مجدي جعفر - مقاربة نقدية في المجموعة القصصية (جسر النار) للكاتب عماد أبو زيد

1 – العنوان :

اهتم الباحث السيميولوجي بالعنوان اهتماما بالغا، وجعله بمثابة النص الأصغر، الذي يحمل رسالة الكاتب المضمرة، والتي يبثها للقارئ تفصيلا في المتن ( النص الأكبر )، إذن العنوان هو النص الموازي، وهو العتبة الأولى التي نلج من خلالها إلى النص.

وعنوان الكاتب عماد أبو زيد ( جسر النار ) من العناوين المستفزة للقارئ، فالعنوان يلفت انتباهه ويثير مخيلته، ويفتح شهيته للقراءة، فعن أي جسر يتحدث الكاتب؟ وما الذي يمكن أن يقوله عن جسر النار في سرده في المتن؟ فذهن المتلقي قد ينصرف قبل أن يبدأ في قراءة المحموعة القصصية إلى الصراط، فهل هو الصراط المنصوب فوق جهنم، ويسقط من عليه في النار من يسقط، ويمر عليه بسلام من يمر، وهل دارت كل قصص المجموعة في فلك هذا العنوان؟، وهل أخذت كل قصة منه بنصيب؟

للنار حضورها في المجموعة، وبين دفتيّ المجموعة قصة تحمل عنوان ( جسر النار ) وأخرى تحمل اسم ( حديث النار ) فضلا عن أنها مبثوثة في جنبات بعض القصص، ولكن حضورها في كل الأحوال جاء بالمعنى النفعي الدنيوي، لا بالمعنى الديني أو الأخروي، حيث لا يكون هناك غير مكانين، الجنة والنار وبينهما الجسر / الصراط.

وعلاقة العنوان بالنص، علاقة ضاربة في جذور جُل القصص، بطريقة أو باخرى، وتتبع هذه العلاقة والكشف عنها تحتاج من الناقد / القارئ إلى بذل بعض الجهد، ومحاولة فك رموزها وشفراتها المبثوثة في ثنايا النصوص، وهذا ما سنحاول مقاربته من خلال القراءة المتانية للنصوص.

..................................................

2 - الفضاء البصري والفضاء المكاني للعنوان:

النظر إلى الفضاء البصري المتمثل في لوحة الغلاف، والفضاء المكاني للخط الذي كُتب به العنوان واسم الكاتب، وطريقة الكتابة، وشكلها، تُعّد من العتبات المهمة أيضا، ففي أعلى وجه الغلاف وعلى مساحة ربعه العلوي تقريبا، نطالع اسم الكاتب وفي السطر الأسفل مباشرة وبخط أكبر عنوان المجموعة ( جسر النار )، وفي السطر الثالث ( قصص قصيرة )، كُتبت جميعها أفقيا وبالخط الأسود، وصورة لرجل ملامحه غير واضحة تماما، يرتدي لباس أهلنا في الريف المصري، وفي يده عصاة طويلة، وكأنه حارسا، وبجواره ما يشبه ( ركية النار )، واللون الأصفر هو اللون الغالب على فضاء الغلاف، وفي زاوية منه نلمح مربعا صغيرا أسود، وبداخله مربع آخر أبيض اللون، ويبدو أن هذا المربع الذي يشبه مظروف الخطاب يحول بين عالمين، أحدهما ظاهرا للعيان والآخر خفي، أو هو الحد الفاصل بين المرئي واللامرئي، ويتخلل اللون الأصفر بعض الظلال القريبة من اللون الأبيض، والغلاف يعكس بصورة جلية مكابدات شخصيات الكاتب في هذه الحياة ومعاناتهم، وهم بالفعل يسيرون في هذا الزمن النكد الضنين على جسر من نار، يسقطون كثيرا، ويمرون قليلا، وأيضا معاناة الوطن وأزماته، وهزائم الأمة المتكررة، والتي أفقدت الشخصيات توازنها، وصارت شائهة وبلا ملامح، والتحولات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية التي أفقدت الوطن والأمة الهوية والشخصية.

..................................................................

3 – الفضاء الزماني والفضاء المكاني :

لأن نصوص الكاتب لها رسالة، وتحمل خطابا، فيتوجب علينا النظر إليها في سياقها الزماني والمكاني، فالكاتب ولد مع هزيمة يونيو 1967م، أو قبلها بقليل، فحمل هموم وطنه وهموم أمته، وانكساراته، عاصر زمن الانفتاح، زمن التحولات الكبرى من نظام اشتراكي إلى نظام رأسمالي، والصلح مع العدو، والآثار التي ترتبت على هذه القرارات غير المدروسة، فضلا عن الهموم الخاصة، ومعظم أحداث القصص تدور في فترة السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، ومابعدها، واحتفي بالمكان احتفاء شديدا، مكان النشأة في قريته، ومدينته الصغيرة بالمنوفية، وشبين الكوم عاصمة المحافظة، يصف شوارعها، وحواريها، وأزقتها، ومبانيها، حتى المكان العابر ( الترانزيت ) كان له حضوره : محطة القطار، المقهى، السينما، المسرح، ..... إلخ، وكانت مدينته وتحولاتها هي العينة التي يمكن أن نقيس عليها كل مدن الوطن وتحولاتها في تلك الفترة الزمنية، وتحولات الوطن كله، فالمدن في مصر تتشابه.

..................................................

4 – الإقناع والامتاع :

هذه المجموعة تمثل في رأيي، قمة النضح والتألق الفني والموضوعي للكاتب، فحققت لي بعد قراءتها خصيصتين، أفتقدهما كثيرا في معظم القصص التي تضخ بها المطابع يوميا، وهما الإقناع والامتاع، وأرجو أن يتحقق للقارئ هاتين المتعتين بعد هذه السباحة في هذه المجموعة القصصية البديعة والفاتنة.

( أ )

انتظمت قصص الكاتب تحت محورين رئيسيين، المحور الأول : إعادة ترتيب الأحداث، ويضم ( 24 ) قصة، واستفاد الكاتب من السينما في إعادة ترتيب الأحداث، وهي تشبه عملية المونتاج السينمائي حيث يقوم المخرج بإعادة ترتيب اللقطات وتركيبها بحيث يصبح لها دلالة خاصة، ولا تتم هذه العملية وفقا للتسلسل الطبيعي للحدث وإنما وفقا للأثر الذي يريد المخرج أن يحدثه في المتفرج، وهذا ما فعله الكاتب عماد أبو زيد في إعادة ترتيب أحداثه.

والمحور الثاني : قبل شهور قليلة، ويضم هو الآخر ( 24 ) قصة، وتراوحت أطوال القصص ما بين الثلاث صفحات ( أطول القصص ) ونصف الصفحة ( أقصر القصص )، واحتل القسم الثاني النصيب الأوفر من القصة اللقطة وقصة الومضة والقصة القصيرة جدا، وهذا اللون برع فيه الكاتب، والمتابع لمسيرته الأدبية، يجده قد انشغل بكتابة القصة اللقطة وقصة الومضة والقصة القصيرة جدا، ونشرها في العديد من الصحف والمجلات، منذ أكثر من ربع القرن، وقبل أن يصدر مجموعته القصصية الأولى ( وخز ) التي لاقت وقت صدورها حفاوة طيبة من القراء والنقاد على السواء.

يعي الكاتب عماد أبو زيد منذ قصص البواكير الأصول الفنية التي يقف عليها العمل القصصي دون عثرات، وأخذ يطور تجربته القصصية، وعكف على قراءة تجارب كبار الكُتّاب التي شُرقت أعمالهم وغُربت، واختط لنفسه من البداية أسلوبا متقدما في الكتابة، وخلّص قصته من الحشو واللغو والثرثرة، حيث لا زوائد ولا فضول، واعتمد خاصيتي الاكتناز والتكثيف، والدراما قائمة بالأساس عليهما، واستفاد من مقولات أرباب الحداثة مثل بعد تخليصها من بيئتها الغربية.

قد يفاجئ قارئه بوضع هوامش داخل المتن كما في قصة ( سلمى ابنة الجيران )، وقد يأتي باستدراك في نهايتها كما في قصة ( قدرات خاصة )، والهوامش والاستدراكات تثري القصة، وتفتح للقارئ أفاقا جديدة، ويعاود القارئ قراءتها من جديد.

( ب )

اتسمت هذه المجموعة بتماهي الخاص مع العام، وتعالق الذاتي بالموضوعي، وفيها تجارب حميمة، اقترب فيها من أهله وناسه، وعبر عن همومهم وأحزانهم الكثيرة وأفراحهم القليلة، عن تطلعاتهم وانكساراتهم، وكان لسان حال أبناء جيله، هذا الجيل الذي ولد مع النكسة أو قبلها بقليل، وذاق مرارة الهزيمة وآثارها على الشخصية المصرية، وبعيدا عن الإنشاء الأجوف، يرصد الأثار المقيتة للتحولات المباغتة للمجتمع المصري بسبب قرار الانفتاح الاقتصادي الذي اتخذه الرئيس السادات، انفتاح ( السداح مداح ) بتعبير الكاتب الصحفي أحمد بهاء الدين، ولم يكن المجتمع المصري مهيئا له، تحول مائة وثمانين درجة من نظام اشتراكي إلى نظام رأسمالي، وظهور طبقة طفيلية جديدة، استفادت من هذا التحول المباغت، كل هذا وغيره، تثيره نصوص الكاتب، وسنشير في عجالة إلى ما أثارته القصص من أفكار وقضايا، وهموم ومشكلات تمس الإنسان المصري المعاصر، والعربي أيضا، فالكاتب لا ينعزل عن واقعه المصري، ولا يبتعد عن محيطه العربي والاقليمي، ولا يكتب من برج عال، وقد حقق بذلك الاقناع لقارئه الذي وجد نفسه في هذه المجموعة.

..................................................

1 - الأمن القومي المصري :

في لقطة مهمة من قصة ( في بلكونة الدور العاشر ) يرى إبراهيم باشا ممتطيا جواده، ويشير بإصبعه جهة الشمال، وهي إشارة ذكية إلى نظرية الأمن القومي المصري، حيث يبدأ أمن الوطن من شمال شرق الوطن من بلاد الشام إلى بلاد الأحباش حيث منابع النيل، وهذه النظرية الأمنية لم تكن مستحدثة في عصر محمد علي وإبراهيم باشا، ولكنها كانت راسخة وثابتة منذ أجدادنا الفراعين العظام، فما أكثر الحملات التي قامت منذ الفراعين حتى محمد على وإبراهيم باشا إلى الشمال، وإلى الجنوب لتأمين مياه النيل، وهي نفس النظرية الأمنية التي آمن بها الزعيم جمال عبدالناصر، وللأسف جاء من ينسف هذه النظرية، ويجعل أمن مصر القومي عند حدودها الجغرافية الطبيعية! وهذا ما جعل الأخطار تحدق بمصر، ومحاولة تقزيمها.

.........................................

2 - أبطال أكتوبر :

= في قصة ( في ضوء الحجرة الخافت ) تهميش أبطال أكتوبر الحقيقيين، وللأسف تم اجهاض هذا النصر العظيم عقب اتفاقية السلام مع العدو، أعظم انتصار في تاريخنا الحديث، فالبنت تطلب من والدها أحد أبطال حرب أكتوبر، أن يرسم لها لوحة عن هذه الحرب، كما طلبت المعلمة منهم، ولأنه ليس من الموهوبين في فن الرسم، راح يحكي لها عن حرب أكتوبر، والبنت تريده أن ينجز لها اللوحة، فالمعلمة ستراها غدا، وفي التلفاز تستضيف المذيعة السيد المحافظ لكونه أحد أبطالها، ويتضايق مما يقوله السيد المحافظ، وفي ضوء الحجرة الخافت، يختفي تحت السرير، ويخرج حقيبة ضخمة، يفتحها ( تلتف أصابعه حول " أفرول " يغمر وجهه فيه، يشم رائحته، يخلع جلبابه، يحاول أن يرتديه، تعوقه بدانته، يمسك بألبوم الصور، صورته وهو على الجبهة، صورته مع الشهيد عبادة الضوي، ... )

ويبكي بطل أكتوبر، ( يخرج عودا، يحتضنه، يتفحصه، يضبط وترا هاربا، لا أحد يسمع صوتا له أو للعود ).

وهذا هو حال بطل أكتوبر!!.

................................................

3 - الانتخابات :

= في قصة ( جدار بلكون النقابة ) يفضح الكاتب النقابات المهنية، واستقطاب النظام لأعضاء مجالس إدارتها، ولا يهم أعضاء مجلس الإدارة غير إرضاء النظام، والضرب عرض الحائط بمطالب الجمعية العمومية، فئوية كانت أو مهنية، ففخامة الرئيس يعتزم ترشيح نفسه لفترة رئاسية خامسة، ومعالي النقيب الذي دعمه النظام وهو أحد أعضاء الحزب الحاكم المهمين بالمركز، ويشغل أحد المناصب القيادية بالمجلس الشعبي، مُطالب بدعم الرئيس، وتجييش أعضاء النقابة للمطالبة بتعديل المادة (76 ) من الدستور، وتغيير مواد أخرى، وتسلم صورا للرئيس بشعارات جديدة، ( فكر جديد ) باللون الأخضر، ومطبوعات هائلة، وملصقات، ..، وينشغل بالبحث عن المكان الأنسب لتعليق صورة الرئيس في مكان واضح وبارز على جدار النقابة، و ..

= في قصة ( صفعة مدوية ) صورة مزرية أخرى للانتخابات في مراكز الشباب المنتشرة في كل مدن مصر وفي معظم قراها، وكيف يتم التلاعب بالأصوات لصالح رئيس المجلس السابق، والمرشح للدورة الحالية، وعلى مدى رئاسته للمجلس السابق لم يقبل أي أعضاء جُدد إلا بعد التأكد من ولائهم التام له، وقد كلف أحد منافسية من يقوم بترصده وتصوير تجاوزاته، ونجح في مهمته، ولأنه ابن أحد الأعيان، وعلى صلة بالخواجة بالبندر، الذي تربطه علاقات وطيدة بالمسئولين ورجال الشرطة، ويتاجر في المخدرات وصاحب محل خمر شهير، وينفق ببذخ على أصحاب النفوذ، ويقدم لهم الشقق والنساء دون مقابل، وجاء الضابط ليقابل والد الشاب الذي صور التجاوزات بالركل والصفع!!.

= من قصة ( في بلكون الدور العاشر ) : عضو مجلس الشعب بالدائرة، قبل ترشحه أمسك بمقاليد كل الأمور، صغيرها قبل كبيرها، بالإدارة الزراعية التي يعمل بها، وصار وحده قبلة لكل فلاحي المركز!.

..................................................

4 - دوري المظاليم :

= في قصة ( في دوري الدرجة الثانية ) يرصد الإهمال الذي يطال فرق الدرجة الثانية بأقاليم مصر، فالملعب بلا أسوار، وبلا مدرجات، وأرضيته غير مستوية، وحمامات المياه غير متوافرة، والجماهير تُطالب برعاية الفريق، وبكفالته ماليا، فهم يخشون هبوطه إلى الدرجة الثالثة، ويشاهدون المباراة من الشارع ومن داخل الملعب، وفي مثل هذه المناسبات يحضر ضباط وعساكر الأمن المركزي بكثافة، تحسبا لضلوع الجماهير في فعل أشياء أخرى غير التشجيع، تثير ذعر المسئولين، وتنهال الهراوات على أجسادهم وأرجلهم بلا سبب!!.

.............................................

5 - في مستشفيات الحكومة : العلاج للأغنياء فقط :

= من قصة ( في السيارة المتفحمة ) يسلط الضوء على البعثة الرياضية التي أصيب أفرادها بالملاريا المخية، وأودت بحياة لاعبين، وعاد أفراد البعثة، ودخلوا المستشفى، وتنشر الصحف بأن أحد اللاعبين المصابين رفض البقاء في المستشفى، فلم يحتمل الاهمال الطبي، فطلب من أهله الاستدانة ونقله للعلاج بالجناح الاستثماري في نفس المستشفى!.

...............................................

6 - من صور الفساد :

= في قصة ( قدرات خاصة ) يسرد قصة ابن الملواني الذي يتاجر في الدقيق المدعوم، والأسمنت، وقد أثرى ثراء فاحشا، فاشترى أطيان ومزارع وعقارات، ورغم أن الشرطة صادرت الدقيق المدعم والمكدس في مخازنه أكثر من مرة، ولكنه لم يكف أبدا عن الاتجار فيه، واشترى بماله بعض موظفي التموين والمخبرين، والذين ينبهونه بالحملات الموجهة إليه لضبط ما في المخازن، فيأخذ حذره، ويقوم بنقلها فورا إلى أماكن أخرى، وكثيرا مارأى الناس عماله يسارعون في نقل كراتين الملبن والحلوى الفاسدة إلى العمارة المجاورة قبل أن تداهمه الشرطة ومباحث التموين!!.

.............................................

7 - صورة المُعلم :

= في قصة ( لعبة آمال ) يرينا الكاتب كيف يُجبر المعلمين التلاميذ على أخذ الدروس الخاصة لديهم! وجلال سمكة يحث أكرم على ضرورة الضغط على التلاميذ، ونجاحهم مرهون بالذهاب إلى غرفهم الخاصة بعد انتهاء اليوم الدراسي!، والمُعلمة آمال المتصابية، هوايتها إثارة غرائز الرجال، ومن أجل الظفر بها تعارك جلال سمكة وأكرم، وانتهى العراك بقطع غائر في وجه جلال سمكة!.

= في قصة ( جراح قديمة ) : مُعلم بالمرحلة الإعدادية يساعد إحدى الفتيات على النجاح، وتنتقل إلى الصف الثالث دون وجه حق، فأمها كانت قد أغوته، وقدمت له نفسها مقابل نجاح ابنتها!

= في قصة ( إحساس بالحياة ) : صورة المعلم الذي يعمل مُعلما بالصباح، وحدادا بعد الظهر، وملابسه متسخة دائما.

...............................................

8 - صور لبعض خُطباء وأئمة المساجد :

في قصة ( ورقة عمل ) : يقدم لنا صورا لأئمة وخطباء هذا الزمان، الصورة الأولى لسعيد الذي يعتلي المنبر، ويلقي بخطب مؤثرة، يكذب ولا يفي بعهد .. ( زاملني فترة في العمل، واقترض مبلغا من المال ولم يرده )

والصورة الأخرى للشيخ عبدالحكيم، انتظرت أخته يوم الجمعة بنفاد صبر، ومكثت بجوار المسجد، وانتظرت حتى صعد أخوها عبدالحكيم المنبر، وشرع في الخطبة، فنادت عليه بصوت غاضب وجهير : " عامل شيخ، وبتوعظ الناس، طب اوعظ نفسك وبلاش تاكل حق إخواتك "

................................................

9 - صور أخرى :

= في قصة ( مصور فوتوغرافي ) : أزمة المثقف، وإدعاء المثالية، وغياب الموضوعية في الحكم على الأشياء، وتحكم العاطقة فينا، ويستدعي الكاتب عالم الاجتماع " كايم " ليؤكد من خلال أبحاثه ومقالاته أننا نفتقد المعيارية.

= في قصة ( السيد المحافظ ) يوقفنا على الهوة الواسعة بين حالين مختلفين للسيد المحافظ الذي التقاه في تونس يرتدي " الشورت " و " التي شيرت " ولا يكف عن الضحك واطلاق النكات، وحاله وهو في المحافظة المغايرة تماما، يرتدي البذلة صيفا وشتاء، والتكشيرة لا تنفك عن وجه، وعابس دائما، ولا يتحرك إلا في موكب رسمي، وكل من يعمل بالمحافظة يتجنبه، ويتحاشى لقاءه، وثمة جدرا وأسوارا عالية بينه وبين الناس، فيخشونه، ويصفونه فيما بينهم بألفاظ بذيئة، ويسبونه.

= ومن قصة ( في بلكونة الدور العاشر ) يشير إلى شركة بيع المصنوعات المصرية التي خلت من الزبائن، وكان الناس يشترون منها كل احتياجتهم.

= ومن قصة ( كانت ذات سقف مُقبى ) يحكي نتفا من تجربة الهجرة غير الشرعية لشاب مصري ضاقت أمامه فرص العمل، وأصبحت أشبه بثقب الإبرة، وتأجل الحب والزواج، فباع له الأب أغلى ما يملك الجاموسة والحمار، واستدان بالربا، على أمل أن يعود بالمال الوفير والخير الكثير، ولكن يتم القبض عليه مع مئات غيره، من قبل خفر السواحل باليونان، ويسلمونه مع رفقاء رحلته إلى السلطات الليبية، ويعود إلى مصر حزينا مكتئبا.

= في قصة ( شجر الفيكس ) يوازن بين أساليب البيع والشراء في الزمن الماضي والتزام التجار في ذلك الزمن بالحق والأخلاق، فكان البيع عند الدفراوي مثلا عبارة عن معادلة رياضية : واحد زائد واحد يساوي اثنان، أما في الزمن الحاضر، اختلت المعادلة، والتجارة أصبحت فهلوة، والحصول على ما في جيب الزبون بأية وسيلة، مشروعة كانت أو غير مشروعة.

= في قصة ( شرف مدينة ) : " تجريس " كرم ضبيش الذي يطارد إحدى الزوجات، ويطوفون به عاريا في عربة حنطور، وخلفه الأطفال يقرعون الطبول، ويرقصون، ويطلقون الصافرات، ويصيحون : ضبيش .. ضبيش.

= في قصة ( صانع الأخبار ) : كمال البهنساوي صاحب " بوتيك البهنساوي " عجوز متصابي، يتحرش بكل فتاة تعمل بالبوتيك، فتفر منه، يعمل مراسلا للصحف القومية : الأهرام والأخبار والجمهورية، خبر، نعي، تهاني الزواج وأعياد الميلاد ..إلخ، ويحتال للتحرش بالنسوة القادمات من الريف، ويفترشن ببضاعتهم أمام " البوتيك "

= وفي قصة ( رائحة أم أكرم ) : ينتقد الكاتب بعض عادات أمهاتنا في إعداد الطعام وطهيه، رائحة " تخديعة " أم أكرم التي تنتشر في أرجاء الشارع، فهي تُكثر من البصل والثوم والتوابل في " التخديعة "، وهي عادات غير صحية بالطبع، لما مات زوجها الشيخ الكبير والمريض، أخذت تنوح، وتقول : قبل ما يموت وكلته اللي نفسه فيه، حطيت له على الطبلية، حتتين لحمة كبار على وش طبق الرز، وطبق كفتة، وطبق ملوخية وباسم النبي وكلهم كُلهم.

............................................

10 - المهمشون :

= ويقترب من المهمشين أكثر، كما في قصة ( ساحة الأراجوزات )، وبائع العرق سوس في قصة ( تحرير الرغبة ) وأقصى طموحه أن يظهر في أحد الأفلام ويقول كلمة واحدة، يحفظه بها الناس!، وعامل المدرسة في قصة ( حديث النار ) وحارس البناية في قصة ( جسر النار )، والباعة الجائلين الذين يفترشون ببصاعتهم الشوارع، والولد الذي من أصحاب القدرات الخاصة، وتبدو عليه علامات التخلف العقلي في قصة ( رجل مختلف ).

ومن أجمل قصص المهمشين التي تناولها قصة ( نظرة واحدة ) التي تتناول صانعي الحرف اليدوية، وكان لماسح ألأحذية حضوره في المجموعة، ويصفه وهو يُعمل فرشاته في حذائه بالعازف الماهر، وقد تعامل الكاتب مع هؤلاء المهمشين، والذين يعيشون على أطراف الحياة برهافة شديدة، ونجح في أن ينحت لهم تماثيلا في قلوب المتلقين.

.........................................................

11 - المسار الثقافي وصورة المثقف :

= من قصة ( في السيارة المتفحمة ) أنظر كيف يقدم لنا شاعر يدعي الحداثة ورفيقته المتشاعرة :

" الشاعر الذي يدعو إلى فض الاشتباك بين المقدس واللغة، ورفيقته الحسناء التي تجتزأ قصيدتها على كل ما هو مقدس وتراثي، تمط شفتيها عند نفث دخان سيجارتها، يؤرقه صرخات جسدها من " التريل " الضيق الذي ترتديه "

= وانظر إلى قصة ( مصور " فوتوغرافي " وصورة المثقف المتناقضة من خلال محاضرين في ندوة، والمشهد الأول أيضا في قصة ( في المحطة يشتم رائحة الحبيبة ) : المحاضر الذي يتحدث باسهاب عن أهمية المنتج الوطني، وكيف جابه المهاتما غاندي المحتل بمقاطعة منتجات المحتل والاعتماد على المنتج الوطني ..

" عندما رفع يده في الهواء، لينش ذبابة بعيدا عن وجهه، انزاح كم القميص عن رسغه، لتبدو الساعة " الكاسيو " الياباني واضحة "

= ومن قصة ( في وضع استعداد للتصفيق ) : " وغاية وزارة الثقافة ظهور افتتاح المهرجان السينمائي للافلام التسجيلية بصورة مشرفة أمام كاميرات العالم، فحسب وجهة نظر مسؤولي الوزارة عندما تكون قاعة المسرح محتشدة بالجمهور، يعطي ذلك انطباعا جيدا عن تحضر البلد المضيف.

...................................................

12 - تحولات :

= في قصتي ( ضاحية ماهر ) و ( نجم الأفيش ) يعكس الكاتب بعض التحولات في المجتمع، وكيف يُصبغ المكان باسم ماهر، وهو ليس من الإقطاعيين، ولا صاحب مال أو جاه، أو .. أو ..، هو مجرد بائع فول وفلافل، في محل متواضع، يتحلق حوله عشرات من تلاميذ المدارس، ويتبارون فيما بينهم من يحصل على سندوتش قبل الآخر!.

" فكر أبي في استئجار محل، وإعداده ليكون مطعما، نهره جدي قائلا له : انت عاوز تعرنا، تسيب الأرض وتقف تقلي طعمية " وماهر عُثر عليه رضيعا أمام أحد المساجد، فأخذته سيدة مُسنة وربته!!

في زمن الانفتاح والتحولات الاقتصادية، وصعود طبقات جديدة، استفادت من هذا التحول، كما في قصة ( نجم الأفيش ) الولد الماكر الذي حول بمال أبيه الشقة الكبيرة إلى مطعم فاخر على غرار " ويمبي " و " ماكدونالدز " و" كنتاكي " ، ووضع على واجهته لافتة كبيرة يالأضواء، تسرق عيون المارة بالشارع، وتعرض عليهم ما يجري داخل المحل أولا بأول، فالولد الماكر يصمم المطعم بفكر جديد، وبخيال وثاب، ويعرف متطلبات المرحلة، وزبائن اليوم ورغباتهم، ما يحبونه وما يكرهونه، فهو يخاطب الجيل الجديد، جيل الوجبات السريعة، يتناولها وأصابعه تداعب ( كيبورد اللاب توب ) و ( التابلت ) و ( الموبايل ) وهو يأكل سندوتش الهامبورجر ويشرب البيبسي!.

وعلى واجهة اللوحة وضع الابن الماكر صورة والده، وسعادة الأب لا توصف وهو يطالع صورته على اللوحة المضيئة أمام المارة.

( ملامح وجهه تشي بأني أعرفه، ربما قصدته في سوق الكرشة أو باع لي ساندوتش فول أو ... )

= وفي قصة ( أسباب الثورة ) يرصد الكاتب أيضا التحولات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، فباعوا البيت واستأجروا شقة بأرض " ملهط " المتاخمة للمدينة، والتي كانت حتى عام 1973م رقعة زراعية تمد الناس بالمحاصيل الزراعية، وخطفت أرض " ملهط " الأضواء من المدينة، وأصبح حلم كل من بالمدينة أن يعيش فيها، فالمدينة أصبحت هامشا، وصارت أرض " ملهط " متنا، فبعد انتصار أكتوبر العظيم، تم اتخاذ اخطر قراريين، وهما الصلح مع العدو والانفتاح، فأثرى من أثرى في ظل قرار الانفتاح، وسافر من سافر إلى دول الخليج وأوربا وعادوا بتلال وزكائب من الريالات والدينارات والدراهم والدولارات، وانسحبوا من المدينة القديمة إلى أرض " ملهط "، ويتباهون بالانتساب إليها، ويفاخرون بالإقامة فيها، يبحثون فيها عن وجاهة اجتماعية.

" لو بقينا في درب الخولي إخوتي البنات مش هتتجوز "

...............................................................

13 - ومن الهموم والقضايا القومية :

أ - القضية الفلسطينية :


= في قصة ( تفاصيل حياة تتجسد ) ينتقد خارطة الطريق، ويتساءل : هل ستحقق إقامة الدولة الفلسطينية وتعيد اللاجئين إلى ديارهم كما يروجون؟.

= وفي قصة ( في مزاع الزيتون ) يشيد بالمرأة الفلسطينية، ويمجد صلابتها وشجاعتها، ويشيد بالأطفال الذين يقاومون المحتل بالحجارة، ويوازن بينهم وبين أطفال قريته، وفالحجارة في أيدي أطفال فلسطين أداة للمقاومة، وفي أيدي أطفال قريته أداة لتهديده وتهديد ضيوفه لسلبه المال من أجل شراء الشيكولاتة والشيبسي!.

وبينما الجرافات تتنزه في حقول الزيتون، والدبابات تتجول في الضواحي، كان المذبع بالتلفزيون المصري يعلن في برنامجه ( اكسب معنا جائزة ) ويتمحور سؤاله عن أي المسلسلين أطول؟.

= ومن قصة ( إصلاح عطل ماكينة العرض ) :

الأطفال في الشارع يسارعون بإحضار الأوراق والألوان، وصمموا علمين، الأول أمريكيا والآخر إسرائيليا، وقاموا بحرقهما، وهم يهتفون : بالروح والدم نفديك يا فلسطين.

ويعرض الفيلم دماء مذبحة قانا في لبنان، فتدوي في الصالة عاصفة هائلة من التصفيق.

.................................................

ب - العراق :

= ومن قصة ( في وضع استعداد للتصفيق ) ينقل لنا من افتتاحية فيلم ( العالم كما يراه بوش ) وهو فيلم افتتاح المهرجان السينمائي للافلام التسجيلية، وكيف فضح الفيلم الخداع والوهم الذي باعه بوش الابن للعالم!.

= وفي قصة ( إصلاح ماكينة العطل ) يبرز تناقض وازدواجية الولايات المتحدة الأمريكية، فهي تقدم للشعب العراقي المساعدات الإنسانية وفي ذات الوقت تحصد القنابل الذكية والعنقودية وصواريخ كروز وقاذفات B52) ) أروح الأبرياء من العراقيين.

= ومن قصة ( دعوة ناعمة ) يرسل مروان الذي يعيش بامريكا مقاطع فيديو لتعذيب مواطنين عراقيين من قبل الجنود الأمريكيين، واغتصاب جماعي في سجن " أبو غريب "!!.

ويرسل فيديو آخر عن تعذيب وهتك عرض السائق عادل الجبير في قسم شرطة بولاق الدكرور، كان نصفه السفلي معرى، وعصا خشبية، تُغرس في مؤخرته، وهويصرخ راجيا الضابط أن يكف عنه!!.

= من قصة ( إصلاح ماكينة العطل ) : بعد إحالة لمعي إلى سن التقاعد، ينخرط في العمل النقابي ومنظمات حقوق الإنسان، ويدعو إلى التظاهر بالقاهرة للتنديد بالحرب الأنجلو أمريكية على العراق، ولافتة كبيرة مرفوعة فوق مقر الحزب العربي الناصري، مكتوبة بخط أسود ( بالأمس أفغانستان واليوم العراق وغدا من؟ ).

..............................................

14 - من الهموم الخاصة :

خيبات الحب


معظم أبطال الكاتب في هذه المجموعة يعانون من خيبات في الحب، ولم تكتمل قصة حب واحدة، وعدم اكتمالها يترك جراحا في النفس، وندوبا في القلب، وشروخا في الروح، في قصة ( كأنها خريطة تعيد رسمها ) انسحبت الحبيبة، وفي قصة ( من بين أخشاب " البرجولا " ) تختفي الحبيبة من حياته، ولايبقى منها غير ذكرى جميلة يتذكرها على ضوء القمر، وفي قصة ( تفاصيل حياة تتجسد ) البنت التي أحبها، وألقت بنفسها في أحضان آخر، وتركته يتجرع عذابات الحب ولوعة الفراق، وفي قصة ( في رحاب المحطة يشتم رائحة الحبيبة ) وتعاوده ذكرياته مع حبيبته، فعلى جذع شجرة الزلنزخت، سجل بمدية صعيرة حبه لحنان، وتاريخ أول لفاء جمعه بها، وأطلقا العنان لخيالهما , وفي قصة ( سبب مقتع للتأخير ) زميلته التي أحبها، ويكره أيام العطلات لأنها تحول بينه وبين لقاء محبوبته، وتتركه وترتمي في أحضان آخر، وصورة المرأة عنده عموما غير جيدة، حتى المعلمة في المدرسة في قصة ( لعبة آمال ) شهوانية وتثير غرائز الرجال وتحاول الإيقاع بمعلمي المدرسة في شباكها، حتى السيدة التي تعرف عليها في قصة ( مساحة للعزف ) تتفنن في إلقاء شباكها على ابن فنان سينمائي مشهور، ليتزوج ابنتها، هل هذه الصورة الشائهة عن المرأة هو الذي جعله في قصة ( كان من المبكر الحكم على سارة ) أن يجعل الكلب أكثرا وفاء منها، فأطلق على كلبه اسم " وفي " ولما مات، أكرم مثواه، فكفنه بجلبابه، وحمل فأسه، ومضى إلى الحقل، حفر له حفرة عميقة، واهال عليه التراب، وعن الكلب " وفي " تقول أمه : تصدقوا إنه ما بيقربش من الأكل، ولو الطبلية قدامه، ومفيش حد قاعد عليها، ما يكلش إلا لما تأكله بإيدك؟!

وصورة الكلب " وفي " لا تبرح خياله، فيتخيله قادما إليه، يتمسح به ويهز ذيله فرحا بلقائه، ويقيم الكاتب علاقة بين الكلب " وفي " والحبيبة التي أحبها في الجامعة، وكان يظنها واهما وفية مثل كلبه " وفي "، ولكنها غدرت به.

إن صورة المرأة في هذه المجموعة تحتاج إلى مبحث خاص، وأجمل صورة للمرأة والتي جاءت استثناء في هذه المجموعة، هي صورة الأم في قصة ( تصنع تلا من " الكراكيب " ) والمرأة الفلسطينية في قصة ( في مزارع الزيتون )، والفتاة في قصة ( الجنة التي صنعها ياسر ) التي تنتظر الحبيب الذي صنع جنتها ولا يجئ أبدا، وتوقف بها الزمن عند اللفاء الأول به وهو يصنع جنتها.

.................................................

15 - حضور السينما والمسرح بشكل لافت :

= في قصة ( كأنها خريطة تعيد رسم خطوطها )، يفتتحها بحوار من مسلسل تلفزيزني بعنوان " نصف ربيع الآخر " بطولة يحيي الفخراني ( ربيع الحسيني ) وإلهام شاهين ( ناهد الوكيل حبيبة ربيع الأولى ) وفادية عبدالغني ( سعاد الأنصاري زوجة ربيع )، عزت أبو عوف (أشرف علوان زوج ناهد )

ويستهل الكاتب قصته بمقولة لأشرف علوان في دفاعه أمام ربيع الحسيني الذي يتهمه بسرقة حبيبته الأولى ناهد الوكيل، يقول :

( الحبيبة غير قابلة للسرقة ولو بالاكراه ) ويبني الكاتب قصته على هذه الجملة المحورية، وهي المفتاح للولوج إلى النص، فالجمله تطارده، ويستعيد من خلالها ( حنان ) حبيبته التي ودعته في المحطة، وطلبت منه أن يعاملها كصديقة، ولا يمكن قراءة القصة بمعزل عن المسلسل التلفزيوني، الذي يسد الفراغات الكثيرة التي تركها الكاتب بالنص.

= في قصة ( قبل نهاية الفيلم ) يأتي بأحد المشاهد من فيلم لرشدي أباظه ونجلاء فتحي تطارده بدلال وغنج، وأثر هذا المشهد على الأب الذي جاوز الستين، وغادرت الزوجة دنياه إلى الرفيق الأعلى، وحاجته في هذا السن إلى إمرأة بجواره، فلمح الولد نتوءا كبيرا بين فخذي الأب المستلقي على ظهره يتابع نجلاء فتحي،

والرجل في هذا السن، يقبض يده عن ولده، وولده يريد المساعدة، والأب يرفض مساعدته، فهو كما في حاجة إلى المرأة في هذا السن، فهو بحاجة أيضا إلى المال، ويطلب من ابنه أن يعتمد على نفسه، فهو – أي الأب – اعتمد على نفسه، وتزوج من كده وتعبه وعمله، ولم يعتمد على أبيه، ويكتشف الابن أن معاملة جده لأبيه هي نفس معاملة والده له، فالجد في كبره تزوج أكثر من مرة، وكلما ماتت زوجة استبدلها بأخرى، وقبض يده عن ابنه، وتركه يكافح ويكابد وفي النهاية يقول ( كله لكم ) أي سترثونه بعد عمر طويل، هل يصبح الولد مثل أبيه وجده، ويسير على نهجهما؟!.

الولد يعلن تمرده، فكان أحد أعضاء فرقة المسرح بالجامعة، وكان يؤدي دور الأب ببراعة، ويوم العرض أخذ أعلى " سوكسيه " وأكثر من نال إعجاب وتصفيق الجمهور، والمخرج يطلب منه ضرورة كسر الحائط الرابع، و( كسر الحائط الرابع ) جملة محورية، ومفتاح مهم، فهي تعني التمرد الفني والتمرد الموضوعي في آن واحد، وإزاحة الحاجز الوهمي أو الخيالي الذي يفصل الممثل عن الجمهور، وقد هدم الكاتب عماد أبو زيد الحائط الرابع في قصصصه، مستفيدا من وعيه بفن المسرح، ووعيه البصير أيضا بالسينما وتقنياتها، فأدخل الهوامش والاستدراكات، وقد استفاد من فن " المونتاج " في السينما بتقديم مشاهد قصصه أحيانا على التوالي، وأحيانا على التوازي، وأحيانا تتداخل المشاهد كما قصة ( سلمى ابنة الجيران )، وقصة ( في رائحة المحطة يشتم رائحة الحبيبة ) وتبدو فيها الأحداث غير مترابطة والحبكة مفككة، والمشاهد مبعثرة، وتداخل الذاتي بالموضوعي، وهي في النهاية تقدم صورة المصري والوطن في زماننا، هي نتف من سيرة ومسيرة إنسان / جيل / وطن.

...................................................

16 - الرمز :

استخدم الكاتب الرمز الإيحائي البسيط، مثل الحبيبة التي ترمز إلى الأنثى / الوطن، كما تشي به قصة ( في رحاب المحطة يشتم رائحة الحبيبة )، ودلالة الكرسي ورمزيته التي كشفت مكامن الداء ومظاهر الخلل في المجتمع، كرسي الوزير، وكرسي المدير، وكرسي المقرئ في سرادق العزاء، وكرسي ناظر المدرسة، وكرسي الفنان أوجست رينوار الذي أجلس عليه الآنسة الجميلة في إحدى لوحاته، وليس انتهاء بكرسي السيد سمير ..

" كان السيد سمير جاري آتى بكرسي السفرة بعد أن أفرغ حشوه " السفنج، والكرينه، والسوست، والخيش " وأجرى عليه بعض التعديلات، ليضعه في حمامه البلدي، كي يتسنى له قضاء حاجته. كان الجزء الأكبر من دخله الشهري يقتطعه لعلاج التهاب المفاصل الذي يشكو منه، ولم يكن بمقدوره أن يحظى بحمام أفرنجي ". ويشيع هذا الرمز الإيحائي البسيط في قصص أخرى كثيرة.

= واستخدم الكاتب أيضا الرمز الكلي في قصة ( للضوء المتبقي من النهار ) وهو الرمز الذي يتمرد في ثنايا القصة كلها، وهذا الرمز الكلي أكسب القصة حيوية، وزادها تألقا وجمالا، وجعلها أكثر قدرة على التأثير في المتلقي، وتتعدد تأويلاتها بتعدد القراءة.

انظر مثلا إلى رمزية العصفورة، وعلاقتها بمحبوبة الصبا، والبرواز المُعلق على الجدار وخلا من صورتها، ورمزية العنوان نفسه، فلم يتبق من النهار غير كمية قليلة من الضوء، وهذا يشي باالاقتراب من الغروب، غروب الشمس، وغروب العمر، فثمة رموز صغيرة كثيرة تنتشر في جنبات القصة، تنبثق من الرمز الكلي وتلقي بنقاط الضوء على القصة.

واستخدم الرمز التراثي، وهو استرفاد شخصيات من التراث، وقدرة هذه الشخصيات على الايحاء، وإثراء العمل، والتأثير في نفوس القراء، انظر على سبيل المثال إلى قصة ( تشي جيفارا ) والذي أصبح أيقونة ورمزا وأسطورة للنضال والمقاومة والتمرد، وينسج قصة بهذا الاسم لمصري، ويطلق عليه أقرانه اسم جيفارا، فاتخذ المقاومة والتمرد أسلوبا لمواجهة الخلل في المجتمع.، وانظر أيضا إلى توظيف الكاتب ليهوذا كرمز تراثي في قصة ( في السيارة المتفحمة ).

.................................................

17 - المفارقة التصويرية :

لجأ الكاتب عماد أبو زيد إلى المفارقة التصويرية كوسيلة أو حيلة فنية ليبرز التناقض بين طرفين متقابلين، ومن الأمثلة قصة ( رسام اللوحة ) الذي يوضح ويرسم من خلالها شخصية الفنان ومعاناته في هذا الوطن، فهذا الفنان الموهوب، كما يبدو له : ( يرفل في جلبابه الفضفاض، يجذب نفسا من سيجارة، يطلق الدخان في الهواء، ..) ويراه تارة مثل الناسك، يتأمل السماء، وتارة أخرى مثل الفنان يرسم لوحة في الفضاء بضربات زفيره، وتارة ثالثة يراه ابن بلد أصيل، وتارة رابعة ( مشيته تنبئ بأنه واحد من الأعيان لديه أطيان، أو شيخ له أتباعه ومريدوه، وتحت إمرته حرس وخدم بلا عدد )

وهذه الصورة يجب أن يكون عليها الفنان أو العالم أو الأديب، ولكن المفارقة المؤلمة تأتي في النهاية، لتنسف الصورة الذهنية التي رسمها القارئ له :

( رأيته فيما بعد يُدلي الدلو في بالوعة بيت، ثم يسحبه بالحبل حتى يدنو من يديه، فيحمله، ويتحرك به بضع خطوات، يفرغه في عربة الكسح !!! )

= وقد يتسع التناقض ( المفارقة التصويرية ) ليبني الكاتب من خلالها قصة بأكملها، وعلى سبيل المثال أيضا قصة ( شباب دائم )

...............................................

وبعد :

لقد توجه الكاتب عماد أبو زيد بنصوصه القصصية إلى القارئ المعاصر، فناقش هموم واقعه، واقترب اقترابا حميما منه، وعبر عن أحلام وآمال وتطلعات الإنسان العادي الصغيرة والكبيره، وطرح احباطاته وانكساراته، تشرح قصصه واقع الإنسان المعاصر، وتشاركه همومه، وتثير الأسئلة، وحسب قصصه أن تطرح الأسئلة، وتشير ولو من بعيد أو تومئ إلى مكامن الداء، ومظاهر الخلل في حياتنا الاجتماعية والسياسية والثقافية والنفسية جميعا، وقد انشغل بقضايا الوطن، والهموم القومية، وهذا ما حقق الإقناع لقارئه، الذي يعيش معه في هذا العصر، وتوجه الكاتب بخطابه له.

وجاء الإمتاع في هذه المجموعة من خلال سعي الكاتب الدؤوب لمعانقة الفنون الأخرى، والتوسل بها لإثراء فنه وتجربته القصصية، فيتوسل أحيانا بالشعر ( الكلمة الشاعرة ) والمسرح، والسينما، والفن التشكيلي، والنحت، والتصوير، .. وغيرها.

وفي فنية واثبة، وجمال آخاذ، نجح في معالجة قضايا واقعه، وأشبع لدي قارئه حاجاته الملحة ورغباته الجمالية

......................................................

ورقة نقدية لمناقشة المجموعة بمركز الكتاب الدولي بالقاهرة مساء الأربعاء الموافق 3 / 1 / 2024م.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى