع أن العلماء سيقضون على الملاريا باختراع أسلوب سيجعل كل بعوض العالم عقيم، فإنني أشعر بالخطر، لأن في هذا تأثير على التوازن الكوني، فالكون هو الأقدر على خلق توازنه، وما تدخل الإنسان المتطرف إلا إحداث لخلل كبير، فالبكتريا لو انتهت من الأرض فإنها ستفضي إلى فناء البشر لما في البكتريا من فوائد كبيرة. وكذلك عندما قام الاستراليون بجلب ضفادع من البرازيل، فغيروا بيئتها، أفضى ذلك إلى خلق كارثة بيئية في أستراليا وقامت الحكومة بشن حرب على الضفادع لتحاول علاج الاختلال دون جدوى، وفي مصر جلب الملوك حيوان "العرسة" إلى القاهرة ليقضي على الفئران وبالتالي يتم القضاء على الطاعون، إلا أن القاهرة اليوم تعاني من الكميات الضخمة لحيوان العرسة فيها.. وهكذا.
أخيراً؛ فإن هذا الكون ليس مصمتاً، ولا مجرد جماد، بل هو كما أسلفت مترابط أشد الترابط، يؤثر دوران الأفلاك على الأرض، بحرا وبراً وجواً، يتسارع المد والجزر باقتراب القمر من الأرض، وتتناوب الفصول بحسب القرب والبعد من الشمس، وتؤثر المواسم على أمزجتنا، فبحسب الإحصائيات الجنائية وعلم الإجرام -على سبيل المثال- ترتفع الجريمة في فصل الصيف، وتقل في الربيع، وتزداد بعض أنواع الجرائم في الشتاء كجرائم الجنس، وتزداد جرائم العنف الجسدي في الصيف..الخ ذلك لأن الفصول بدورها تؤثر على هرموناتنا، والهرمونات تؤثر على سلوكنا واستجاباتنا العصبية تجاه محيطنا. إنه الترابط الكوني العظيم، الذي يجب أن نشعر بحقيقته حتى وإن كنا قد فشلنا في دراسته دراسة علمية تبين لنا أسراره وخباياه.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى