رحمة حسام عبدالرحمن - «معتز عزايزة».. المُزايدة خيانة

العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني منذ قيام دولة إسرائيل صورة من صور الاحتلال، بموجب القوانين الدولية، والشواهد التاريخية، ولا يملك أشد المتعصبين إثبات غير ذلك.

يقع الاختلاف بين الرؤيتين: العربية (الشعبية) والعالمية (السياسية)، حول تعريف حدود هذا الاحتلال؛ ففي حين تؤمن الشعوب العربية أن نشأة دولة إسرائيل عام 1948 قد تمت على جثة الدولة الفلسطينية بطريقة غير شرعية، بتأييد من القوى العالمية آنذاك، فإن الرؤية السياسية العالمية في معظمها تقر أن وصف الاحتلال متحقق للمناطق التي استولت عليها إسرائيل عام 1967، وتشمل: القدس الشرقية، الضفة الغربية، وغزة.

إلا أنه حتى هذه الرؤية لا تحرم الفلسطينيين الذين غادروا بلادهم إثر قيام دولة إسرائيل عام 1948 من حق العودة إلى بلادهم، التي أصبحت تُسمى إسرائيل. فوفقًا لقرار الأمم المتحدة رقم 194، والذي صدر في ديسمبر عام 1948 قرب انتهاء الحرب التي حسمتها إسرائيل لصالحها، يحق لجميع الفلسطينيين الذين غادروا ديارهم بسبب الحرب العودة إليها، ليس هذا فحسب بل وتلقي التعويضات المناسبة، فيما عُرف ب "حق عودة اللاجئين". ولقد تكرر تأكيد الأمم المتحدة على القرار عشرات المرات في السنين اللاحقة. وتستمر إسرائيل إلى اليوم في الامتناع عن تنفيذ القرار، بدعم من الولايات المتحدة الأمريكية.

أمّا المناطق المحتلة عام 1967، فإن للفلسطينيين وفقًا للمواثيق الدولية، كل ما للشعوب من حق في الدفاع عن أنفسهم، ومقاومة المحتل، بكل وسيلة مشروعة متاحة. ففي قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 37/43 الصادر في ديسمبر 1982، جاء نصًا أن الجمعية العامة:

« ١. تطلب إلى جميع الدول أن تنفذ، تنفيذًا كاملًا ودقيقًا ، قرارات الأمم المتحدة المتعلقة بممارسة الشعوب الواقعة تحت السيطرة الاستعمارية والأجنبية لحق تقرير المصير والاستقلال؛ ٢. تعيد تأكيد شرعية كفاح الشعوب في سبيل الاستقلال والسلامة الإقليمية والوحدة الوطنية والتحرر من السيطرة الاستعمارية والأجنبية والاحتلال الأجنبي، بجميع الوسائل المتاحة لها، بما في ذلك الكفاح المسلح؛ ٣. تأكيد ما لشعب ناميبيا، والشعب الفلسطيني، وجميع الشعوب الواقعة تحت السيطرة الأجنبية والاستعمارية، من حق غير قابل للتصرف في تقرير المصير والاستقلال الوطني والسلامة الإقليمية، والوحدة الوطنية والسيادة الوطنية، والسيادة دون أي تدخل أجنبي».

هذه المقدمة المختصرة ضرورية للتأكيد على أمرين في غاية الأهمية:

أولًا: أن قضية فلسطين ليست قضيت تعاطف عربي أو إسلامي تحكمه العواطف فحسب، وإنما هي قضية قانونية وسياسية، مُعترف بعدالتها عالميًا، ولو حاولت إسرائيل على مر السنوات عبر آليتها الإعلامية، وأذرعها الفكرية والثقافية، تعمية شعوب الغرب عن هذه الحقيقة.
ثانيًا: أن حق الشعب الفلسطيني في الدفاع عن نفسه وأرضه حق أصيل، وأن دول العالم - وفقًا للمواثيق الأممية - مطالبة بدعم سعيه لنيل حريته واستعادة سيادته على المناطق المحتلة منذ عام 1967.

هذان الأمران على بداهتهما، سمعنا على مدار الأيام الماضية منذ أحداث السابع من أكتوبر، مَن يضرب بمنطقهما عرض الحائط، حين يصر على مهاجمة وإدانة ما حدث في السابع من أكتوبر، غاضًا الطرف عن جرائم الاحتلال الإسرائيلي المستمرة منذ عقود. وليس بالضرورة أن يجئ غض الطرف في صورة الإنكار التام، لكنك حين تُصِر على أن تخرج على الناس يوميًا، متحدثًا بوصف ما وقع في السابع من أكتوبر ب " الإرهاب"، مستفيضًا في تبرير وصفك، ومُقتصدًا في ذكر جرائم الطرف الإسرائيلي؛ بحيث يقتصر الحديث على ذكر فداحة الأعمال الإسرائيلية التي جاءت ردًا (مع التشديد على هذه الكلمة) على أحداث السابع من أكتوبر، وكأن إسرائيل قبلها لم تكن وحشية، فإن ذلك يدفع المستمع دفعًا إلى التشكك في الغرض من حديثك، الذي يخدم بصورة واضحة الطرف الإسرائيلي، وزعمه في تبرير عدوانه. وليس أبلغ من قول سعادة السفير «حسام زملط»، رئيس البعثة الفلسطينية في المملكة المتحدة، حين أجاب على سؤال الكاتب والصحفي «إبراهيم عيسى» في منتدى مصر للإعلام، حول السبب في رفضه لسؤال وسائل الإعلام الغربية عن إدانته لما قامت به «حماس» في السابع من أكتوبر. فبعد تأكيده على الحرص على سلامة جميع المدنيين، أرجع سبب رفضه للسؤال إلى أنه ليس فقط يهدف إلى التعمية عن الجرائم الإسرائيلية في حق الشعب الفلسطيني، وإنما لأنه - بحسب وصفه - "سؤال عنصري" بالأساس؛ لأن وسائل الإعلام الغربية لا تسأل سؤالًا مماثلًا لضيوفها حول إدانة ما تقوم به إسرائيل، وكأن الدماء الفلسطينية أرخص من أن يُسأل الناس عن موقفهم من سفكها.

في هذا الإطار، الداعم لحق الشعب الفلسطيني بشكل عام في مقاومة الاحتلال، والرافض لاختصار القضية في مشهد واحد أوجع الطرف الإسرائيلي، يجب أن يكون كلامنا نحن الدول العربية. لأنه علاوة على ما سبق، فبغض النظر عن أي تقييم لما حدث في السابع من أكتوبر، فإن ما يحدث للشعب الفلسطيني الاعزل من استهداف، وإبادة، وتهجير، يستوجب من الجميع أن يدينوا ما تقوم به إسرائيل، وأن يصفوه بصفاته الصحيحة: اعتداء وحشي همجي، وأن يُقروا بحق المواطنين الفلسطينيين في غزة، من اللحظة التي تم الاعتداء عليهم فيها، في الدفاع عن أنفسهم إن أمكنهم ذلك، دفاعًا عن حياتهم التي تُسلَب بغير ذنب، بغض النظر عن الموقف السابق من السابع من أكتوبر، بالتأييد أو الرفض. وفي هذا الإطار أيضًا، تتحرك النظم السياسية العربية - وعلى رأسها مصر - التي ترفض أن يكون محور النقاش الرئيسي هو إدانة السابع من أكتوبر من عدمه، وإنما مناط الحديث يجب أن يدور حول أمرين: الوقف العاجل للسفك المُمنهج للدماء الفلسطينية من قِبَل الاحتلال الإسرائيلي، والدعوة للبدء في تفعيل حل الدولتين، الذي تنتهك إسرائيل كل المواثيق الدولية بالامتناع عن تنفيذه منذ عقود.

هذا حديثنا نحن، كشعوب وأنظمة عربية، أمّا الشعب الفلسطيني، فله مقامٌ آخر.

هذا الشعب الذي يُباد على مرأى ومسمع منّا جميعًا. الشعب الذي تُبتَر أطرافه بغير تخدير، ويحتضر صغاره مُمسكين بألعابهم تحت الأنقاض، ويُدفن شهداؤه في مقابر جماعية. الشعب الذي يقضي نهاره فارًا من القصف، فإذا ما استقر به المقام في خيمة، قضى نهاره في البحث عن شربة ماء نظيفة، وليله في إشعال الحطب، مستدفئا به في مواجهة البرد القارس، وأمطار الشتاء.

هذا الشعب الذي فقد أبسط أحلامه، في تعليم وعمل، في بيت وأسرة، ويحيا ليل نهار في اسوأ كوابيسه التي لم ترد على خاطره من قبل، بهذه القسوة، بهذا التوحش.

لهذا الشعب الحق في أن يتحدث، وأن يسمعه العالم.

لهذا الشعب الحق في أن يقول ما يشاء، أن يبكي، أن يصرخ، وأن يعبر عن نفسه، دون أن نُخرس صوته، دون أن نزايد على ثباته، أو نطعن في انتمائه.

لقد أفزعني وأحزنني، ما رأيت من تعليقات للبعض، تنتقد وتهاجم، بكل خسة ونذالة، المصور الفلسطيني الشاب، البطل الصبور، المكافح الماهر «معتز عزايزة»، فقط لأنه نشر على صفحته مقطعًا مُصوّرًا لأحد المواطنين القانطين بمخيم «البريج»، بعد إبلاغهم بإخلاء المخيم والتوجه إلى «دير البلح». يتحدث المواطن الفلسطيني منددًا بما يحدث للشعب الفلسطيني، مؤكدًا أن الأمر لم يبدأ في السابع من أكتوبر، ولكنه بدأ منذ ٧٥ عامًا ، وأن المملكة المتحدة مسؤولة عما حدث، والولايات المتحدة مسؤولة اليوم عما يحدث بدعمها لإسرائيل، ومطالبًا الغرب بالتدخل لإنهاء المهزلة التي تحدث، فهم قد أصبحوا بلا غذاء، ولا ماء، ولا مأوى.

أين المشكلة إذن في حديث الرجل؟

يرى البعض أن كارثة قد وقعت لأن الرجل قال في منتصف حديثه أنهم لا يطالبون بإبادة دولة إسرائيل ، وأنهم تعايشوا مع وجود إسرائيل ولجأوا للمفاوضات، لكن إسرائيل لا تلتزم بشيء، وطالب الرجل أن ينال الفلسطينيون حقوقهم وحريتهم كشعب مستقل. كما دعا الرجل الشعب الإسرائيلي إلى التخلي عن سياسة الانتقام والإبادة؛ فكما أن للشعب الإسرائيلي حقوق فللشعب الفلسطيني حقوق، وكما يريد الإسرائيليون الحياة يريدها الفلسطينيون أيضًا.

باختصار، يتحدث الرجل المنكوب المكلوم، والذي يُرحّل اليوم من مخيم لاجئين إلى مصير أكثر قتامة، بصيغة المطالبة بتنفيذ حل الدولتين، في محاولة لوضع العالم أمام مسؤولياته في مساعدة ودعم الشعب الفلسطيني من أجل الحصول على الحد الأدنى من حقوقه، التي اعترفت بها مواثيق الأمم المتحدة، ومن ثم أقرت بها دول العالم المختلفة.

فهل أجرم الرجل؟ وهل أجرم «معتز»؟

ألا يحق للمواطن الفلسطيني، بصفته مواطن فلسطيني، أن يتحدث باسم نفسه وباسم وطنه؟ ألا يحق له أن يتألم، وأن يُعبّر عما لحق به من ضرر؟ هذا المواطن، الذي يبدو من هيئته أنه تجاوز الخمسين من عمره، تّزايدون عليه، وهو الذي قضى نصف قرن بأكمله لا يترك أرضه، ولو كانت مخيم! وهل أجرم «معتز» حين نقل حديث الرجل بغير اقتطاع أو تحريف؟

لقد رأيت عشرات التعليقات تتهمه بالخيانة، بل ووصل الفجر بالبعض إلى اتهامه بأنه بلاد دين ولا عقيدة! ألهذا الحد تتعصبون لأفكاركم، وأيدولوجياتكم، على حساب أولى الناس بنصرتكم؟ إنني أتعجب، كيف استطاع البعض وهو يجلس في بيته، آمنًا آكلًا شاربًا، أن يطعن بسكين بارد، ذلك الشاب المكافح الذي لولاه - هو وغيره من الشباب الفلسطينيين المُصوّرين والمؤثرين على السوشيال ميديا - ما رأى العالم صوتًا وصورة المجازر التي تُرتكب على يد الاحتلال الغاشم. كيف جرؤ البعض على وصفه بأنه "يدس السم في العسل"؟ وهو الذي يشرب السم كله - هو ورفاقه - لينقل للعالم صورةً أو مقطعًا مصورًا، لعلّ أحدًا من الخلق حين يرى ما يحدث لهم يهب لنجدتهم مما هم فيه من العذاب!

كيف يزايد البعض على هذا الشاب وأمثاله؟ وكيف يزايدون على المواطن الفلسطيني المنكوب الذي يطالب العالم بحقوقه، لأن إطار هذه الحقوق لا يتماشى مع أيديولوجية سعادته، أو وجهة نظر حزبه، أو جماعته، أو قناعاته الشخصية، أيًا ما كان مصدرها؟

إن المزايدين لا يختلفون في شيء عن المحتل الذي يريد أن يُخرس الصوت الفلسطيني. يريد هؤلاء المُزايدون على وسائل التواصل الاجتماعي أن يحلوا محل الشعب الفلسطيني، في الدعم أو الرفض، في المدح أو النقد. يزايدون على صاحب الأرض، والوجع، والمأساة.

إن كان موقفنا نحن كشعوب عربية أن نضع المطالبة بوقف إطلاق النار فوق كل اعتبار، وأن نرفع صوت المطالبة بحقه في التحرر فوق كل صوت، فإننا نفعل ذلك لمصلحة الشعب الفلسطيني. أمّا الشعب الفلسطيني، فأمامه طريق طويل.

طريق طويل لتحديد المصير، وقبله تحديد الرؤية. طريق يستلزم أن يُعبّر الشعب بكل أطيافه (مع فتح/ ضد فتح/ مع حماس/ ضد حماس/ مسلم/ مسيحي/إلخ..) عن نفسه، ورؤيته، وتقييمه لما حدث، ورغبته في الصورة التي سيكون عليها مستقبله. ولا يحق لأي حد، وتحت أي مسمى أو زعم، أن يسلب المواطن الفلسطيني هذا الحق. بأي حق يفعل ذلك؟!

إن نصرتنا لفلسطين تتمثل أوّل ما تتمثل في نصرتنا لإخوتنا في فلسطين. نصرتنا لأصواتهم، وأحلامهم، وحريتهم. وليست النصرة أن نُملي على الواحد منهم موقفه، أو نُخرس صوته كي لا نسمع منه رأيا لا يلائم أهواءنا.

إنني لا أطالب أحدًا أن يتبنّى أي موقف بعينه، لكن - فقط - أقول:

أرفعوا أيديكم عن الشعب الفلسطيني، إن كنتم حقًا ترغبون في نصرته. ولا تزايدوا؛ فإن المزايدة عليه أكبر خيانة له.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى