مصطفى فودة - مرثية فى الموت والحياة قراءة فى ديوان "غياب حر" للشاعر عاطف عبد العزيز

يبدو لى أن عنوان الديوان ملتبس بعض الشئ وربما يعود الإلتباس إلى إقتران كلمة حر كنعت لكلمة غياب التى أتت نكرة ربما لتعدد هذا الغياب ، وقد نستشف من قراءة الديوان بعضا من دلالات هذا العنوان المراوغ مثل غياب الأحباب والأماكن الأثيرة والشخصيات المحبوبة لدى الذات الشاعرة وربما نستشف من نعت (حر) مدلولات الإتساع والإنتشار والتعدد وهو من مرواغات إختيار الدلالات الشعرية فى الديوان، والديوان هو الثانى عشر للشاعر عاطف عبد العزيز ويحتوى أربعة عشر نصا شعريا فى مئة وسبع صفحة وهو من إصدارات الهيئة المصرية العامة للكتاب .

1.jpg

يشغل مفهوم المرثية -"المرثية هى قصيدة حزينة حيث تعتبر فى الادب الإنجليزى للتفكير المؤثر والجاد والحزين وعادة ما تكون قصيدة فى رثاء الموتى " ( ويكيبيديا الموسوعة الحرة )- مساحة كبيرة من الديوان ويستحق أن يشكل ثيمة رئيسية فى الديوان ولكنها ليست مرثية متشائمة أو عدمية ولكنها مرثية إشراقية ومحبة للحياة ومن هنا كان إستهلال الديوان بعبارة دالة للشاعر الفرنسى شارل بودلير من أبرز من كتب قصيدة النثر "وبدت لى العواطف الفجة مثل البغض والحب العميق الآن كالغيوم التى تمر فى عمق الهاوية تحت قدمى وكانت روحى تبدو لى شاسعة كقبة السماء " فربما أراد الشاعر أن تكون روحه شاسعة كقبة السماء .
بدأ الشاعر(الذات الشاعرة) فى نصه الأول الكَتَّانة بمرسية لنفسه حين سافر إلى بلد إفريقى فحدث أن أُطلق النار على الرئيس وعاد أدراجه إلى بلده ليرثى نفسه وحبه من فتاته "وهكذا كُتب علىَّ أن أعود أدراجى/ومعى حقائبى/من أجل أن ألتقيك فى المساء صدفة / وينمو بيننا السر الذى يشبه خيطا دقيقا/من الحرير/...وتلجئين إلى كف فتاك القوى/ذى الشعر اللامع /..تعرفين أنتِ/ أن الأيام لها غير أن تمضى / إلى غايتها/تعرفين أيضا،أن النسيان فن قديم /..فى خمارة الفشل العاطفى"ص12، وبالنص صدى من الأطلال للشاعر إبراهيم ناجى التى هى بحق أكبر مرثية للحب فى شعرنا الحديث ، ثم كانت مرثيته فى نص(Mastar scene)فى الفنانة سعاد حسنى وصلاح جاهين برباعيته المتفلسفة الباهرة ، وهو اصطلاح فى الفن السينمائى يعنى المشهد الفائق الفنية فى العمل ، وكان مشهد مقتلها فى لندن هو الماستر سين فى حياتها المعذبة ، إنه ال(ماستر سين)/الذى اختارته سعاد بنفسها/حيث ارتطم الجسد الطرى بالأديم البارد/حتى انفصلت قدام العدسات /الروح الخفيفة/ص24 . كذلك كانت مرثيته فى ربة الغرام فى نصه (فى مديح القسوة) قتلتُ ربة الغرام/قتلتُ الإلهة العابثة التى أتلفت حياتى/وحياة غيرى/..أتمددُ على أريكتى،وإلى جوارى كأس/مسمومة/غير أننى، لا أجد من يحمل جثتى/إلى الماء/ ص28، وهو نص ملغز يحوى ثنائية الحب والموت وقد ترمز إلهة الغرام للغواية، وقد يتناص النص مع قصة الشاعر العباسى ديك الجن حيث قتل زوجته ورد فائقة الجمال وتعدد الدلالة من ثراء النص وقوته ، كذلك تناول الشاعر مرثيته فى الشاعر محمود نسيم فى نصه الأخير حوار صامت فى المدينة الضاجة "هذا النثار آخر ما بقى من الحداثة" ، إنه المعنى الذى جاوز طاقة الموت/على الإيجاع/حين فتح باب الشجو على مصراعيه/-كما ترى-/ ثم ..عرقل الرثاء" ص103 .
ولم تكن مرثية الشاعر فى الأشخاص فقط بل كانت فى المدن والأماكن والشوارع أيضا ، ففى نصه صباح الخير يا اسكندرية مرثية لمدينة الأسكندرية وما طالها من انحدار وتشوه ،/لسنوات، لم تتوقف الجرافات عن الهدير فى أذن البحر : ترفع جدرانا ، وتضع أخرى/هذا الهوس بلا ريب/، وغير خاف دلالة الجرافات على بشاعة الهدم ، كذلك تناول النص مرثية قصر البرنس يوسف كمال الفاخر ذا الفسقية الرخامية "كان القصر قد صار مقرًا لإدارات حكومية، لها علاقة غامضة بتربية الدواجن، وإنتاج بيض له صفاران . كانت تزدحم فى ردهاته مكاتب من الصاج الرمادى ، تزدان بإتساخات على شكل دوائر من أثر الصحون، وأكواب الشاى، تمتد تحتها أرضية من ألواح الأرو الذى أكلته الرطوبة، ثم كان أن رفعوا على سوره لافتة كتب عليها بخط ردئ (متحف المطرية)ص64 . كما تناول الشاعر فى مرثيته سينما (نادية) التى صارت جراجا للشاحنات ص70، كذلك المدرسه بطلائها الكالح و"مقهى عماد تستطيل على البلاط الكالح ظلال أقواسه، فيأخذ المكان شكل عنكبوت ضخم ممدد مستسلم لما تبقى من القيلولة "69ص ، غير أن مرثية الشاعر لم تكن تشاؤمية أو عدمية بل كانت مرثية إشراقية محبة للحياة والتى اطلق عليها الهبة الباذخة " تتضح صورة الحياة، تتضح الهبة الباذخة التى لم أعرف يوما، ما الذى يمكن لمثلى أن يصنع بها، حتى إننى أنفقتها-كما ترين-فى مطاردة الخذلان.ص92 ، وفى قوله "كيف لى أن أمقتُ الحياة....فأقول صحيح المدينة وراءنا خربة ..لكن هذا فى الحقيقة ليس كل شئ، فأولا،نحن هنا لدينا ما يكفى من حنطة وماء وزعتر، ولا يعوزنا إلا أناملك التى تجيد فن الهمس فى أذن الخميرة"ص75
استدعى نصوص الديوان شخصيات وكتابا كبارا وأعمالا روائية وفنية وسينمائية كان لها تأثير كبيرعلى الشاعر مثل استدعاء أم كلثوم باسم التدليل ثومة وعبارات من أغنيتها فكرونى مثل "ابتدى الليل يبقى أطول من ساعاته" ،كذلك صلاح جاهين ورباعيته (لأن الرباعيات-ببساطة- أنقذتنا../أنقذتنا فى الوقت المناسب/حين جاءت –دون قصد رقية لا تخيب/ضد ضيق التنفس / والإستجماتزم/ ، كما استدعى شخصية الشاعر كفافيس (طبيعى أيضا أن تضيق السموات التى مسحها كفافيس بناظريه من خلف عدستين سميكتين ذات يوم" ولشعر كفافيس تأثير كبير على الشاعر فى إحدى مراحل حياته كما صرح بذلك فى أحد حواراته الصحفية ، واستدعى كذلك الشيخ إمام ، كما استدعى أعمالا أدبية مثل رواية خالتى صفية والدير للروائى بهاء طاهر حيث اتخذ من صفية رمزا أو قناعا لمحبوبته ، ومن الأعمال السينمائية استدعى فيلم حمام الملاطيلى للفنانة شمس البارودى ربما للإيحاء بما كان عليه المجتمع من حرية وانفتاح كذلك فيلم هى والرجال ليكون شاهدا على نذالة تالرجال من الطبقة الوسطى، كذلك استدعى التناص فى" قلتُ أنا رجل حزين " مع صلاح عبد الصبورفى"يا صاحبى أنى حزين طلع الصباح فما ابتسمتُ".
حفل الديوان باستخدام تقنية الإلتفات وهو أسلوب بلاغي معروف ومستعمل فى اللغة العربية وفى القرآن الكريم يقوم على تعديل استخدام الضمائر من المتكلم إلى المخاطب أو الغائب أو العكس، وله فائدة كبيرة فى نفى الرتابة والملل من النص وإضفاء الدهشة والحيوية والتجدد عليه ، على سبيل المثال فى النص الأول فى الفقرة (أخبرونى وقتها، بأن النساء هناك/يمشين فى الأسواق عرايا فانبسطتُ/ بيد أن أحدا أطلق النار على الرئيس/ص9 كذلك تغيير الضمائر من فقرة إلى أخرى كما فى عدة فقرات بالنص الاول الكتانة فاستعمل ضمير المتكلم (وقفتُ أتلفتُ) ثم ينتقل إلى الفقرة الثانية بضمير المخاطب للجمع (أخبرونى..)ثم المخاطبة (ألتقيكِ) ثم المتكلم للجمع وينمو بيننا السر ، سِرُنا)
قام الشاعر بالإنتقال من الفصحى إلى العامية فى بعض المواضع منها عند مخاطبة صلاح جاهين فى بعض المواضع " شُفت/ شُفت يا صلاح /أنت محظوظ دون ريب" كما استخدم بعض كلمات عامية استعملها صلاح جاهين فى رباعيته وهى (اللَّوع)وكان ذلك لغرض بلاغى مثل فهو أكبر شاعر عامية فى مصر فى عصره ، واستخدم الشاعر لفظ ثومة للتدليل لأم كلثوم ومقاطع من أغنية فكرونى (بعد طول حرمانى منك) كل ذلك للتقرب العاطفى من شخصياته المحبوبة .
احتوى نص ماستر سين على سخرية مريرة وتهكم من النظام السلطوى فى ذلك الوقت فى نص ماستر سين موجها حديثه الى صلاح جاهين"..وبين جسد فتاتنا المشتركة/الذى اتخذته الأجهزة السيادية /-فى الزمن الجميل-/ميدان حرب/..حيث ارتطم الجسد الطرى بالأديم البارد/حتى انفصلت قدام العدسات/الروح الخفيفة/تلتها بهجة الستينيات بصباحها الرباح/ثم صوت العندليب/ثم كاريزما الزعيم/ثم ..رمش عينه اللى جارحنى/..كل ذلك يا صديقى وأنت بعيد/بينما مصر متململة فى وقفتها/محروسة/ بسوء البخت"ص24، وكأنه عصر عبثى تجتمع فيه هذه المتناقضات .
اتسمت لغة الديوان بالإيجاز والكثافة وعدم الترهل والجرأة ونبذ الكتابة المعتادة ، وكانت البنية السردية والحكى من السمات الأسلوبية للديوان بجانب البنية المجازية ، كما استخدم الشاعر الجمل الإعتراضية فى كثير من مواضع الديوان، وفى حوار معه قال إن قصيدة النثر لديها مفهوم جديد، وهو أنها لا تضع قواعد أو حدود مسبقة عليها، لكنها جاءت كي تصنع حدودها بنفسها، وهكذا كان يتحدث الشعراء عنها ويشجعون الكتابة بها (فى حوارمعه فى برنامج فى المساء مع قصواء) .
ملحوظة:رأيت المرثية أكثر إتساعا من الرثاء ويؤكد ذلك ما استشهدت به من الموسوعة الحرة ، كما اختصرت كثيرا مما كنت أود كتابته فالديوان بسبب كثافته يفتح آفاقا واسعة للتفكير والكتابة والتعليق .
بقلم مصطفى فودة
May be an image of text



All reactions:
14Ranya Elmhdy, Mohamed Okda and 12 others

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى