علي حسين - دعونا نتفلسف.. إنسان القرن العشرين المحكوم عليه بالثورة الدائمة (15)

في الخامس عشر من كانون الثاني اقتادت فرقة من حرس الخيالة الالماني كل من كارل ليبكنشت ورفيقته روزا لوكسمبورج ، الى احد مقرات الجيش للتحقيق معهما بتهمة تنظيم عصيان مدني. كان ليبكشت وروزا قادا جماعات من العمال المسلحين والنشطاء اطلقوا عليهم اسم " جماعة سبارتاكوس " ، حيث قررت هذه الجماعة اقامة جمهورية اشتراكية في برلين ، معلنين تحديهم للنظام السياسي ، وقد تحركت قوات الجيش لسحق الانتفاضة التي استمرت تسعة ايام ، خضع ليبكشت ولوكسمبورج بعدها الى تحقيق وحشي ، حيث سحقت رؤوسهم باعقاب البنادق ، ليتم بعدها اعدامهما ، ثم أُلقي بجثتيهما في نهر " لاندهور " ، ليسدل الستار بذلك على الاسبوع الاسبارتاكوسي .


البلشفي المترف

كان لسحق الانتفاضة العمالية اثر على الفكر الماركسي الالماني الذي اتجه بعض ممثليه لتاسيس تجمعات ثقافية وفكرية تدرس وتناقش احوال البلاد بعد الحرب العالمية الاولى ، فبعد اربع اعوام على الانتفاضة قام مجموعة من الماركسيين عام 1923 بتاسيس معهد للعلوم الاجتماعية أُطلق عليه فيما بعد مدرسة فرانكفورت ، وقد اقيم هذا المعهد بدعم من رجل اعمال مستنير هو هيرمان فايل الذي كان يطلق عليه آنذاك " البلشفي المترف " ، وضمت القائمة الاولية لاعضاء المجموعة كل من تيودور ادرنادو المشهور باهتمامه بالموسيقى والفلسفة ، واريك فروم عالم النفس الموهوب ، وهربرت ماركيوز وفالتر بنجامين ، بقيادة ماكس هوركهايمر ، اعتقدت مدرسة فرانكفورت في البداية ان عملها الفكري هو تكملة ما بدأت روزا لوكسمبورج مع رفاقها ، أي دعم الفرص العملية لتحرك ثوري من جانب البروليتاريا ، ولكن بعد مرور سنوات على الثورة السوفييتية وظهور النظرية الستالينية في الحكم ، كان الموضوع الذي طرح على مائدة الجدل آنذاك هو كيف يمكن التخلي عن الماركسية السوفييتية والتوجه نحو ماركس آخر من خلال كتاباته الاولية التي أُطلق عليها مخطوطات عام 1844 " ، اضافة الى كتابات ماركس الشاب ، اتجهت مدرسة فرانكفورت نحو مفكرين غير ماركسيين من اجل تقديم نظرية فلسفية نقدية جديدة ، كان الاول هو سيجموند فرويد الذي مكنت نظرياته مدرسة فرانكفورت من ان تفهم الآثار المشوّهة التي تتكبدها الانسانية في مقابل انتصاراتها التكنولوجية ، وقد توصلت جماعة فرانكفورت الى ان الراسمالية الغربية تنتج باستمرار نوعاً انسانياً مصاباً بالعصاب ، وسيصر اريك فروم وهربرت ماكيوز على ان الأمل بالإطاحة بتقاليد المجتمع البرجوازي يتطلب الاطاحة بالكبت النفسي الى جانب رفع الظلم الطبقي ، وكان نيتشه هو المفكر الثاني الذي كان نقده الشديد للقيم البرجوازية دفع بماركيوز لأن يكتب :" ان اعمال نيتشه تصوير فريد للطبيعة القمعية للثقافة الغربية ، وانها تعبير عن الانساني في عالم اصبحت فيه الانسانية أكذوبة " .هكذا وجدت مدرسة فرانكفورت في نيتشه وفرويد نموذجين لهما ، اضافة الى ماركس بمفرده بعيدا عن تدخلات انجلز ، الطريق الى وضع نظرية فلسفية تحيل جميع امراض المجتمع الحديث النفسية والثقافية والاجتماعية الى اخطاء الرأسمالية وبمعنى أوسع وكما قال ماركيوز الى " أخطاء الغرب الحديث " .

******
مخطوطات ماركس

عام 1932 كان عاما مثيرا بالنسبة لمدرسة فرانكفورت، فقد تم نشر " مخطوطات ماركس عام 1844 " مصحوبة بدراسة مطوّلة كتبها هربرت ماركيوز ، كانت المخطوطات قد هُرِّبت سراً من معهد ماركس وانجلز في موسكو ، في تلك الكتابات المبكرة كان ماركس يرى ان شرور الراسمالية لا تكمن في الاستغلال الاقتصادي فقط ، وانما مخاطر الرأسمالية الحقيقية هي مخاطر روحية او في المفهوم الحديث نفسية . تقسيم العمل في المؤسسة الرأسمالية حول ناتج جهد العامل الى سلعة كمالية مجردة من الحياة ، فما يصنعه يؤخذ ويباع دون فائدة تعود عليه " سوى الاجرة الزهيدة التي يتقاضاها، السلع التي صنعها لم يعد لها صلة به ، اي انه غريب عن جهده والنتيجة كما قال ماركس في المخطوطات هي ان : العامل يشعر بنفسه عندما لايعمل ، اما عندما يعمل فهو لايشعر بنفسه " يقول ماركيوز ان ماركس الشاب توصل إلى ان تقسيم العمل في الراسمالية يؤدي الى تقسيم أرواح البشر ونتيجة لذلك فان اتساع الانتاج الراسمالي لايمكن ان يفيد العامل ابدا بل على العكس :" حتى عندما يؤدي تقسيم العمل الى زيادة القوة الانتاجية والثروة والرفاهية للمجتمع ، فانه يؤدي إلى افقار العامل ماديا وروحيا وينتج عن ذلك كما يقول ماركس " البلاهة والقماءة " ، وتشير المخططات الى فكرة ماركس التي يلخصها ماركيوز بالقول :" كلما نمت الراسمالية واتسعت ، فلابد ان يزيد استغلالها الفعلي وإفقارها الروحي لعمالها ولطبقتها البرجوازية ، ففي ظل الراسمالية كل واحد غريب عن الاخرين والكل غرباء عن جوهر الانسان " . ونجد ماركيوز يتساءل في مقدمته لمخطوطات ماركس : هل لدينا الان ماركسان ؟ وهل تاريخ الصراع الانساني هو العملية التي يتم فيها التغلب على الاغتراب الذاتي والانساني ويدرك البشر ذواتهم عن طريق التوافق مع ماهيتهم الحقيقية ، ككائنات طبيعية واجتماعية مبدعة وحرة ، ام ان تاريخ العالم هو التاريخ العلمي لتقسيم العمل والصراع الطبقي والثورة الحتمية التي تنتهي بقيام محتمع شيوعي غير طبقي ، وهل يمكن التوفيق بين وجهتي النظر الانسانية والعلمية هاتين في فكر ماركس ، والخروج بنظرية جديدة تدرس واقع ومستقبل الانسان الحديث ، هذا ما قرر هربرت ماركيوز أن يقوم به وأن يُكرّس جهده الفلسفي له.

*****
على فراش المرض

كان على فراش المرض في 1978 ، ما بين غياب وصحو، حين سأله محرر الكتب في النيويورك تايمز: " هل كنت تتصور ان كتابك " الانسان ذو البعد الواحد " الذي أشعل الانتفاضات في اوروبا قبل عشرة أعوام ، يمكن ان يذهب الى النسيان بهذه البساطة ؟" لكن هربرت ماركوز كان في تلك اللحظة يفكر فيما اذا كانت سنوات حياته التي شارفت على الثمانين ذات جدوى ، تذكّر انه ذهب ذات يوم الى استاذه هيدجر ليسأله السؤال ذاته: هل يأتي ذلك اليوم الذي يطوي النسيان كتاب الوجود والزمان؟ كان هيدجر آنذاك مهموماً بطرح الاسئلة ، وبإكمال المشروع الوجودي الذي وضعه استاذه هوسرل، وذلك عبر استخدامه لكل الوسائل الفلسفية للإجابة عن السؤال الأساسي الذي شغل بال واضع الفلسفة الظاهراتية : ما هو الوجود؟
لم يكن استاذ الفلسفة الذي تخصص في دراسة فكر هيغل وكرَّس حياته العلمية لإثبات ان فكر معلم الفلسفة الالمانية يحتوي على عناصر منها ما هو ثوري ومنها ما يُمهِّد مباشرة للثورة ، وكان كتابه (هيغل والثورة) قد أثار حفيظة الحركة الديمقراطية الشعبية الالمانية التي رأت فيه محاولة لتجميل صورة فيلسوف كان يؤمن " بالبطل المطلق "، لم يكن هذا الاستاذ وقد بلغ من العمر سبعين عاما يحلم بأنه سيصبح واحداً من نجوم المجتمع الغربي تحاصرة الفضائيات ويرفع الشباب والطلبة صوره في شوارع باريس وجامعاتها ، ويتحوّل كتابه " الانسان ذو البعد الواحد " عام 1968 الى إنجيل لشباب أوروبا الغاضب والحالم بالتغيير .

*****
ثورة داخل ثورة

سمع وهو يجلس في مكانه المعتاد في زاوية من المقهى يدخن غليونه ويكتب ويقرأ ، اسمه يتردد على لسان فتاة جميلة منشغلة بحوار ساخن مع زميل لها : سارتر أصبح من الماضي، هكذا قالت الفتاة.
- إذن مَن المؤهل بنظرك لكي يُلهم هؤلاء الشباب؟ قال زميلها:
- لا يوجد أحد على التعيين ، لكن نحتاج الى قائد فيه شيء من جيفارا واشياء من هوشي منه وأفكار من ماركيوز .
قال الشباب : لكنهم جميعا ليسوا فرنسيين.
- الثورة لا وطن لها ألم تقرأ ما فعله ريجيس دوبريه؟
كان دوبريه يقبع انذاك العام 1968 في سجن صغير بقرية جنوب بوليفيا ، بعد ان القي القبض عليه بعد اسابيع من مقتل رفيقه جيفارا الذي كان يرى في صاحب " ثورة داخل ثورة " انه المنظر الجديد للثورة العالمية
وضع سارتر غليونه جانبا وهو ينظر الى الفتاة التي كانت تحمل نسخة من كتاب الانسان ذو البعد الواحد، فصاحب الوجودية فلسفة إنسانية ظل حتى يوم امس يعتقد ان كتبه هي التي تحرِّض الشباب وان الوجودية اصبحت اليوم بديلا لكل الفلسفات ، فهل يعقل ان يسيطر كاتب يحاول ان يجمع بين ماركس وفرويد في إناء واحد ، من ان يصبح مُلهماً لشباب أوروبا؟
لم يكن سارتر قد أدرك بعد ان الكتاب الذي أهدته اليه سيمون دي بوفوار وطلبت من ان يقرأه بتمعّن، يمكن ان يحقق هذا النجاح ، وكان قبل اشهر قد كتب عن الانسان ذو البعد الواحد في مجلة الأزمنة الحديثة مقالا ينتقد ادارج ماركيوز الطلبة والشباب ، بين هؤلاء الذين هم بلا أمل او الانسان المحكوم عليه بالثورة الدائمة
بين الفئات الاجتماعية المنبوذة ، فالطلبة في رأي سارتر ينتسبون الى الفئات الاجتماعية الوسطى والصغيرة ويعيش أغلبهم على دخول اولياء امورهم ، ويرى سارتر ان استبعاد ماركيوز للطبقة العاملة من القوى الثورية الجديدة ، خطأ لا يُغتفر .
يتذكر سارتر جيدا ان صديقه اللدود البير كامو كان متحمساً لكتاب ماركيوز هذا ، وقد أقنع الناشر غوستاف غاليمار قبل ان يتوفى بأشهر ان يترجم كتاب " الانسان ذو البعد الواحد " الى الفرنسية ، وحين صدرت طبعته الاولى لم يحظَ بالقبول وبقيت نسخه مكدّسة في مخازن غاليمار!
*****
تظاهرات الطلبة

أيار عام 1968 شوارع باريس تكتظ بالطلبة الغاضبين الذين يرفعون عبارة " إرحل " في وجه ديغول ، في ذلك الزمان الذي نشرت الصحافة فيه صورة لسارتر وهو يصعد على أحد البراميل يوزع المنشورات التحريضية ضد الجنرال ، كان الطلبة يتداولون كتابا ظل مجهولا لسنوات لمؤلف الماني يعيش في اميركا اسمه هربرت ماركيوز، اما الكتاب فكان بعنوان الانسان ذو البعد الواحد ، والكتاب يفسر لماذا على الطلبة ان يغضبوا ويقودوا التغيير ، ويغذي فيهم روح الثورة والسخط على الاوضاع ، حيث يحتل النقد الاجتماعي والسياسي الجانب الأكبر في تفكير ماركيوز ويشغل العدد الأكبر من معظم صفحات كتبه ، ولا يقتصر النقد على نظام معين، بل انه ينتقد كل النماذج الموجودة سواء كانت رأسمالية او اشتراكية ، وهو يرى ان الاحادية هي مرض العصر ، فالانسان ذو بعد واحد في المجتمع الراسمالي الحديث ، وفي التطبيقات الاشتراكية التعسفية ، ان البعد الواحد باختصار هو سمة العصر الحديث في أشد صور بؤسه وانحطاطه . كانت وسيلة ماركيوز لكي يقدم نظريته عن انسان البعد الواحد ، ان يعيد قراءة اعمال ماركس الشاب ، الى جانب اعادة تفسير افكار فرويد ليمزجهما مع كتابات نيتشه بحيث تنتج فلسفة جديدة تلائم روح الحاضر ، فماركيوز يؤمن بأن الآلة في المجتمع الرأسمالي تتطور لتقلل جهد العامل والعقول الالكترونية والسفر الى الفضاء ، لكن هذا المجتمع الذي يُسمى مجتمع الرفاهية او الوفرة ، هو مجتمع زائف ، لماذا ؟ يُجيبنا في كتابة " الانسان ذو البعد الواحد " قائلا: التكنولوجيا توفر ، لكنها تفرض نوعا جديدا من الاستبداد " المقبول " ، فالمجتمع الصناعي وبسبب تطور التكنولوجيا يعطي مزيدا من الوقت الفارغ ، ولا يعطي الوقت الحر ، وهو يمنح ابناءه مزيدا من الفراغ ، لا مزيداً من الحرية .
ويحلل ماركيوز ظاهرة حلول التكنولوجيا محل الاستبداد ، بان مجتمع الوفرة يشدد قبضته على الانسان بوسائل علمية حديثة ، بعضها منظور وبعضها مخفي وأخطر من كل هذا انه يجعل الانسان يقبل الاستبداد مقابل بضع مواد استهلاكية .
لقد وجهت انتقادات عديدة لآراء ماركيوز ، منها انه يغفل تصوير التناقضات داخل المجتمع الراسمالي ، ولكنه يصر على ان الطبقة العاملة في هذا النظام لم تعد تملك الحرية ، ولا القدرة على الانتقال بالمجتمع الى التغيير الكيفي ، ويلاحظ ماركيوز في الانسان ذو البعد الواحد ، ان ابناء الطبقة العاملة هم الذين سيصبحون في المستقبل التكنوقراطيون والعلماء والمهندسون واصحاب رؤوس الاموال ، وبمعنى آخر فان فرصة الانتقال بهذا المجتمع انتقالا كيفيا تتضاءل ما دامت مستمرة في تطوير وسائل التحكم الشامل في الرأي العام .
ولهذا لم يُفاجأ ماركيوز ، حين تبنى الطلبة افكاره ونشروا كتاباته ، لأنه ظل يؤكد مراراً ، ان الطلبة هم الفئة التي لم ترتبط بعد بعجلات الانتاج والمصالح الاقتصادية التي قضت على الامل في تغيير المجتمع تغييرا كبيرا .

*****
الهروب باتجاه الحرية

ولد هربرت ماركيوز في برلين عام 1998 لأبوين على قدر من الثراء وقد درس الفلسفة في جامعة برلين ، وحصل على الدكتوراه في الرابعة والعشرين من عمره ، لم يستطع العيش في المانيا بسبب صعود النازية فهاجر الى اميركا حيث كان على سفينة واحدة مع توماس مان وبرتولد بريشت ، عام 1940 مُنح الجنسية الاميركية وعمل في وزارة الخارجية حتى عام 1951 ، حيث تفرغ للتدريس في الجامعة ، كان اول مؤلف له بالانكليزية كتاب " العقل والثورة " وهو دراسة لموقف هيغل الثوري ، بعدها اصدر كتابه " الحب والحضارة " الذي وصف بانه بحث فلسفي في معنى الفرويدية للفهم الاجتماعي ، وفي عام 1958 اصدر كتابه الماركسية السوفييتية الذي ندد فيه بممارسات ستالين وتخريبه الممنهح للماركسية ، بعدها اصدر كتابه فلسفة النفي ، الا ان اشهر كتبه واكثرها انتشارا هو كتاب " الانسان ذو البعد الواحد " وهو نظرة متشائمة لحالة الانسان في المجتمع التكنولوجي الحديث ، وقد صدر عام 1946 ولم يلقّ اهتماما في البداية الا ان تُرجم الى الفرنسية ليصبح انجيل الطلبة الثوار عام 1968 ، في عام 1956 اصدر كتاب التسامح الطاهر وفيه يرد على فلسفة جون ستيوارت ميل عن الحرية وفي عام 1969 اصدر كتابه الأخير ". توفى ماركيوز عام 1979 بسكتة دماغية أثناء زيارته لألمانيا وكان برفقته يورغن هابرماس وهو ر من الجيل الثاني من مدرسة فرانكفورت.

******
الإنسان ذو البعد الواحد

يتلخص مشروع ماركوز في الإجابة على السؤال التالي: لماذا لم تقم الثورة في البلدان الصناعية المتقدمة؟ وعلى وجه التحديد في البلدان التي افترضت الماركسية، أنها ستكون رائدة أقطار العالم اجمع إلى الاشتراكية، بل لماذا باتت شبه مستحيلة في عالم يمتلك منذ أكثر من قرن القوة الكلاسيكية للثورة، أي البروليتاريا الصناعية.
يقول ماركيوز أن الانسان ذو البعد الواحد هو ذاك الذي استغنى عن الحرية بوهم الحرية، انه ذلك الذي يتوهم انه حر لأنه يختار بين تشكيلة كبيرة من البضائع والخدمات التي يكفلها المجتمع لتلبية حاجاته، انه كالعبد الذي يوهب الحرية في اختيار سيده (فهل هو حر؟)، ولذا يقول ماركيوز أن الحرية المنظمة من قبل مجموع اضطهادي هي أداة قوية للسيطرة، حيث يفرغ هذا الانسان من أي بعد نقدي ليعارض أو يطالب بالتغيير، ولا يبقى فيه إلا على البعد الايجابي، الذي يقبل المجتمع والواقع كما هو، بل ويرضى به بسعادة، معتبرا أي موقف غير هذا موقفا غير منطقي ولا عقلاني، حيث يسخر المجتمع أحادي البعد كل ما يملك من طاقات هائلة ، لتحقيق الهيمنة على الإنسان بتقليص مجاله الداخلي وجعله أحادي البعد.
ويؤكد ماركيوز ان المجتمع لايكتفي بتزييف الحاجات المادية، بل ويقوم بتزييف الحاجات الفكرية، وذلك على قاعدة أن الفكر هو العدو اللدود للمجتمع المسيطر، فهو قوة العقل النقدية السالبة والمحركة باتجاه ما يجب أن يكون لا ما هو كائن، ويقصد بهذه القوة الايدولوجية التي يقوم المجتمع ذي البعد الواحد بتحقيرها وازدرائها باسم عقلانية التكنولوجيا، مستبدلا إياها بالمدنية التقنية كايدولوجيا ، لتصبح هي ذاتها أيديولوجيا المجتمع، حيث يقول في الانسان ذو البعد الواحد : " إن الجهاز الإنتاجي والسلع والخدمات التي ينتجها تفرض النظام الاجتماعي من حيث انه مجموع، فوسائل النقل والاتصال الجماهيري وتسهيلات المسكن والملبس والإنتاج المتعاظم لصناعة أوقات الفراغ والإعلام، هذا كله يترتب عليه مواقف وعادات مفروضة وردود أفعال فكرية وانفعالية، تربط المستهلك بالمنتج بصورة محببة، ومن ثم تربطهم بالمجموع، إن المنتجات تكيف الناس مذهبيا وتشرطهم، وتصنع وعيا زائفا عديم الإحساس بما فيه من زيف"
ومثل بقية اعضاء مدرسة فرانكفورت كان ماركيوز لايرى أملا في الثورة من قبل الطبقة العاملة ، فقد كان بدل ذلك يتطلع إلى الجماعات المهمشة المستبعدة من المجتمع الاستهلاكي ، والتي كانت بالتالي محصنة ضد تملقاته :" طبقة سفلية من المنبوذين من المجتمع والخارجين عليه ، المستَغَلين والمضُطهدين من الاجناس الاخرى ، العاطلين عن العمل والعاجزين عنه " هؤلاء الذين كان يطلق عليهم ماركس " البروليتاريا الرثة " اصبحوا امل ماركيوز في التغيير .
عندما مات ماركيوز عام 1979 لم تكن المجتمعات الصناعية قد تحولت الى ما كان يتمناه ، لكن جامعات مثل بيركلي وكولومبيا وبرانديز كانت تعمل كقواعد لافكار ماركيوز ، وعندما ساله احد الصحفيين عام 1974 عما اذا كان الامل بثورة الشباب قد مات أجابه : لا اعتقد انه مات ، أحسب انه سيبعث في معظم جامعات العالم " وهذه النبؤة تحققت بعد موته بالتاكيد، قبل وفاته يكتب : " كانت الفلسفة على مر عصورها ، جهدا يبذله الانسان من اجل فهم نفسه وعالمه ، وتمهيد الطريق لتغيير ما يستحق ان يتغير من الظواهر المحيطة بنا " .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى